الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما جاء عن السلف الصالح مما يتصل بهذا الباب -أعني باب "أمر ولاة الأمور بالرفق برعاياهم ونصيحتهم والشفقة عليهم"- ما جاء عن عبد الرحمن بن شماسة قال: "دخلت على عائشة -ا- فقالت: ممن أنت؟ قلت: من أهل مصر، قالت: كيف وجدتم ابن حديج في غزاتكم هذه؟ قلت: خير أمير، ما يقف لرجل منا فرس ولا بعير إلا أبدل مكانه بعيراً، ولا غلام إلا أبدل مكانه غلاماً"[1]، والمقصود بالغلام يعني المملوك الذي يخدم سيده، فإذا حصل له ما يقطعه عن خدمته أبدله بغلام آخر.
وخطب معاوية الناس أيام خلافته فقال: "إن في بيت مالكم فضلاً عن عطائكم، وأنا قاسمه بينكم"[2].
بمعنى أن الخلفاء كانوا يقسمون الأموال بين الناس، كلٌّ بحسب إسلامه وتقدمه وبلائه في نصرته للدين ودفعه وذبه عنه، وبقدر حاجات الناس أيضاً، فيعطون كل أحد من هذا العطاء من بيت المال دون أن يطلبه، ودون أن يسعى عليه أو يسأل عنه، كلٌّ يأتيه عطاؤه وهو في بيته، فمعاوية فعل كما يفعل الخلفاء الراشدون فأعطى الناس، فبقي في بيت المال زيادة، فهو يقول لهم: إن في بيت مالكم فضلاً عن عطائكم، يعني زيادة، وأنا قاسمه بينكم.
ويقول الأحنف بن قيس -رحمه الله، وهو إمام في الحلم كما هو معلوم، يقول: "لا ينبغي للأمير الغضب؛ لأن الغضب في القُدرة لقاح السيف والندامة"[3].
بمعنى أن الإنسان قد يغضب وهو عاجز لا يستطيع أن يفعل شيئاً، لكن الأمير يستطيع، فإذا غضب فقد يقتل، وقد يتصرف فيصدر قراراً في غير محله، ثم بعد ذلك تكون العواقب وخيمة، فيندم حيث لا ينفع الندم، فغضب الأمير ليس كغضب آحاد الناس.
وكتب عثمان بن عفان أيام خلافته إلى أميره بالشام وهو معاوية بن أبي سفيان : "أنْ أغزِ الصائفة رجلاً مأموناً على المسلمين.."، يعني في هذا الصيف أخرِجْ جيشاً للغزو وأمِّر عليه رجلاً مأموناً على المسلمين، "رفيقاً بسياستهم"، يرفق بهم فلا يجتمع شدة الصيف والحر ولأواء السفر مع أمير حُطمة، "فعقد لأبي عبد الله بن قيس الكندي وكان فقيهاً ناسكاً يحمل عنه الحديث، وكان خلفاء بني أمية يعظمونه، وكذا معاوية [4].
ورأى سليمان بن عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، رأى بالموسم في الحج الناسَ وكثرة الناس، رأى الخلق، فقال لعمر بن عبد العزيز: "أما ترى هذا الخلق الذين لا يحصيهم إلا الله، ولا يسع رزقَهم غيرُه؟ قال عمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، هؤلاء اليوم رعيتك، وهم غداً خصماؤك -يعني عند الله، فبكى، وقال: بالله أستعين"[5].
وقال مولىً لعمر بن عبد العزيز لما مات سليمان بن عبد الملك، ومعلوم أن الخلافة آلت بعد سليمان لعمر بن عبد العزيز، ففي جنازة سليمان ظهر الغم على عمر بن عبد العزيز؛ لأن الخلافة آلت إليه، ما فرح، فقال له: ما لي أراك مغتمًّا؟ قال: "لمثل ما أنا فيه فليُغتم"[6].
فبدلا من أن يكون الإنسان مسئولا عن نفسه صار مسئولا عن هؤلاء الرعية من المشرق إلى المغرب، كل هؤلاء في رقبته، سيسأل عنهم أمام الله ، بدلاً من أن يسأل الإنسان عن أهل بيته خمسة ستة سبعة، زوجته وأولاده، سيسأل عن هؤلاء الخلائق من أولهم إلى آخرهم، فقال عمر بن عبد العزيز: "لمثل ما أنا فيه فليُغتم، ليس أحد من الأمة إلا وأنا أريد أن أوصل إليه حقه غير كاتبٍ إليّ فيه.."، يعني من غير أن يكتب طلباً ليحصل على الحق، قال: "ولا طالبِه مني"، يعني من غير طلب.
ودخل أخو نظام الملك عليه، فقعد بين يديه وتواضع له -يعني نظام الملك تواضع لأخيه، فقال لأخيه: أيها الرجل، إنك سلطك الله على عباده فانظر كيف تجيبه إذا سألك عنهم[7].
فالمقصود أن الأحاديث السابقة وهذه الآثار كل ذلك يدور على أن الولاية والإمارة والإدارة كل ذلك مسئولية وأمانة سيسأل عنها الإنسان، وأن ذمة العبد مشغولة بذلك كله، فإذا كنت مديراً لمدرسة أو كنت مديراً لمؤسسة، أو رئيساً لقسم، أو عميداً لكلية، أو مديراً لجامعة، أو أميراً على بلد أو غير ذلك فهذا ليس بتشريف، وإنما هو تكليف ومسئولية، ولهذا دخل أبو مسلم الخولاني على معاوية أيام خلافته فقال: "السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: مه؟". يعني ماذا تقول؟، كف عن هذا، قل: يا أمير المؤمنين، فقال معاوية: "دعوه فإنه أعلم بما يقول"[8].
هذه هي المهمة الحقيقية، أنه يعمل لصالح العمل الذي وضع له، الأمانة التي أنيطت بعنقه، فإذا فرط الإنسان وضيع فإن ذلك سيكون شؤماً عليه، ولهذا قال النبي ﷺ في الإمارة: فنعمت المرضِعة وبئست الفاطمة[9].
وأسأل الله أن يعيننا وإياكم على أنفسنا، وأن يلهمنا رشدنا، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- سير أعلام النبلاء (3/ 38).
- انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (59/ 170)، وسير أعلام النبلاء (3/ 152).
- انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (24/ 346)، وسير أعلام النبلاء (4/ 94).
- انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (32/ 114)، وتهذيب الكمال (15/ 458)، وسير أعلام النبلاء (4/ 594).
- سير أعلام النبلاء (5/ 112).
- المصدر السابق (5/ 127).
- انظر: طبقات الفقهاء الشافعية (1/ 540)، وسير أعلام النبلاء (18/ 225).
- تاريخ دمشق لابن عساكر (27/ 223)، وسير أعلام النبلاء (4/ 13).
- أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب ما يكره من الحرص على الإمارة، برقم (7148).