الجمعة 13 / جمادى الأولى / 1446 - 15 / نوفمبر 2024
(56) من قوله تعالى " فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ "‏
تاريخ النشر: ٢٧ / محرّم / ١٤٣٥
التحميل: 3326
مرات الإستماع: 27310

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: نُواصل الحديث -أيها الأحبّة- في هذه الليلة عن هذه الآيات، وما تضمّنته من الهدايات، أعني: الآيات التي خُتِمت بها سورة آل عمران.

كنا نتحدَّث عن قول الله -تبارك وتعالى-: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195]، وبينا أنَّ المرادَ أنَّهم في الميزان عند الله سواء من حيث الثَّواب والعقاب.

بقي الكلامُ على ما بعده، فالله -تبارك وتعالى- يقول: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا [آل عمران:195] أي: من أهل الإيمان من الرِّجال والنِّساء الذين تركوا الأهلَ والوطنَ والعشيرة في الله، ولله، ابتغاء ما عند الله، هؤلاء الله -تبارك وتعالى- يجزيهم على هذا العمل الذي هو من أجلِّ الأعمال، ومن أرفع مراتب الموالاة، والمعاداة لأعداء الله -تبارك وتعالى-؛ إذ إنَّ أعلى ذلك هو الجهاد في سبيل الله بالقتال، هذه أعلى صور الـمُفاصلة مع الأعداء، يلي ذلك الهجرة: أن يترك الأهلَ والوطنَ والعشيرة لله، وفي الله، ثم بعد ذلك تأتي المراتب الأُخرى في الموالاة والمعاداة.

فالله يقول: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا خرجوا من بلادٍ لا يأمنون فيها، ولا يستطيعون أن يُقيموا دينَ الله فيها إلى بلدٍ يستطيعون عبادةَ الله، ويأمنون على أنفسهم، ويتمكَّنون فيها من القيام بشعائرهم، فيتعبَّدون الله من غير مُضايقةٍ، سواء كان ذلك إلى بلاد الإسلام، كما هي الهجرة من مكة إلى المدينة، أو كان إلى بلدٍ أخرى ليست ببلد إسلامٍ، كالهجرة الأولى والثانية من مكّة إلى الحبشة، ولم تكن الحبشةُ أرضَ إسلامٍ، ولكن المشهور عند العلماء أنَّهم يُعرِّفون الهجرة، يقولون: هي الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام. لكن هذا في غالب إطلاقاتها، ولكنَّها لا تنحصر بذلك، وإنما ضابطها ما ذكرتُ: ينتقل من بلادٍ لا يأمن فيها، لا يستطيع إقامة دينه وشعائره إلى حيث يأمن، إلى حيث يستطيع أن يعبد الله ، وهذا هو المقصود الأساس –يعني- من وجود الإنسان: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فيُقدّم ذلك على كلِّ شيءٍ: يتقدّم على مصالحه الشَّخصية، على دُنياه، على تجارته، على بلده.

وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ [آل عمران:195] هنا في كثيرٍ من المواضع يذكر اللهُ -تبارك وتعالى- هجرةَ أهل الإيمان حينما هاجروا من مكّة إلى المدينة، فيُضيف ذلك إلى المشركين: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [الممتحنة:1]، أو يُؤتى به بالبناء للمجهول: أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ يعني: أخرجهم الكفَّارُ، مع أنَّهم خرجوا بأنفسهم، وفي غالب الأحوال أنَّهم خرجوا مُستخفين، لكن لما كان أولئك الكفَّار هم الذين ضايقوهم وآذوهم، ومن هنا كانوا قد اضطروهم إلى الخروج، نُسِبَ الإخراج إلى الكفَّار، فكأنَّهم أخرجوهم بالفعل، وإلا فإنَّ أهلَ الإيمان هم الَّذين خرجوا، هم الذين هاجروا في حالٍ من الاستخفاء، والكفَّار ما كانوا يُريدون لهم هذا الخروج.

