الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين ولجميع المسلمين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثيرٌ من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر، فإنه آية في التفسير كما قال محمد بن إسحاق: حدثنا أبان بن صالح عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقِفه عند كل آية منه وأسأله عنها.
وبه إلى الترمذي قال: حدثنا الحسين بن مهدي البصري قال: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال مجاهد: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئا، وبه إليه قال: حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن الأعمش قال: قال مجاهد: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت.
التابعي هو من لقي الصحابي، وتفسير التابعين هو من التفسير الذي يُرجع إليه باعتبار أنهم تلقوا كثيراً من التفسير عن الصحابة ، كما أنهم أيضاً لقرب عهدهم بالنبي ﷺ، ولكونهم من جملة القرون المفضلة، ولوفرة العلم في ذلك الزمان، فإنه كلما قرب العهد بشمس النبوة كان العلم أوفر، والبدع والأهواء أقل، وسلامة الفطر حاصلة، إلى غير ذلك من المعاني.
والتابعون يفسرون القرآن من القرآن، ومن السنة، ومن الصحابة، فالصحابي يتلقى عن صحابي آخر، والتابعي يتلقى عن صحابي، ويأخذ التابعي من تابعي آخر، هذا بالإضافة إلى رجوعهم إلى لغتهم، وكثُرَ الرجوع إلى بني إسرائيل في زمان التابعين كما مضى، هم أيضاً يفسرون القرآن باجتهادهم، وهذا أمر معلوم، وما وُجد عنهم في ذلك من التفسير يدل عليه.
رجوع التابعين في التفسير إلى أهل الكتاب على نوعين:
- النوع الأول: أن يصرح بأخذه عنهم بأن يقول: قال كعب الأحبار..، كما أخرج ابن جرير عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول، قال: لما همَّ بنو إسرائيل بالانصراف إلى مصر حين أخبرهم النقباء بما أخبروهم من أمر الجبابرة خر موسى وهارون على وجوههما سجوداً قدام جماعة بني إسرائيل.
هذا ذكره عند قوله -تبارك وتعالى-: ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ [سورة المائدة:23].
- النوع الثاني: لا يصرح بالأخذ عنهم، وإنما يذكر حكاية أو خبراً أو نحو ذلك ظاهراً منه أنه من أخبار بني إسرائيل، إما بالنظر إلى مضمونه، وإما بالمقارنة بالمرويات الأخرى التي جاء التصريح فيها، إما عنه، وإما عن غيره في نقل هذا الخبر عنه.
كما أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله -تبارك وتعالى-: وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا [سورة المائدة:12]، جاء في رواية عند ابن جرير -رحمه الله- قال: من كل سبط من بني إسرائيل رجل أرسلهم موسى إلى الجبارين، فوجدوهم يَدخل في كمِّ أحدهم اثنان منهم، يلقونهم القاء، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس بينهم في خشبة، يعني عنقود العنب عند الجبارين، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربعة، كل هذا مأخوذ عن بني إسرائيل، هذا بالإضافة إلى أنهم قد يفسرون أشياء بما عرفوا وما عُلم من الوقائع والعادات التي كان عليها الناس وقت نزول الوحي.
كما جاء في قوله -تبارك وتعالى-: مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ [سورة المائدة:103]، فيما أورده البخاري -رحمه الله- عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يُمنع جرها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يُحمل عليها شيء، والوصيلة الناقة البكر، إلى آخر ما ذكر، هذا مما عرف في ذلك الزمان وقت نزول الوحي مما كان عليه العرب في جاهليتهم.
وتفسير التابعين يقع على صور متنوعة: تارة -وهو الأول- على بيان الألفاظ كما في قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ [سورة الجاثية:29] قال مجاهد: نكتب، وتارة يكون لبيان تخصيص العموم، أو بيان المجمل، أو تقييد المطلق، أو لبيان النسخ، أو لإيضاح المبهم، وكل هذا له أمثلة مبثوثة في كتب التفسير.
تفسير التابعي هل هو حجة أو ليس بحجة؟
يقال في هذا: إن تفسير التابعين إذا كان ذلك بطريق الإجماع فإن الإجماع حجة، وإذا ذكروا ما لا مجال للرأي فيه كالأمور الغيبية أو أسباب النزول فإن ذلك له حكم الرفع، لكن يكون ذلك له حكم المرسل، والمرسل من أنواع الضعيف، وأما الأخبار الغيبية فينضاف إلى ذلك اشتراط أن لا يُعرف بالأخذ عن بني إسرائيل، وإلا فإنه لا يحكم برفعه؛ لأنه قد يكون أخذه عنهم، وإذا اختلفوا لم يكن اختلافهم حجة، فإذا وُجد عن أحدهم ولم يُعلم له مخالف فلا يكون ذلك حجة، ولكن الرجوع إلى تفسيره والوقوف عنده خير من الرجوع إلى أقوال من بعدهم، فإذا اختلفوا رجحنا بين أقوالهم بالمرجحات المعروفة.
لكن ينبغي أن نراعي عند النظر في تفسير السلف أنهم إذا اختلفوا على قولين لم يكن لمن بعدهم أن يأتي بقول ثالث يعود على أقوالهم بالإبطال، بمعنى أن الجميع أخطأ، وهذا القول الجديد الذي جاء به المتأخرون يكون رداً لأقوالهم وإبطالاً لها، هذا غير وارد؛ لأنهم لا يتفقون -مهما تعددت أقوالهم- على ضلالة، أو على الخطأ في فهم الآية، لا يمكن أن يحصل هذا الاتفاق والتواطؤ على ذلك، لابد أن يوجد مَن عرف المعنى.
