يعني: هذا القسم الأول، وهو ما يتعلق بالعقائد، هذه التي ذكرها شيخ الإسلام -رحمه الله-، إنما ذكرها باعتبار ما يعرفها الناس به، ولا يعني ذلك أنه يقرها، وإنما يذكر ما يسمونه بها، وهذه التسميات عند طوائف من الناس، يقول: يُسمى هذا النوع أصول الدين، والعقد الأكبر، كما يقال له أيضاً: الفقه الأكبر، ويُسمى الجدال فيه بالعقل، والخوض في هذه القضايا التي تتصل بالله وما إلى ذلك من الأمور الغيبية كلاماً، وهذا العلم يقال له: علم الكلام.
ويقول: ويُسمى عقائد واعتقادات، ويُسمى المسائل العلمية، والمسائل الخبرية، وقد مضى أن شيخ الإسلام -رحمه الله- ينتقد هذه التقسيمات، ويُسمى علم المكاشفة[1]، وعلم المكاشفة هذه من العبارات التي يستعملها الصوفية، ولو نظرنا في كتاب الغزالي مثلاً (إحياء علوم الدين) في أوله لما تكلم عن العلم ذكر علم المكاشفات، والمقصود به هذا النوع؛ إذ إنهم يقسمون العلم إلى قسمين: علم مكاشفة، وعلم معاملة.
وعلم المكاشفة هذا عند هؤلاء الصوفية: هو ظهور الشيء للقلب، بحيث يصير نسبته إليه كنسبة المرئي للعين، فلا يبقى معه شك ولا ريب، يعني: مثل مقام الإحسان، لكن طريقة تلقي ذلك، ومعرفته بالنسبة للصوفية هذا أمر معلوم، حيث إن ذلك لا يرجع إلى الوحي والخبر؛ لأنهم -كما هو معلوم- يقولون: تأخذون علومكم ميتاً عن ميت، ونأخذ علومنا عن الحي الذي لا يموت[2]، ولهم في ذلك طرق معروفة: الخلوة والجوع، وما إلى ذلك، حيث يقولون: بأنه يحصل لهم الكشف الذي يُعبّر عنه بعضهم بأنه حضور القلب بتعيين البيان بلا تأمل لدليل يطلبه من غير الأدلة التي يأخذ أهل السنة عنها اعتقادهم، وهي قال الله، وقال رسوله ﷺ؛ ولهذا يفسره الغزالي نفسه في الإحياء بقوله: "علم المكاشفة فهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة"([3]، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة، يقول: كان -يعني المكلف- يسمع من قبل أسمائها، ويعرفها معرفة إجمالية، ولكن لما حصل له هذا العلم -علم المكاشفة- اتضح ذلك، حتى حصلت له المعرفة الحقيقية بذات الله، وصفاته، وأفعاله، وحكمته، والنبوة، ومعنى الوحي، والملائكة، وما إلى ذلك، فهذا يقولون له: علم المكاشفة، وهذه تسمية صوفية، حيث يجعلون العلم على قسمين: علم العقائد، والمعاملات، وهنا يقولون: المكاشفة والمعاملة.
قال -رحمه الله-: والثاني: الأمور العملية الطلبية من أعمال الجوارح والقلب كالواجبات، والمحرمات، والمستحبات، والمكروهات، والمباحات، فإن الأمر والنهي قد يكون بالعلم والاعتقاد، فهو من جهة كونه علماً، واعتقاداً، أو خبراً صادقاً أو كاذباً، يدخل في القسم الأول.
ومن جهة كونه مأموراً به، أو منهياً عنه يدخل في القسم الثاني، مثل: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فهذه الشهادة من جهة كونها صادقة مطابقة لمخبرها، فهي من القسم الأول، ومن جهة أنها فرض واجب، وأن صاحبها بها يصير مؤمناً يستحق الثواب، وبعدمها يصير كافراً، يحل دمه وماله، فهي من القسم الثاني.
وقد يتفق المسلمون على بعض الطرق الموصلة إلى القسمين، كاتفاقهم على أن القرآن دليل فيهما في الجملة، وقد يتنازعون في بعض الطرق.
عرفنا الآن علم المكاشفة، ومضى الكلام على الكشف، فعلم المكاشفة يرتبط بعلم الكشف، فالكشف عندهم هو الاطلاع على ما وراء الحجاب، بحيث يكشف له ما وراء الحُجب -كما يزعمون- من الأمور الغيبية، فهذا علم الكشف.
والثاني الأمور العملية الطلبية، من أعمال الجوارح، وسبق أن هناك أمور علمية، وأمور عملية، أو عقائد وعبادات، كما يقسمه كثيرون.
وشيخ الإسلام يعترض على هذه التقسيمات، لكن هو يسميها بما يسمونها به.
يقول: هذه كالمحرمات، والمستحبات، والواجبات، والمكروهات... إلخ، فهو من جهة كونه علماً واعتقاداً، أو خبراً صادقاً أو كاذباً، يدخل في القسم الأول، يعني: هذه الأمور العملية، كالصلاة مثلاً، والزكاة، والحج... إلخ، هذه من الأمور العملية، لكن كون المكلف يجب عليه أن يعتقد وجوب ذلك، وأن الله شرّعه هذا يرجع إلى الأول، الذي هو الاعتقاد، وكون هذه ممارسات عملية ترجع بهذا الاعتبار إلى النوع الثاني.
يقول: يدخل في القسم الثاني مثل: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فهذه الشهادة من جهة كونها صادقة ومطابقة لمخبرها، فهي من القسم الأول، ومن جهة أنها فرض واجب، وأن صاحبها بها يصير مؤمناً يستحق الثواب، وبعدمها يصير كافراً... إلخ، هي من القسم الثاني، يعني: ما يترتب عليها من أحكام.
يقول: وقد يتفقون على بعض الطرق الموصلة إليها، وقد يختلفون في بعض الطرق، وكما عرفنا أن هذه تتلقى عن طريق الوحي، والمعتزلة وأمثالهم يقولون: عن طريق العقل، والصوفية عن طريق الكشف.
قال -رحمه الله-: "طرق الأحكام التي أجمع عليها المسلمون:
الأول: الكتاب، لم يختلف أحد من الأئمة في ذلك، كما خالف بعض أهل الضلال في الاستدلال على بعض المسائل الاعتقادية.
يقول: إن الطرق التي توصل إلى هذا يتفقون على بعضها، ويختلفون في بعضها، فبدأ يذكر جملة من هذه الأدلة، أولها: القرآن، فيقول: لم يختلف أحد من الأئمة في ذلك، كما خالف بعض أهل الضلال في الاستدلال على بعض المسائل الاعتقادية.
يعني: هؤلاء الضلال ما ترك الشيطان أحداً، فجاء إليهم فيما يتصل بالقرآن، فقال: هو من جهة الثبوت قطعي، لكن من جهة الدلالة يرد عليه أمور: مما يُخصص، أو يُقيد، أو يُبين المجمل، أو ينسخ، أو نحو ذلك، إذن هو من جهة الدلالة عندهم فيه إشكال، ومن ثم لجأ من لجأ إلى العقل، وتركوا وحي الله .
