الجمعة 13 / جمادى الأولى / 1446 - 15 / نوفمبر 2024
(183) أذكار الصباح والمساء - قل العبد مائة مرة "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " قوله "سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته"
تاريخ النشر: ٢٥ / شعبان / ١٤٣٥
التحميل: 2727
مرات الإستماع: 2440

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

نواصل الحديث -أيّها الأحبّة- في هذه الليلة عن الأذكار التي تُقال في الصَّباح والمساء، ومن ذلك ما جاء عن أبي هريرة : أنَّ رسول الله ﷺ قال: مَن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، في يومٍ مئة مرة؛ كانت له عدل عشر رقاب، وكُتبت له مئة حسنة، ومُحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به، إلا أحدٌ عمل أكثر من ذلك. هذا الحديث أخرجه الشَّيخان: البخاري ومسلم[1].

هذا الحديث يُشبه الحديث الذي مضى الكلامُ عليه في الليلة الماضية، إلا أنَّ هذا جاء فيه أنَّه يقول ذلك: مئة مرة، فيكون الجزاء عشر رقاب، وهناك رقبة واحدة إذا قاله مرة واحدة، وتُكتب له مئة حسنة، وهناك عشر حسنات، ومُحِيت عنه مئة سيئة، وهناك عشر سيئات، وبقيَّته كما في الأول: وكانت له حرزًا من الشَّيطان يومه ذلك حتى يُمسي، وهنا قال: ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به، إلا أحدٌ عمل أكثر من ذلك.

فقوله: مَن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له تكلّمنا مرارًا عن كلمة التوحيد، وأنها بمعنى: لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، وأنَّ قوله: وحده هذا تأكيدٌ للشقِّ الآخر من هذه الكلمة: إلا الله، وأنَّ قوله: لا شريكَ له تأكيدٌ للشقِّ الأول من هذه الكلمة، وهو لا إله، جانب النَّفي فيها.

له الملك قلنا: الملك هو التَّصرف المطلق، فالملك كلّه لله -تبارك وتعالى.

وله الحمد والحمد هو الثَّناء بالجميل على الله -تبارك وتعالى-، و(أل) في الحمد للاستغراق، يعني: أنَّ جميع الحمد لله -تبارك وتعالى-، وأنَّ ذلك لا يكون إلا لمن كان كاملاً من كل وجهٍ.

وهو على كل شيءٍ قدير بالغ في القُدرة، لا يستعصي عليه شيءٌ، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

في يومٍ مئة مرة هنا لم يذكر الصَّباح ولا المساء، فظاهره أنَّه لو قال ذلك مُتفرِّقًا في أجزاء النَّهار فلا إشكالَ في ذلك، المهم أن يأتي به في يومٍ مئة مرة، لكن يُؤخَذ من قوله: وكانت له حرزًا من الشَّيطان يومه ذلك حتى يُمسي أنَّ المقصود النَّهار، يعني: أنَّه يقول ذلك في أي جزءٍ من أجزاء النَّهار، فيكون له حرزٌ من الشَّيطان منذ قاله إلى المساء: حتى يُمسي، وعرفنا أنَّ المساء يُقال لما يكون بعد الزَّوال، إذًا هذا يُقال في الصَّباح، هذا معناه، ومعناه: أنَّه إن قاله في المساء فإنَّ ذلك يكون له حرزًا من الشَّيطان حتى يُصبح، ففهم منه بعضُ أهل العلم بهذا الاعتبار أنَّ ذلك يُقال في الصَّباح والمساء، طيب، لماذا لم يذكر المساء؟

بعض أهل العلم يقولون: يمكن أن يكون ذلك باعتبار أنَّ الآفات التي تعتري الإنسان في خروجه ومجيئه وانتشاره وذهابه في النَّهار، والبيع والشِّراء، والمعاملات، والمخاصمات، والمخالطة بالناس؛ فيحتاج إلى أن يكون في حرزٍ من الشيطان، فذكره، وإلا فهو بحاجةٍ إلا أن يكون في حرزٍ أيضًا في المساء، لكنَّه ذكر يومه الذي يظهر أنَّ المقصود به الصباح؛ لأنَّه وقت انتشار الناس في معايشهم، وما إلى ذلك، فيبدر منهم ما يبدر، ويحصل منهم من التَّقصير وأخذ ما لا يحلّ، وإغراء الشَّيطان وتزيينه، وما إلى ذلك، فهنا ذكره بهذا الاعتبار، وإلا فالمساء كذلك، يعني: كأنَّه ذكر الأهم.