ولذلك يقول اللهُ عن النبي ﷺ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [الأنفال:30]، فذكر الإخراجَ آخِرًا، لكن مَن عرف التَّفاصيل التي كانت إبان هجرته ﷺ: أنَّهم قد عزموا في نهاية المطاف على أنَّ الخروجَ ليس هو المصلحة، وإن كانت هذه إحدى الأفكار المطروحة قبل ذلك من قِبَل الكفَّار، أو من قِبَل بعضهم، يتشاورون في إخراجه، ثم بعد ذلك تأتي الاعتراضات من قِبَل آخرين، وتعرفون ما أشار به الشَّيطانُ عليهم في ذلك؛ لئلا يكون ذلك سببًا لمنعةٍ تحصل بعد ذلك في بلادٍ أُخرى، أو انتشارٍ لهذا الدِّين والحقّ الواضح المبين، فهنا أُخرجوا من ديارهم، آذوهم، فهنا كان الاضطرارُ إلى الخروج.

وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي [آل عمران:195] يعني: هذا الأذى لم يكن لخصوماتٍ شخصيةٍ، لم يكن لتصفية حساباتٍ على أمورٍ ماديةٍ دنيويةٍ، أو نحو ذلك، إنما كان ذلك في سبيل الله، لم يكن لهم ذنبٌ، ولم يكن لهم جرمٌ، ولا جنايةٌ، إنما آمنوا بالله وحده؛ فتسلط عليهم هؤلاء الشَّياطين والأشرار، فآذوهم غاية الأذى، كما قال الله : يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ لماذا؟ أنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة:1]، وذكر هنا لفظ الجلالة "الله"، هذا الاسم، وذكر الربّ على سبيل التَّتابع: أنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ، ولم يكتفِ بواحدٍ منهما، كأنَّه يقول: أنَّكم آمنتم بالله، فهو المألوه، المعبود، الذي ينبغي أن تخضع النفوس والجباه له وحده دون ما سواه، وهو ربّكم، وخالقكم، ورازقكم، ومُربِّيكم بالنِّعَم الظَّاهرة والباطنة، فعبادته أمرٌ لا إشكالَ فيه، ولا غرابةَ، وليس ذلك بجرمٍ، فهو ربُّكم، ينبغي أن تتوجَّهوا إليه بالعبادة دون مَن سواه: أنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ.

وهكذا في قوله: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]، أصحاب الأخدود، فهؤلاء الذين أُخرجوا في سبيل الله، واضطُهدوا في سبيل الله، وأُوذُوا في سبيل الله، وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا [آل عمران:195]، لاحظ هنا القتال: قاتلوا، وقُتِلوا، هذه أعلى -كما قلنا- صور المفاصلة مع أعداء الله -تبارك وتعالى-، فهذه القراءة التي نقرأ بها: {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} يعني: قاموا بهذا وهذا، وهذه أكمل صور الجهاد: أن يقتل أعداء الله، وأن يُقْتَل في سبيل الله، يعني: تكون له نكايةٌ في الأعداء، ثم هو بعد ذلك يكون شهيدًا.

في قراءةٍ أخرى مُتواترة لابن كثير وابن عامر من السَّبعة: وقاتلوا وقُتِّلوا[1]، وزيادة المبنى لزيادة المعنى؛ وذلك -والله أعلم- لكثرة الأفراد الذين يقع عليهم القتلُ من أهل الإيمان وعسكرهم، يعني: الذين يُقتلون في سبيل الله كُثُر، فقال: قاتلوا وقُتِّلوا، وإلا فالإنسان يُقتَل مرةً واحدةً، فهنا قُتِّلوا يدل على الكثرة؛ وذلك لكثرة مَن وقع عليهم القتلُ في صفِّهم ومُعسكرهم من جُند الله وحزبه من أهل الإيمان.

