الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب جديد من الأبواب التي عقدها المصنف -رحمه الله- في هذا الكتاب المبارك وهو باب "حسن الخلق".
الأخلاق هي سجية وملكة في النفس، تبعث على كل جميل من الأقوال والأفعال، وهذه السجية أو الملكة الراجح أن منها ما هو غريزي جِبلي، فطر الله الإنسان وخلقه عليه، فيكون هبة من الله -تبارك وتعالى، كما أخبر النبي ﷺ أشج عبد القيس حينما أخبره عن خصلتين فيه يحبهما الله: الحلم والأناة[1]، فسأل النبيَّ ﷺ عن ذلك، هل هو شيء حصّله هو واكتسبه، وتخلّق به، أو أن الله جبله عليه؟، فأخبره النبي ﷺ أن ذلك مما جبله الله -تبارك وتعالى- عليه.
فهذه الأخلاق منها ما هو ملكات وسجايا راسخة في النفس، فُطر الإنسان عليها، وقدرٌ منه مكتسب، ولا أدل على ذلك من قول النبي ﷺ: إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم[2]، وهذا هو الشاهد، فالحلم من الأخلاق، فيحصل بالتحلم، وهذا يحتاج إلى طلب، وترويض للنفس على هذه الخصلة، فيكون ذلك عادة له.
الأخلاق التي تكون سجية للإنسان، وملكة راسخة فُطر عليها الناس يتفاوتون فيها غاية التفاوت، ولست أعلم للنفس في هذه المعاني والأبواب أكثر شبهاً من الأرض، وقد خُلق الناس من الأرض، هذه الأرض التي نشاهدها تختلف بقاعها غاية الاختلاف، وتتفاوت غاية التفاوت، منها أرض صعبة بركانية سوداء، يصعب الزرع عليها، ويصعب الانتفاع بها، ويصعب سُكناها، ويصعب التنقل عليها، بل يصعب العيش في أكنافها، فهكذا بعض الناس، قلب أسود، وأخلاق في غاية الوعورة، وهذا يحتاج ترويضه إلى جهد مضاعف، ومن الناس من تكون أرضه سهلة، هينة لينة، يسهل المشي عليها، ويسهل الزرع فيها، ويسهل الانتفاع بها والعيش في أكنافها، هي هكذا، ومن أراد أن ينتفع فإنه لا يحتاج إلى أن يبذل الكثير من الجهد من أجل تهيئتها، فهي مهيأة، سهلة، وهناك أرض بين بين، بين الأولى والثانية، تحتاج إلى شيء من الترويض، ويوجد فيها من الخلال والخصال التي جُبل صاحبها عليها، أو كان ذلك من صفة تلك الأرض وسيماها، ولكنها تحتاج إلى معالجة أيضاً، تحتاج إلى شيء من الجهد؛ لتكون مهيأة صالحة للانتفاع، وهذا أمر نشاهده تماماً في أنفسنا، وفيمن حولنا، نعرف مِن الناس بل نحن نجزم أن هؤلاء لم يتلقوا كبير تربية على سماحة النفس، وحسن الخلق، وطيب القول، يتوارثه الصغار من الكبار، نعرف أسرًا بكاملها الرجل والمرأة والصغير والكبير، ويُستغرب إن وجد خلاف هذا، إذا لقيت أصغرهم لا تدري ماذا تصنع بنفسك من شدة حفاوته وترحابه، والألفاظ التي تجري على لسانه، وتخجل ويعرق جبينك من هذا الصغير فضلاً عن الكبار، سجية، والكبار -أصغرهم لربما يقارب السبعين- إذا أرادوا أن يدخلوا مجلساً أو يخرجوا أو نحو ذلك بصورة تلقائية الكبير أولاً ثم الذي بعده، ثم الذي بعده، ثم الذي بعده، وتجد أشياء وأخلاقًا يندر أن تجدها عند الكثير من العامة، وأنت تكاد تجزم أن هذه الأشياء لم يلقنوها، وإنما الله -تبارك وتعالى- جعل فيهم هذه المزية، وفطرهم على الأخلاق الفاضلة، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
ونعرف آخرين في غاية الصعوبة، الأخ يمكن أن يقاتل أقرب الناس إليه، يقاتل أخاه، يقاطع أمه، يقاطع أباه على أتفه الأشياء، يمكن أن يعقد ويبرم عقد نكاح أو نحو ذلك، ويمكن أن يتشتت هذا العقد قبل الدخول بأتفه الأسباب، على قضية تافهة، الحياة صعبة، تعاملهم صعب، علاقاتهم صعبة، مشاكلهم لا تنتهي، كأنما هم شيء يجلب المشكلات، الحياة كلها مشكلات، الأم مشكلة، والأب مشكلة، والأخ مشكلة، والعم مشكلة، وهذا مع زملائه، وهذا مع رئيسه في العمل، كل الحياة مشاكل، حتى كأنهم قد تروضوا على هذا، صار جزءًا من حياتهم -نسأل الله العافية، تجد الإنسان أحياناً يُبذَل معه الكثير ويُلقن صباح مساء الأخلاق ويربى، وتجد النتائج ضعيفة، تُفاجأ عند الغضب أو الاحتدام، احتدام النفس أو نحو ذلك يصدر أشياء تفارق الأخلاق من الأقوال والأحكام على الناس، أو التسلط، أو الظلم أو غير ذلك، هذا موجود مع الجهود التي تبذل، فهو مع كل هذه الجهود سنوات لا يداني ولا يقارب أولئك الذين وصفتُ أولاً ممن جبلوا على الأخلاق الفاضلة، وحباهم الله من ذلك بسطة ووفرة.
