الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما ورد عن السلف في باب "حث السلطان والقاضي وغيرهما من ولاة الأمور على اتخاذ وزير صالح وتحذيرهم من قرناء السوء والقبول منهم":
ما جاء عن الليث قال: قال لي المنصور -يعني أبا جعفر: تلي لي مصر؟، فاستعفيت، فقال: فأما إذا أبيتَ فدلني على رجل أقلده مصر، يعني: أوليه، يقول: قلت: عثمان بن الحكم الجذامي، رجل له صلاح، وله عشيرة، قال: فبلغ عثمانَ ذلك، فعاهد الله أن لا يكلم الليث[1].
ما فرح، وقال: أنت ذكرتني، واقترحتني، وأنا لن أنسى لك هذا الفضل حتى أموت، وسأدعو لك ما بقيت، لا، ما كانوا يتطلعون لما نتطلع إليه، ويفرحون بذلك، ويعتقدون أن الولاية شرف، لا، كانوا يعتقدون أنها مسئولية وأمانة كبيرة جدًّا، تنوء بها الجبال، إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72].
واستعمل المنصور سنة ثلاث وخمسين لما قدم دمشق على القضاء يحيى بن حمزة، قال له: يا شاب، أرى أهل بلدك قد أجمعوا عليك، يعني: اختار الأصلح، قال: فإياك والهدية[2].
وكان وكيع -رحمه الله- يقول: أهل الكوفة اليوم بخير، لماذا هم بخير؟ قال: أميرهم داود بن عيسى، وقاضيهم حفص بن غياث، ومحتسبهم حفص الدورقي[3]، يعني: والي الحسبة.
وهذه واقعة عجيبة طويلة لكنها مفيدة، تدل على تجرد القاضي، وشجاعة القاضي، ونزاهة القاضي، وقوة القاضي، في آن واحد.
باع رجل من أهل خرسان جمالًا بثلاثين ألف درهم من مرزبان المجوسي، وكيل أم جعفر، وهي والدة هارون الرشيد، الخليفة، فهذا المرزبان هو وكيلها، فالمرزبان هذا مطل الرجل الخرساني بالثمن، والخرساني هذا ينتظر سيذهب إلى بلده، ويريد ثمن الجمال، وهذا يقول له: غدًا، وبعد غد، وتعال لي وقتًا آخر.
فطال ذلك على الرجل، فأتى بعض أصحاب حفص بن غياث، فشاوره، حفص بن غياث هو القاضي، هذا جاء إلى أحد أصحاب حفص بن غياث، فقال له هذا الرجل: اذهب إليه، يعني: لهذا المرزبان، فقل له: أعطني ألف درهم، وأحيل عليك بالمال الباقي، بمعنى إني إذا اشتريت من أحد شيئًا أقول: استوفِ الثمن من المرزبان، أو أبعث إليك من يستوفي، وأخرجُ إلى خرسان، فإذا فعل هذا فالقني حتى أشير عليك، قل له هذا الكلام، قل له: أعطني ألفًا من ثلاثين ألفًا.
ففعل الرجل، فأعطاه المرزبان ألف درهم، فرجع إلى صاحب حفص بن غياث، وقال له هذا الذي حصل، فقال: ارجع إليه، فقل: إذا ركبتَ غدًا فطريقك على القاضي، تحضر، وأُوكل رجلًا يقبض المال، وأخرجُ، يعني: نسوي وكالة لأجل أن تتوثق من الشخص الذي سيأتي -إن شاء الله، ويأخذ منك المال، وأنا سأذهب إلى خرسان.