ويحتمل أن يكون ذلك باعتبار أنَّه ذكر أحد المتقابلين ليدلّ على الآخر، ذكر الصَّباح ليدلّ على المساء -والله أعلم-، وبهذا الاعتبار يمكن أن يُقال هذا في الصَّباح والمساء، فيكون له إذا قاله عدل عشر رقاب، وتكلّمنا في الليلة الماضية على ضبط هذه اللَّفظة بالكسر أو بالفتح، وهل ذلك بمعنًى واحدٍ، أو يختلف فيه المعنى؟

والمقصود بالرقبة يعني: العتق، وأصل الرَّقبة هي هذه التي في الإنسان من العنق، ولكن يُعبر بالرقبة عن المملوك الذي يُعتق باعتبار أنَّ هذا الجزء لا يمكن أن ينفك إلا بمُفارقة الروح الجسد، فلا يُعبّر بأصبع، أو بيدٍ، أو برجلٍ، أو بنحو ذلك، وإنما بجزءٍ لا يمكن أن يفصل عن الإنسان إلا بانفصال الحياة، وهذا من باب تسمية الشَّيء ببعضه.

فمعنى: له عدل عشر رقاب كأنَّه أعتق عشرًا من الرقاب، فيحصل له هذا الثواب.

وقلنا: إنَّ ذلك في الفضل والثَّواب، لا في الإجزاء، وعرفنا الفرقَ بينهما، فمَن كان عليه عتق رقبةٍ، فلا يمكن أن يقول هذا الذكر، ثم يقول: أنا قد أعتقتُ مئة رقبةٍ. يُقال له: هناك فرقٌ بين الإجزاء والثواب.

حتى يُمسي فإذا قاله في المساء كان له ذلك حرزًا من الشَّيطان حتى يُصبح.

ويحتمل أن يكون المقصودُ بـحتى يُمسي دخول الليل، فإذا قاله من الليل -يعني: بعد غروب الشمس- كان له حرزًا من الشَّيطان حتى يُصبح، فيكون التَّقابل بين الليل والنَّهار، فقد ذكر هنا اليوم، واليوم يبدأ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وليلته تسبقه، يُقال: يومٌ وليلةٌ، والعرب قد تُطلق الليلة وتقصد بها اليوم، كما هو معلومٌ، وهو يتبعها، وقد تُطلق اليوم وتقصد به مع ليلته، وقد تُطلق الليلة وتقصد الليلة فقط، وتُطلق اليوم وتقصد اليوم فقط، والسِّياق والقرائن والعُرف كلّ ذلك يُبيّن المراد.

وهنا أيضًا يحتمل أن يكون قوله: حتى يُمسي -لم يذكر المساء- أنَّ ذلك من قبيل الاختصار من الرَّاوي، لكنَّه خلاف الأصل، والأصل أنَّ الراوي جاء بالحديث على تمامه، أو تُرك لأنَّ ما ذُكِرَ يدلّ عليه، والله أعلم.

قال: ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به يعني: من العمل والحسنات والأجور، وعرفنا أنَّ من أهل العلم مَن يقول: إنَّ هذا يختصّ في باب الأذكار.

والحافظ ابن عبدالبرِّ -رحمه الله- يذكر أنَّ في هذا الحديث دليلاً على أنَّ الذكر أفضل الأعمال، يقول: "في هذا الحديث دليلٌ على أنَّ الذكر أفضل الأعمال، ألا ترى أنَّ هذا الكلام إذا قيل مئة مرة يعدل عشر رقاب، إلى ما ذُكِرَ فيه من الحسنات ومحو السَّيئات، وهذا أمرٌ كثيرٌ؟ فسبحان المتفضّل المنعِم! لا إله إلا هو العليم الخبير"[2]، بمعنى: أنَّه أعتق رقبةً، أو قال هذا الذكر، فهذا عن عشر رقابٍ في الفضل، يدلّ على أنَّ الذكرَ بهذه المنزلة.

هذا ما يتعلَّق بهذا الحديث.

الحديث الآخر: وهو حديث جُويرية -رضي الله عنها-: "أنَّ النبي ﷺ خرج من عندها بكرةً"[3]، وعرفنا أنَّ البكرة هي أول النَّهار، ويُقال ذلك لما قبل طلوع الشَّمس، يعني: وقت الفجر، ومن هنا حمله بعضُ أهل العلم على أنَّ المراد: خرج لصلاة الفجر، هكذا فُهِم، مع أنَّ في بعض الرِّوايات من غير ذكر البكرة: "خرج من عندها"[4].