النوع الثاني: وهي السنة المتواترة الموافقة لما جاء في القرآن، يعني: هي مقررة له، وهذا النوع الذي تكون فيها السنة مفسرة وشارحة ليس فيه أشياء زائدة على ما في القرآن.
قال -رحمه الله-: وأما السنة المتواترة التي لا تفسر ظاهر القرآن، أو يقال: تخالف ظاهره، كالسنة في تقدير نصاب السرقة، ورجم الزاني، وغير ذلك.
السنة -كما هو معلوم- لها أحوال مع القرآن، فتارة تكون مقررة لما جاء به، أو شارحة، أو تأتي بأحكام زائدة، كما نهى رسول الله ﷺ عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير[4]، وحرّم رسول الله ﷺ لحوم الحمر الأهلية [5]، فهذه ليست في القرآن، والذي جاء في القرآن: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [سورة الأنعام:145] فذكر هذه الأشياء على صيغة الحصر، فهذه أمور زائدة، وهكذا رجم الزاني، كان ذلك في القرآن، لكنها آية منسوخة.
يعني: هؤلاء الذين يردون هذه السنن يردونها تارة لأنهم يكذبون النقلة، كالخوارج والروافض مثلاً، فالخوارج يكفرون أصحاب النبي ﷺ، ومن ثم فلا يقبلون عنهم السنن، والرافضة أيضاً، فإنهم يكفرونهم، ولم يبقوا على الدين والإيمان إلا نفراً قليلاً من أصحاب النبي ﷺ، فهؤلاء يردون هذه المرويات بتكذيب النقلة، ومنهم من يرد ذلك تارة لهذا، وتارة لجانب العقل، كالمعتزلة تارة يردون باعتبار الحكم بالفسق على بعض النقلة، كما جاء عن عمرو بن عبيد أنه قال: "لو شهد على وطلحة أو علي والزبير، ورجل من أصحاب على ورجل من أصحاب الجمل عندي على باقة بقل لم أحكم بشهادتهما"[6]؛ لأنهم يفسقونهم، والفاسق عندهم في منزلة بين المنزلتين، فهو ليس بمؤمن ولا كافر، لكنه مخلد في النار.
والمعتزلة فيما لا يتهمون فيه النقلة، فإنهم يلجؤون إلى العقل، فيقولون: هذا مخالف للعقل، فالعقل هو المعوَّل، والنقل تابع له، فيردون هذا.
وهكذا من تأثر بهم وتابعهم ووافقهم على ذلك، كطوائف من المتكلمين، كالأشعرية، على تفاوت فيما بينهم، فهم مدارس، لكن من أوغلهم -أعني الأشعرية- في التجهم: الرازي، وهو الذي ذكر القوادح العشرة في النصوص، سواء كان ذلك في النصوص المتواترة، كالقرآن، والسنن المتواترة، أو كان ذلك في الآحاد.
أما الآحاد فإنهم يردونها باعتبار أن العقائد لا تثبت إلا بالقطعيات، والآحاد عندهم ظني مطلقاً، وأما القطعيات كالقرآن والسنة المتواترة، فإن ذلك يردونه من جهة أن اللفظ غير قطعي الدلالة؛ لأنه يحتمل، والله المستعان.
فما ترك الشيطان أحداً من هؤلاء، وأداروا ظهرهم للنصوص، وردوها واجترؤوا على الله جرأة عظيمة، وصاروا يتبعون أهواءهم التي سموها بالمعقولات.
"السنن المتواترة عن رسول الله ﷺ ومتلقاه بالقبول بين أهل العلم بها، أو براية الثقات لها" يبدو العبارة فيها شيء من التجوز، حينما سماها متواترة، لكنه يقصد بهذا النوع السنن غير المتواترة بنوعيها:
النوع الأول: ما احتف بالقرائن، كالمخرج في الصحيحين، ونحو ذلك.
أو ما لم يحتف بالقرائن: ما جاء بنقل العدل الضابط، عن مثله إلى منتهاه، من غير شذوذ ولا علة.
فيقول: مثل هذه اتفق أهل العلم على اتباعها من أهل الحديث والفقه والتصوف، يعني: سواء كان ذلك في الأمور العلمية، أو كان ذلك في الأمور العملية، يعني: في العقائد والعبادات، فهذا لا إشكال فيه عندهم، إلا أن طوائف من أهل الكلام ينكرون ذلك، باعتبار أنه ظني، وأن العقائد لا تُبنى إلا على القطعي.
أصل الإجماع صحيح وثابت، ومقبول عند أهل العلم المعتبرين، والواقع أن الإجماع ليس بدليل مستقل، وإنما يرجع إلى الكتاب والسنة؛ إذ إن الإجماع له مستند وإن خفي، يقول شيخ الإسلام: بأن الإجماع المعتبر الذي يمكن معرفته هو إجماع الصحابة ، وأما بعد ذلك فقد تفرق الناس، فلا يمكن معرفة الإجماع بعد ذلك، وهذه مسألة فيها خلاف معروف.
الكلام في القياس معروف، وأهل الظاهر هم الذين اشتهروا بإنكاره، وهو على أنواع، ومنه ما لا مجال أصلاً لإنكاره، مثل قياس الأَولَى، وبعض من أنكر القياس يثبته، لكن لا يسميه قياساً، وهو يرجع إلى ما سبق؛ لأنه إلحاق بالمنصوص.
يقول: أو استعمل منه القياس الفاسد، والقياس الفاسد مثل: القياس الذي يسمونه قياس الشبه، كإلحاق الخيل بالحمير في مسألة الزكاة مثلاً، باعتبار الشبه الظاهر، وهكذا في تحريم الأكل مثلاً عند من قال به، إلحاقاً لها بالحمير، قياساً عليها بالشكل الظاهر، الذي يسمونه غلبة الأشباه، فهذه من الأقيسة الفاسدة.
الاستصحاب أن تستصحب ما سبق، وهو: أن الأصل في الأشياء الإباحة، هذا الأمر لم يرد فيه في الكتاب ولا في السنة ما يدل على التحريم أو الإباحة الشرعية؛ لأن عندنا الإباحة على نوعين: إباحة شرعية، كما لو نص الشارع على إباحته، أو أقر على ذلك، مثل: أكل الضب، إباحته شرعية.
وهناك شيء اسمه الإباحة الأصلية، يعني: تستصحب الحكم أو الأصل أن هذا الأمر لم يرد عن الشارع فيه تحريم والأصل في الأشياء الإباحة، هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [سورة البقرة:29] والأصل في المطعومات الحل، والأصل في الملبوسات الحل، والأصل في المعاملات الحل، لكن الأصل في العبادات المنع، والأصل في الذبائح المنع، عند طائفة من أهل العلم، والأصل في النكاح المنع عند طائفة من أهل العلم، فنستصحب الأصل سواءً كان بالإباحة أو كان بغيرها.
