الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمن الآثار المنقولة عن السلف في باب "النهي عن سؤال الإمارة واختيار ترك الولايات إذا لم يتعين عليه أو تدعُ حاجة إليه" ما ورد من أن عليًّا بعث إلى ابن عمر -ا- فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنك رجل مطاع في أهل الشام فسِرْ فقد أمّرتك، فقال ابن عمر: أذكِّرك الله وقرابتي من رسول الله، وصحبتي إياه إلا ما أعفيتني، فأبى عليٌّ، يقول ابن عمر -ا: فاستعنت عليه بحفصة، يعني أن تشفع له، فأبى، يقول: فخرجت ليلاً إلى مكة، فقيل لعلي : "إنه قد خرج إلى الشام، فبعث في أثري، فجعل الرجل يأتي المِربد فيخطم بعيره بعمامته ليدركني"، بمعنى أنه يأتي إلى المِربد وهو محبس الإبل، فمن العجلة ليدرك ابن عمر لا يتمكن من وضع الخطام للإسراع الشديد فيخطم بعيره بعمامته؛ ليدرك ابن عمر، يعني أن عليًّا خشي أن ابن عمر يلحق بأهل الشام، يلحق بمعاوية لما أراد أن يكرهه على الإمارة، يقول: فأرسلتْ حفصة أنه لم يخرج إلى الشام، وإنما خرج إلى مكة، فسكن عليٌّ [1]، فابن عمر -ا- ما فرح بهذا، واعتبر ذلك من المآثر.
ويقول شقيق البلخي -رحمه الله- من التابعين: "كان ابن زياد يراني مع مسروق فأتيت علقمة"، يعني النخعي فقال: "إنك لم تصب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينك ما هو أفضل منه"، الآن علقمة يقول: "ما أحب أن لي مع ألفي ألفين، وإني أكرم الجند عليه"[2]، يعني على ابن زياد، يقول: أنا مع أني بعيد وما عندي كثير دنيا ولا مال، ولا أحب أن يكون لي كثير منها ومع ذلك أنا بهذه المنزلة عنده.
وكتب أبو بردة علقمةَ النخعي في الوفد إلى معاوية يعني من أهل العراق، فقال له علقمة: "امحني امحني"[3]، ولما استخلف الوليد بن عبد الملك عزل حسان بن النعمان وكان أحد ولاته، وبعث نُواباً عوضاً عنه، فقدم حسان على الوليد بأموال عظيمة وتحف، وقال: "يا أمير المؤمنين، إنما ذهبت مجاهداً، وما مثلي من يخون، فلما رأى هذه الأمانة العظيمة، قال: "إن رادك إلى عملك"، يعني إلى إمارتك، فحلف أنه لا يلي شيئاً أبداً، وكان يدعى بالشيخ الأمين[4].
ولما ولي يزيد بن المهلب خرسان قال: "دلوني على رجل كامل في خصال الخير، فدُل على أبي بردة الأشعري -أي أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، فلما جاء رآه رجلًا فائقاً، يعني على الوصف الذي ذكر، فلما كلمه رأى من مخبرته أفضل من مرآته، -يعني الآن رأى هيئة في غاية السمت والوقار، فلما تكلم معه رأى عقلاً وحسن نظر في الأمور أعظم مما رأى في صورته الظاهرة، يعني أعجب بصورته الظاهرة، فلما تكلم معه وجد أن خصاله وأخلاقه وعقله أفضل، فقال: إني وليتك كذا، وكذا من عمل، فاستعفاه، فأبى أن يعفيه، فقال: "أيها الأمير، ألا أخبرك بشيء حدثنيه أبي عن رسول الله ﷺ؟"، وذكر له حديثاً، إلى أن قال: "وأنا أشهد أني لست بأهل لما دعوتني إليه، فقال: ما زدت على أن حرضتنا على نفسك، -يعني: ما دام أنك بهذا الزهد في الولايات هذا الذي نريد- ورغّبتنا فيك، فاخرج إلى عهدك فإني غير مُعفيك، فخرج ما شاء الله أن يقيم، فاستأذن في القدوم عليه، فأذن له، فقال أيها الأمير: ألا أحدثك بشيء حدثنيه أبي؟ وذكر له حديثاً، وقال في السؤال بوجه الله -تبارك وتعالى: وإني سائلك بوجه الله إلا ما أعفيتني أيها الأمير من عملك، فأعفاه"[5].