"حين صلَّى الصُّبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى" يعني: دخل في الضُّحى، "وهي جالسة" يعني: لا زالت تذكر، فقال: ما زلتِ على الحال التي فارقتُكِ عليها؟ قالت: نعم. فقال النبي ﷺ: لقد قلتُ بعدك أربع كلمات ثلاث مراتٍ، لو وُزنت بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهنَّ: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزِنة عرشه، ومداد كلماته. أخرجه الإمامُ مسلم في "صحيحه"[5].

خرج من عند أمِّ المؤمنين -رضي الله عنها- بكرةً، يعني: في أول النَّهار، حين صلَّى الصبح. ومَن قال: إنَّه خرج لصلاة الصُّبح، قالوا: "حين صلَّى الصبح" أي: أراد صلاةَ الصبح. وإن كان هذا خلاف المتبادر.

"وهي في مسجِدها" مسجَدها بالفتح والكسر، يعني: موضع الصَّلاة الذي تُصلِّي فيه، والمرأة قد تتَّخذ مكانًا مُعينًا في بيتها للصَّلاة، وهذا أمرٌ مشروعٌ، لا إشكالَ فيه، وتدلّ عليه دلائل من السُّنة.

"ثم رجع" يعني: إليها، "بعد أن أضحى" يعني: دخل في الضَّحوة، وهي ارتفاع النَّهار، ويبدأ ذلك من ارتفاع الشَّمس بقدر رمحٍ، يعني: بعد إشراق الشَّمس بنحو عشرين دقيقة، أو قريب من هذا، أو أقلّ قليلاً، أو نحو ذلك.

وبعضهم يقول: "بعد أن أضحى" يعني: صلَّى الضُّحى. ولكن الأول هو المتبادر.

"وهي جالسة" يعني: في موضعها، فقال: ما زلتِ على الحال التي فارقتُكِ عليها؟ يعني: من الجلوس على ذكر الله .

وهذا يدلّ على حال أمّهات المؤمنين من مُلازمة الذكر؛ امتثالاً لقول الله -تبارك وتعالى- في سورة الأحزاب: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب:34]، فإنَّ هذا الذكر يشمل الذكر القلبي، والذكر اللِّساني؛ وذلك بعد أن قال لهنَّ مُؤدِّبًا: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33]، فهي تبقى في بيتها مُلازمةً للذكر.

"قالت: نعم. فقال النبي ﷺ: لقد قلتُ بعدك أربع كلمات" يعني: بعد أن خرجتُ من عندك، أربع كلمات يعني: تكلَّمتُ بعد مُفارقتك بأربع كلمات، والكلمة تُقال للفظة المفردة، وتُقال أيضًا للجملة، وتُقال للكلام الكثير، والخطبة يُقال لها: كلمة، والمحاضرة يُقال: كلمة، فيُقال: فلانٌ ألقى كلمةً. "ثلاث مرات" يعني: أنَّه قال هذه المذكورات ثلاثًا.

يقول: لو وُزِنَتْ يعني: قُوبِلت بما قلتِ، أي: بجميع ما قلتِ من الذكر، لاحظوا: وهي جالسةٌ إلى الضُّحى، وهي تذكر، وهذه أربع كلمات تعدل ذلك كله.

لو وُزِنَتْ بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهنَّ يعني: ترجَّحت هذه الكلمات على جميع هذه الأذكار التي قالتها وزادت عليهنَّ.

وهذه الكلمات هي قول: سبحان الله وبحمده، وقلنا: يحتمل أن يكون المعنى: أُسبِّحُ الله مُتلبِّسًا بحمده، أو: سبحان الله وبحمده أحمده، فإنَّه هو الذي هدى لذلك، هو الذي أرشد إليه، هو الذي علَّمنا كيف نذكره.

عدد خلقه يحتمل أن يكون منصوبًا على نزع الخافض، يعني: بعدد خلقه، هنا حرف جرٍّ محذوف: بعدد كل واحدٍ من هؤلاء المخلوقات، وكم عدد المخلوقات؟ لا يُحصيهم إلا الذي خلقهم، ويحتمل أن يكون النَّصب على الظَّرفية: عدد خلقه أي: قدر عدد خلقه.

ورضا نفسه أي: أقول هذا التَّسبيح والتَّحميد بقدر ما يُرضيه -تبارك وتعالى-، وما الذي يكون بقدر رضا نفس الربِّ -تبارك وتعالى-؟ هذا شيءٌ لا يُحاط به.