ففي العبادات لو جاء إنسان يخترع عبادة جديدة نستصحب الأصل، وهو المنع، فنقول: عليك أن تأتي بدليل يدل على صحة هذه العبادة، وعلى مشروعيتها.
وكذا في قضايا المعاملات المستجدة في العصر الحديث، إلخ، نقول: هذه معاملات مباحة لا إشكال فيها، إلا إذا وجد دليل يدل على منع، أو قام بها ما يوجب المنع، كالجهالة، والغرر، ونحو ذلك، فنستصحب الحكم.
يقول: هو البقاء على الأصل، ما هو الأصل؟ يكون أحياناً المنع، وأحياناً الإباحة، وهو حجة على عدم الاعتقاد، يعني: لم يرد فيها شيء، وهل هو حجة في اعتقاد العدم؟ يعني: قد يكون ورد فيها شيء، لكن لم يبلغنا، وفرق بين عدم الاعتقاد، وبين اعتقاد العدم، فإن عدم النقل لا يدل على انعدامه.
المصالح على ثلاثة أنواع من حيث القبول والرد، والمصالح المرسلة هي واسطتها.
فالأول: ما اعتبرها الشارع، ونص عليها، مثل الأشياء التي شرعها الله -عز وجل-، فالصلاة مصلحة، والزكاة مصلحة؛ لأن فيها نفع للفقير، وفيها تزكية للمال، فاعتبرها الشارع، وإن كان الإنسان يخرجها من ماله، ويظن المنافق أنها خسارة، وهكذا أيضاً الجهاد في سبيل الله، فهو مصلحة، مع ما فيه من إتلاف النفوس والأموال، لكنها مصلحة اعتبرها الشارع، إلى غير ذلك من المصالح الكثيرة.
الثاني: ما ألغاه الشارع، وإن توهم متوهم أنه مصلحة، أو فيه مصلحة، أو يتصل به مصلحة، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [سورة البقرة:219] لأن معنى المصالح هي المنافع، وتُفسّر باللذات، وما إلى ذلك، فهذه المنفعة الموجودة في الخمر والميسر أهدرها الشارع، ولم يعتبرها، إذن لا يلتفت إليها، والعبرة في هذا كله إنما هو الغالب، فما غلبت مصلحته على مفسدته فهو معتبر، وما غلبت مفسدته على مصلحته كانت مصلحته ملغاة، كما ذكر الشاطبي -رحمه الله- في الموافقات: من أنه لا يوجد في الدنيا مفسدة محضة من كل وجه، ولا يوجد في الدنيا مصلحة محضة من كل وجه[7]، وإنما مشوبة، والمصالح الخالصة في الجنة، والمفاسد الخالصة في النار -نسأل الله العافية-.
إذن هذان طرفان:
الأول: ما اعتبره الشارع.
والثاني: ما رده الشارع وألغاه.
بقي الواسطة، وهو ما لم يتطرق إليه الشراع بالاعتبار أو الإلغاء، فسكت عنه، فلم يشهد لاعتباره ولا لإلغائه بدليل خاص، هذه هي المصلحة التي يسمونها المرسلة، يعني: متروكة، فلا يتطرق إليها الشارع باعتبار ولا بإلغاء، مثل: بناء المدارس والمستشفيات، وطباعة الكتب، وبعض أهل العلم يقولون: وجمع القرآن في مصحف، فما كان في عهد النبي ﷺ، وبعضهم يقول: ليس هذا منه؛ لأن الله قال: ذَلِكَ الْكِتَابُ [سورة البقرة:2] سماه كتاباً باعتبار ما يؤول إليه، فدل عليه الدليل، ومن المسكوت عنها: وضع الدواوين للجند، كل هذا يعبر من المصالح المرسلة، فهي صحيحة ومعتبرة، ولا إشكال فيها.
يعني: ما ذكره هنا شيخ الإسلام وانتقده، المصالح هذه هي تنقسم إلى هذه الأقسام المعروفة، الضرورات الخمس، والحاجيات، والتحسينيات، ثلاثة أشياء، التي هي جماع الدين، فالدين كله يرجع إلى هذه الأمور الثلاثة، وهذه الضرورات الخمس مثلاً حفظها يكون من جانب الوجود، ومن جانب العدم، فدفع الضرر، وما يخل بها، ويؤثر عليها سلباً كل ذلك راعاه الشارع.
فما يذكره شيخ الإسلام -رحمه الله-: لكن بعض الناس يخص المصالح المرسلة بحفظ النفوس والأموال... إلخ، وليس كذلك، المصالح في الجلب المنافع، ودفع المضار، يقال: حينما يقول العلماء: بأن ذلك من قبيل حفظ المصالح، أو المعتبر حفظ المصالح، وما أشبه ذلك، يقصدون به الحفظ لها من جانبيه، جانب الوجود، وجانب العدم، جانب الوجود بإقامة أركانها، ودعائمها، وما يثبتها، ويقيمها، وجانب العدم: بدفع ما يخل بها، ويؤثر عليها، فكل الحدود ترجع لحفظ الضرورات الخمس، حد الردة، لحفظ الدين، وهذا حفظ له من جانب العدم، وشرع القصاص في النفس والأطراف والجراح لحفظ النفوس، وحفظ العقول بحد المسكر، وحفظ المال بقطع اليد في السرقة، وحفظ العرض برجم الزاني المحصن، وجلد غير المحصن، والجمع بينهما، على قول بعض أهل العلم، وكذلك جلد القاذف، هذا كله من قبيل حفظ الأعراض من جانب العدم، ومن جانب الوجود في كل واحدة، المال بتثميره والتجارة به، والعقل بالتفكير الصحيح السليم، والنسل والعرض، يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج[8]، تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم[9]، فكل هذا حفظها من جانب الوجود، فهذه المصالح هي تشمل الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات.
يقول هنا: وبعضهم يقرب إليها الاستحسان.
الاستحسان يختلف عن المصالح المرسلة، لكن عبارات العلماء متفاوتة فيه، لكن الصحيح من تعريفاتهم الذي يُقبل إن قُصد به هذا هو: ترجيح دليل على دليل، أو الأخذ بأرجح الدليلين، أو بأقوى الدليلين، الذين قالوا: نقول بالاستحسان، وقبلوه، يقصدون به هذا المعنى، وأما الذين أنكروه، وشنعوا عليه، فهم يقصدون به معنىً آخر، لا يمكن أن يُقبل، يقولون: ما ينقدح في نفس المجتهد، يعجز عن التعبير عنه، هذا كلام غير مقبول، وإن حاول بعضهم أن يبحث له عن تخريجات، لكنها لا تخلو من تكلف، هذا بالنسبة للاستحسان.
قال: وقريب منه ذوق الصوفية.
فالصوفية عندهم الذوق، ولو ترجعون لكتاب مدارج السالكين مثلاً تجدون من هذه المقامات: مقام الذوق، وتابع فيه -رحمه الله- صاحب المنازل (منازل السائرين).