أمر آخر ينبغي أن ندركه، وأن نستحضره عند النظر في تفاسيرهم أن فهم السلف يُحتكم إليه، ولا يحاكم إلى غيره، يعني بعض المفسرين لاسيما ممن يُعنى بالعربية والنحو وما إلى ذلك قد يرُدُّ أقوال الصحابة والتابعين باعتبار أن ذلك يخالف القاعدة النحوية الفلانية، والواقع أن هؤلاء من العرب الأقحاح، وأنهم في زمن الاحتجاج باللغة، فكيف يحتج بقول شاعر مجهول على قاعدة من قواعد العربية ويترك قول هؤلاء الأئمة الذين جمعوا بين العلم والفصاحة، وهم في زمن الاحتجاج؟! كيف يقال: هذا القول لا يجري على قواعد النحو؟!
لا يصح رد أقوال السلف باعتبار قواعد اللغة؛ لأن هذه القواعد إنما استقرت باستقراء كلامهم وأشعارهم -يعني العرب-، فهؤلاء من العرب فضلاً عن كونهم من أهل القرون المفضلة، بالإضافة إلى أن غالب ما نُقل عنهم -وهذه من الأمور التي تراعى عند النظر في تفسيرهم- إنما هو من قبيل اختلاف التنوع.
فهنا يتحدث شيخ الإسلام -رحمه الله- عن الرجوع إلى تفسير التابعين، ثم شرع بذكر أبرز المفسرين منهم.
الأثر الذي ذكره شيخ الإسلام عن مجاهد: "عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته" أخرجه ابن جرير، وأبو نعيم، وابن أبي شيبة، وأبو عبيد في كتاب الفضائل في القرآن، وإسناده حسن كما مضى.
قوله هنا: وبه إلى الترمذي قال: حدثنا الحسين بن مهدي، هذه العبارات فيها إشكال "به إلى الترمذي" هو ليس بالإسناد السابق، فهذا إسناد جديد، وهكذا قوله: وبه إليه قال: حدثنا ابن أبي عمر هذا فيه إشكال، والأثر الذي ذكره هنا عن الترمذي قال: حدثنا الحسين بن مهدي البصري قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال مجاهد -هنا في الترمذي: عن قتادة، ولم يذكر مجاهداً، ما ذكره، يعني عند الترمذي-: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئاً.
والأثر الذي بعده: وبه إليه قال: حدثنا ابن أبي عمر -يعني العدني محمد بن يحيى- قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن الأعمش قال: قال مجاهد: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج إلى أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت، هذا إسناده صحيح.
هذا مضى، وأخرجه ابن جرير -رحمه الله.
مضى أكثر هؤلاء، مسروق بن الأجدع توفى سنة 63هـ، وأبو العالية توفي سنة 90هـ، وهنا يقول: والربيع بن أنس المتوفى سنة 139هـ، وفي نسخة والربيع وابن أنس فيحتمل على هذا أن يكون الربيع المراد به الربيع بن خثيم المتوفى سنة 46هـ، وابن أنس حفص بن عبيد الله بن أنس بن مالك الأنصاري.
فتذكر أقوالهم في الآية فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ، يحسبها من لا علم له اختلافاً فيحكيها أقوالا، وليس كذلك، فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو نظيره، ومنهم من ينص على الشيء بعينه، والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن، فليتفطن اللبيب لذلك، والله الهادي.
وقال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حُجَّة، فكيف تكون حجة في التفسير؟
هنا عنوان: (حكم تفسير التابعين).
يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا اجتمعوا على الشيء فلا يُرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن، أو السنة، أو لغة عموم العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك.
بعد ذلك يأتي الكلام على التفسير بالرأي، هذا عنوان جديد يأتي: (التفسير بالاجتهاد والرأي)، الرأي: المقصود به الاجتهاد، بمعنى أنه لا يفسر القرآن بالمأثور، يعني لا يفسر القرآن بالقرآن، مع أن تفسير القرآن بالقرآن يدخل في اجتهاد المفسرين، وأن تفسير القرآن بالسنة يدخل في نوع منه الرأيُ والاجتهاد باعتبار تلك الأحاديث التي لم يذكر النبي ﷺ فيها الآية، فيربط المفسر بين الآية وبين هذا الحديث.
إن التفسير الرأي في عرف الاستعمال ما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب المعرفة لوجه الصواب مما قد تتعارض فيه الأمارات، أو يكون ذلك ابتداءً، وهذا الرأي ينقسم إلى رأي سائغ واجتهاد سائغ، وإلى ما يقابله، فالسائغ منه ما كان مبناه على علم أو غلبة في ظن بحيث يجري على معهود العرب، فيكون موافقاً للعرب، موافقاً لمعهودهم بوجود المخاطبات التي كانوا عليها، يكون هذا المفسر مراعياً لأساليبهم في الخطاب مع مراعاة الكتاب والسنة وما أثر عن السلف -.
المقصود أن منطلق التفسير الرأي يكون عن علم وبصر بما يبنى عليه التفسير: الأصول، والضوابط –القواعد- ومعرفة العربية، وما أشبه ذلك، فهذا لا إشكال فيه، ولكن الذي ينكر ويرد هو ما كان مبناه على الجهل أو الهوى.
فلا يجوز لأحد أن يتكلم في القرآن بغير علم، وإن وقع على الصواب في موضع فإن ذلك لا يكون محموداً؛ لأنه وقع على الصواب بطريق المصادفة، ولم يسلك الطريق الموصل إليه، وقد مضى الإشارة إلى ذلك.
فالآثار المنقولة عن السلف في هذا الباب عند النظر والتتبع والاستقراء نجد أن منها ما يذم التفسير بالرأي ويحذر منه، ونجد طائفة من هذه الآثار تسوغ ذلك، كما نجد في ممارساتهم وتفسيرهم للقرآن مواضع غير قليلة مبناها على التفسير بالاجتهاد والرأي، ومن هنا يقال: إن موقف السلف من التفسير بالرأي لا يقال فيه: إنهم يرفضونه جملة، ولا أنهم يقبلونه جملة.
