السبت 14 / جمادى الأولى / 1446 - 16 / نوفمبر 2024
حديث «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء..»
تاريخ النشر: ١٩ / شوّال / ١٤٣٠
التحميل: 1522
مرات الإستماع: 6404

كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "أمر ولاة الأمور بالرفق برعاياهم ونصيحتهم، والشفقة عليهم، والنهي عن غشهم، والتشديد عليهم، وإهمال مصالحهم" أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون، قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: أوفوا ببيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم، واسألوا الله الذي لكم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم[1]، متفق عليه.

قوله ﷺ: كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، بمعنى أن الذين كانوا يعلمونهم ويرشدونهم ويدبرون شئونهم كانوا من الأنبياء، وهم كثر في بني إسرائيل، يدل على هذا ما صح من أنهم قتلوا في يوم واحد سبعين نبيًّا، ويوجد عدد من الأنبياء في الوقت الواحد، في الزمن الواحد، في الجيلالواحد، فكيف بمن تعاقب في الأجيال في بني إسرائيل؟.

قال: وإنه لا نبي بعدي، وهذا يدل على أن الناس بحاجة إلى من يدبر شئونهم، وأنهم لا يصلح أن يُتركوا هكذا من غير من يرعى مصالحهم، ويسوس دنياهم ويقيم لهم أمر دينهم، والولايات كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- المقصود منها إقامة الدين والدنيا، يقيم للناس الدين بحفظه من جهة الوجود بإقامة دعائمه وما يثبته بنشر العلم الشرعي بين الناس، ودفع كل ما يضاد ذلك ويضعفه من البدع المحدثة، والمجاهرة بالذنوب والمعاصي، إلى غير هذا من الأمور التي يتم بها حفظ الدين من جهتيه، بالإضافة إلى حفظ الأمور الأخرى من ضرورات الناس، كحفظ عقولهم وأعراضهم وأنسابهم، وحفظ أموالهم، بالإضافة إلى حفظ حاجياتهم وما يقيم مروءات الناس، ويحفظ لهم كرامتهم، فالمسلم مكرم لا يصح أن يُبتذل، وأن يهان وأن يزاول من الأعمال والتصرفات ما تذهب به مروءته وكرامته وتنسفل مرتبته.

 فالشاهد أن الناس بحاجة إلى هذا، فـكان بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وهذا لا يعارض أن عيسى سينزل في آخر الزمان، فإن نبوة عيسى سابقة لنبوة محمد ﷺ، إلا أنه لم يمت أصلاً، وإلا فالنبي ﷺ هو خاتم النبيين، فلا نبي بعده يبعث وتأتيه نبوة أو رسالة أو ينزل عليه الوحي، أما عيسى   فكان قبل النبي ﷺ ورفعه الله ولم يمت إلى الآن، ثم ينزل في آخر الزمان، إن كان لا نبي بعد النبي ﷺ فمن يدبر أمر الناس؟ قال: وسيكون خلفاء فيكثرون، وإذا كان خلفاء ولم يكونوا أنبياء فهذا يعني أنه سيحصل أمور مخالفة، ولهذا قال النبي ﷺ للأنصار: ستجدون بعدي أثرة[2]، وأمرهم بالصبر حتى يلقوه على الحوض، وأيضاً إذا كان هؤلاء خلفاء وليسوا أنبياء ويكثرون فمعنى ذلك أنه قد يقع بينهم التنافس على الملك والرئاسات، ثم أيضاً معلوم في سياسة الملك وما ذكره العلماء كابن خلدون ونحوه: أن القوة في الدول عادة تكون في الجيل الأول، ثم بعد ذلك يكون الجيل الثاني، ثم بعد ذلك الجيل الثالث هو الذي يحصل فيه الضعف والتضييع، وغالباً ما يكون ذلك سبباً لذهاب الملك؛ لأن الجيل الثالث يأتي ولم يشهد ما بذله الجيل الأول من جهود وأعمال وعناءٍ وتعبٍ في إقامة الملك، وإنما جاءتهم باردة لم يبذلوا فيها جهداً ولا عناءً، ومن وصل إليه شيء سواء من المال أو من الرئاسة من غير عناء فإن ذلك مظنة لتفريطه وتضييعه، فالشاهد قال: يكثرون، قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟.

إذا كان بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء ونحن يسوسنا خلفاء، هل هذا يعني أن بني إسرائيل أفضل؟ الجواب: لا، إذا كانت أعمار الأمم السابقة أطول من عمر هذه الأمة، نوح كم بقي ﷺ؟، نقول: الله عوض هذه الأمة، والموفق من وفقه الله -تبارك وتعالى، عوضها بليلة القدر خير من ألف شهر، يعني أكثر من ثلاث وثمانين سنة، ليلة واحدة، فإذا حسبت الإنسان الذي يعيش خمسًا وستين سنة معناها أنه صام خمسين رمضان على سبيل الفرض، ففيها خمسون ليلة قدر، وكل ليلة قدرٍ بنحو ثلاث وثمانين سنة، فكم يكون عمر هذا الإنسان، كم يعادل؟ يعادل أعمار السابقين بل قد يزيد عليها، ولما كان بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء عوض الله هذه الأمة أن بعث لها من يجدد لها دينها على رأس كل مائة سنة، كما صح ذلك عن النبي ﷺ[3]، فما حصل من وهن وضعف وتضييع وتفريط على رأس كل مائة سنة يبعث الله من يجدد الدين، وهذا من حفظ الله -تبارك وتعالى- لهذا الدين، ما قال: يبعث لهم من يجدد دنياهم، لا، من يجدد الدين؛ لأنه هو الأهم، فإذا ذهب الدين فلا خير بعد ذلك في الدنيا، وهذا من فضله وجوده وكرمه على هذه الأمة.

