- قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}
- قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ...}
- كان رسول الله ﷺ أحسن الناس خلقاً
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "حسن الخلق" أورد المصنف -رحمه الله- آيتين في صدر هذا الباب: الأولى: وهي قوله -تبارك وتعالى في صفة نبيه ﷺ: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
فوصف نبيه ﷺ وأثنى عليه بهذه الصفة، وذلك لما للأخلاق من منزلة عند الله -تبارك وتعالى- ترتفع بها مرتبة العبد في سلم العبودية، فأثنى عليه بالأخلاق، ما أثنى عليه بأنه يملك مالاً كثيراً، أو أنه يحمل صورة معينة، أو أنه ينتسب إلى كذا أو نحو ذلك، مع أن نسبه ﷺ هو أشرف وأكمل نسب، فأثنى عليه هنا بالخُلق وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، ووصفه بالعظم؛ لأن الكمالات تتفاوت، فالناس من ذوي الأخلاق يتفاوتون في أخلاقهم، فمنهم مقل ومنهم مكثر.
وقال تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، الكاظم الغيظ هو الذي لا يُنفذ غيظه وهو قادر على إنفاذه، بمعنى أنه إذا غضب فإنه يكظم غيظه وحنقه فلا يصدر منه قول ولا فعل من جراء هذا الحنق والغيظ، وكثير من الناس تنفرط ألسنتهم، ولربما لم يستطع السيطرة على جوارحه في حال الغضب، ولهذا أرشد النبي ﷺ من وقع له شيء من ذلك -أعني الغضب- إلى أنه إن كان قائماً فإنه يجلس، وإن كان جالساً أن يضطجع، وقد ذكر بعض أهل العلم في الحكمة في هذا هوأن ذلك أدعى إلى السيطرة على الجوارح، فإذا كان قائماً فلربما يتعدى على من أغاظه وأغضبه، وإذا كان جالساً فكذلك، فإنه بحاجة إلى أن يضطجع، فهذا أسلم وأضبط بحيث لا يصدر منه شيء مشين؛ ولهذا قال النبي ﷺ: إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب[1]؛ لأن الكثيرين يضعفون، وكثير من الناس يقول: أنا إذا غضبت لا أرى، لا أبصر، ولا أسمع، بل يصل إلى حد الإغلاق بمعنى أن عقله -نسأل الله العافية- كأنه قد صودر، يصير مثل المجنون، فيتصرف بتصرفات لربما يندم عليها بعد ذلك، وانظروا إلى من يُبتلى من الناس بالسجون ممن ابتلوا بالقتل فما دونه، ثم بعد ذلك يفيق ويندم، وكانت لحظة غضب، وأيضًا أولئك الذين يطلقون العبارات من الطلاق وما شابه ذلك من ظهار أو تحريم أو نحو هذا، كل هذا في لحظات الغضب، ثم بعد ذلك يندم ويبحث عمن يفتي، وكيف يخرج من هذا الإشكال، وقد ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أن الإنسان حينما يكون في شدة الغضب أو في شدة الفرح فمعنى ذلك أنه في حال غير سوية، ولهذا ينبغي أن يُتورع من عطاياه ومواهبه حال فرح شديدة، فقد يعطي ويهب هدية ويقول: خذ سيارتي، وخذ كل ما عندي، ثم بعد ذلك إذا بدأ يرجع إليه صوابه ونحو ذلك يندم على هذا التصرف، فكان ابن القيم -رحمه الله- يرى أن هذه الحالات يكون الإنسان فيها على غير استواء في التفكير، فيُتورع من الأخذ منه ونحو ذلك؛ ولهذا قال النبي ﷺ: لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان[2].
قال: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ فهذه مرتبة أعلى من مجرد كظم الغيظ، قد يكظم الإنسان غيظه ولكنه يريد أن ينتقم في الوقت المناسب، أو يريد على الأقل أن يستخرج حقه وأن يطالب به، أو أن يشتكي على هذا الإنسان ونحو ذلك، لكنه كظم غيظه لم يصدر منه شيء، فالعفو أعلى درجة من مجرد كظم الغيظ، يكظم الغيظ فإذا ارتقى يعفو بمعنى يتجاوز عن إساءة هذا الإنسان، وكأنه لم يصدر منه شيء.