الآثار التي ظاهرها التحذير والنهي أو الامتناع من التفسير بالرأي كل ذلك محمول على الرأي غير السائغ، يعني أن يتكلم بغير علم، وما جاء من التوقف عنهم والتحرز أو الامتناع محمله على التورع، والأشياء والمواضع التي ورد فيها التصريح بأنهم يقولون في ذلك برأيهم، أو مما عرفناه من التفسير المنقول عنهم مما ظاهره أن مبناه على الرأي والاجتهاد فإنّ محمل ذلك على ما ظهر واتضح لهم وجهه ومعناه.
ولا شك أن هؤلاء التابعين يبنون التفسير على فهم صحيح، وأصول ومدارك معتبرة، ومن هنا يقال: إن موقف السلف من التفسير الاجتهادي والرأي أنه على التفصيل.
ولذلك تجد مثل تفسير ابن جرير -رحمه الله- في المقدمة عندما تكلم عن التفسير بالرأي وبوّب له وعقد باباً ذكر فيه الآثار المنقولة عنهم في ذم الرأي، والتفسير بالرأي، والامتناع من تفسير القرآن بالرأي، وعقد باباً آخر ذكر فيه تسويغ ذلك، ثم بين أن محمل هذا على معنى، وأن الآخر محمول على معنى آخر، إذاً هناك تفصيل.
ذكرنا أن التفسير المذموم يمكن أن يضبط بما ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- فيما سبق، وذكره غيره بأنه ما خالف أصحابُه تفسيرَ السلف ، أو الأصول المتفق على ثباتها في التفسير، فهو يجافي قوانين العربية أو لا يتفق مع الأدلة وقواعد الشريعة في البيان، أو يكون مخالفاً للنص، مثل هذا التفسير بالرأي مرفوض ولا يقبل، وهو جرأة على الله، وقول على كتابه بلا علم، هذا حاصل ما يذكر في هذا الباب، والله تعالى أعلم.
ويمكن مراجعة تفسير ابن جرير في المقدمة -مقدمة التفسير-، وكذلك ما أورده أبو عبيد القاسم -رحمه الله- بكتابه فضائل القرآن المجلد الثاني ص211 من الطبعة المغربية، وهذا الكتاب -أعني كتاب أبي عبيد- هومن أجل الكتب المؤلفة في فضائل القرآن، كتاب مسند فيه أكثر من تسعمائة أثر من الآثار المسندة المرفوعة والموقوفة والمقطوعة، وفيه علم جم، وهو من أوسع ما وصلنا من الكتب التي تتكلم عن فضائل القرآن، مؤلفه إمام كبير معروف، إمام في التفسير، وفي القراءات وفي غيرها كاللغة، توفى سنة 224هـ.
يقول: فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام، بمجرد الرأي يعني أنه لا يستند إلى أصول صحيحة، ولا يكون مراعياً للمنقول عن السلف - وأرضاهم، وإلا فإذا كان مستنده على ما ينبغي مراعاته فإنه يكون مقبولاً، والسلف اجتهدوا في أشياء، ولهذا اختلفوا، وإذا لم يجتهدوا لم يقع بينهم هذا الاختلاف.
نحن حينما نفسر مثلاً آية ونقول في قوله -تبارك وتعالى-: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2]: إن الحمد هو إضافة أوصاف الكمال لله -تبارك وتعالى- فهو مستحِق لجميع المحامد؛ لأن "ال" هذه تدل على الاستغراق، "لله" أي أنه مستحَق لله، فهذه اللام للاستحقاق.
والله لفظ الجلالة قال كثير من أهل العلم: إنه الاسم الأعظم؛ لأن الأسماء الحسنى جميعاً ترجع إليه لفظاً ومعنى، إلى غير ذلك مما ورد مما يُشعر بأنه المراد بالاسم الأعظم، وهو مشتق من الإلهية، إلى آخر ما يذكر، فهذا تفسير بالرأي، يعني لم أقل: قال ابن عباس، قال زيد بن ثابت، قال أبيّ، قال قتادة، قال مجاهد، قال فلان، هذا تفسير بالرأي، لكن إذا كان مبناه على أصول صحيحة فلا إشكال.
ما يذكره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- في تفسيره هل هو تفسير بالمأثور بمعنى أنه يورد الآثار والروايات في تفسير الآية عن السلف ؟
الجواب: لا، فهو تفسير بالرأي لكنه رأي صحيح، فقول شيخ الإسلام -رحمه الله- هنا بأن التفسير بالرأي حرام يقصد به الرأي غير السائغ الذي هو بمجرد الرأي من غير ملاحظة ومراعاة الأصول التي ينبغي أن يبنى عليها التفسير.
مؤمل هذا لم يدركه شيخ الإسلام -رحمه الله-؛ لأن مؤمَّل بن إسماعيل متقدم متوفى سنة 205 أو 206 هـ فالقائل: حدثنا مؤمل هو الإمام أحمد -رحمه الله-، وهذا الحديث مخرج في مسند الإمام أحمد، ومؤمل هذا هو شيخ الإمام أحمد، وهو صدوق سيء الحفظ، حدثنا مؤمل، لاحظ هذا أيضاً مثل الإشكالات التي أشرت إليها في الروايات السابقة حينما قال شيخ الإسلام: وبه إلى الترمذي، وبه إليه، مع أنه ليس بنفس الإسناد، هنا يقول: حدثنا مُؤمَّل، حدثنا سفيان الثوري، يعني كأن شيخ الإسلام اختصر الإسناد لكن جاء الاختصار هكذا بطريقة أشكلت، حدثنا عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار[1]، هذا أخرجه الإمام أحمد كما سبق، وهو مخرج عند بعض أصحاب السنن، ولكن هذا الإسناد لا يصح.
