إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها الأحبّة، لا زال الحديثُ متَّصلاً بهذه الآيات التي ختم اللهُ -تبارك وتعالى- بها سورةَ آل عمران.
وحديثنا في هذه الليلة عن قوله -تبارك وتعالى- بعد أن ذكر حال الكافرين، وأمر بعدم الاغترار بهم: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196-197]، يصيرون إلى النار، ليس لهم مأوًى سواها، ليس لهم مصيرٌ آخر يصيرون إليه سوى الخلود في نار جهنم -أعاذنا الله وإيَّاكم، ووالدينا، وإخواننا المسلمين منها.
ثم قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198]، كما هي العادة -أيها الأحبة- في القرآن: إذا ذكر حال السُّعداء أعقبه بذكر حال الأشقياء، والعكس؛ ليبقى العبدُ مُراوحًا بين الحالتين: الخوف، والرَّجاء، فهما كالجناحين للطَّائر لا يطير إلا بهما، فيكون جامعًا بين الخوف من الله -تبارك وتعالى-؛ فيتَّقي بذلك محارمَه، ويكون جامعًا معه الرَّجاء؛ فلا يحصل له يأسٌ وقنوطٌ، فإنَّ ذلك أيضًا من صفات الكافرين، وليس ذلك من صفات أهل الإيمان.
فهنا ذكر حال أهل الإيمان، حال المتَّقين: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، اتَّقوا ربهم، اتَّقوا محارمه، اتَّقوا حدوده، اتَّقوه بفعل المأمورات، واجتناب المحظورات: لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كما سبق، تجري من تحت قصور هذه الجنات ذات الأشجار الكثيفة التي تستر مَن دخلها، تجري من تحتها أنهار اللبن، والعسل، والخمر، وأنهارٌ من الماء غير الآسن؛ لم يتغير، كل ذلك أعدَّه اللهُ -تبارك وتعالى- نُزلاً لهم من عند الله، النُّزل هو الضِّيافة، ما يُعدّ للضَّيف، وهذه الضِّيافة هي من عند الله كما سبق في الآية قبلها، فإذا أُضيف ذلك إلى الله -تبارك وتعالى- فإنَّ ذلك يدل على عظمته، كما قلنا في قوله -تبارك وتعالى-: ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:195]، فهذا النُّزل أيضًا هو من عند الله.
إذا حلَّ الإنسانُ بكريمٍ من الكرام، وبجوادٍ من الأجواد؛ فإنَّ المتوقع أن يكون نُزُله كبيرًا، وأن يكون ما أُعدّ لضيافته عظيمًا، الله -تبارك وتعالى- هو الغني، الكريم، الجواد، فماذا أعدّ لأوليائه من النُّزل؟
أعدَّ لهم ما لا عينٌ رأت، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلب بشرٍ، كل ما يمكن أن يُتصور من النَّعيم بأنواعه: من المساكن، والمطاعم، والمشارب، والفُرش، والبساتين، والأنهار، وما تلذّ له الأعين، وتطرب النُّفوس، لا يمكن أن يخطر على بال أحدٍ مهما سرحت الفكر؛ فإنَّ الذي هناك أعظم وأعظم، لو جئتَ بأحسن قصور الدنيا منذ خلقها الله -تبارك وتعالى- إلى أن يرثها، وقارنت ذلك بشيءٍ مما يكون لأقلّ أهل الجنة من النَّعيم؛ فإنَّه لا يُساوي خرابةً، إذا كان موضعُ السَّوط لأحد المؤمنين في الجنة خيرًا من الدنيا وما فيها[1]، موضع السَّوط، موضع السَّوط لا يمكن أن تبني فيه غرفة، ولا يمكن أن يكون موضعًا يكفي لجلوس إنسانٍ، موضع سوطٍ، فكيف بالقصور والغُرف المبنية؟ هذا أمرٌ لا يُقادر قدره.
ولكن ما الثَّمن؟ ماذا قدّم الإنسانُ؟ هل جاهد نفسَه عن الشَّهوات من أجل أن يصل إلى تلك الملاذ والنَّعيم الـمُقيم الذي لا حزنَ فيه، ولا صداع، ولا تعب، ولا همَّ، ولا مُشكلات، ولا قلق، ولا ضيق، ولا أمراض؟ عافية كاملة، ولذَّات كاملة، ومسرَّات كاملة، وغنًى كامل، لا يحتاج، ولا يفتقر، ولا تتطلّع نفسُه لشيءٍ ولا يستطيع أن يُحصّله، ولا يجوع، ولا يعرى، ولا يمرض، ولا يبتئس، ولا يشعر بضيقٍ بحالٍ من الأحوال، ليس فيها شيءٌ من الكَبَد، كل شيءٍ مُذلَّلٌ، فأين الثَّمن؟ هذا النُّزل من عند الله: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ.