وقال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ هذه في الدرجة العالية، هذه في المرتبة العليا من مراتب الأخلاق، أنه لا يكتفي بكظم الغيظ، ولا بالعفو عن هذا الإنسان الذي أساء،
وقال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ هذه في الدرجة العالية، هذه في المرتبة العليا من مراتب الأخلاق، أنه لا يكتفي بكظم الغيظ، ولا بالعفو عن هذا الإنسان الذي أساء،
وإنما يحسن أيضاً إليه كما كان هدي النبي ﷺ، الرجل الذي جاء يطالبه بالدين، وأخبار النبي ﷺ في هذا معروفة، الأعرابي الذي قال: أعطني فإنك لا تعطيني من مالك ولا من مال أبيك[3]، فكان هديه ﷺ الإحسان.
والله -تبارك وتعالى- قال في حق أبي بكر لما غضب على مسطح وتكلم في عرضه قال الله -تبارك وتعالى: وَلَا يَأْتَلِ [النور:22]، لا يحلف أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22]، فأعاد إليه أبو بكر النفقة التي كان ينفقها عليه -التي كان يعطيه إياها-؛ لأنه كان فقيراً.
هذه الكلمة لم تصدر من قول عابر رآه مرة أو لحظة فأعجب، وإنما قالها من عايشه ﷺ وخدمه، والعادة أن الخادم ومن يحتفّ بالإنسان ممن لا شأن له أنه يرى أخلاقه على الحقيقة، الناس البعداء قد يرونه يوماً في لحظة غضب فيحكمون عليه بذلك دائماً، أو يرونه في لحظة انبساط أو مجاملة أو نحو ذلك ويحكمون عليه بهذا دائماً، ولكن الذي يعرفه هم أولئك الذين يحتفون به في أحواله كلها، كالخادم والزوجة ونحو هذا، والخادم أعظم؛ لأن الخادم بالعادة لا يؤبه به، وليس كالزوجة، الزوجة قد يقدرها، قد يحبها، قد يكون لها نوع سيطرة على هذا الإنسان، أو يحسب لها حساباً، أو لأهلها أو نحو ذلك، ولكن الخادم لا يعبأ به، كيف إذا كان صغيراً، أنس خدم النبي ﷺ وله عشر سنين[2].
فيقول: "كان رسول الله ﷺ أحسن الناس خلقاً".
فهذه هي الأخلاق الكاملة لا الأخلاق المصطنعة، الإنسان قد يكون مع زملائه في العمل، قد يكون مع المراجعين، قد يكون مع الذين يشترون منه إن كان يبيع سلعًا أو نحو ذلك يتعامل بأخلاق لربما ليست حقيقية، لكن الأخلاق الحقيقية يحبسها حتى يرجع إلى بيته، وكم تسمع من أناس يشكون شكوى مُرة من أولئك الذين يدخلون بيوتهم ثم بعد ذلك يفرغ الواحد منهم غضبه على زوجته وعلى أطفاله المساكين من غير جناية ومن غير موجب، ولكنها أخلاق سيئة احتبست فلم تظهر للناس، ثم بعد ذلك ظهرت على هؤلاء الذين لا يستطيعون أن يدفعوا سطوته ويدفعوا ظلمه عنهم، وهذا أسوأ ما يكون أن يظلم الإنسان ويستطيل على من لا يستطيع دفع مظلمته.
وأسأل الله أن يصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا.
وصلى الله على نبينا محمد،وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الكنية للصبي وقبل أن يولد للرجل، برقم (6203)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز الجماعة في النافلة، والصلاة على حصير وخُمرة وثوب، وغيرها من الطاهرات، برقم (659).
- أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب كان رسول الله ﷺ أحسن الناس خلقا، برقم (2309).