فعبد الأعلى هذا هو عبد الأعلى بن عامر الثعلبي تكلموا فيه، فهو مضعَّف كما قال الإمام أحمد -رحمه الله-: إنه ضعيف الحديث، وهكذا ضعفه جماعة كأبي زرعة، وابن عدي وغير هؤلاء.
هذا بالإضافة إلى مؤمل فقد تكلموا فيه أيضاً، والحافظ ابن حجر -رحمه الله- قال عنه: إنه صدوق سيئ الحفظ، مع أن البخاري -رحمه الله- ضعفه تماماً.
وهكذا الإسناد الذي بعده يقول: حدثنا وكيع، نفس الإشكال؛ فوكيع بن الجراح -رحمه الله- لم يدركه شيخ الإسلام، بل هو من شيوخ الإمام أحمد، فالذي يقول: حدثنا وكيع هو الإمام أحمد، وهذا الأثر الثاني مخرج في المسند.
قال: حدثنا سفيان (يعني الثوري) عن عبد الأعلى الثعلبي.
وقد مضى الكلام عليه وأنه ضعيف.
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.
فصار مداره على عبد الأعلى الثعلبي، فهذا كالذي قبله، يعني أنه ضعيف، ولاحظ هنا قال: وبه إلى الترمذي، قال: حدثنا عبد بن حميد، هنا نفس الإشكال السابق "وبه إلى الترمذي" وليس بالإسناد السابق، لكن لو قيل: وأخرج الترمذي، أو وقال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد.
سهيل بن عبد الله وهو أخو حزم القطعي.
وجندب هو جندب بن عبد الله .
هذا أيضاً أخرجه الترمذي، وأبو داود والنسائي في الكبرى لكنه ضعيف الإسناد، ومعنى: من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ يعني برأيه المجرد، ويكون كما سبق قد وقع على الصواب بغير سلوك طريقه، يعني أن ذلك وقع منه على سبيل المصادفة، يعني رمية من غير رامٍ، فلا يعتد بموافقة الصواب بهذا الاعتبار.
كل هذا من كلام الترمذي، وفي بعض النسخ أقواس بعد سهيل بن أبي حزم، وهذه تُشطب، وفي بعض النسخ تقديم وتأخير في الكلام، هذا كله من كلام الترمذي.
في أن يفسر القرآن بغير علم: هذا هو المقصود بالرأي غير السائغ، أن يفسر بغير علم.
وأما الذي رُوي عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم أنهم فسروا القرآن فليس الظن بهم أنهم قالوا في القرآن أو فسروه بغير علم، أو فسروه من قبل أنفسهم، وقد روي عنهم ما يدل على ما قلنا، أنهم لم يقولوا من قِبَل أنفسهم بغير علم.
انتهى كلام الترمذي هنا عند قوله: "بغير علم"، وبعد ذلك يأتي كلام شيخ الإسلام:
تمييز النقل في غاية الأهمية، وفي كتب العلماء -رحمهم الله- تجد أن ذلك قد يلتبس على القارئ فلا يتبين له نهاية النقل، ولهذا تجد أنه ينقل قال فلان، والواقع أن هذا الكلام منقول عن غيره وليس له، وهذا تجده كثيراً في كتب شروح الحديث، وفي كلام شيخ الإسلام، وفي غيره.
عندما تقرأ مثلاً في (فتح الباري) يُكثر النقل، فينقل عن بعض الشراح، كما ينقل أيضا عن غير الشراح، فيقول مثلاً: قال الباقلاني، قال فلان، وهذه الكتب إذا رجعت إلى الأصول بعض هذه الأصول ما كانت مطبوعة، أو متوفرة، أو قريبة المنال لكن طُبع منها كثير الآن، فإذا تتبعت أين ينتهي النقل وجدت أشياء وأشياء، يعني وجدت أن هذا الكلام الذي بعده نقله كثيرون، وهو من كلام ابن حجر مثلاً نقلوه على أنه من كلام الذي قبله، وأحياناً يكون هذا في بعض الآثار المنقولة عن السلف، فيكون قد عقب عليه الحافظ ابن حجر بكلمة، أو عقب عليه مَن قبله بكلمة فنقلت على أنها من كلام هذا التابعي وهي ليست له.
فمن قال في القرآن برأيه فقد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أُمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأتِ الأمر من بابه.
هذا هو تعليل الجملة هذه، وإن أصاب رمية من غير رامٍ ليس له أن يجترئ على كتاب الله .
كمن حكم بين الناس عن جهل فهو في النار وإن وافقه الحكمُ الصواب في نفس الأمر، لكن يكون أخف جرماً ممن أخطأ، والله أعلم.
وهكذا سمى الله تعالى القذفة كاذبين، فقال: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [سورة النور:31] فالقاذف كاذب ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر؛ لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به، وتكلف ما لا علم له به، والله أعلم.
الله سماهم بذلك ولو كان رأى بعينه؛ لأنه ليس له أن يتكلم حتى يأتي بأربعة شهود.
هنا عنوان جديد: (تحرج السلف من التفسير بغير علم).
هذه رواية مخرجة، أخرجها ابن أبي شيبة، وأبو عبيد في فضائل القرآن، لكنْ أبو معمر الذي يرويها، يقول: عن أبي معمر قال: قال أبو بكر الصديق، أبو معمر هذا هو عبد الله بن سخبرة، وروايته عن أبي بكر مرسلة. هذه المرويات تجدون كثيراً منها في مقدمة ابن جرير، وفي فضائل أبي عبيد.
منقطع؛ لأن إبراهيم التيمي هنا الراوي عن أبي بكر لم يدرك أبا بكر، يعني إبراهيم التيمي ولد سنة 36هـ، فما أدركه.