فإذا جلس عند القاضي فادعِّ عليه بمالك، قل: هذا أنا أريد منه ثلاثين ألف درهم، فإذا أقر حبسه حفص؛ لأن حفص بن غياث يحبس في الدين، وأخذتَ مالك، فرجع إلى المرزبان وسأله، فقال: انتظرني بباب القاضي، فلما ركب من الغد، وثب إليه الرجل، فقال: إن رأيت أن تنزل إلى القاضي حتى أوكل بقبض المال وأخرج، يعني: وأسافر، انزل حتى نعمل الوكالة، فنزل المرزبان، فتقدما إلى حفص بن غياث، فقال الرجل: أصلح الله القاضي، لي على هذا الرجل تسعة وعشرون ألف درهم؛ لأنه أعطاه ألفًا، فقال حفص: ما تقول يا مجوسي؟ قال: صدق، أصلح الله القاضي، قال: ما تقول يا رجل فقد أقر لك؟، قال: يعطيني مالي، فقال: ما تقول؟، قال: هذا المال على السيدة، قال: أنت أحمق؟ تقر ثم تقول: هو على السيدة؟ ما تقول يا رجل؟ فقال: أصلح الله القاضي، إن أعطاني مالي وإلا حبستَه، يعني: أنا لا أتنازل، قال: ما تقول يا مجوسي؟ قال: هذا المال على السيدة، فقال القاضي: خذو بيده إلى الحبس، فلما حُبس بلغ الخبر أم جعفر، فغضبت، وبعثت إلى السندي، يعني: بعثت إليه، قالت: أرسل لي المرزبان، فعجل السندي، فأخرجه، وبلغ حفصًا الخبر، القاضي علم بذلك، فقال: أحبس أنا ويُخرج السندي؟ لا جلست، يعني: للقضاء، أو يرد مرزبان إلى الحبس، يا أنا يا هو، فجاء السندي إلى أم جعفر خائفًا، فقال: الله الله فيّ، يعني: أنا الذي أتورط، إنه حفص بن غياث، يعني: هذا قاضٍ، هذا حفص بن غياث، وأخاف من أمير المؤمنين أن يقول لي: بأمر من أخرجته؟، رديه إلى الحبس، وأنا أكلم حفصًا في أمره، فأجابته، فرجع مرزبان إلى الحبس، فقالت أم جعفر لهارون الرشيد: قاضيك هذا أحمق، حبس وكيلي، واستخف به، فمره لا ينظر في الحكم، وتُولي أمره إلى أبي يوسف، يعني: صاحب أبي حنيفة، فأمر لها بالكتاب، قال: هاتوا نكتب، وبلغ حفصًا الخبر، فقال للرجل: أحضر لي شهودًا حتى أسجل لك على المجوسي بالمال، فجلس حفص فسجل على المجوسي بالمال، وبينما هو يسجل -إلى الآن ما انتهى من كتابة المعاملة- ورد كتاب هارون مع خادم له، هارون الرشيد أرسل الخطاب مع خادم له، فقال: هذا كتاب أمير المؤمنين، فقال له: وقِّفْ، حفص يقول لمندوب الخليفة، والخليفة يحكم من الصين إلى المحيط غربًا، يعني: أكثر من مائة دولة اليوم في الخريطة يحكمها هارون الرشيد.
فقال لمندوبه: مكانك، ما فتح الخطاب، يريد أن يكمل المعاملة، فقال: هذا كتاب أمير المؤمنين، فقال: مكانك، نحن في شيء حتى نفرغ منه، نحن في قضية الآن، وإذا انتهينا نقرأ كتاب أمير المؤمنين، فقال: كتاب أمير المؤمنين، يعني: طالعِه؛ لأن المندوب عارف أن القضية تتعلق بهذا الحكم الذي هو بصدده، فقال: انظر ما يقال لك، القاضي يقول له: اسمع الذي أقول لك، فلما فرغ حفص من السجل أخذ الكتاب من الخادم فقرأه، لما قرأه وجده يقول له: هذه القضية لا تنظر إليها سنحيلها لأبي يوسف، فقال: اقرَأ على أمير المؤمنين السلام، وأخبره أن كتابه قد ورد وقد أنفذت الحكم، يعني: جاءني بعدما أنفذت الحكم.
فقال الخادم: قد والله عرفتُ ما صنعت، أبيتَ أن تأخذ كتاب أمير المؤمنين حتى تفرغ مما تريد، يعني من أجل أن تقول: أنا ما قرأته إلا بعدما انتهيت من الحكم، وطبعًا حكم القاضي لا يجوز نقضه، إذا كان باجتهاد لا يجوز نقضه بالاجتهاد، وإذا كان بنص فإنه لا يجوز نقضه مطلقًا.
قال: والله لأخبرنه بما فعلت، سأقول: أخرني حتى أمضى القضية، ثم قلت: هات الكتاب نقرؤه الآن.
قال له: قل له ما أحببت، فجاء الخادم، فأخبر هارون، فضحك، وقال للحاجب: مر لحفص بثلاثين ألف درهم، فركب يحيى بن خالد فاستقبل حفصًا منصرفًا من مجلس القضاء، فقال: أيها القاضي، قد سَررتَ أمير المؤمنين، وأمر لك بمال، فما كان السبب في هذا؟
يعني: أنت ما فعلت من أجل أنك فرحت الخليفة، وأرسل لك بهذا المال؟
فقال: تمم الله سرور أمير المؤمنين، وأحسن حفظه وكلاءته، ما زدت على ما أفعل كل يوم، تأتيني قضية وأحكم فيها، لا جديد.
قال: على ذلك؟، يعني على هذا يفرح ويعطيك؟ قال: ما أعلم، إلا أن يكون سجلتُ على مرزبان المجوسي بما وجب عليه.
قال: فمن هذا سُر أمير المؤمنين.
قال حفص: الحمد لله كثيرًا.
قالت أم جعفر لهارون: لا أنا ولا أنت إلا أن تعزل حفصًا، فأبى عليها، ثم ألحت عليه فعزله عن الشرقية، وولاة قضاء الكوفة، فمكث عليها ثلاث عشرة سنة[4].
أكتفي اليوم بهذا، وفي ليلة أخرى -إن شاء الله- نذكر نماذج أخرى، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- سير أعلام النبلاء (8/ 156).
- المصدر السابق (8/ 355).
- المصدر السابق (9/ 27).
- المصدر السابق (9/ 30).