فهم يقولون: عن هذا الذوق بأنه نور عرفاني، يقذفه الحق بتجليه في قلوب أوليائه، يفرقون به بين الحق والباطل، من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب أو غيره، فهذا النور ما له مستند عندهم، ولا يمكن أن يتحاكم معهم فيه إلى القواعد العلمية في النصوص في قبولها، وتصحيحها، وتضعيفها، وفي صحة الاستدلال إطلاقاً.
يقولون: هذا دل عليه الذوق، وهذه ليست من طرق الاستدلال والمعرفة والعلم المعروفة عند العلماء إطلاقاً، فهذا لا يقبل بحال من الأحوال.
وهكذا يعبرون عنه بعبارات مختلفة لربما تتفاوت في ألفاظها، وهم أهل تخليط أصلاً؛ ولذلك إذا أردنا أن فسر الباطل فنعجز أحياناً عن بيانه؛ ولذلك لو ذكرت لكم جملة من عباراتهم في معنى الذوق سيشكل عليكم؛ لأنه باطل أصلاً، لا أستطيع أن أشرح هذه الخزعبلات التي يذكرونها، فحينما يقولون مثلاً: تلقي الأرواح الطاهرة لأسرار الكرامات والمعجزات وخوارق العادات، فما معنى: تلقي الأرواح الطاهرة لأسرار الكرامات والمعجزات؟! وما هذه الأسرار؟! وهكذا لهم تعريفات كثيرة للذوق.
وهكذا الوجد والمواجيد عند هؤلاء المتصوفة، فالمواجيد يقولون هي: ما صادف القلب من غم، وما يجده في نفسه وقلبه من الغم والحزن، من مشاهدة أحوال الآخرة، أو نحو ذلك، فيكون في حال من الخوف أو الحزن أو الإشفاق، فهذا عندهم يسمى وجد، وذكره في المنازل، وتابعه عليه ابن القيم في المدارج، وسماه: مقام الوجد، وعرفنا الفرق بين المقامات والمنازل، هذه الأشياء يسمونها مقامات، وابن القيم يفسره بتفسير أخف من كلامهم، يعني: هو يقول: بأنه ما يصادف القلب، ويرد عليه من واردات المحبة والشوق والإجلال والتعظيم[10]، وتوابع ذلك.
اتضح هذا مما سبق، وأن المصالح تشمل هذا وهذا، لكن فيما كان له مستند معتبر، فلا يكون مقصوراً ذلك مثلاً على جانب الحفظ من جهة العدم (العقوبات) ولا من جانب الوجود.
يعني: هذه المعتبرة.
وعرفنا من هم أهل الإرادة وأهل العلم.
وكذلك المفاسد، فالمفاسد إما أن تكون خالصة، وإما أن تكون غالبة، وقلنا: في الدنيا هي غالبة؛ لذلك هذه المنافع التي قد يتوهمها بعضهم، فإن الشارع حينما لم يعتبرها دل على أنها مرجوحة، فمثلاً بيع العنب وزرعته، كما يقول صاحب المراقي:
وَانْظُرْ تَدَلِّيَ دَوَالِي الْعِنَبِ | في كُلِّ مَشْرِقٍ وَكُلِّ مَغْرِبِ[11]. |
فهذا العنب يمكن أن يعصر منه الناس خمراً، وهذه مفسدة، لكنها مفسدة قليلة بالنسبة للمصالح الغالبة في العنب، فلم يعتبر ذلك الشارع، فيحرم العنب، وهكذا في أمثلة كثيرة.
وكما يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-: "واجتماع الرجال والنساء في البلد الواحد قد يكون سبباً لحصول الزنا إلا أن التعاون بين المجتمع من ذكور وإناث مصلحة أرجح من تلك المفسدة؛ ولذا لم يقل أحد من العلماء إنه يجب عزل النساء في محل مستقل عن الرجال، وأن يجعل عليهن حصن قوي، لا يمكن الوصول إليهن معه، وتجعل المفاتيح بيد أمين"[12] فهذه مفسدة ملغاة.
يعني: هذا الإنسان الذي يقوم على الفقراء والمساكين، ونحو ذلك، يجد انشراحاً وسروراً ولذة وسعادة، لكنه قد يفعل ذلك لهذا المعنى فقط، فيصل الرحم لينسأ له في أثره، من أجل هذه المطالب فقط، فمثل هذا لا ينفعه في الآخرة، وهناك ما لو داخله قليل من التشريك لبطل العمل، ولم ينفع في الآخرة، مثل الرياء والسمعة، فهذا الإنسان قد يقاتل الأعداء ويجاهد، ويجد لذة في ذلك، في إغاثة هؤلاء ونجدتهم، وقتل الأعداء، ويحصل له تشفي، ولكنه لا يريد بذلك وجه الله، فلا ينفعه في الآخرة، وقل مثل ذلك في أعمال قد يزاولها من ألوان الإحسان والنفع المتعدي، فيحصل له لذات في الدنيا، لكنه لا يحصل له أجر في الآخرة، والعلم الشرعي، فهو من أجل العبادات، لكن إذا كان يريد به الرئاسات أو الدنيا والمال، أو يريد به الرياء والسمعة، فمثل هذا لا ينفعه في الآخرة، يكون أول من تسعر به النار يوم القيامة، لكنه يجد لذة بالاشتغال بالعلم، فإن من ارتاضت نفسه بهذا الاشتغال يجد لذة لا تقادر، يجد انشراحاً، وسروراً، وسعادة، وغبطة، لا يعرفها من لم ترتض نفسه على ذلك، فهذا يحصل في الدنيا كما يحصل للكفار من ألوان المتع، مما يجازيهم الله به على أعمال قاموا بها، ولكن لما انخرم الأيمان لم تنفعهم في الآخرة.
والتشريك في النيات، قلنا: إنه على مراتب:
المرتبة الأولى: أعلاه وهو أن لا يريد إلا وجه الله.
المرتبة الثانية التي تليها: يصح معه العمل، لكنه أنقص، أن يلتفت إلى أمر يجوز الالتفات إليه، فيحج ليريد وجه الله، ويريد التجارة، ويجاهد يريد وجه الله، ويريد الغنيمة، فيصح العمل، لكنه دون الأول.
الثالث: أن يكون هذا العمل متمحضاً للدنيا، فهذا في العمل المعين لا ينفع صاحبه عند الله، يعني يصوم ليصح فقط، ويصل الرحم من أجل أن ينسأ له في أثره فقط، ويزكي المال من أجل أن ينمو هذا المال فقط، أمر دنيوي محض، ما هو رياء ولا سمعة، فإن كانت جميع أعماله هكذا، فهو داخل في قوله تعالى في آية هود: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة هود:15-16].
المرتبة الرابعة: وهو أن يدخله الرياء والسمعة، فهذا يبطل، وذكرتُ تفصيلاً فيه في دخوله في أوله، أو طروه عليه أثناء العمل، فإن دفعه، فإنه يصح على الراجح، وإن استرسل معه بطل.