لاحظ قال: وقال أبو عبيد، ولم يقل: وبه إلى أبي عبيد كما هناك: وبه إلى الترمذي، لو هناك قيل: وقال الترمذي، لكان هذا هو الوجه.
وهذا أخرجه ابن أبي شيبة، وابن جرير، وإسناده صحيح، وأصله في البخاري، وعمر تساءل عن الأبّ مع أنه يعرف أنه نبات، لكن أراد أن يعرف عينه، ومثل هذا لا يترتب عليه أثر فقال: "إن هذا لهو التكلف يا عمر".
وقال عبد بن حميد: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال: "كنا عند عمر بن الخطاب وفي ظهر قميصه أربع رقاع، فقرأ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: وما الأبّ؟ فقال: إن هذا لهو التكلف، فما عليك ألا تدريه[5].
قال: وهذا كله محمول على أنهما -ا- إنما أرادا استكشاف ماهية الأبّ، وإلا فكونه نبتاً من الأرض ظاهر لا يُجهل؛ لقوله تعالى: فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا [سورة عبس:27-30].
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا يعني أنبتنا فاكهة وأبًّا، فهو نبات.
ومخرج عند أبي عبيد في الفضائل، وأخرجه ابن جرير في التفسير.
هذا الرجل أبو عبد الله بن فيروز مولى لعثمان ، هذا من المبهمات في الرواية، ولا حاجة لمعرفته، لا يترتب عليه فائدة.
وهذا كما ذُكر عند أبي عبيد وأخرجه أيضاً ابن جرير وإسناده صحيح، يعني أن ابن عباس توقف مع أن أهل العلم جمعوا بين الآيتين، وقال بعضهم: إن اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة هو يوم القيامة، وأما الألف فهي اليوم الذي يكون فيه عروج الملائكة تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [سورة المعارج:4] هذا يوم القيامة.
وأما عروج الملائكة إليه يعني أبعاد السماوات حينما تصعد الملائكة وتنزل غير يوم القيامة فهذا ألف سنة.
وهذا ثابت صحيح، هنا سأله عن آية من القرآن، يعني كأنه سأله عن شيء لربما رأى أنه من قبيل التكلف، أو أنه سأل عن شيء من المتشابه فأجابه بهذا الجواب.
وقال مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال: "إنا لا نقول في القرآن شيئاً"[7].
وهذا أيضا أخرجه أبو عبيد، وابن جرير، وإسناده صحيح، لا نقول في القرآن شيئاً هذا من باب التورع، وهذا مثال على المنقولات عن السلف في التوقف على سبيل الورع، لا نقول في القرآن شيئاً، لهذا جاء عن الأصمعي وهو من بحور اللغة أنه كان لا يتكلم فيما كان في القرآن من المواد اللغوية، الألفاظ التي يُسأل عنها يقول: هذا مما جاء في القرآن، فيتحرز من ذلك، مع إمامته وجلالته وسعة علمه وحفظه يتحرز.
وهذا أخرجه ابن جرير، وإسناده صحيح، يعني لا يتكلم في الأشياء المشكلة.
هذا رواه ابن أبي شيبة وابن جرير، وإسناده صحيح، كل هذه الآثار محمولة على ما ذكر من أن ذلك على سبيل التورع، يعني تارة يخفى عليه المعنى فلا يتكلم، وتارة يفعل ذلك تورعاً، وليس هذا من كتمان العلم، فإنه يوجد من يتكلم في هذه الأشياء، فإذا لم يتوقف بيان ذلك عليه، أو لم تكن الحاجة داعية إلى هذا البيان يعني بالنسبة للسائل فإنه لا يجب عليه أن يبينه، كما لو كان في الجواب من الضرر على السائل ما ترجح لدى المفتي والعالم فإنه لا يجب عليه البيان.
وهذا عند ابن جرير أيضاً وإسناده صحيح، فابن المسيب -رحمه الله- يتحرز هذا التحرز مع جلالته.
وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن عبدة الضَّبِي قال: حدثنا حماد بن زيد قال: حدثنا عبيد الله بن عمر قال: لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع.
لاحظ الآن وقال ابن جرير، وقال أبو عبيد، هذا كما سبق في: وبه إلى الترمذي، لو قيل: وقال الترمذي، لكن الذي قبله: وقال ابن شوذب، لو قال: وبه مثلاً، أو وبإسناده إلى ابن شوذب، يعني إسناد ابن جرير، وهكذا في الذي قبله: وقال الليث، وبه إلى الليث يعني بإسناده إلى الليث.
وهذا أيضاً أخرجه أبو عبيد، وفي إسناده عبد الله بن صالح كاتب الليث صدوق كثير الغلط، هنا يقول: ما سمعت أبي تأول آية من كتاب الله قط، يعني مطلقا ليس المشكِل أو المتشابه، وإنما ذلك بإطلاق، فهذا محمول على الورع.
هذا على سبيل الورع، وهذا أخرجه ابن أبي شيبة، وابن جرير وإسناده صحيح، وهذه المرويات موجودة يتكلم فيها المتقدمون والمتأخرون، وينقلونها ولا إشكال، لكن هذه مدرسة في الورع، نحتاج إلى هذا كثيراً.
اليوم الواحد منا لو تحسن الوضع صار يتكلم في كل شيء، الأحكام والنوازل، والقضايا المدلهمة، معاني القرآن وما إلى ذلك، ويُستفتى، والناس يدفعونه دفعا لهذا، لابد أن يتكلم، ولابد أن يسجل موقفاً، وأن يذكر رأيه في القضايا، لكن ينبغي أن يتخيل نفسه عند وقوفه بين يدي الله ، وماذا سيقال له؟ ماذا سيقول إذا تكلم في هذه القضية التي لم يُحِط بأطرافها والناس يدفعونه دفعاً؟ ولربما يتهم في صدقه ونصحه للأمة بسبب أنه ما تكلم، يا أخي هذا الذي يدين الله به، لماذا تحمّله ما لا يحتمل؟ ومالا يطيق، وما لا يستطيع؟ لم يتبين له وجهُ هذا، بقيتْ عنده أشياء لو سمعتَها منه لربما أنت توقفت وتحرزت، لكن لا يلزم أن يشرح موقفه، وأن يشرح ما عنده من الأسباب والإشكالات والموانع والصوارف التي تصرفه عن الاشتغال بهذه القضية أو تلك.