ويقول أيوب السختياني عن شيخه أبي قلابة الجرمي -رحمه الله- من كبار أئمة التابعين يقول: "كان والله من الفقهاء، ذوي الألباب، إني وجدت أعلم الناس بالقضاء أشدهم منه فراراً، وأشدهم منه فَرَقاً، وما أدركت بهذا المصر أعلم بالقضاء من أبي قلابة"، هذه شهادة من إمام من أيوب السختياني يقول: "لا أدري ما محمد"، يعني ابن سيرين، وابن سيرين هو من هو في العلم والفقه يقول: "فكان يراد يعني أبا قلابة، فكان يراد على القضاء فيفر إلى الشام مرة -من العراق، ويفر إلى اليمامة مرة، في نجد، فكان إذا قدم البصرة كان كالمستخفي حتى يخرج، يقول أيوب: لما مات عبد الرحمن بن أذينة -يعني قاضي البصرة زمن شريح- ذُكر أبو قلابة للقضاء فهرب حتى أتى اليمامة، يقول: فلقيته بعد ذلك فقلت له في ذلك يعني لماذا؟ فقال أبو قلابة: "ما وجدت مثَل القاضي العالم إلا مثَل رجل وقع في بحر فما عسى أن يسبح حتى يغرق"، هذا يقوله إمام يشهد له أيوب السختياني أنه لا يعلم أحدًا أفضل منه يصلح للقضاء ويقول هذا الكلام، ويتحرج، ويذهب ويسافر، ويقول مثل هذا، وقيل لعبد الملك بن مروان: هذا أبو قلابة يعني جاء إلى الشام قال: ما أقدمه؟ قالوا: متعوذاً من الحجاج أراده على القضاء، فكتب إلى الحجاج بالوصاة به، فقال أبو قلابة: "لن أخرج من الشام"[6].
وكان أبو الشعثاء يقول: "لو ابتليت بالقضاء لركبت راحلتي وهربت"[7]، القضاء كما هو معلوم من فروض الكفايات، لابد أن يوجد من يقوم به، لكن هؤلاء كانوا يختارون لأنفسهم السلامة، وفرق بين اختيار الإنسان لنفسه وبين ما يوجَّه للناس ومَن يصلح للقضاء، فالذين كانوا يرشحون هذا أئمة كشريح، لكن هو اختار لنفسه هذا، والمشكلة ليست في هذا ولا هذا، المشكلة فيمن قد يكون قاصراً في العلم والعمل والورع، ومع ذلك تهفو نفسه للقضاء، ويتطلع إليه، ولربما طلبه صراحة، أو من غير تصريح، وسعى إليه، أو جعل الشفعاء، أو لربما يفرح إذا علم أنه قد رشح أو ذكر للقضاء، هذه هي المصيبة، يعني من ابتلي ولم يجد مندوحة وهو من المشتغلين بالعلم وله عقل وحسن نظر وروية في الأمور مع ديانة وورع فالله يسدده ويعينه، لكن إذا كان لا هذا ولا هذا ولا هذا ويفرح، ولربما فرح أهله معه، ورأوا أنه قد حصّل وظيفة بمجرد تخرجه من الجامعة فهذا أمر في غاية الخطورة.
يقول رجاء بن حيوة -رحمه الله: "كنت واقفًا على باب سليمان بن عبد الملك إذ أتاني آتٍ لم أره قبل ولا بعد، فقال: يا رجاء، رجاء إمام من أئمة المسلمين من أهل العلم في بلاد الشام وله أعمال تُذكر فتُشكر مع الخلفاء، أشار عليهم بأمور حصل بها نفع عظيم للمسلمين، قال: "يا رجاء إنك قد ابتليت بهذا وابتُلي بك"، يعني الخليفة، "وفي قربه الوَتَغ"، يعني الهلاك، "فعليك بالمعروف، وعون الضعيف، يا رجاء من كانت له منزلة من سلطان فرفع حاجة ضعيف لا يستطيع رفعها لقي الله وقد شَد قدميه للحساب بين يديه"[8]، أي: ثبتها.
يقول الذهبي يعلق على هذا في السير: "كان رجاء بن حيوة كبير المنزلة عند سليمان بن عبد الملك وعند عمر بن عبد العزيز وأجرى الله على يده الخيرات، ثم إنه بعد ذلك أُخِّر فأقبل على شأنه، فقيل له: إنك كنت تأتي السلطان، فتركتهم، فقال: "يكفيني الذي أدَعُهم له"[9].
وهذا إبراهيم بن أبي عبلة من علماء التابعين بعث إليه هشام بن عبدالملك أيام خلافته، فقال: "إنا قد عرفناك واختبرناك ورضينا بسيرتك وبحالك، وقد رأيت أن أخلطك بنفسي، وخاصتي، وأشركك في عملي"، الخليفة يقول له، كثير من الناس لو قيل له هذا الكلام ربما يصاب بجلطة من الفرح، يقول: "قد وليتك خراج مصر"، خراج مصر معناه أن أموال مصر كلها هو المسئول عن الخراج فيها، يقول: "قلت: أمّا الذي عليه رأيك يا أمير المؤمنين فالله يثيبك ويجزيك وكفى به جازياً ومثيباً، وأما أنا فما لي بالخراج بَصَر"، ليس لي معرفة بهذا ولا خبرة، "وما لي عليه قوة، يقول: فغضب حتى اختلج وجهه، تغير وجهه تغير لونه، هذا هشام بن عبد الملك يقول: "وكان في عينيه حول فنظر إليّ نظراً منكراً -نظر إليه بغضب هم أن يبطش به، ثم قال: لتليَنّ طائعاً أو كارهاً"، الآن هذا في محل ثقة عنده ومنزلة، يقول: فأمسكت -سكتُّ، ثم قلت: أتكلم؟ قال: نعم، قلت: إن الله -سبحانه- قال في كتابه: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا [الأحزاب:72] فوالله ما غضب عليهن إذ أبين ولا أكرههن، يقول: "فضحك حتى بدت نواجذه وأعفاني"[10].