المرتبة الخامسة: أن يتمحض عمله للرياء أو السمعة، فهذا أسوأ الأعمال، وقد حمل أبو هريرة [13] ومعاوية[14] آية هود هذه على أهل الرياء، لكن ينبغي أن يقال ذلك فيمن كانت جميع أعماله رياء، أو دخل في أصل الإيمان.
الشريعة كلها مصالح، والله حينما يأمر عباده إنما يأمرهم بما ينفعهم ويصلحهم؛ ولذلك ينبغي على العبد أن يضع هذا نصب عينيه، فإذا جاء أمر الله، أو أمر رسوله ﷺ فلا يحتاج أن يعرض ذلك على عقله هل هو مصلحة أو مفسدة؟ وهذا يعد من الأمور التي تحفز المكلَّف على الامتثال، والمسارعة فيه، والله غني عن عباده، فهذه الشريعة كلها مصالح، فإذا سار الناس على الصراط المستقيم، الذي تفاصيله هذه الشريعة بكاملها، استقامت جميع أحوالهم، واستقرت نفوسهم، وصلحت أمورهم، وكانوا على الحال المرضية، وإذا تركوا ذلك وقع الخلل في حياتهم الاجتماعية، والنفسية، والأسرية، وما إلى ذلك، ويحصل لهم من الآلام، والتعب، والعناء، والضرر أشياء كثيرة، كما هو معلوم.
هذا المعنى تكلمنا عليه كثيراً في مناسبات شتى، لا يحتاج إلى إضافة.
يعني الكمال الذي فيه نقص، الكمال النسبي، مثل: الزوجة كمال بالنسبة للإنسان، لكن لا تصح للخالق؛ لأنها في الواقع ليست بكمال مطلق، فالولد كمال بالنسبة للمخلوق، وبالنسبة للخالق ليس كذلك؛ لأنه كمال نسبي.
هذا واضح أيضاً، ومضى الكلام عليه مراراً.
قال -رحمه الله-: ودلالة القرآن على الأمور نوعان:
أحدهما: خبر الله الصادق، فما أخبر الله ورسوله ﷺ به فهو حق كما أخبر الله به، والثاني: دلالة القرآن بضرب الأمثال، وبيان الأدلة العقلية الدالة على المطلوب، فهذه دلالة شرعية عقلية، فهي شرعية؛ لأن الشرع دل عليها، وأرشد إليها، وعقلية لأنها تُعلم صحتها بالعقل.
يعني: هذه التي يُعبر عنها الشاطبي -رحمه الله- في الموافقات بقوله: الأدلة على نوعين:
النوع الأول: يحتج به على الموالف، يعني: الموافق، فتقول مثلاً: قال الله : وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [سورة البقرة:43] هذا للموافق، الذي يُؤمن أن هذا كلام الله، وأن هذا قرآن، وأنه حق... إلخ.
والنوع الثاني: ما يُحتج به على الموالف والمخالف[15]، وهي الأدلة العقلية التي وردت في القرآن، مثل: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [سورة الأنبياء:22]، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ [سورة المؤمنون:91]، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [سورة فصلت:44]، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [سورة النحل:103] فكيف يتلقاه من أعجمي وهو بهذا اللسان العربي المبين؟ فهذا ممتنع، فهذه أدلة عقلية يحتج بها على الموافق، الذي يؤمن بالقرآن، ويحتج بها على المخالف، الذب هو من ديانة أخرى، الملحد، أو اليهودي، أو النصراني، أو البوذي... إلخ، يُحتج بهذه الأدلة العقلية، يقول: هذه عقلية شرعية، طبعاً هنا تجوز في العبارة، وإلا فشيخ الإسلام يقول: إن الأدلة الصحيحة العقلية هي أدلة شرعية[16]؛ لأن الدليل الشرعي إما نقلي، وإما عقلي.
يعني: يُعرف بالعقل أن هذا الكمال الموجود في الخلق مما نشاهده ونراه، الذي وهبه هو الله -تبارك وتعالى-، فهو أحق وأولى به، فكل كمال اتصف به المخلوق فالخالق أولى به، لكن كما ذكرتُ في بعض المناسبات أن أهل السنة حينما يحتجون بهذا المثل الأعلى، الذي يسمونه أحياناً قياس الأولى، لا يثبتون به استقلال شيئاً من أوصاف الله -تبارك وتعالى-، فإن ذلك مبناه على السمع، لكنهم من باب المعارضة والاحتجاج يقولون في هذا الباب: إن كل كمال مطلق ثبت للمخلوق فالخالق أولى به، لكن هل في شيء أثبتوه استقلالاً بهذا؟ الجواب: لا، فهذا أحد الطرق العقلية، وكذلك هذه المخلوقات المعبودة من دون الله -عز وجل- بما فيها من النقص والعجز، لا تصلح للعبادة، فالله منزه عن هذا كله، إلى غير ذلك من الطرق العقلية.
وهذا أيضاً مضى الكلام عليه وهو أن الحكم إن ظهرت ازداد اليقين، وإن خفيت فإن معرفة ذلك لا يتوقف عليه التسليم والامتثال، وأن على المؤمن أن يعلم أن الله حكيم، وأنه شرَّع لحكمة، وأن أفعاله مبنية على الحكمة، فيرجع إلى ذلك إجمالاً، فإنه إن عرف الحكمة ازداد يقينه، وإن لم يعرف رجع إلى الأصل، وهو أن الله عليم حكيم.
يعني: له أن يكثر الخير، ويقلل الشر قد الإمكان، وأما مسألة الهجر فهي دواء، إن كان ذلك ينفع المهجور، بحيث يرتدع وينزجر هُجر، وإلا فإذا كان لا ينفعه، بل يزيده غياً، أو يصير الهاجر مهجوراً لكثرة أهل البدع في تلك الناحية، فإنه لا يهجر؛ ولهذا فرّق أهل العلم بين البلاد، كالبصرة التي يكثر فيها القَدَر آنذاك، والكوفة التي كان يكثر فيها التشيع آنذاك، في مسائل الهجر، لكنه قد يهجر لمصلحته هو -مصلحة الهاجر-، فإذا كان لا يسلم من أذى المهجور -أياً كان نوع هذا الأذى- إلا بهجره، فإنه يهجره طلباً للسلامة.
قال -رحمه الله-: وأما إذا وُلي غيره بغير إذنه، وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذه الجمعة والجماعة جهلاً وضلالاً، وكان قد ردّ بدعة ببدعة، والصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع، ولم يأمر الله تعالى قط أحداً إذا صلى كما أُمر بحسب استطاعته أن يُعيد الصلاة.
وقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [سورة النساء:29] من أكل أموال الناس بالباطل أخذ أحد العوضين بدون تسليم العوض الآخر؛ لأن المقصود بالعهود والعقود المالية هو التقابض.