فالمقصود أن يكون هذا التَّسبيح بحيث يكون بالغًا رضا النَّفس بالنسبة لله -تبارك وتعالى-، وكذلك أيضًا بعدد خلقه، فذلك شيءٌ لا يُقادر قدره، والله -تبارك وتعالى- ذو فضلٍ على عباده ورحمةٍ، حيث جعل ذلك يبلغ هذا القدر.

وزنة عرشه زنة عرشه يدلّ ذلك على أنَّ أثقل المخلوقات على الإطلاق هو العرش، وقد ذكر هذا المعنى الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-، حيث يقول: "وأنَّه أثقل المخلوقات على الإطلاق؛ إذ لو كان شيءٌ أثقلَ منه لوزن به التَّسبيح، وهذا يردّ على مَن يقول: إنَّ العرش ليس بثقيلٍ ولا خفيفٍ. وهذا لم يعرف العرش، ولا قدَّره حقَّ قدره"[6]؛ فقد ذكر عدد الخلق، ورضا النَّفس، فذكر المنتهى، وزنة العرش، لو كان هناك أثقل من العرش لوُزِنَ به التَّسبيح.

عدد خلقه هنا التَّضعيف الأول للعدد، ورضا نفسه هنا للصِّفة والكيفية، يعني: الأول للعدِّ والكميّة، والثاني للصِّفة والكيفية، والثالث للعِظَم والثِّقَل، وليس مقدار العرش.

ومداد كلماته يُقال للمقدار: مداد كلماته، يعني: بمقدار كلماته. هكذا فسَّره بعضُ أهل العلم.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- ذكر أنَّ هذا يعمّ الأقسام الثلاثة ويشملها؛ فإنَّ مداد كلماته لا نهايةَ لقدره، ولا لصفته، ولا لعدده[7]. فلاحظ هناك: عدد خلقه، ورضا نفسه، وزِنَة عرشه، مداد الكلمات هذا يشمل ذلك كلّه: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109]، وكذلك في قوله: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ يعني: كلّ الأشجار، كل ما له ساق يُقال له: شجرة، جُعِلت أقلام يُكتب بها، والمداد؟ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ [لقمان:27] يعني: لو جُعِل البحرُ بمنزلة الحبر، ويمدّه سبعة أبحرٍ، وجميع ما في الأرض من شجرٍ يُجْعَل كالأقلام يُكتب بها، لفنيت الأقلامُ، وفني المدادُ، وما فنيت كلماتُ الله -تبارك وتعالى-.

وهنا في هذا الذكر: ومداد كلماته، فانظروا إلى جوامع الكلم، فكلمات الربِّ -تبارك وتعالى- لا تفنى، ولا تنفد، ومن هنا فُضِّلت هذه الكلمات: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزِنَة عرشه، ومداد كلماته على مجرد الذكر بقولنا: "سبحان الله"، على هذه الأضعاف المضاعفة.

وذكر الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- في "المنار المنيف" أنَّ ما يقوم بقلب الذَّاكر حين يقول: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ... إلى آخره من معرفته وتنزيهه وتعظيمه من هذا القدر المذكور من العدد أعظم مما يقوم بقلب القائل: "سبحان الله" فقط[8]، وهذا يُسمّى: الذكر المضاعف، وهو أعظم ثناءً من الذكر المفرد؛ فلهذا كان أفضل منه.

وهذا كما يقول ابنُ القيم -رحمه الله-: إنما يظهر في معرفة هذا الذكر، وفهمه، فإنَّ قولَ المسبِّح: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه يتضمّن إنشاءً وإخبارًا، كما يستحقّه الربُّ من التَّسبيح عدد كلِّ مخلوقٍ، وكان هذا المخلوق موجودًا، أو مما سيُخلق، فعدد خلقٍ يشمل ذلك، فتضمّن الإخبار عن تنزيه الربِّ -تبارك وتعالى-، وتعظيمه، والثَّناء عليه بهذا العدد العظيم الذي لا يبلغه العادّون، ولا يُحصيه المحصون، وتضمّن إنشاء التَّسبيح الذي بهذه الصِّفة، حيث يُبلِّغه الشَّارعُ هذا المبلغ، بل أخبر أنَّ ما يستحقّه الرب من التَّسبيح هو تسبيحٌ يبلغ هذا العدد الذي لو كان في العدد ما يزيد لذكره، وتجدد المخلوقات لا ينتهي، فهي لا تزال تُخلق مخلوقات جديدة.

فهذا القائل هو يُخبر عن هذا الذكر: أنَّه يكون بهذه المثابة، كما أنَّه يذكر ربَّه بالتَّسبيح، يعني: هو مُخبرٌ، ويُنشئ ذكرًا يذكر به ربَّه -تبارك وتعالى-، فهو ذاكرٌ ومُخبرٌ.