وأبو حنيفة -رحمه الله- ضُرب على القضاء، فأبى أن يكون قاضياً، وكان ذلك أكثر من مرة، وطلب منه أبو جعفر المنصور أن يلي القضاء وحلف عليه، الخليفة يحلف على أبي حنيفة، فحلف أبو حنيفة أنه لا يفعل، فقال له الحاجب -حاجب الخليفة: "ترى أمير المؤمنين يحلف وأنت تحلف؟"، أبو جعفر المنصور هو أقوى رجل تقريبًا في الدولة العباسية هو الذي وطد أركانها وشد ملكها، قال: "أمير المؤمنين على كفارة يمينه أقدر مني، فأمر به أبو جعفر المنصور فحُبس فمات فيه ببغداد"[11]، على ماذا؟، على القضاء، أن يلي القضاء، كان بالإمكان أنه يلي القضاء ولم يطلب ذلك، ولم يتطلع إليه، والله يسدده، ويعينه، ولابدّ من أن يلي الإنسان القضاء، مثل هذه الأشياء يستفيد منها الإنسان لنفسه فائدة وهي أن الكثيرين الذين يتطلعون وعندهم طموح أن يكون مسئولاً، أن يكون مديراً، أن يكون صاحب ولاية، أن يكون قاضياً، أن هذا ليس من مصلحته، هذه أمانة كبيرة جدًّا، وكثير من الناس لا يستشعر ذلك ويعتقد أنها شرف.
وفي بعض ما ذكر في ترجمته أن المنصور قال له: "أترغب عما نحن فيه؟"، يعني أن المنصور ذهب بها فسرها بطريقة أخرى فقال: "لا، لا أصلح"، فقال: كذبت، أبو حنيفة فقيه فقال: فقد حكم أمير المؤمنين أني لا أصلح، فإن كنت كاذباً فلا أصلح، وإن كنت صادقًا فقد أخبرتكم أني لا أصلح"، فحبسه، وجاء في بعض أخباره أنه قال: والله ما أنا بمأمون الرضا -يعني في حال الرضا- فكيف أكون مأمون الغضب؟ فلا أصلح لذلك، قال المنصور: "كذبت بل تصلح، فقال: كيف يحل أن تولي كذاباً؟[12].
وهذا الأوزاعي الإمام الكبير طلب منه يزيد بن الوليد أن يلي القضاء، فجلس مجلساً واحداً، ثم استعفى -طلب الإعفاء- فأعفي[13].
ففي مثل هذه الأشياء المذكورة عبرة للإنسان؛ ليعرف -وهذا هو الهدف- فقط أنها أمانة، وإلا لابد من القيام بهذه الولايات والوظائف من قضاء وغيره، وإلا لم تقم مصالح الناس، لكن العبرة التي نخرج بها هو أن نستشعر أن هذه أمانة وتكليف، وليست بتشريف يسعى الإنسان إليها، ويبحث عنها، ويكون له طموح، ولربما يوالي ويعادي أو يبذل دينه، ولربما صدر منه أشياء لا تليق من كلام أو فتوى وهو لم يُطلب منه ذلك أصلاً؛ ليظهر أنه في حال من الاعتدال كما يقال، أو غير متشدد أو نحو ذلك، فيكون ذلك سبباً لخسارته لدينه، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، ولكن ابن آدم ضعيف، والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- سير أعلام النبلاء (3/ 224).
- تاريخ دمشق لابن عساكر (41/ 181)، وسير أعلام النبلاء (4/ 58).
- انظر: الطبقات الكبرى (6/ 149)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (41/ 182)، وسير أعلام النبلاء (4/ 58).
- سير أعلام النبلاء (4/ 140).
- تاريخ دمشق لابن عساكر (26/ 58)، وسير أعلام النبلاء (4/ 345).
- سير أعلام النبلاء (4/ 473).
- المصدر السابق (4/ 483).
- تاريخ دمشق لابن عساكر (18/ 110)، وسير أعلام النبلاء (4/ 560).
- سير أعلام النبلاء (4/ 560).
- المصدر السابق (6/ 324).
- المصدر السابق (6/ 401).
- انظر: تاريخ بغداد (13/ 329)، وسير أعلام النبلاء (6/ 402).
- تاريخ دمشق لابن عساكر (68/ 45).