في القراءة الأخرى لحمزة والكسائي: وقُتلوا وقاتلوا[2]، وهذه في المعنى مثل القراءة الأولى التي نقرأ بها، إلا أنَّه فيها تقديمٌ وتأخيرٌ: قُتلوا وقاتلوا، هم لا يُقتلون إلا بعد أن يُقاتلوا، وعلى كل حالٍ ذكر ما هو أشدّ، وذلك ما يقع عليهم من القتل، فابتُدِئَ به على هذه القراءة -والله تعالى أعلم.

جاء رجلٌ إلى النبي ﷺ فسأله: أرأيتَ إن قُتِلْتُ في سبيل الله صابرًا، مُحْتَسِبًا، مُقبلاً غير مُدبرٍ، أيُكفِّر اللهُ عنِّي خطاياي؟ قال: نعم، ثم قال له النبيُّ ﷺ: كيف قلتَ؟ فأعاد عليه ما قال، فقال: نعم إلا الدَّين، قاله لي جبريلُ آنفًا[3].

هذا في حديث رسول الله ﷺ، وهو مُطابقٌ لهذه الآية في الجزاء المذكور لهؤلاء؛ وذلك أنهم يخرجون من مشكاةٍ واحدةٍ، وهي الوحي، والنبي ﷺ لا ينطق عن الهوى.

قال الله تعالى في بيان جزاء هؤلاء: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ [آل عمران:195] تُكفَّر السَّيئات، تُغْفَر جميعًا، والسَّيئات هنا جمعٌ مُضافٌ إلى المعرفة، وذلك للعموم، فدلَّ على أنَّ القتلَ في سبيل الله يُكفِّر الكبائر، ويُكفِّر الصَّغائر فيُذهبها، ويُبطلها، ويُزيلها، ويمحوها بالكلية، وليس ذلك فحسب: وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [آل عمران:195].

الجنات هي البساتين التي تستر مَن دخلها لكثرة أشجارها، تجري من تحت هذه الأشجار والقصور الأنهار التي فيها أنواع المشارب من اللبن، والعسل، والخمر، والماء غير الآسن، الذي لم يتغير: لا رائحته، ولا لونه، ولا طعمه، لا بشيءٍ من الطَّاهرات، ولا بشيءٍ من النَّجاسات، أعني بذلك: أنَّه لم يتغير التَّغير المذموم الذي يحصل في الدُّنيا من بقاء الماء مدةً لا يتحرّك، ولا يُستَعمل، فيُقال له: آسن، تتغير رائحتُه، ويتغير طعمُه، هذا الماء غير آسنٍ، وإلا فهم يشربون على كل حالٍ من ماءٍ في غاية النَّقاء والصَّفاء، وطيب الطَّعم والرَّائحة.

هذا الذي يحصل لهم: ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:195] لاحظ هنا نكَّر "ثوابًا"، أي: عظيمًا، جليلاً؛ لأنَّ التَّنكير أحيانًا يُفيد التَّعظيم، ويُشعِر به.

ثم يدل على عظمة هذا الثَّواب أنَّه أضافه إليه -تبارك وتعالى-: ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، والله هو الكريم، العظيم، الغني، فإذا كان هذا الثَّوابُ من عند الله إذًا هو ثوابٌ عظيمٌ، جزيلٌ، لا يُقادر قدره.

حينما يُقال لإنسانٍ، يقول له عظيمٌ من العُظماء في الدنيا: سأُعطيك، سأدفع إليك، سأبعث إليك هديةً من عندي شخصيًّا. ماذا يتوقع؟

يذهب ذهنُه هنا وهناك في جزيل العطايا، لكن حينما يقول له أحدٌ ممن عُرِف بالإمساك والقبض، أو قلّة ذات اليد، يقول له: سأُعطيك هديةً من عندي. ماذا يتوقع؟ يتوقع شيئًا يسيرًا، ولو أعطاه شيئًا له شأنٌ أو قيمةٌ لربما استغرب وقال: هذا ما خطر على بالي، ولا توقّعته. يُقلِّبه، معقولة! وإذا أعطاه شيئًا لربما يأخذه على إغماضٍ؛ لأنَّه يتوقع أنَّه لا شأنَ له ولا قيمة، لكن حينما يُقال: ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فلا تسأل عن هذا الثَّواب، أضافه إليه، يدل على أنَّه عظيمٌ، والعظيم لا يُعطي إلا الجزيل الكثير: ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني: لأُثيبنَّهم ثوابًا كائنًا من عند الله -تبارك وتعالى-.

وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:195] هذا أمرٌ ثالثٌ يدل على عِظم هذا العطاء والثَّواب والجزاء: عنده حُسن الثَّواب، عنده حُسن الجزاء لمن عمل صالحًا وآمن بالله -تبارك وتعالى-، هذا الذي لهؤلاء.

أمَّا هؤلاء الكفَّار، هؤلاء البُؤساء، هؤلاء المساكين الذين لربما يستهويهم المرعى الوخيم؛ فترتع به نفوسُهم، فتهشّ له، ثم بعد ذلك ما يفتأ أن يقتلها فتموت حبطًا، هذه النفوس البهيمية، نفوس الكفَّار، هؤلاء مثلهم -أيها الأحبة- مثل غنمٍ رتعت في أرضٍ فيها مروجٌ خضراء، ولكنَّها سامَّة، فإذا نظر إليهم النَّاظرُ الذي لا بصرَ له ولا معرفةَ يقول: ما هذه المراعي؟ ما هذه الزروع؟ وما هذه الأشجار والأعشاب والنَّباتات التي انطلقت فيها هذه الدَّواب؟ فيظنّ أنَّ ذلك خيرٌ لها، ولكنَّه مرعى وخيم، نباتات سامَّة، ترتع، ثم بعد ذلك تكون هلكتُها.

هذا حال الكفَّار في الـمُتَع الدُّنيوية، والعطايا الدُّنيوية، إذا رآهم مَن لا بصرَ له يقول: يتقلَّبون بأنواع النَّعيم: أجواء غائمة، بلاد باردة، بلاد خضراء على مدِّ البصر، بلاد مُمكنة، مطالبهم وحاجاتهم مُذللة، ليس عندهم ما يستعصي عليهم من أمور الدنيا، غنى، البنية التَّحتية، كل أنواع الخدمات مُتوفرة، تصل الواحد إلى بيته، ما يحتاج أن يقف طوابير، ولا يحتاج أن يتعب، ولا يحتاج أن يبتئس.

ويذهب كثيرٌ من أبناء المسلمين ويُعجبون بما هم فيه، بل لربما يُفتن بعضُهم بذلك: كفَّار وعندهم هذه الأشياء! حتى الأجواء مُمطرة دائمًا، وأجواء جميلة، وخُرافية، كما يُعبر بعضُ الناس، هكذا يقولون، إذا أعجبوا بشيءٍ قالوا: خرافي. ولكن في الواقع هي مراتع المجرمين، مراتع الظَّالمين، مراتع أهل النار، حيث يُمتَّعون قليلاً، فتكون هذه المراعي في النِّهاية تهوي بهم في مُنتهاها إلى حفرةٍ من حُفر النار، يتهافتون ويتساقطون فيها.

هؤلاء مثلهم -أيها الأحبّة- كالحَبِّ الذي يضعه الصياد، فيستدرج به الصيود، ثم بعد ذلك شيئًا فشيئًا تتبعه، وما علمت أنَّ حتوفها تنتظرها بهذه المراتع، أو بُعيد هذه المراتع، فهذا طُعْمٌ.