فهنا هذا التَّسبيح فيه من صفات الكمال ونعوت الجلال ما يُوجِب أن يكون أفضل من غيره، وأنَّه لو وُزِنَ غيرُه به لوزنه وزاد عليه.

ولاحظوا: هي جالسة من أول النَّهار إلى الضُّحى تذكر، وأربع كلمات وزنت ذلك جميعًا، فنحن بحاجةٍ إلى فقهٍ في هذا الباب، ومعرفةٍ بتفاضل الأعمال؛ لأنَّ العمر قصيرٌ، فيحتاج العبدُ إلى استثمارٍ.

هذا الحديث جاء في روايات مُتعددة، كنتُ قد أشرتُ إلى شيءٍ من ذلك في المقدِّمات في الأذكار، فيما يقوله الذَّاكرُ مما لم يرد عن النبي ﷺ، وربما ذكرتُه في جواب سؤال: هل لنا أن نقول مثلاً: "لا إله إلا الله، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته"؟ هل لنا أن نُركِّب هذا مع أذكارٍ أخرى غير "سبحان الله وبحمده"، أو لا؟

أجبتُ هناك، لكن تأمَّلوا هذه الرِّوايات، كما عند مسلمٍ: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زِنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته[9]، جعلها أربع كلمات، كيف نقولها؟ هل نقول: سبحان الله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته؟ هذا جاء في بعض الرِّوايات، لكن تُفسّره الرِّواية الأخرى؛ لأنَّه قال أربع كلمات: قلتُ أربع كلمات، فيكون هكذا: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زِنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته، وفي زيادةٍ عند النَّسائي في آخره: والحمد لله كذلك[10]، يعني يقول: "الحمد لله عدد خلقه، الحمد لله رضا نفسه، الحمد لله زِنة عرشه، الحمد لله مداد كلماته"، الذين يسألون فيقولون: هل لنا أن نقول: "الحمد لله"؟

يُقال: هذه جاءت في روايةٍ عند النَّسائي، وفي روايةٍ له أيضًا: سبحان الله وبحمده، لا إله إلا الله، والله أكبر عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته[11]، بمعنى: أنَّك لو قلت: "لا إله إلا الله عدد خلقه، لا إله إلا الله زِنة عرشه، لا إله إلا الله مداد كلماته"، يكون هذا مما ورد، فإذا قلت: "الحمد لله" كذلك، وإذا قلتَ أيضًا: "الله أكبر" كذلك.

وفي لفظٍ للترمذيِّ: أنَّ النبي ﷺ مرَّ بها وهي في المسجد، قريبًا من نصف النَّهار[12]، هذا يُبيّن لنا الضَّحوة إلى أي قدرٍ، هل هي بعد ارتفاع الشَّمس بقدر رمحٍ فقط؟ جلست إلى هذا الوقت؟ لا، إلى قريبٍ من مُنتصف النَّهار، فقال لها ما قال -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وذكر الكلمات: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زِنة عرشه، سبحان الله زِنة عرشه، سبحان الله زِنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته، سبحان الله مداد كلماته، سبحان الله مداد كلماته يعني: في كل مرةٍ يقول: "سبحان الله" يُردد ثلاث مراتٍ.

هذا ما يتعلَّق بالكلام على هذا الحديث.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم (3293)، ومسلم: كتاب الذكر والدُّعاء والتوبة، باب فضل التَّهليل والتَّسبيح والدُّعاء، برقم (2691).
  2. "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" (22/19).
  3. أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التَّسبيح أول النَّهار وعند النوم، برقم (2726).
  4. "الأدب المفرد" (ص339) (647)، وصححه الألباني.
  5. أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التَّسبيح أول النَّهار وعند النوم، برقم (2726).
  6. "المنار المنيف في الصَّحيح والضَّعيف = نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول" (ص37).
  7. "المنار المنيف في الصَّحيح والضَّعيف = نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول" (ص37).
  8. "المنار المنيف في الصَّحيح والضَّعيف = نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول" (ص35).
  9. أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدُّعاء والتوبة والاستغفار، باب التَّسبيح أول النَّهار وعند النوم، برقم (79).
  10. أخرجه النَّسائي في "السنن الكبرى"، برقم (9990).
  11. أخرجه النَّسائي في "السنن الكبرى"، برقم (9989).
  12. أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات، برقم (3555)، وصححه الألباني.

مواد ذات صلة