لا يلزم أن يتكلم كل أحد في كل نازلة ويتبين له وجه الحق فيها ويترجح عنده الكلام أيضاً؛ لأنه قد يتبين له وجه الصواب لكن لا يترجح له الكلام لسبب أو لآخر، قد يكون هذا الكلام مفسدته أكثر من مصلحته، فيترك الكلام بهذه القضية ويسكت، فيكون ذلك مما يسعه.
وللأسف أصبحت هذه القضية شائعة عند الكثيرين، لابد أن كل أحد يتكلم في كل نازلة، في كل موقف يسجل موقفه وإلا اتُّهم، فيلجأ بعض الناس إلى الكلام ليبرئ ساحته وليُبين عن صدقه ونزاهته، وهذا خطأ، هذا دين، يتكلم الإنسان بما يدين الله به، كما أنه لا يصح أن يكون كلامه مبنياً على هوى زيد وعمرو من أهل الدنيا أو الوجاهة أو الأغنياء والأثرياء والملوك والأمراء، فكذلك لا يصح أن يبني مواقفه بناء على رغبة الناس والجماهير كما يقال، هذا غلط.
يعني ينظر إلى السياق اللاحق والسابق، ويتكلم على هذا المعنى بما يتفق مع السياق الذي وردت فيه هذه اللفظة أو هذه الجملة، وفي هذا الإسناد عبيد الله بن مسلم بن يسار هذا ذكره البخاري -رحمه الله- في تاريخه الكبير، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكروا فيه جرحاً ولا تعديلاً، لكن مثل هذه الآثار المنقولة في التورع مما يحصل فيه مثل هذا في الإسناد لا بأس بنقله وروايته.
عن إبراهيم يعني النخعي، كان أصحابه العادة أن يقول: كان أصحابنا، لكن هنا ذكره على سبيل الخبر والحكاية، ويقصد بذلك أصحاب ابن مسعود كالأسود بن يزيد النخعي، وأمثال هؤلاء علقمة النخعي، وغيرهم من أصحاب ابن مسعود يتقون التفسير ويهابونه، مع أنك لو قرأت في تراجمهم تقرأ مثلاً في ترجمة الأسود النخعي تجد عجباً في العلم وفي العبادة، الأسود بن يزيد النخعي هذا مخرج عند أبي عبيد، وإسناده صحيح.
يقول هنا: حدثنا هشيم قال شعبة إلى آخره، حدثنا هشيم يعني قائل هذا الإسناد عن أبي عبيد، يعني ليس شيخ الإسلام يقول: حدثنا هشيم.
وهذا أيضاً أخرجه ابن جرير وإسناده صحيح، فهذا صريح جداً في التورع، والشعبي من أوعية العلم، كان واسع الحفظ، يقول: "والله ما من آية إلا وقد سألت عنها ولكنها الرواية عن الله".
يعني إني أترك ذلك على سبيل التورع، فهؤلاء الذين تورعوا تكلم غيرهم، ولهذا نجد في كتب التفسير الآثار الكثيرة التي تملأ المجلدات، كل ذلك مما نقل عن السلف - وأرضاهم.
فهذا التورع هل هو واجب؟ الجواب: لا، ليس بواجب لمن كان عارفاً عالماً بالتفسير؛ لأنهم لو توقفوا جميعاً فإننا لم نكن لنجد هذه المنقولات والآثار المروية عنهم - وأرضاهم.
انبأنا عمر بن أبي زائدة، عمر بن أبي زائدة هذا صدوق رُمِيَ بالقدر، وهذا الإسناد حسن، وهنا يرشد إلى الورع في هذا الباب، حاصل ذلك إذاً أن هذه الآثار المنقولة عنهم: ما توقفوا عنه إما محمله على التورع أو أنهم لم يتبينوا المعنى، وما جاء على سبيل الذم يكون لمن تكلم بغير علم، والآثار الأخرى المنقولة التي يذكرون فيها ويصرحون أنهم يقولون برأيهم، أو ما نجده مما مبناه على الرأي فإن ذلك محمول على الجواز.
فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعاً فلا حرج عليه، ولهذا رُوي عن هؤلاء وغيرهم أقوالٌ في التفسير ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه فيما يعلمه، لقوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [سورة آل عمران:187]، ولِمَا جاء في الحديث المروي من طرق: من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار[9].
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا مؤمَّل حدثنا سفيان عن أبي الزياد قال: قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله -تعالى ذكره-، والله أعلم.
هذا الحديث أخرجه أحمد، وبعض أصحاب السنن، وإسناده صحيح، ومحمل ذلك على ما سبق؛ إذ ما كل ما عُلم يصح أن يقال.
ومن المسائل كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله- ما جوابها السكوت، فقد يكون السؤال على سبيل التكلف فلا يجب الجواب، وقد يكون السؤال جوابه يضر السائل فيكون ترك الجواب هو المتعين، وقد يكون السؤال جوابه مما لا يعقله السائل، يعني أن ذلك لا تحتمله مداركه وقواه العقلية والعلمية فلا يجاب، يقال: هذه المسألة مسألة متقدمة ودقيقة تصل إليها -إن شاء الله- في حينها، وليس هذا أوانها، وقد يكون هذا بالاشتغال بما لا يعنيه فيقال له: أقبل على ما أنت بصدده، واشتغل بما يعنيك وما ينفعك، ودع عنك هذه المسائل، وقد يكون ذلك؛ لأن هذا الذي سُئل يجد من يمكن أن يجيب عن هذه السؤالات ويكفيه؛ ولهذا كان أصحاب النبي ﷺ يتدافعون الفتيا، فإذا وُجد من يجيب فإن ذلك لا يتوقف على زيد أو عمرو.