لو ذهب إنسانٌ إلى أحد العُظماء من أهل الدنيا، وأسكنه في جناحٍ كما يُقال: جناح ملكي في فندقٍ، هذا الجناح يكاد الإنسانُ ينغمس في تلك الفُرش إذا جلس عليها، لا تسأل عن المطاعم والأمور التي تتنوع في ذلك الموضع من النَّعيم مما قد يتذكّر معه نعيم الجنة، لكن هنا لا، من عند الله، فماذا عسى أن يكون؟
نسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم، ووالدينا، وإخواننا المسلمين منها.
وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ، ما الذي عند الله؟ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ هم في نعيمٍ، ما هذا النَّعيم؟ عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين:22-24]، النَّعيم يظهر على الوجه، الإنسان المرفَّه الـمُنَعَّم يظهر على وجهه أثرُ النَّعيم، لو رأيتَه من بين الناس عرفت أنَّ هذا الإنسانَ ابنُ نعمةٍ كما يُقال، يظهر ذلك على تقاسيم وجهه.
هنا: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ [المطففين:24-25] خمرٌ ممزوجٌ، مختومٌ إمَّا في آخره، أو على قول بعض الـمُفسّرين أنَّه قد خُتم بحيث لا يدخله تبديلٌ، ولا تغييرٌ، ولا شيءٌ آخر، هم الذين يفتضّون تلك الأوعية من الخمر، وإن كان الأشهرُ والأرجحُ أنَّه آخره: خِتَامُهُ مِسْكٌ [المطففين:26]، يجدون رائحةَ المسك، بخلاف خمر الدّنيا ذات الرائحة الـمُنتنة، هناك شيءٌ آخر: خِتَامُهُ مِسْكٌ.
إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان:5-6]، الناس لربما يذهبون إلى آخر الدنيا من أجل أن ينظروا إلى شلالٍ، فتفجّر مياهه في سفح جبلٍ، أو نحو ذلك، هذه عين: يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا، لكن مَن هؤلاء؟
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ هؤلاء الأبرار يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا شعارهم: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا خوفهم هذا، وأفعالهم هذه: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان:7-12].
جزاهم بما صبروا عن المعاصي، والموبقات، والشَّهوات الـمُحرَّمة، وجزاهم بما صبروا على الطَّاعات، وجزاهم بما صبروا على أقداره المؤلمة، وعلى أذى الناس لهم في سبيل الله -تبارك وتعالى-: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا.
كما يقول شيخُ الإسلام: الصَّبر في حرارةٍ، وضيقٍ، وخشونةٍ، فقابله بثلاثة أشياء: جزاهم بما صبروا جنةً، الجنَّة فيها السَّعة، وفيها البرودة، والحرير فيه اللّيونة والنُّعومة، في الدُّنيا عانوا من هذه الأمور الثلاثة: الضِّيق بحسب النّفس، والحرارة، والخشونة. هناك في الجنَّة يُقابلون؛ الجزاء من جنس العمل[2].
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً [الإنسان:12-14]، قطوف الثِّمار اليانعة تصل إليهم، ما يحتاج أن يتسلَّق، ولا يحتاج أن يتعب، ولا يحتاج أن يبذل في سبيل الوصول إليها، كما قال الله : وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت:31]، فُسِّر بأنَّ المرادَ ما تدعون، كلّ ما ادَّعيتَ فهو لك، هذه أحد الأقوال المشهورة للسَّلف في ذلك، كلّ ما يدَّعي فهو له.
شيءٌ هائلٌ لا يمكن أن يُقادر قدره، وقد وصف الله هذا النَّعيم في مواضع كثيرةٍ من كتابه، ولكن الغفلة تبقى حائلةً وحاجزةً دون التَّبصر في مثل هذه الحياة الكبرى، الحياة الحقيقية التي نسأل الله أن يرزقنا وإيَّاكم جنته، ووالدينا، وإخواننا المسلمين.
ثم بعد ذلك لما ذكر هذا الجزاء وهذا النَّعيم قال في أواخر هذه الآيات: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:199].
الحديث هنا ليس عن كل أهل الكتاب، هذه الآية لربما يتعلَّق بها بعضُ الناس، فيُلبِّس جريًا على عادتهم في الأخذ بالمتشابهات، وترك الـمُحكمات، فلربما اجترأ مَن يجترئ ويقول عن هؤلاء من اليهود والنَّصارى: أنهم يصيرون إلى الجنة، وأنهم مُؤمنون. ويحتجّون بمثل هذه الآيات!
"من" هنا تبعيضية: من أهل الكتاب، من هؤلاء: لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، إذًا هؤلاء هم الذين دخلوا في الإسلام، أمَّا الذين لم يدخلوا في الإسلام فهم ليسوا كذلك، هؤلاء المذكورون في هذه الآية هم الذين آمنوا بكتابهم، وبأنبياء الله ورُسله -عليهم الصَّلاة والسلام-، وآمنوا بمحمدٍ ﷺ، وبما أوحى ربُّه إليه من هذا القرآن، وهم في حالٍ من الخشوع، وإذا سمعوا آيات الله -تبارك وتعالى- فهم كما قال الله : تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ [المائدة:83]، فهم مُؤمنون إيمانًا حقيقيًّا، مُطيعون لله، خاضعون، مُتذللون لجلاله وعظمته، لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً، ليسوا ككفَّار أهل الكتاب الذين يكتمون الحقَّ، كما قال الله -تبارك وتعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا إلى أن قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:51-58].
