الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه نماذج من أحوال السلف في باب "النهي عن تولية الإمارة والقضاء لمن سألها، أو حرص عليها، فعرّض بها"، وهي نماذج كثيرة جدًّا أنتقي أمثلة قليلة منها:
فهذا بكر بن عبد الله المزني -رحمه الله- لما ذهبوا به إلى القضاء قال: "إني والله لا علم لي بالقضاء، فإن كنت صادقاً فما ينبغي لكم أن تستعملوني، وإن كنت كاذباً فلا تولوا كاذبًا"[1].
وهكذا أيضاً رأى عمر بن هبيرة أن يولي المسيب بن رافع الأسدي القضاء فقال: "ما يسرني وأنّ سَواري مسجدكم لي ذهباً"[2]، يعني على أن أتولى ذلك.
وجاء رجل يسأل حفص بن غياث وهو قاضٍ، هذا الرجل يسأله عن مسائل في القضاء فقال له حفص: "لعلك تريد أن تكون قاضياً؛ لأن يدخل الرجل أصبعه في عينه فيقتلعها فيرمي بها خير له من أن يكون قاضياً"[3]، وكما سبق مراراً: القضاء من فروض الكفايات، ويجب أن يوجد من يتصدى لذلك، ومن يسد هذا الباب فلا يترك، لكن الكلام ليس في هذا، الكلام فيمن يتطلع إلى هذه الأمور، ويعتبر ذلك غبطة لاسيما مع نقص الأهلية، فالذين يرون أن الولايات غنيمة ومكاسب يحصلون بها مرتبة اجتماعية، أو شيئاً من متاع الحياة الدنيا، ومن حطامها الزائل هؤلاء أخطئوا الطريق، هذا هو المقصود، وإلا فيجب أن يوجد من يلي القضاء، وهو من أعظم الولايات الشرعية، لكن هذه نماذج تبين حال الأئمة والعلماء كيف كانوا، ويقارن الإنسان حاله بهم، وحال كثير ممن لربما لا يبلغ عشر معشارهم ومع ذلك يرى أنه مؤهل لهذا العمل.
وقال الرشيد الخليفة لوكيع بن الجراح: "إن أهل بلدك طلبوا مني قاضياً، وقد رأيت أن أشركك في أمانتي وصالح عملي، فخذ عهدك، فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ كبير، وإحدى عينيّ ذاهبة، والأخرى ضعيفة"[4].
وعُرض على ابن وهب القضاء فجنّن نفسه، ولزم بيته[5]، يعني تظاهر بالجنون ولزم بيته.
وقال الشافعي -رحمه الله- للإمام أحمد: "إن أمير المؤمنين سألني أن التمس له قاضياً لليمن، وأنت تحب الخروج إلى عبد الرزاق -يعني عبد الرزاق الصنعاني- وكان في اليمن، فالإمام أحمد أراد أن يسمع منه الحديث، يقول الشافعي، فقد نلت حاجتك، والإمام أحمد فقير ولا يستطيع الذهاب إلى اليمن، ولما ذهب بجهده ونفقته الخاصة انتهت نفقته في الطريق فاضطر أن يُكري نفسه للحمال أو للجمّال الذي كان معه، يؤجر نفسه، يضع الرحال، يحتطب، ويعلف الجمال، فالشافعي يقول: "فقد نلت حاجتك، وتقضي بالحق"، فقال أحمد للشافعي: "يا أبا عبد الله، إن سمعت هذا منك ثانية لم ترني عندك"[6].
والشاهد أن الخليفة ذكر للإمام الشافعي -رحمه الله- أيضاً حاجته لأن يولي القضاء صاحب سنة، فذكر الشافعي الإمام أحمد -رحمه الله، وكلمه، فقال أحمد: "أخْمِل هذا واعفني، وإلا خرجت من البلد"[7].
وأقام ابن وهب في مصر وهو إمامها في ذلك الوقت، أقام سنة مستخفياً في منزل رجل من معارفه، بقي سنة وأشهرًا؛ لأنه طُلب للقضاء.
وبعث المستعين بالله الخليفة إلى نصر بن علي يوليه القضاء، فاستدعاه عبد الملك أمير البصرة وأمره بذلك، فقال: أرجع وأستخير الله تعالى، فرجع إلى بيته نصف النهار فصلى ركعتين، وقال: "اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني، فنام، فأنبهوه فإذا هو ميت"[8].
وهذا أيضاً عبد الله بن محمد الخرقي قُلد القضاء فلم يقبله واختفى، ولما صار صالح بن أحمد بن حنبل إلى أصبهان وُلي القضاء هناك، وقرئ عهده بالجامع، يعني خطاب تولية القضاء، فبكى كثيراً، وبكى بعض الشيوخ، فلما فرغ جعلوا يدعون له، ويقولون: "ما ببلدنا إلا من يحب أباك"، يعني الإمام أحمد، قال: "أبكاني أني ذكرته ويراني في هذه الحال"، يعني يقول: لو رآني أبي لم يقبل، ولم يرضَ، يقول: "كان أبي يبعث خلفي إذا جاءه رجل زاهد أو متقشف؛ لأنظر إليه، يحب أن أكون مثله"[9]، يعني الإمام أحمد يربي ابنه صالحًا منذ الصغر إذا جاءه أحد من الزهاد يستدعي ولده لينظر إليه لعله يتأثر به، ويستفيد مما يشاهد.
