- مقدمة باب صفة طول القميص والكم والإزار
- كان كُم قميص رسول الله
- من جر ثوبه خيلاء
- لا ينظر الله يوم القيامة إلى
- ما أسفل من الكعبين
- ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة
- الإسبال في الإزار والقميص والعمامة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب صفة طول القميص والكم والإزار وطرف العمامة، وتحريم إسبال شيء من ذلك على سبيل الخيلاء، وكراهته من غير خيلاء.
كراهته من غير خيلاء هذا في اختيار النووي كما هو معروف، النووي -رحمه الله- يرى أن المحرّم من الإسبال ما كان ناتجاً عن خيلاء، وما كان لغير خيلاء فهو لا يحرم، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن الأحاديث الواردة في هذا الباب على نوعين:
نوع فيه الوعيد بالنار، أو النهي مطلقاً عن الإسبال، أو تحديد إزرة المؤمن، إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه[1].
فهذه الأنواع الثلاثة من الأدلة تدل على تحريم الإسبال، وهناك نوع آخر من الأدلة فيه وعيد أكثر، قد قيد بالخيلاء، من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة[2]، فيقال: إن الإسبال محرم، لكنه على مرتبتين: من غير خيلاء: ما زاد عن الكعبين ففي النار.
ما كان بخيلاء: فإنه يكون من الذين لا ينظر الله إليهم ولا يكلمهم ولا يزكيهم.
هنا ذكر طول القميص والكم والإزار وطرف العمامة، فصار عندنا ليس فقط أسافل الثياب، بل أكثر من هذا العمامة فيها إسبال، والأكمام فيها إسبال، وهذا أمر يغفل عنه عامة الناس، حتى طلاب العلم.
الرسغ هو المفصل الذي يفصل بين الكف والساعد، "إلى الرسغ" بحيث ما تكون الأكمام طويلة، كما يفعل الناس اليوم، وإنما تكون بحيث ما تزيد على الرسغ، وما زاد فهو من قبيل الإسبال، فهنا هذا فيه وصف لكم رسول الله ﷺ.
وجاء في غير هذا الحديث ما ينص ويصرح أن الإسبال في الإزار والكم والعمامة، وظاهر صنيع المؤلف -رحمه الله- أنه لم يفرق بين الكم والعمامة، وأسافل الثياب أو الإزار، وأن من فعل ذلك خيلاء فإنه محرم.
وهذا ذكره بعض أهل العلم غير المؤلف أيضاً، لكن من يتأمل النصوص يجد أن الذي ورد فيه الوعيد إنما هو الإزار والثوب، وما في حكمه كالبشت والبنطال، فهذا لا يجوز أن يزيد على الكعبين، وهو المتوعد فيه.
وما ذكر فيه من الإزار في بعض الأحاديث فهو من قبيل مفهوم اللقب، وهو عند الأصوليين غير معتبر؛ لأنه يحصل به تعريف المسميات فقط، ويتم به الكلام، وتحصل به النسب والإضافات، فلا يمكن أن يفهم الكلام إلا بهذا أصلًا، فبدلًا من أن يقول: الإزار والكم وكذا وكذا وكلام طويل، النبي ﷺ أوتي جوامع الكلام، فهذا بالنسبة لأسافل الثياب.
نصوص الوعيد سواء كانت بخيلاء، أو غير خيلاء، هي في أسافل الثياب، ولكنه جاء ما يدل على أن الإسبال أيضًا يكون في العمامة، فقد يفهم من هذا أن الوعيد لا يلحق بمثل الكم والعمامة.
لكن يحرص المكلف أن يحتاط لنفسه، وأن يقتدي بالنبي ﷺ وأن يبتعد عن الإسبال إذا فصل ثوباً، أو ينظر في ثيابه، فيقصر الأكمام بحيث ما تزيد عن هذا المفصل.
هذا من جره خيلاء، والخيلاء بمعنى: الكبر، والتعاظم، والزهو، وما أشبه ذلك، كما لا يخفى.
قال: لم ينظر الله إليه يوم القيامة، وهذا يدل على أنه من كبائر الذنوب.
فقال أبو بكر : يا رسول الله، إن إزاري يسترخي، إلا أن أتعاهده، فقال له رسول الله ﷺ: إنك لست ممن يفعله خيلاء[1]رواه البخاري، وروى مسلم بعضه.
أبو بكر كان نحيلاً، فكان إزاره يسترخي، يعني: ينزل، فلما سمع هذا الحديث خاف، فذكر ذلك للنبي ﷺ، وقال: إلا أنْ أتعاهده، يعني: كلما نزل رفعه، مثل الإنسان حينما يكون في إزاره استرخاء حين يحرم، ثم يرفع، ثم يسترخي، فهذا لا يؤاخذ عليه؛ لأنه بغير قصد، ولهذا قال له النبي ﷺ: إنك لست ممن يفعله خيلاء، يعني: أن ذلك يقع منك من غير قصد.