وفي عصرنا هذا يستطيع الناس اليوم التواصل مع أهل العلم في كل مكان بسهولة عبر هذه الوسائط، ما عادت القضية تقتصر على طالب علم في بلدته لا يوجد غيره فيبقى الناس في جهالة إن لم يجبهم، ويبقون في إشكال وحيرة.
وقول ابن عباس -ا- وهو ثابت صحيح الإسناد-: التفسير على أربعة أوجه: هؤلاء الذين تورعوا يعني هذه مناسبة ذكر هذا الأثر عن ابن عباس -ا- في هذا الموضع، هؤلاء الذين توقفوا من السلف، الذين تحرجوا، الذين قالوا: لا نتكلم في القرآن، هذه الأشياء التي تذكر.
الأشياء التي يمكن أن تقال في التفسير هي على أربعة أوجه، يقول ابن عباس: وجه تعرفه العرب من كلامها، يعني يعرفونه بلغتهم لا يحتاج إلى نقل، ولا يحتاج إلى أن يكون المتكلم من العلماء، وإنما ذلك مما تعرفه العرب بكلامها، وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [سورة القصص:20] السامع يفهم معنى جاء رجل من أقصى المدينة، يعني من آخر البلد.
وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، يعني مما يتعلق به من التكليف، يجب عليه أن يتعلمه، فعندما يقال: هل تعلّم التفسير واجب أو غير واجب؟ نقول: يجب عليه أن يعرف من معاني القرآن ما يتحقق به التوحيد لله -تبارك وتعالى-، ويجب عليه أن يتعلم من معاني القرآن ما يؤدي به العبادة، ويأتي من العمل ما يكون على وجه الموافقة والصواب، هذا القدر واجب لابد منه، أن يتعلم كيف يصلي، يتعلم الزكاة إن كان مما تجب عليه، يتعلم الصيام.
يعني الله يقول مثلاً: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ [سورة البقرة:183-184]، هذه الأشياء أحكام تتعلق بالصوم يحتاج أن يعرفها، فهذا القدر واجب، أن يتعلم من القرآن ما يتصل بتصحيح الاعتقاد والعمل، وتحقيق التوحيد، والعمل بالتكاليف الشرعية، هذا القدر هو الواجب والباقي فرض كفاية، ولكن من تركه وأعرض عنه فقد فاته خير كثير، وهو مغبون أن يوجد كتاب مثل هذا أشرف كتاب أُنزل على أشرف الأنبياء -عليه الصلاة والسلام-، وعلى أشرف أمة يموت الإنسان وهو لا يعرف معانيه، هذه خسارة كبيرة.
ونحن كما ترون نجتمع على قراءة كلام لعالم كتبه في جواب سؤال، ونقف عند كل لفظة، ونبين مواضع الإشكال، ومحمل العبارات، وكتاب الله أحرى أن يُشتغل به، وأن يُبيَّن مراد الله -تبارك وتعالى- منه، وهو الكلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
كلام البشر كما ترون يقع فيه سبق قلم، ويقع لهم الوهم، ولا يسلم الكاتب مهما كان تحرزه ودقته من شيء قد يُستدرك، فالحاصل هذا النوع الثاني التفسير الذي لا يعذر أحد بجهالته.
وتفسير يعلمه العلماء، هذا الذي يؤخذ بطرق الاستدلال، والاستنباط، والجمع بين النصوص المتقابلة، وما أشبه ذلك، هذا يعلمه العلماء.
وتفسير لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى-، فهذا محمول على حقائق الأمور الغيبية مما استأثر الله بعلمه، وليس المقصود منه المعاني؛ فإن الله -تبارك وتعالى- خاطبنا بلغة العرب، خاطبنا بما نعقل وما نفهم، وقال: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [سورة القمر:17]، وهذا التيسير هو تيسير لحفظه، وتيسير لألفاظه، وتيسير لمعانيه.
هذا آخر كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- في هذه الرسالة، وبقي نوع من طرق التفسير لم يذكره صراحة وهو تفسير القرآن باللغة، ويكون بمعرفة مقاصد العرب بكلامهم، وأدب لغتهم، سواء حصلت هذه المعرفة بالسجية والسليقة كما كانت عند العرب المتقدمين الذين نزل القرآن بين أظهرهم، أو حصلت بالتلقي والتعلم، كالمعرفة التي حصلت للمولَّدين الذين شافهوا بقية العرب ومارسوهم.
الشاطبي -رحمه الله- في كتاب الموافقات في شروط الاجتهاد يؤكد على شرطين أساسيين يقول: والباقي يمكن أن يؤخذ عن أهله، يقول مثلاً: تخريج الأحاديث والتصحيح والتضعيف والحكم عليه هذا يؤخذ عن أهل الاختصاص، ليس بشرط في الاجتهاد مثلاً. لكنه يؤكد على قضيتين أساسيتين:
الأولى: اللغة.
والثانية: معرفة مقاصد الشريعة.
وفي اللغة لا يجوز أن يتكلم في الشريعة إلا من كان عربياً، أو من كان بمنزلة العربي، يعني في الفهم، بحيث يكون درس من اللغة ما جعله يصير بمنزلة العربي بمعرفة وجوه المخاطبات لدى العرب، وطرائق كلامهم، ومحامله، وما إلى ذلك؛ من أجل أن لا يقع في الانحراف بسبب العجمة.