وهكذا الناس في القابلية، القابلية لكل شيء، للخير وللشر، للمشاعر النفسانية من الضيق والاكتئاب والإحباط والشعور باليأس، وما إلى ذلك، والفأل والانطلاق في الحياة، هم يتفاوتون غاية التفاوت، وقد تأملت كثيراً في أحوال الخلق مما أسمع منهم، وأرى من مشكلاتهم، فرأيت أن هذا أمرٌ يعطيه الله من شاء من عباده، مع أن الممارسات والمعالجات وطريقة التفكير والنظر في الأمور، وما يُعين على ذلك أو يضعفه مما جاء في النصوص مما يخفف عن الإنسان إلى آخره، كل هذا أمور تساعد، لكن تبقى القابلية؛ ولذلك تجد الأطباء النفسيين مثلاً، السؤال الأول الذي يوجهونه للمرضى النفسيين: هل في الأسرة أحد يعاني من مرض نفسي؟
فإذا وجد في الأسرة معنى ذلك أن القضية وراثية، ولذلك تجد الغضب أحياناً في أسرة سمة، وتجد سوء الأخلاق أحياناً في كل الأسرة، وتجد أحياناً الكآبة في كل الأسرة، وتجد أحياناً الدعابة والانطلاقة، وسماحة النفس وما إلى ذلك، وهكذا تجد الكرم والبخل، كل هذه الأمور، وقد يندّ ويخرج من هذا أفراد، من هذا الحكم العام، فيفارق أهله وقومه، لكن انظروا إلى أحوال الناس، من الناس من يسمع كلمة أحياناً أو مشكلة يسيرة جدًّا، مشكلة امرأة مع زوجها، أو مع مسئوله في العمل أو زميله في العمل، أو خسر خسارة معينة، أو نحو ذلك، أظلمت الدنيا في عينه، خلاص يريد أن ينتحر، واكتأب وأصبح في حال يرثى لها، لا يستطيع أحد أن يتكلم معه، ولا أن يجلس معه، في حال من الإحباط الشديد، شيء هائل، وقبل أمس زرت إحدى المستشفيات فمما رأيت: رأيت شابًّا مصابًا بشلل، تتحرك عيناه ويداه فقط، من عشر سنوات وهو على هذه الحال، على السرير، يحتاج أن يقلب كل ساعتين من أجل ألا يتقرح، عشر سنوات على هذه الحال.