المقصود بالعهود والعقود المالية هو التقابض، وهو بين طرفين، معاطاة ومعاوضة أياً كانت، سواءً كانت بيع أو شراء، أو كانت عقد نكاح، أو شركة، أو نحو هذا، فهذه العقود فيها معاوضات، فإذا باعه سلعة وأعطاه الثمن، ولم يسلم له ذلك المبيع، فهذا من أكل أموال الناس بالباطل، أو العكس.
يعني: إن باعه سلعة وقبل أن يمكنه من قبضها تلفت هذه السلعة، ففي هذه الحال إن كان دفع له الثمن، أو دفع بعضه، أو لم يدفع له الثمن، فإن البائع لا يستحق من ذلك شيئاً، وهكذا في الإجارة: لو أن هذه العين المؤجرة أصابها التلف، أو وُضعت يد عليها، أو نحو ذلك، فهذا لا يستحق معه الأجرة، فإن كان أخذ منه شيئاً أعاده إليه، إن كان ذلك قبل أن يمكِّنه منه.
يقول: إذا تلف المعقود عليه قبل التمكن من القبض تلفاً لا ضمان فيه، والتلف الذي لا ضمان فيه: مثل التلف بآفة سماوية، فهذا تلف لا ضمان فيه، كأن يكون اشترى منه السلعة فجاءت آفة سماوية وأتلفتها، أو اشترى منه ثمراً على النخل، ثم جاءت آفة سماوية فأتلفتها، فهذا لا ضمان فيه، فالعقد في هذه الحال يبطل، ويرجع المشتري بالثمن إذا كان قد دفعه للبائع، لا ضمان فيه، انفسخ العقد.
كيف يكون فيه ضمان؟ مثل ما إذا كان التلف على يد آدمي، فيكون فيه الخيار للمشتري، يعني: إما أن يقول: بأنه يريد الثمن، ولا يريد شيئاً بعد ذلك، أي: رجع عن هذا البيع، فقال: أعطني مالي الذي أعطيتك إياه، وإذا كان لم يعطه، قال: لا أريد شيئاً، ولن أعطيك شيئاً، ويمكن أن يرجع على المتلف؛ فهذا الذي أتلف، أو أحرق السيارة، يضمن، فيمكن أن يقول المشتري: أنا سأطالب المتلف الذي تسبب في ذلك، فيطالبه به إذا قبل، وإذا لم يقبل فإن البائع يعطيه الثمن، والبائع يطالب من؟ يطالب المتلِف؛ لأن هذه فيه ضمان، هذا إذا كان قبل التمكن من القبض، فالمشتري في هذه الحال إذا فيه جهة تضمن غير الآفة السماوية، أتلفه إنسان، وعُرف هذا الإنسان، فعندئذٍ يضمن، فيكون المشتري مخيراً، يمكنه مطالبة المتلِف، لكن لو كان المتلِف هو المشتري، فهذا كقبضه، ما يستحق الثمن، ويستقر به العوض، لكن لو كان المتلِف هو البائع، فبعضهم يقول: ينفسخ العقد تماماً كالآفة السماوية، وبعضهم يقول أيضاً: أنه كالأجنبي، يعني: يكون له الخيار.
من غير إياس، مثل: لو أنه غصبه غاصب، وضع ظالم على هذا العقار، أو على هذه السيارة، أو سلعة، فهذا يكون فيه أمل للاسترداد.
ووضع الجوائح معروف، إذا اشترى الثمر، فجاءت الجائحة وأتلفته، وقد دفع الثمن، فما الحكم في مثل هذه الحال؟ يرجع إلى البائع فيرد عليه الثمن، كما جاء عن النبي ﷺ: أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟[18]، أي: بماذا يأخذه بغير حق؟
قد يتعاقدون، ويعطيه الثمن، ويقول له: هذه السيارة أشتريها منك، لكن: سأسلمها لك بعد ما أنهي الأوراق الفلانية، سأستعملها أسبوعاً، سأشحنها لك، ولن تصل إليك، إلا بعد شهر.
قال -رحمه الله-: ولهذا يجوز استثناء بعض منفعة المبيع مدة معلومة، وإن تأخر بها القبض على الصحيح، وسر ذلك أن القبض هو موجب العقد، فيجب في ذلك ما أوجبه العاقدان بحسب قصدهما الذي يظهر بلفظهما وعرفهما.
والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها قلوبهم واحدة، موالية لله ولرسوله ولعباده المؤمنين، معادية لأعداء الله ورسوله، وأعداء الدين، فما دام هذا وصفهم، فقلوبهم الصادقة، وأدعيتهم الخالصة هي العسكر الذي لا يغلب، والجند الذي لا يخذل.
انتبهوا لهذا، وواقع المسلمين اليوم أهل السنة في بلاد الشام وغيرها، قلوبهم واحدة، موالية لله ورسوله، ولعباده المؤمنين، ومعادية لأعداء الله ورسوله، وأعداء الدين، فما دام هذا وصفهم، فقلوبهم الصادقة، وأدعيتهم الخالصة هي العسكر الذي لا يغلب، لكن إذا لم يكانوا كذلك؟!
مثل الأمراء الذين كانوا في بلاد الشام، حينما جاء صلاح الدين -رحمه الله-، وتعرفون ما وقع في هذا، وكذلك في زمن العادل، وهو أخو صلاح الدين، وملوك الطوائف في بلاد الأندلس، وكيف صار شأنهم إلى الذل والمهانة والصغار.
وسبق الكلام في أولي العزم، هل هم الخمسة أو أكثر، أو كل الرسل -عليهم الصلاة والسلام-؟ والأنبياء من أولي العزم، فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [سورة الأحقاف:35] هل كل الرسل؟ وهل (من) هذه بيانية أو تبعيضية؟ فهذه الآية لم يرد فيها تحديد لهم.
وفي قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [سورة الأحزاب:7] فهذا في أخذ الميثاق، ولم يذكر في سياق أولي العزم، فلهذا بعض أهل العلم يقول: كل الرسل هم أولو العزم، ولا ارتباط بين الآيتين بتحديد هؤلاء الخمسة، لكن لا شك أن هؤلاء الخمسة من خيارهم وكبارهم، وهذا له وجه ظاهر، والله أعلم.
قال -رحمه الله-: وأفضل أولو العزم محمد ﷺ خاتم النبيين، وإمام المتقين، وسيد ولد آدم، وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا، وخطيبهم إذا وفدوا، صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب لواء الحمد، والحوض المورود، وشفيع الخلائق يوم القيامة، وصاحب الوسيلة والفضيلة، الذي بعثه الله بأفضل كتبه، وشرع له أفضل شرائع دينه، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، وجمع له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرقه في من قبلهم، وهم آخر الأمم خلقاً، وأولهم بعثاً، ومن حين بعثه الله جعله الفارق بين أوليائه، وبين أعدائه، فلا يكون ولياً لله إلا من آمن به، وبما جاء به، واتبعه ظاهراً وباطناً، ومن ادعى محبة الله وولايته، وهو لم يتبعه، فليس من أوليائه، بل من خالفه كان من أعدائه، وأولياء الشيطان.