فهذا الذي يتمتع به هؤلاء الكفَّار هو طُعْمٌ إلى النَّار، هو قُوتهم إلى النار: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ [آل عمران:196] يتقلَّبون، يذهبون، ويجيئون بالتِّجارات، والمكاسب، والأموال الطَّائلة، والصِّناعات، وأنواع الملاذ، وجيوش تُشَرِّق وتُغَرِّب، وحاملات الطَّائرات، ومُدمِّرات، وغير ذلك، استعراض شرقًا وغربًا، فيراهم المؤمنُ الضَّعيفُ فربما يفتتن بهذا: ما هذا؟! ما هذا التَّمكين؟! ميزانيات ضخمة وهائلة بأرقامٍ لا يعرف الإنسانُ أحيانًا كيف يقرأها؟

لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ لا تنظر إلى ما فيه هؤلاء من التَّرف، ومن النَّعيم، ومن اللَّذات، فهؤلاء مع ما هم فيه عمَّا قليل يزول ذلك جميعًا: مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:197]، هذا استدراجٌ، يزول ذلك، وينقشع، ويتحوّل بسرعةٍ، وتصير الحالُ إلى ارتهانٍ بالأعمال، فيبقى الواحدُ منهم مأسورًا بعمله، وعند ذلك يندم، ولا ينفعه النَّدم، فكل ذلك من قبيل الاستدراج: مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ.

ما الفائدة أن يمشي الإنسانُ بحُلَلٍ ومُروجٍ إلى حُفرةٍ من حُفر النَّار يهوي بها؟! مَن يقبل بهذا؟! لو قيل له: تمشي ممشى يوم أو سَنة في طريقٍ كلّه من المروج واللَّذَّات، لكن النِّهاية حُفرة لا بدَّ أن تقع فيها من حُفر النار، ويحترق، ويموت. لا يقبل بهذا أحدٌ، فكيف بنارٍ لا يموت فيها ولا يحيى؟ لا يمكن أن تُقاس بنار الدنيا، فعلى أيِّ شيءٍ يُغْبَط هؤلاء؟! فالله -تبارك وتعالى- يستدرجهم: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ [غافر:4].

فهذه كهذه: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ۝ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس:69-70].

نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان:24].

أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص:61]، هذه حال الكفَّار.

والله يقول في سورة الزخرف: وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ درج، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا ذهب، لكن: وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33- 35].

فهذه هي الحقيقة التي يجب أن نعيها جيدًا، وأن نعرفها: وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً يعني: لئلا يُفتن المؤمنُ بالكافر حينما يرى الأبوابَ من ذهبٍ، والسُّرر من ذهبٍ، والمجالس من ذهبٍ، ومن فضَّةٍ.

بيوتهم الآن من أخشابٍ، وحديدٍ، وطوبٍ، ومع ذلك هذه الفتنة العظيمة بهم، كيف لو كانت لبنة من ذهبٍ، ولبنة من فضَّة، ودرج من ذهبٍ، ومجالس، ومتاكئ من ذهبٍ؟ ما الذي يحصل للناس؟ سيُفتن بهم كثيرٌ من أهل الإيمان، ولكنَّ اللهَ رؤوفٌ رحيمٌ، لطيفٌ بعباده، لم يجعلهم بهذه المثابة، ولولا الخشية على أهل الإيمان أن يُفتنوا بهؤلاء الكفَّار لكانت بيوتُ هؤلاء الكفَّار بهذه المثابة من الذَّهب والفضَّة، ثم ماذا؟

لو كانت الدُّنيا تُساوي عند الله جناح بعوضةٍ ما سقى منها كافرًا شربةَ ماءٍ[4]، جناح بعوضةٍ، ما قيمة البعوضة، فضلاً عن الجناح؟ ما سقى منها كافرًا، إذًا الدُّنيا بأكملها لا تُساوي عند الله جناح بعوضةٍ، إذًا الفتنة على ماذا؟ الحسرات على ماذا؟ التَّنافس على ماذا؟

نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. انظر: "السبعة في القراءات" لابن مجاهد البغدادي (ص221).
  2. انظر: "معاني القراءات" للأزهري (1/288).
  3. أخرجه مسلم: كتاب الإمارة، باب مَن قُتِلَ في سبيل الله كُفِّرت خطاياه إلا الدَّين، برقم (1885).
  4. أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله -عزَّ وجلَّ-، برقم (2320)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (5177).

مواد ذات صلة