هذا الشاب في غاية الدعابة والطرفة، حُدثت عنه، مجرد ما أتيت وإذا به يكتب كلمة، كلمة وتحتاج أن تمسح، أول ما أتيت السلام عليكم، عليكم السلام، كتب (فيه) وبعد ذلك مسحوا كلمة (فيه) على سبورة صغيرة عند يده، (نكتة)، طيب اكتب، بدأ يكتب النكتة، هو لا يستطيع أن يتكلم، الإصابة منعته من الكلام ومن الحركة عشر سنوات، تصور بعدما انتهى من الطرفة كتب (فيه لغز)، كلمة، كلمة، طبعاً (فيه) لوحدها وبعد ذلك تُمسح، وبعدها (لغز) وبعدها تمسح، ويأتي باللغز، طريف جدًّا، ثم أيضاً يمكن أن يعمل أشياء أخرى، يريد من الآخرين أن يضحكوا وأن يفرفشوا، فالشاهد هذا إنسان بهذا البلاء العظيم ومع ذلك هو بهذه الحال، طريف وصاحب دعابة، لكن ما يعرف يتكلم، بالكتابة، ويده تتحرك، الجسم حيث وُضع جثة، تصور هؤلاء يعانون معاناة، يعني أقل وأكثر ما يعانون في آن واحد هو أن حاجة الإنسان اليومية يليها غيره، هذا أمر ليس بسهل، لا يستطيعون أن يقوموا بشيء من شئونهم، فهذا الإنسان لا تجد فيه أدنى ضيق، بينما نحن نسمع كل يوم إلى هذا اليوم أناسًا يئسوا وبكاء، ولا تستطيع أن تسمع المشكلة أصلا من كثرة البكاء، وأحياناً تكون هذه المشكلة تافهة، وأحياناً قد يكتب برسالته، قد تكون هذا القضية بالنسبة إليك تافهة، لكن بالنسبة إليه كبيرة عظيمة، فتوجد قابلية عند بعض النفوس شديدة للانكسار، وبعض النفوس أعطاها الله، وبعضهم يعوض ذلك بالصبر، وتذكُّرِ ما عند الله ، وسرعة انقضاء الدنيا، وما إلى ذلك فتهون عليه مصيبته، والحديث في هذا يطول، وقد تكلمت على أشياء من هذا في موضوع الصبر في الأعمال القلبية في نحو ثمانية مجالس، ثم الرضا، ثم الشكر.
فالمقصود أن قابلية الهداية والضلال، والخير والشر، تجد أحياناً الشاب نشأ في بيئة طيبة صالحة خيرة من أبوين دُعاة، والولد يبحث عن الشر والفساد في كل مكان، ولا يفوت فرصة، وقد مل وسئم مما يلاقيه صباح مساء في بيت أهله، وتجد آخرين هناك وراء البحار ما سمع كلمة طيبة ربما، ولا وجد من يوجههم، مجرد ما وقع بيده مطوية، أو كتيب عن الإسلام أو نحو ذلك أسلم وتحول إلى شيء آخر، رأينا من هذا في الجامعة الإسلامية نماذج فذة، لأناس أعمارهم أحياناً خمسة عشر، ستة عشر، سبعة عشر، ثمانية عشر، ورأينا في تلك البلاد نماذج من اثنتي عشرة سنة فما فوق، في بلاد كلها فتنة، بل سمعت كلمة لأحد طلبة العلم لما زارها قال: لو كنت في هذه البلاد لا أظنني أستطيع الصمود أمام هذه الفتنة، يغبط هؤلاء على ثباتهم، وصمودهم وتفانيهم في دعوتهم، وبذلهم، وما إلى ذلك، انظر التفاوت، هذا شاب ينشأ في بيئة طيبة ويبحث عن الفساد، وذاك بين الفساد ويبحث عن النور والخير، وقد تنزه، ووجوهٌ في غاية الإشراق، أثر الطاعة في الوجه يظهر، وأثر المعصية في الوجه يظهر، فتوجد في النفوس قابلية للتهذيب يتفاوت الناس بها غاية التفاوت، منهم من يقبل سريعاً، بل هذا تجده حتى في أهل السوء والفساد، لو دخلت -أعزكم الله- مكاناً لحوانيت الخمارين أو نحو ذلك قد تجد في بعضهم من الدماثة والقابلية والتأثر ما لو أنه سمع كلمة لربما ذرفت دموعه، لكن ما وُجد من يوجه، غلبته نفسه وشهوته، ومثل هذا قد يتوب بمجرد كلمة يسمعها.
أقول: هذه مقدمة في هذا الموضوع الذي هو في غاية الأهمية، موضوع حسن الخلق، الذي من تحلى به ظهر عليه كل جميل من الأقوال والأحوال والأعمال مع طيب المعاشرة، ولين الجانب، ثم بعد ذلك لا تسأل عما يكون له من الجزاء، يبلغ درجة الصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتر[3].
وأقرب الناس منزلة من النبي ﷺ أحاسنهم أخلاقاً[4]، وقد ذكر المصنف -رحمه الله- جملة من الأبواب بعد هذا الباب هي في الواقع تتفرع عنه، وتتصل به، فهي من جملة الأخلاق.
وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن يرزقنا وإياكم الأخلاق الفاضلة.
وصلى الله على نبينا محمد.
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله، وشرائع الدين، والدعاء إليه، برقم (17).
- أخرجه الطبراني في الأوسط، برقم (2663)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2328).
- أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في حسن الخلق، برقم (4798)، وأحمد في المسند، برقم (25013)، وقال محققوه: "صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف لجهالة مسلم بن قرط"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (522 ، 795).
- أخرجه الترمذي، أبواب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في معالي الأخلاق، برقم (2018)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2201).