ولهذا قال بعض أهل العلم: إن الإسبال من الخيلاء أصلاً، لكن أبا بكر لم يكن مسبلاً، لكن إزاره كان يسترخي من غير قصد، وإلا فإسبال الإزار من أعمال أهل الكبر، وبصرف النظر فإن ما تقدم من أن الأحاديث على نوعين: منها ما لم يذكر فيه الخيلاء -كما سيأتي- فهو متوعد بالنار.
وما ذكر فيه الخيلاء ففيه زيادة أن الله لا ينظر إليه، فدل على أن ما زاد على الكعبين محرم، وأنه في النار، وأنه من كبائر الذنوب، ولو لم يكن للخيلاء، فإن كان للخيلاء فذاك أشد، يكون ممن لا ينظر الله إليهم.
والبطر كما يقول النووي -رحمه الله- بأنه قريب من الكبر، والزهو، والتعاظم، والخيلاء، هذه كلها معاني متقاربة، كفر النعمة، يقال له: بطر حينما يتعاظم الإنسان في نفسه ويصيبه الزهو، وينظر إلى ما له من المواهب، والقدر، والإمكانات والمنح والعطايا، فإنه يتعاظم، فيكون بطراً.
ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار هل المقصود أن الإزار يكون في النار، الإزار الزائد عن الكعبين؟، قطعاً لا وإن كان هذا قد يتوهم من ظاهر الحديث؛ لأنه يتكلم عن الإزار ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار، فإن الإزار لا يعذب بالنار، وإنما المقصود المحل، لكن العلماء -رحمهم الله- منهم من قال: ففي النار، أي: أن صاحبه يعذب في النار، ومنهم من قال: إن الزيادة على الكعبين تعذب في النار، هذا الموضع يعذب في النار.
والإزار الرخصة فيه أن يكون إلى الكعبين، بمعنى: لا يكون للكعبين حظ في الإزار، يعني: ما يكون الثوب يصل إلى الكعبين يغطيهما، أو في أنصافهما، وإنما لابد أن يكون فوق الكعبين، ولا حظ للكعبين من الإزار.
ثم ذكر حديث أبي ذر عن النبي ﷺ قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها رسول الله ﷺ ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا! من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب. رواه مسلم.
لا يكلمهم الله يعني: لا يكلمهم كلام رضا وتكريم، وإلا فإنه يقول لهم في النار: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]. يقول للكفار.
قال: "فقرأها رسول الله ﷺ ثلاث مِرار"؛ ليُعقل ذلك عنه، ولا ينظر إليهم، نظر رحمة، وإلا فإن نظر الله إلى جميع الخلق لا يفوته منهم شيء.
ولا يزكيهم لا يحصل لهم تطهير، ولهم عذاب أليم موجع، فقرأها رسول الله ﷺ ثلاث مِرار.
قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ ثلاثة أصناف، وليس ثلاثة أشخاص.
قال: المسبل، هذا أول واحد، والناس يتساهلون في هذا كثيرًا، ويظنون القضية سهلة، وأنهم غير مؤاخذين بهذا مع أن المسألة عبارة عن سنتيمترات، ما يضرهم لو أنهم تخلوا عن هذا، وتخلصوا منه.
والمسبل تفسره الأحاديث الأخرى، يعني: المسبل للثوب والإزار، وما في معناه كالبشت، والبنطال.
والمنان وهو الذي يؤذي من أعطاه، يحسن إلى آخر، ويؤذيه، تذكر يوم أعطيتك، أنا أحسنت إليك، أنا فعلت ذاك اليوم، كنت أنت محتاجًا، بطريقة صريحة، أو بطريقة غير صريحة، يعطيه طعامًا، أو نحو ذلك، وبعد ذلك بمدة يقول: ما شاء الله، حالتك ما شاء الله، طبعاً هذا من الطعام الذي أنت أعطيتنا جزاك الله خيرًا، كثر الله خيرك.
وهكذا يعطيه مغسلة ملابس، ويقول: ما شاء الله ثيابكم هذه أين تغسلونها؟، دائمًا ما شاء الله في غاية النظافة، المغسلة مغسلتكم التي أعطيتنا إياها، جزاكم الله خيرًا.
هذه بطريقة غير مباشرة، هذا مَنٌّ، والله يقول: لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة:264]. والمن ما يصدر إلا عن إنسان بخيل، متعاظم في نفسه.
قال: والمنفِّق سلعته بالحلف الكاذب[1]رواه مسلم. ، يعني: يحلف، والله إنها جيدة، وإنها تسوى كذا، والله إني أُعطيت بها كذا، وإني شاريها بكذا، ما تحصلها بكذا، ولو درت السوق، والله ويحلف إلى أن يشتروها، والله إن الثمار هذا من اليوم، أو هذه اللحوم، أو هذه الأسماك من اليوم، يحلف، وهو يكذب.
ينفق سلعته بالحلف الكاذب، فهذا يمتهن الحلف، وقلَّ تعظيم الله في نفسه، والمسبل جاء تفسيره في رواية عند مسلم أيضًا: المسبل إزاره.