اسم اليمين جامع للعقد الذي بين العبد وبين ربه، وإن كان نذراً، وللعهد الذي بينه وبين المخلوقين.
اليمين أصلها أن كل واحد من المتعاهدين أو المتعاقدين يعطي يمينه لصاحبه، توثيقاً للقول بالفعل، فقيل لها: يمين، ثم صار ذلك يقال للمقاولة بينهما، وإن لم يكن معه هذا الفعل، الذي هو الأخذ بيمين صاحبه.
يقول: جامع للعقد الذي بين العبد وبين ربه، مثل الحلف والنذر، فهذا كله يقال له يمين، وللعهد الذي بينه وبين المخلوقين، وإن لم يكن فيها حلف، كما قال الله : وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ [سورة التوبة:12] يقول: النبيﷺ لم يستحلفهم، وإنما كان بينه وبينهم عهد، فهذا العهد يقال له: يمين، وشيخ الإسلام يذكر هذا الكلام في كتاب الصارم المسلول في سياق بيان انتقاض عقد الذمي إذا لم يفِ للمسلمين بما شرطوه عليه[19].
هذه عبارة معروفة، وقد ذكرتُ في بعض المناسبات: أن العبارة الأدق أن يقال: العبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب، وقلتُ: بأن العموم يُؤخذ من جهة الألفاظ، ومن جهة المعنى، فمن جهة اللفظ: كصيغ العموم مثل: (كل)، و(جميع)، ودخول (أل) المعرفة، والمفرد المضاف، والجمع المضاف، والاسم الموصول، والنكرة في سياق النهي، والشرط، والاستفهام، وما إلى ذلك، فكل هذا للعموم، والذين يُعرفون العموم يقولون: اللفظ المستغرق ما يصلح له دفعة، من غير حصر، فيعبرون باللفظ، باعتبار أنهم يعتقدون أن العموم من قبيل العوارض اللفظية، والأقرب أن يقال: هو يرجع إلى الألفاظ، ويرجع إلى المعاني؛ ولهذا يقال في تعريف العام:
ما استغرق الصالح دفعة بلا | حصر من اللفظ كعشر مثلا[20]. |
ما استغرق فيشمل الألفاظ والمعاني، وذكرتُ في بعض المناسبات بعض الصور التي يُؤخذ منها العموم من جهة المعنى، مثل صيغ أسباب النزول الخاصة، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [سورة التحريم:1] فهنا لا يوجد عموم يؤخذ من اللفظ، بل هذا اللفظ خاص بالنبي ﷺ، لكن عرفنا العموم من جهة المعنى؛ لأن مخاطبة النبي ﷺ خطاب لأمته، كذلك النبي ﷺ لما يخاطب واحد كالرجل الذي ظاهر من امرأته، فقال له: أعتق رقبة[21]، خاطب واحد، لكن هذا محمول على العموم؛ لأن إجابته لواحد تشمل سائر الأمة، وكذلك العلة في القياس:
قد تخصص وقد تعمم | لأصلها لكنها لا تخرم[22]. |
فيُؤخذ العموم من جهة العلة، وكذلك أيضاً يعرف من مفهوم المخالفة، فحينما تقول: صاحب الأخيار، فمفهوم المخالفة: لا تصاحب الأشرار مطلقاً، وهكذا.
واضح هذا الكلام.
قال -رحمه الله-: حق الله وحق رسوله متلازمان، وجهة حرمة الله ورسوله جهة واحدة، فمن آذى الرسول فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله.
الأعمال إنما يحبطها ما ينافيها.
الذي ينافي الأعمال منافاة مطلقة هو الإشراك بالله ، لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [سورة الزمر:65] فالعمل هنا مضاف إلى كاف الخطاب، وهو معرفة، فهو للعموم، أي: كل العمل، والله يقول: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [سورة التوبة:54] فدل على أن الكفر هو سبب لرد الأعمال، وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [سورة الفرقان:23] فلا يحبط الأعمال حبوطاً مطلقاً إلا الكفر، فهو الذي ينافي ذلك منافاة مطلقة، مع أن الأعمال المعينة قد يقترن بها ما يبطلها، كالرياء والسمعة إذا قارن عمل معين، لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [سورة البقرة:264] فهذا يبطله، وهكذا.
والله لما ذكر الأكل من البيوت، ونحو ذلك، قال: أَوْ صَدِيقِكُمْ [سورة النور:61] فلك أن تأكل من بيته من غير استئذان إذا علمت أنه تطيب نفسه بذلك، وما يُؤكل في بيته هو من قبيل الأخذ من ماله في الواقع، وشيخ الإسلام يذكر هذا في سياق الكلام على ما يأخذه الرسول ﷺ من الأموال التي تأتي إليه، سواء كانت من الغنائم، أو الفيء، أو كان ذلك من الأموال الأخرى التي تجبى إليه من البلاد، سواءً كان خراجاً، أو غير ذلك، كالمال الذي جاءه من البحرين، ووعد النبي ﷺ جابر بن عبد الله أن يعطيه منه، فيقول: هذا المال الذي أخذ هو حق لجميع المسلمين فكيف أخذ منه النبي ﷺ؟ قال: لعمله أنهم يرضون، فلا إشكال في ذلك[23].
هي كلمة واحدة، ولكنها إذا صدرت من محب كانت مقبولة مبررة، بل قد تعظم منزلته بذلك، فعمر لما سمع عن النبي ﷺ خبر الفتان في القبر، قال: "و الله لئن سألاني سألتهما، فأقول لهما: أنا ربي الله، فمن ربكما أنتما؟[24]، فقالها عمر ليقينه، فنذكرها في مناقب عمر ، لكن لو قالها واحد يضحك، فهذه قد تذهب بدنياه وآخرته -نسأل الله العافية-.
وهكذا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [سورة النساء:59] فالنبي ﷺ في مرض موته -كما هو معلوم- لما تقدم أبو بكر وصلى بالناس، فخرج النبي ﷺ فأراد أبو بكر أن يتراجع، فأشار إليه النبي ﷺ، وأمره أن يبقى، فتراجع أبو بكر معللاً ذلك بأنه ما ينبغي له أن يتقدم بين يدي رسول الله ﷺ[25]، فهو الآن قد خالف أمر النبي ﷺ، لكن مخالفة محب معظم له، بخلاف من استخف بأمره ﷺ.
وهكذا الرجل الذي كان يرفع صوته بحضرة رسول الله ﷺ، وهو ثابت بن قيس وانحبس في بيته، وجعل يبكي، وخشي أن يحبط عمله، فقال له النبي ﷺ: بل هو من أهل الجنة[26]، مع أنه كان يرفع صوته، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [سورة الحجرات:2].
وهكذا الأنصار يوم حنين، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فجمعهم النبي ﷺ، فقال: أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟[27] فهذه الكلمة التي قالوها، صدرت من محب معظم، شحوا برسول الله ﷺ أن يتركهم، ويبقى في مكة، فهذا فقد لا يعوض بشيء، فمثل هذه الكلمة عذرهم فيها النبي ﷺ، وهذا أمثلته كثيرة جداً.