وتفسير القرآن باللغة يُرجع إليه لكن ليس ابتداءً، يعني ننظر إلى تفسير القرآن بالقرآن، بالسنة، بأقوال السلف، ولا نبادر إلى النظر في اللغة ونرجع إليها، ونفسر القرآن، وقلنا: إن ذلك من الطرق المنحرفة كما ذكر شيخ الإسلام في الانحراف في التفسير قوماً فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ للمتكلم، أو لمجرد ما يسوغ في لغة العرب، وهذا خطأ يفعله بعض العرب مثل: أبي عبيدة معمر بن المثنى.
إذا فسرنا القرآن باللغة أيضاً ينبغي أن نراعي بعض الجوانب:
- فمن ذلك أن نراعي المعنى الأغلب والأشهر والأفصح دون الشاذ أو القليل، وهذا يذكره ابن جرير كثيرا في التفسير، يعني مثلاً: لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا [سورة النبأ:24] نُقل عن بعضهم أن البرد هو النوم، فهذا معنى للبرد صحيح في اللغة، ولكنه قليل الاستعمال أو نادر، فالبرد هو ما يبرد الجسم من الهواء ونحو ذلك، وهذا معروف وهو المتبادر، فلا يصح اللجوء للمعاني البعيدة وترك المعاني المتبادرة والمشهورة.
- أمر آخر أنه قد يتجاذب اللفظة الواحدة المعنى والإعراب، فنتمسك بصحة المعنى ويُؤوَّل لصحة الإعراب؛ لأن المعنى أولى، والإعراب تحت المعنى كما هو معلوم، وهذا له أمثلة.
- أمر ثالث: تحمل نصوص الكتاب على معهود الأميين في الخطاب كما يقول الشاطبي، لا نحملها على محمول غيرها.
- أمر رابع: أن كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي فليس من علوم القرآن في شيء، مثلا فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [سورة الزلزلة:7] مثقال ذرة هي هذا الجزء الصغير المكون من سالب وموجب يحصل بمجموعهما شحنة كهربائية، هذا ليس بجار على لسان العرب، إنما الذرة هي صغار النمل.
- وأمر خامس: أنه لا يجوز حمل ألفاظ القرآن على اصطلاح حادث، وهذا كالذي قبله –الذرة-، أو يأتي إنسان ويقول: "و جاءت سيارة"، يقول: السيارات المعروفة، هذا لا يصح بحال من الأحوال.
- أمر سادس: وهو أن القرآن عربي؛ فيسلك به في الاستنباط والاستدلال مسالك العرب في تقرير معانيه.
- أمر سابع: مما نراعيه أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله على مجرد الاحتمال النحوي.
- أمر ثامن: ينبغي أن نجتنب التقديرات البعيدة والمجازات المعقدة عند تفسير القرآن باللغة وعند إعرابه.
- أمر تاسع: أن معرفة تصريف اللفظة وإرجاع ذلك إلى أصلها يعين في بيان المعنى الراجح من الأقوال ورد المرجوح، فأحياناً قد يذكر معنى ولكنه يعود إلى مادة أخرى، المادة تختلف مثل ما قلنا: وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [سورة الذاريات:47]، مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا [سورة يس:71] الأيد: القوة، الأيدي: جمع يد، فمعرفة هذه الأشياء تعين على فهم المعنى وبيان الراجح.
- أمر عاشر: وهو أنه لا يجوز تحريف القرآن من أجل المحافظة على قاعدة نحوية كما يقول ابن القيم -رحمه الله-، ولو كانت مائة أو ألف قاعدة، هذه القواعد بناء على الاستقراء والقرآن هو أفصح الكلام، والمنقول عن هؤلاء السلف هم في عصر الاحتجاج، وعصر الاحتجاج ينتهي عند إبراهيم بن هرمة الشاعر، في العصر الأموي، يعني في حدود سنة 130هـ.
- الأمر الحادي عشر: مما يراعى أن نجتنب الأعاريب المحمولة على اللغات الشاذة.
- الثاني عشر: أن نجتنب الأعاريب التي هي خلاف الظاهر، والمنافية لنظم الكلام.
- الثالث عشر: ما كل ما جاز في العربية جاز في القرآن، واختلفوا هل يوجد ترادف في القرآن أولا؟ هل يوجد مجاز في القرآن أو لا؟ بعض الذين قالوا: لا يوجد مجاز، أو ترادف يقولون: موجود في اللغة، لكن ما كل ما جاز في العربية جاز في القرآن. الشتائم والسباب موجود في اللغة هل هو موجود في القرآن؟!
هذا آخر الكلام على هذه المقدمة، نكتفي بهذا.
ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم علماً نافعاً، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يعيذنا جميعاً من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله
- رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله
- جامع البيان في تأويل القرآن للطبري (1/ 78).
- رواه ابن أبي شيبة في المصنف، برقم (30105).
- جامع البيان في تأويل القرآن، للطبري (24/229)، والحاكم في المستدرك، برقم (3897)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
- جامع البيان في تأويل القرآن، للطبري (1/86).
- المصدر السابق (1/85).
- رواه أبو نعيم في الحلية، (2/292)، بلفظ: "إذا حدثت عن الله فأمسك فاعلم ما قبله وما بعده"، وابن أبي شيبة في مصنفه، برقم (35588)، ولفظه: إذا حدثت عن الله حديثاً فأمسك فاعلم ما قبله وما بعده.
- واه أبو داود، كتاب العلم، باب كراهية منع العلم، برقم (3658)، والترمذي، كتاب العلم عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في كتمان العلم، برقم (2649)، وابن ماجه، افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب من سئل عن علم فكتمه، برقم (264)، وأحمد في المسند، برقم (7571)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح غير أبي كامل -وهو مظفر بن مدرك الخرساني- فقد روى له أبو داود في "التفرد" والنسائي، وهو ثقة"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6284).