الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمضى الكلام على باب "النهي عن سؤال الإمارة واختيار ترك الولايات إذا لم يتعين عليه أو تدعُ حاجة إليه"، وهذا الباب -وهو الأخير من هذه الأبواب- ترجم له المصنف -رحمه الله- بقوله: باب "النهي عن تولية الإمارة والقضاء وغيرهما من الولايات لمن سألها أو حرص عليها فعرّض بها"، هناك النهي عن سؤال الإمارة، وهنا النهي عن تولية من سأل ذلك صراحة أو تعريضاً، سواء كان ذلك بسؤال الإمارة أو بسؤال القضاء أو غير ذلك من الولايات، وأورد المصنف -رحمه الله- فيه حديثاً واحدًا وهو:
حديث أبي موسى الأشعري قال: دخلت على النبي ﷺ أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله، أمِّرنا على بعض ما ولاك الله ، وقال الآخر مثل ذلك، فقال النبي ﷺ: إنا والله لا نولِّي هذا العمل أحداً سأله، أو أحداً حرص عليه[1]، متفق عليه .
هؤلاء دخلوا على النبي ﷺ فقالوا: أمِّرنا على بعض ما ولاك الله، يدخل في هذا الإمارة على بلد، ويدخل فيه أيضاً الولاية في جباية الأموال والزكوات ونحو ذلك، ويدخل فيه القضاء، إلى غير ذلك مما يكون من باب الولاية، فقال النبي ﷺ: إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأل، أقسم النبي ﷺ تأكيداً لهذا المعنى إنا والله لا نولي هذا العمل أحدًا سأله أو أحداً حرص عليه فذكر هذين، من سأل ذلك إما صراحة، وإما تعريضًا، تعريضاً كأن يقول الإنسان: أنا الآن ليس عندي عمل معين، وقد تخرجت من كلية شرعية، تخرجت من المعهد العالي للقضاء، وأنتظر، يقول هذا للمسئول عن هذا النوع من الولايات، وأنا أنتظر، إلى الآن لم أرتبط بشيء، معنى هذا الكلام أني متهيئ وجاهز، وبعضهم يقول: القضاء ثغرة ويجب أن تسد بالأكفاء، وكنت أتخوف من ذلك وأحذر ولكني رأيت الحاجة داعية لسد هذه الثغرة، وضرورة اختيار الأكفاء؛ لئلا تكون الحاجة الشديدة سبباً لتولية غير الكفء، ورأيت أن الترك في هذه الحال يكون من باب ترك المتعين أحياناً، أو التفريط، والتضييع، ممكن أن يقول مثل هذا الكلام، وقد سمعت بعضهم يقول: أجد في نفسي أهلية للقضاء، ولو سألتُ هذا هل في هذا إشكال؟، قلت: ما شاء الله متى تخرجت؟ تخرجت العام الماضي، ماذا حصلت من العلم؟ ماذا عندك من العقل، والتجارب والحنكة والمعرفة؟ أنا متهيئ للقضاء، القاضي يحتاج إلى علم وفطنة وعقل راجح حتى يحكم بهذا العلم، أيضاً يأتيه الناس بمسائل: هذا طلاق، وهذا قضايا معاملات، وهذا أمور تتعلق بمشكلات متنوعة، ولربما لم يمر على هذه الأبواب أصلاً، ولم يدرسها، فهذا لا يُعطَى، لا نولِّي هذا العمل أحدًا سأله، أو أحداً حرص عليه، كيف يُعرف؟
يعرف ذلك من حاله، الناس يميزون ويعرفون من كان حريصًا يتطلع إلى الولايات ويسعى لها ويفرح بذلك، فيعرف من عادته وخلقه ومزاولاته، وما يحوم حوله في أقواله وأفعاله، يُعرف أن فلانًا حريص على الولاية، وأنه يتطلع لذلك بكل سبيل مستطاع، فيتزلف إلى هذا، ويأتي بشطحٍ في الفتاوى، وأمور شاذة، وغريبة، وفي كل شذوذ من الفتاوى تجد أنه سابق إليه، كل هذا لعله أن يحصّل شيئاً أو يولَّى ولاية، أو نحو ذلك، فهذا الذي يحرص على مثل هذه الأمور لا يولَّى.
وقول النبي ﷺ: إنا والله لا نولي هذا العمل قد يفهم منه أنه يحرم تولية أمثال هؤلاء، والسبب في ذلك -والله تعالى أعلم- أن هؤلاء الذين لهم تطلع إلى هذه الأمور أولاً لا يعانون، وإنما يُوكلون إلى أنفسهم كما جاء في بعض الأحاديث السابقة، وإذا وُكِل الإنسان إلى نفسه طرفة عين ضاع وضيّع، فلا يُعان، ومن لم يكن له من الله تسديد وعون فإنه إلى ضياع، فإن وُلي شيئاً فهو إلى تضييع.
والأمر الآخر أن هذا المتطلع لهذه الولايات الذي يطلبها ويسأل عنها ويحرص عليها ستكون الولاية بالنسبة إليه هدفاً، له فيها رغبة وشهوة، ومن ثم فهو يسعى إلى تحقيق طموحات ذاتية، ومكاسب شخصية، ومن كان بهذه المثابة فإنه لن يسعى في مصالح الآخرين، ولن يكون حريصاً على نفعهم، ودفع ما يُودِي بهم إلى الضرر، وإنما همه تحصيل المكاسب الشخصية، فإن كان ذلك يتحصل له بأموال فعل، وإن كان ذلك يتحصل له بطريق مساعدتهم وإظهار خدمتهم فعل، وإن كان ذلك يتحصل له بالصدود والإعراض والتعويق فعل، وهكذا، فلن يكون النفع هو الهدف والأساس، ولن يكون الله -تبارك وتعالى- هو المقصود بالرضا، إنما يلبي ويرضي شهواته ونزواته ورغباته، ومثل هذا لو حصل له شيء من المال بطريق اختلاس أو غير ذلك فهو بزعمه ينفع نفسه، ولو حصل له أن يوصل ذلك إلى بعض من يميل إليهم بهواه من قرابة أو جماعة أو أصحاب أو عشيرة أو نحو ذلك فهو لن يدخر وسعاً في نفع جماعته، وكما يقول بعض العامة: "الذي ما ينفع نفسه ولا ينفع جماعته ما فيه خير"، هذه العقول التي يفكر بها بعض الناس.
فأقول: هذه الأمور يجب أن يكون المقصود بها هو ما عند الله ، وللأسف إذا تغيرت التريبة إذا تغيرت المفاهيم صار العمل والسعي والحذق في تحصيل هذه الولايات يعتبر شطارة، فلان جيد يستطيع أن يصل، ويحصِّل، وإذا كان الإنسان يستطيع أن يستغل هذه الولايات في منافع قريبة ذاتية شخصية لقومه أو عشيرته أو لنفسه فهذا يعتبر حذقًا، وشطارة، والذي يتورع من هذا ويقول: لا، الميزان واحد، مثل هذا لربما رماه الناس بالسذاجة، والغفلة، والعجز، أو لربما قالوا عنه بأنه معقد عَسِر ما فيه خير، ما نفع نفسه ولا نفع عشيرته، هذا إذا تغيرت المفاهيم، ورضا الناس غاية لا تدرك، وإنما المقصود هو رضا الله .
هذا، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب ما يكره من الحرص على الإمارة، برقم (7149)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، برقم (1733).