قد ذكرتُ ذلك، أشرت إليه سابقاً، هذه الأشياء الثلاثة.
قوله: من جر شيئاً ظاهره يشمل هذه الأشياء الإزار والعمامة والقميص، وهذه الزيادة مهمة في تفسير المراد، وكنت غفلت عنها في المرة الماضية.
قلت: إن النبي ﷺ قال: الإسبال في الإزار، والقميص والعمامة، ولم يذكر فيه الوعيد الوارد فيه، ما قال: فما زاد ففي النار، نعم هو ما قال: في النار، لكنه قال: من جر شيئاً من ذلك خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة من فعل ذلك لغير الخيلاء، تساهلا؟ لم يرد فيه ما ورد في جر الثوب من أن ذلك في النار.
وإلى أي حد يكون الإسبال في العمامة، وفي القميص؟ حديث أسماء بنت يزيد وهو أن كم قميص رسول الله ﷺ كان إلى الرسغ، فهذا بمجرده لا يدل على الحد الذي لا يجوز تعديه، يعني: مثل هذا الآن "لا ينظر الله إلى من جر شيئاً خيلاء"، يجره إلى أي حد؟ هل بتعدي الرسغ؟ حتى حديث الرسغ هل هو ثابت مسلم به أو لا؟ الشيخ الألباني يضعف حديث أسماء السابق.
فمن أهل العلم مثل القاضي عياض، ومثل ابن القيم يقولون: إن ذلك بما جرى به العادة والعرف أنه مبالغة وزيادة، ابن القيم -رحمه الله- يقول: الأكمام التي تكون كالأخراج، الخرج الذي وُضع فيه متاع الراكب في البعير، مثل الكيس الكبير، يوضع واحد هنا، وواحد هنا في البعير، الأكمام في زمن النبي ﷺ ما كانت بهذا الشكل كبيرة، ومبالغًا فيها، وما كانت العمائم ضخمة، لكن وُجد في بعض البيئات وجد مبالغات في هذه الأشياء، يسمونها أردانًا، وكانت موجودة إلى عهد قريب، وأظن أنها لا زالت في بعض اللباس التقليدي في بعض البيئات، الكُم أحياناً مقدار ثوبنا هذا الذي نلبسه، الكم طويل جدًّا، ويحتاج أن يرفعه، بل حينما تقرأ في تاريخ مصر مثلاً، أو تقرأ في كلام بعض أهل العلم في رحلاتهم، وما شاهدوا من حال النساء في وقتهم، في بعض البلدان، فيذكرون أنهن يلبسن الملابس الواسعة جدًّا، لاحظ تبرجهن نوع آخر، غير نساء اليوم الكاسيات العاريات، إلا من رحم الله، يلبسن ألبسة واسعة جدًّا بحيث إنها إذا حركت يدها أو نحو ذلك ظهر كل هذا الجنب.
هذا ذكره جماعة من المتقدمين من أهل العلم، من الشراح، يصفون حال النساء في بعض البيئات التي شاهدوها، ونوع التبرج الذي كان موجودًا في ذلك الوقت، فتلبس ألبسة واسعة الأكمام جدًّا يدخل في الكم إنسان من سعته، فإذا تحركت تكشف، ولربما حركه الهواء فيحصل لها تكشف، تعرٍّ.
فالمقصود أن الأكمام المبالغ فيها هذه لا شك أنها تضييع للمال وإسراف، ونحو ذلك، لكن في مثل هذه الأكمام التي نلبسها الآن، ما هو الحد الذي يقال: إنه من الإسبال المتوعد عليه بأن الله لا ينظر إليه؟.
هل يحدد هذا بهذا المفصل؟ إن قسته على القدم قلت: إلى الكعب، وهنا إلى هذا المفصل، وهو قياس له وجه، لكن هل هذه الأمور يدخلها القياس؟.
أهل العلم ما يذكرون هذا عادة على سبيل التحديد، وإنما يطلقون، ومثلت بالقاضي عياض وابن القيم، يقولون: ما كان خارجاً عن المعتاد على سبيل المبالغة، فالعمامة إلى أي حد؟ لابد أن تجر في الأرض، وتتعدي الكعبين؟!، لا، ما قال بهذا أحد، قالوا: ما كان زائدًا على المعتاد، المعتاد إلى أي حد في العمامة؟. قالوا: إلى نصف الظهر، الذؤابة تكون إلى نصف الظهر، يرخيها من الخلف إلى نصف الظهر، لو أنه نزّل العمامة -طرف العمامة- إلى ما دون ذلك فمثل هذا يكون من الإسبال.
الأكمام لو أنه أطالها طولًا مبالغًا فيه فكذلك.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود، كتاب اللباس، باب في قدر موضع الإزار (4/ 60)، رقم: (4094)، والنسائي، كتاب الزينة، إسبال الإزار (8/ 208)، رقم: (5334).