ويقول يحيى بن معاذ الرازي: "لا يفلح من شممتَ رائحة الرياسة منه"[10].
وهذا رجل أيضاً وُلِّي القضاء على سامرّاء، فقال: أقعد بين يدي -الله تعالى- قاضياً؟!، فانشقت مرارته، فمات، ولما تقلد الخاقاني الوزارة وجه إلى جعفر الطبري -صاحب التفسير- بمال كثير، فامتنع من قبوله، فعرض عليه القضاء فامتنع، فعرض عليه المظالم فأبى، فعاتبه أصحابه وقالوا: لك في هذا ثواب، وتحيي سنة قد درست، وطمعوا في قبوله المظالم، فباكروه -جاءوه في الصباح الباكر ليركب معهم لقبول ذلك، فانتهرهم وقال: "قد كنت أظن أني لو رغبت في ذلك لنهيتموني عنه، قالوا: فانصرفنا خجلين[11].
وكتب الخليفة إلى ابن وهب في قضاء مصر، فجنّن نفسه ولزم البيت، فاطلع عليه رِشْدِين بن سعد -وهو أحد رواة الحديث أيضاً، فقال: يا أبا محمد، ألا تخرج إلى الناس فتحكم بينهم كما أمر الله ورسوله؟ قد جنّنتَ نفسك ولزمت البيت، إلى هاهنا انتهى عقلك؟[12]... إلى آخر ما ذكر.
وذكروا أن ثابت بن حزم الأندلسي عُرض عليه القضاء في بلده فأبى، فأراد أبوه أن يلزمه بذلك، فسأله إنظاره ثلاثاً، فتوفي فيها، فكانوا يرون أنه دعا على نفسه بالموت، وكان معروفاً بإجابة الدعوة[13].
وبلغ الأمر ببعضهم أن بابه يُسمر -يعني بالمسامير- ويجعل عليه حارس؛ لأنه قد اختفى، يريدون أن ينظروا هل رجع إلى بيته ودخل أو لا؟، فكان الناس يأتون بأولادهم الصغار، فيقولون لهم: "انظروا حتى تحدثوا بهذا"[14]، يعني ما بلغ من ورع بعض الناس أنهم بهذه المثابة: الباب بالمسامير.
ووقع في ذهن المنصور أن أبا ميسرة أحمد بن نزار المالكي لا يرى الخروج عليه فأراده ليوليه القضاء فقال: "كيف يلي القضاء رجل أعمى يبول تحته؟!"، هو يتحدث عن نفسه، ثم قال: "اللهم إنك تعلم أني انقطعت إليك وأنا شاب فلا تمكنهم مني، فما جاءت العصر إلا وهو من أهل الآخرة"[15].
وأُكره أبو علي الحسين بن محمد على القضاء، فتولاه في بعض بلاد الأندلس، ثم اختفى حتى أعفي[16].
هذه نماذج قليلة، وممكن أن تراجع نماذج كثيرة جدًّا في هذا، وكما ذكرتُ لابدّ من وجود من يلي القضاء لكن المقصود أن هذه الولايات أمانة وليست مكاسب شخصية، وليست هذه الولايات العظيمة سببًا لتحصيل شيء من حطام الدنيا، فلا يُفرح بمثل ذلك، والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- انظر: الطبقات الكبرى (7/ 157)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (63/ 83)، وسير أعلام النبلاء (6 / 402).
- سير أعلام النبلاء (5/ 103).
- انظر: وفيات الأعيان (2/ 198)، وتهذيب الكمال في أسماء الرجال (7/ 64)، وسير أعلام النبلاء (9/ 26).
- تاريخ دمشق لابن عساكر (63/ 82)، وسير أعلام النبلاء (9/ 151).
- انظر: وفيات الأعيان (3/ 37)، وتهذيب الكمال في أسماء الرجال (16/ 285)، وسير أعلام النبلاء (9/ 233).
- سير أعلام النبلاء (11/ 224).
- المصدر السابق .
- المصدر السابق (12/136).
- انظر: تاريخ بغداد (9 /318)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (23 /298)، وسير أعلام النبلاء (12/ 530).
- سير أعلام النبلاء (13 /15).
- المصدر السابق (14/ 275).
- انظر: وفيات الأعيان (3 /37)، وتهذيب الكمال في أسماء الرجال (16 /285)، وسير أعلام النبلاء (14 /424).
- سير أعلام النبلاء (14/ 563).
- المصدر السابق (15/ 59).
- المصدر السابق (15/ 396).
- المصدر السابق (19/ 377).