"فقالوا له: يا رسول الله، ما تأمرنا؟"كيف نتعامل معهم، كيف يكون حالنا معهم، ليسوا أنبياء ولا يوحى إليهم، يردمنهم ما يرد من البشر، يحصل منهم أثرة، يحصل منهم خطأ، يحصل منهم انحراف؟، قال: أوفوا ببيعة الأول فالأول، الأول لأنه حصلت له البيعة ولم يكن منازع فانفرد فوجب الوفاء له، فإذا جاء من ينازعه الملك أو الرئاسة أو الخلافة فإن ذلك يكون باغياً، فيُكف عن بغيه ولو أدى ذلك إلى قتله كما أمر النبي ﷺ إذا بويع لخليفتين، أمر بقتل الثاني كائناً من كان، قال: أعطوهم حقهم ما هو حقهم؟ السمع والطاعة بالمعروف، أن يُعطَوا زكاة الأموال إذا جاء من يجبي الزكاة يُعطَى، وكذلك الصلاة خلفهم، والجهاد معهم، مع كل بر وفاجر، وما إلى ذلك من الحقوق الشرعية.

أعطوهم حقهم واسألوا الله الذي لكم بمعنى أنك لا تطلب حقك بالقوة والسيف والخروج على أئمة الجور، وإنما اسألوا الله الذي لكم، ما الذي لكم؟ هو ما لكم من الفيء، من الأموال، من بيت مال المسلمين، فهو حق عام للمسلمين جميعاً، وكذلك أيضاً أن يُعطَى الناس بحسب بلائهم ونصرتهم، وبحسب مقامهم في الدين، كلٌّ بحسبه، لا من أجل اعتبارات أخرى محاباة لأحد أو نحو ذلك، فهذا حق للناس، ومن حقهم أيضاً أن ينصح لهم وأن يجد ويجتهد ويبذل كل ما يستطيع في سبيل حفظ مصالحهم، وحفظ أموالهم، وحفظ أعراضهم، وحفظ كرامتهم، وحفظ كل ما يتصل بهم، أن يبذل كل ما يستطيع لإقامة هذه الأمور وحفظها، وأن ينصح لهم، وأن يرحمهم، ويشفق عليهم، كل هذه حقوق للناس، وألا يتتبع فيهم التهمة، ولا يعاملهم بمقتضى ذلك، كما جاء في حديث معاوية ، عن النبي ﷺ: إنك إذا ابتغيت الريبة في الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم[4]، يعنى أن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس، بمعنى أنه صار يعاملهم بمقتضى التهمة فيتتبع، فهذا يفسد الضمائر والنفوس، ويحصل أن المجتمع يتربى على الالتواء، ولا تكون سرائر الناس كظواهرهم، وينشأ الصغير على الخديعة والمكر، ويظهر النفاق ويكثر ويفشو من الطرفين، ممن يعينه على تتبع الريب، وممن أيضاً يظهر خلاف ما يبطن، إنك إذا ابتغيت، وفي رواية إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم[5]، إنما يعامل الناس بحسب الظاهر، وتوكل سرائرهم إلى الله رب العالمين، النبي ﷺ وهو رسول الله يقول: ما أمرت أن أشق عن قلوب الناس، ولا أن أنقر في صدورهم[6]، فالعمل إنما هو على الظاهر فقط، فمن أظهر خيراً قبل منه، ومن أظهر غير ذلك فإنه يعامل بمقتضاه، هذا الأصل.

قال: واسألوا الله الذي لكم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم يعني: أن الله سيحاسبهم أما أنتم فليس لكم ذلك، لماذا؟ يعني الناس الذين الآن لربما اغتروا ببعض التصورات والأفكار، الديمقراطية مثلاً أو نحو ذلك، يقول: لابد من عدم الاستسلام ونحو ذلك، ما هي النتيجة التي تنتج عن هذا؟ ينتج الصراع، والبغي، والقتال، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بعد التتبع للتاريخ وما جرى فيه، والحوادث التي حصلت إن الذين حصل منهم البغي والخروج لم يحصلوا على مطلوب، غالبهم قتل وهزموا، وحصل بسبب ذلك فساد عريض، ومن حصل له نوع انتصار فإنه لا يدوم، هذا ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله.

فأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم (3455)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء، الأول فالأول، برقم (1842).
  2. أخرجه أحمد في المسند، برقم (12696)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  3. أخرجه أبو داود، كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة، برقم (4291)، والحاكم في المستدرك، برقم (8592)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1874).
  4. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (859)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1049).
  5. أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في النهي عن التجسس، برقم (4889)، وأحمد في المسند، برقم (23815)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1585).
  6. أخرجه أبو يعلى في مسنده، برقم (1163)، وقال محققه حسين سليم أسد: "إسناده صحيح".

مواد ذات صلة