هؤلاء لم يُؤدُّوا الأمانةَ، بل كتموا الشَّهادة، وخانوا، وشهدوا بالكذب والزور؛ لشدة عداوتهم للنبي ﷺ ولأتباعه من هذه الأُمَّة، فهؤلاء الذين وصفهم اللهُ بهذه الآيات لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً، البشارات التي عندهم لمحمدٍ ﷺ تدخل في ذلك دخولاً أوَّليًّا، فهم يُعلنون بها، ويصدقون، ويشهدون بالحقِّ؛ طلبًا لما عند الله، ومهما أخذ الآخذون على كتمان الحقِّ، أو على الشَّهادة بالزور والباطل؛ فهو ثمنٌ قليلٌ لأن نتبعه -أيُّها الأحبة-؛ لأنَّ التَّكاليف التي تكون من جرَّاء ذلك باهظة، كبيرة، فهذا الذي يأخذه من عرض الدنيا هو قليلٌ، ولو كان بالملايين أو المليارات، هو قليلٌ بجانب ما أعدّ اللهُ لهم ولأمثالهم.
فالله -تبارك وتعالى- ذكر صفةَ محمدٍ ﷺ في كتابهم، وذكر مبعثَه، وذكر مهاجره، وهم يعرفون ذلك على سبيل التَّفصيل، هؤلاء الذين آمنوا شهدوا بذلك، وأذعنوا لهذا الحقِّ، كما قال اللهُ -تبارك وتعالى-: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [القصص:52-54]، فهؤلاء هم الذين مدحهم الله ، أمَّا الذين لم يدخلوا في الإسلام فليسوا كذلك.
أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ، فقدَّم ما لهم من الأجر للاهتمام والعناية به، وهذا الأجر عند ربهم الذي خلقهم، وربَّاهم، وحباهم، وهداهم، وأكرمهم بهذه الهداية، حيث ضلَّ الكثيرون، وخاب سعيُهم، وصاروا في حالٍ من الغمرة والغفلة والكُفر، هانوا على الله فأهانهم وأذلَّهم.
إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يُحاسِب النفوس جميعًا على كثرة الخلق، وعلى كثرة أعمالهم، كما يُحاسِب نفسًا واحدةً، فهو كما قال ابنُ جريرٍ -رحمه الله-: لا يحتاج إلى عدٍّ وحسبٍ وإحصاءٍ كما يفعل أهلُ الدنيا، وإنما يُحاسبهم جميعًا كما يُحاسِب النَّفس الواحدة[3].
فهذه الآية -أيها الأحبة- جاء في "الصَّحيحين": أنَّ النَّجاشي لما مات نعاه النبيُّ ﷺ إلى أصحابه، وقال: إنَّ أخًا لكم قد مات، فقوموا فصلُّوا عليه، قال: فقمنا فصفَّنا صفَّين[4]. وصحَّ من حديث أنسٍ: أنها نزلت حينما قالوا: نُصلِّي على عبدٍ حبشيٍّ[5].
فهذا هو سبب نزول هذه الآية، إذًا هي فيمَن آمن؛ في النَّجاشي ومَن كان على شاكلته، فهو داخلٌ في هذا، وقد جاء ذلك عن جماعةٍ من السَّلف، كما جاء عن مجاهدٍ: أنها في مُسلمة أهل الكتاب[6]. وجاء عن الحسن قال: هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمدٍ ﷺ فاتَّبعوه وعرفوا الإسلام؛ فأعطاهم اللهُ أجرَ اثنين: للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمدٍ ﷺ، وبالذي اتَّبعوا محمدًا ﷺ[7].
بقيت بقيةٌ يسيرةٌ في هذه الآيات، أتركها في الليلة الآتية -إن شاء الله-، وأسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم ممن يتدبَّرون القرآن.
اللهم اجعل القرآنَ ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهابَ أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكِّرنا منه ما نُسينا، وعلِّمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النَّهار على الوجه الذي يُرضيك عنا.
نسأل الله أن يُعيننا وإيَّاكم على ذكره، وشُكره، وحُسن عبادته.
- أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3250).
- انظر: "دقائق التفسير" لابن تيمية (3/24).
- انظر: "تفسير الطبري" (17/57) و(19/195).
- أخرجه مسلم: كتاب الجنائز، بابٌ في التَّكبير على الجنازة، برقم (952).
- أخرجه النَّسائي في "سننه": كتاب التفسير، سورة آل عمران، برقم (11022)، وقال الألباني في "السلسلة الصحيحة" (3044): إسناده صحيحٌ.
- انظر: "تفسير الطبري" (7/499).
- انظر: "تفسير ابن كثير" (2/195).