ومن ذلك الكلمة التي يقولها الإنسان على سبيل الخطأ، كالرجل الذي قال: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك[28]، وهكذا في أمثلة كثيرة.
قال -رحمه الله-: الحكم المعلق بشرط لا يثبت بعينه عند عدمه باتفاق العقلاء.
الحكم المعلق بشرط، هو ذكر هذا في سياق أهل الذمة، وأنهم إذا لم يفوا بالشرط الذي شارطهم عليه المسلمون يكون عهدهم قد انتقض.
هذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم.
لكن الذين يقولون: كل آية فيها صفح، وعفو، وإعراض، وتجاوز فهي منسوخة بآية السيف، الآية الخامسة من سورة براءة، فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ الآية [سورة التوبة: 5] قالوا: نسخت مائة وأربع وعشرين آية، هذا غير صحيح.
والراجح -كما قال شيخ الإسلام-: أن ذلك يعمل به في أوقات الضعف، وفي أوقات القوة يعمل فيه بآية السيف هذه[29]، وبنحوها من الآيات الواردة في سورة براءة، كقوله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [سورة التوبة:29] وهكذا في قوله: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ [سورة التوبة:12].
يعني لا يستوي عرض النبي ﷺ وعرض غيره، فالذي يقول: إن من سب أحداً من المسلمين وجب جلده تعزيراً، ومن سب النبي ﷺ فكذلك فهذا من أفسد القياس، كما يقوله شيخ الإسلام في الصارم المسلول[30]؛ عرض النبي ﷺ ليس كعرض آحاد الناس، فإذا كان سب غيره يوجب الجلد، فسبه ﷺ يوجب القتل.
ولهذا لا يجوز للحاكم للقاضي أن يحكم بخلاف علمه، وذكرنا لذلك أمثلة من قبل، فهو يذكر هذا في سياق الذي يسب النبي ﷺ، لو أنه قبض عليه، وجاء وقال: أنا تائب، يقول: فعله هذا يدل على استخفاف في النبي ﷺ، وزوال حرمته من نفسه، وأن توبته المدعاة هذه لا أساس لها من الصحة، ولا حقيقة لها، فلا يُقبل ذلك منه إذا أظهر التوبة.
الحكم إذا لم يثبت بأصل ولا نظير، هذا ذكره أيضاً في الصارم المسلول في سياق الذمية التي سبت النبي ﷺ[31]، ثم أسلمت، في الكلام على الحيل؛ لأنها سبت فلما قبض عليها أسلمت، هل يسقط عنها القتل أو لا؟ باعتبار أنها سبت حينما كانت كافرة، فهي بسبها استوجبت القتل، فشيخ الإسلام يقول: إن إسلامها لا يرفع الحكم المتقدم، مما استوجبته من القتل، كما لو أنها زنت، وقبض عليها، فأسلمت يقام عليها الحد، وكذلك أيضاً لو أنها سرقت.
قال -رحمه الله-: قاعدة شريفة جامعة في وجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، ووجوب عبادة الله وحده لا شريك له، وطاعه وطاعة رسله على كل أحد في كل حال، بحسب الاستطاعة، وأن كل ما خالف ذلك فهو باطل، والتنبيه على إبطال الاعتقادات والعقود المخالفة لذلك، وبيان أن مراتب الخير والشر بحسب الدخول في ذلك، والخروج منه، فأفضلهم أكملهم قياماً بذلك، كالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وشرهم أبعدهم عنه، كالكفار المعطلين والمشركين، مثل فرعون وغيره من أصناف الكفار والمنافقين، وأفضل الخلق من حين بعث محمد ﷺ وأقومهم بذلك أتبعهم له، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وشر الخلق أعظمهم مخالفة لهؤلاء كالزنادقة الملحدين من القرامطة الباطنية العبيدية، وغيرهم، ثم فصَّل هذه الجملة الكبيرة برسالة مستقلة -رحمه الله- وقدَّس روحه.
القاعدة الأخيرة ما أدري أين مظانها؟ لأنني لم أراجع المصدر، لكن الكلام الذي قبله في الصارم المسلول[32].
القاعدة السابقة هل ذكر عندكم مصدر لها؟ أنا لم أعتني بمراجعتها؛ لأنها واضحة جداً، ما تحتاج إلى تعليق، ولا إلى إحالة.
المقصود: أن هذه الأصول والفوائد والضوابط -كما قلت من قبل-: بأنها لا تمثل إلا النزر اليسير، مما في كتب هذين الإمامين من الفوائد والقواعد والضوابط والنفائس والكنوز، ولكن مثل هذا يكون سبباً وسبيلاً للإقبال على هذه الكتب، والعناية بها، وتطلب ما فيها من المعاني، والفوائد، والعلوم، والقواعد.
بهذا نكون قد انتهينا الكتاب، والحمد لله.
ونسأل الله لنا ولكم القبول، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية - رشيد رضا (5/ 17).
- الفتوحات المكية (1 /365).
- إحياء علوم الدين (ص: 18).
- أخرجه مسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير برقم (3574).
- أخرجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الحمر الإنسية برقم (5101) ومسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية برقم (3582).
- الفرق بين الفرق (ص: 100).
- الموافقات (2/ 46).
- أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب قول النبي ﷺ من استطاع منكم الباءة فليتزوج لأنه أغض للبصر وأحصن للفرج وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح برقم (4677) ومسلم في النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم برقم (24869).
- أخرجه أبو داود في تَفْرِيعِ صَلاَةِ السَّفَرِ برقم (2050) وقال الألباني: "حسن صحيح".
- مدارج السالكين (3/ 68).
- متن مراقي السعود لمبتغي الرقي والصعود في أصول الفقه (ص: 45).
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/ 23).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (15/ 267).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (15/ 267).
- الموافقات (3/ 247).
- الصفدية (1/ 296).
- تفسير البغوي - إحياء التراث (5/ 330).
- أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، ثم أصابته عاهة فهو من البائع برقم (2198) ومسلم في المساقاة، باب وضع الحوائج برقم (1555).
- الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 17).
- نشر البنود على مراقي السعود (1/ 206).
- أخرجه البخاري في كتاب النفقات، باب نفقة المعسر على أهله برقم (5368).
- نشر البنود على مراقي السعود (2/ 148).
- الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 194).
- التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (1/ 152).
- أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما من يصلي بالناس وأن من صلى خلف إمام جالس لعجزه عن القيام لزمه القيام إذا قدر عليه ونسخ القعود خلف القاعد في حق من قدر على القيام برقم (635).
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله برقم (119).
- أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الطائف برقم (4330) ومسلم في الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام... برقم (1061).
- أخرجه مسلم في كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها برقم (2747).
- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ط دار العاصمة (1/ 233).
- الصارم المسلول على شاتم الرسول (3/ 130).
- الصارم المسلول على شاتم الرسول (3/ 130).
- الصارم المسلول على شاتم الرسول (3/ 130).