الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي "باب فضل قيام الليل"، أورد المصنف -رحمه الله- حديث: عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، أن النبي ﷺ قال: صلاة الليل مثن مثنى، فإذا خفت الصبح، فأوتر بواحدة[1]، متفق عليه.
قوله ﷺ: صلاة الليل مثنى مثنى، هذا لبيان الأفضلية أن أفضل ما يكون من الصفات في صلاة الليل: أن تكون مثنى مثنى، ومعنى مثنى مثنى: أن يصلي ركعتين ثم يسلم، ثم يصلي ركعتين ثم يسلم، وهكذا: مثنى مثنى.
وذلك لا ينافي ما جاء من فعله ﷺ من صلاة أربع ركعات، وأربع، وثلاث مثلاً إلى غير ذلك من الصفات الواردة عنه -ﷺ، فهذا لبيان الأفضل وذاك لبيان الجواز، وهكذا أيضًا جاء في بعض الروايات: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى[2]، فدل ذلك عند من صحح هذه الرواية على أن الأفضل أيضًا في صلاة النهار لمن أراد أن يتطوع أن يصلي مثنى مثنى، ولهذا اختلفوا كثيرًا في الأربع التي تكون قبل الظهر التي تفتح لها أبواب السماء هل يصليها بسلام واحد أو يصليها ركعتين ثم ركعتين؟
قال: فإذا خفت الصبح، فأوتر بواحدة، فذلك أن قيام الليل منتهاه طلوع الفجر والنبي ﷺ قال: اجعلوا آخر صلاتكم في الليل وترًا، فإذا خشي طلوع الفجر فإنه يوتر بواحدة.
وقال: وعنه قال: "كان النبي ﷺ يصلي من الليل مثنى مثنى، ويوتر بركعة"[3]، متفق عليه.
وهذا من فعله ﷺ وذاك من قوله فاجتمع القول والفعل.
وقوله: "كان النبي ﷺ يصلي من الليل مثنى مثنى"، يدل على أن ذلك أمر يتكرر ويكثر منه وقوعه ﷺ أن هذه عادته، فكونه ﷺ صلى أربعًا وأربعًا مثلاً، وثلاثًا أن ذلك قليل، وأنه لم يكن العادة الغالبة من فعله -عليه الصلاة والسلام-.
ثم ذكر حديث أنس قال: "كان رسول الله ﷺ يفطر من الشهر حتى نظن أنه لا يصوم منه، -يعني يفطر في أيام متواصلة ويستمر ذلك حتى يظن أنه لا يصوم شيئًا من أيام الشهر-، ويصوم حتى نظن أنه لا يفطر منه شيئًا، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليًا إلا رأيته، ولا نائمًا إلا رأيته ﷺ"[4]، رواه البخاري.
قوله: "كان رسول الله ﷺ يفطر من الشهر حتى نظن أنه لا يصوم منه"، يدل على أن المرء قد يحصل له ما يعرض من أشغال أو صوارف فيترك الصوم، فلا يصوم الاثنين والخميس مثلاً، والأيام الفاضلة عمومًا، ومن كانت له عادة أن يصوم مثلاً يومًا ويفطر يومًا، فعرض له شيء فأفطر الأيام المتتابعة فإنه يمكن أن يعوض ذلك سردًا فيصوم صومًا متتابعًا فيحصل بذلك تعويض لما فات من الصيام، وأمر التطوع في الصيام واسع، ولهذا كان جماعة من السلف يصومون كل يوم لا يفطرون إلا العيدين وأيام التشريق، وكانوا يرون أن ذلك ليس من صيام الدهر الذي نهى عنه النبي ﷺ، وأخبر أن من صام الدهر فلا صام ولا أفطر[5]، فرأوا أن من أفطر العيدين وأيام التشريق أنه لم يصم الدهر، وأن ذلك من الاستكثار من الأعمال الصالحة.
وأخبرنا النبي ﷺ أن أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يومًا ويفطر يومًا[6]، لكن لو أن أحدًا لم يتيسر له هذا لأسباب لطبيعة عمله مثلاً، بعض الناس يعمل أسبوعًا، ثم يأخذ إجازة أسبوعًا آخر.
وبعضهم قد يعمل أيامًا متواصلة عشرة أيام في الشهر، ثم بعد ذلك يبقى بقية الشهر إجازة فمثل هذا لو أنه أراد أن يسرد الصوم في الأيام التي يكون مجازًا فيها هل في هذا غضاضة؟
الجواب: لا، هو لا يتيسر له أن يصوم يومًا ويفطر يومًا، وقد لا يتيسر له أن يصوم الاثنين والخميس، فيأتي ويسرد أسبوعًا يصومه فيعوض ما فاته فيكون بذلك محصلاً للأجر، والله -تبارك وتعالى- فضله على عباده واسع.
فهذا الحديث يدل على هذا المعنى يصوم حتى يقال: إنه لا يفطر، معنى ذلك أنه كان يسرد الصوم -عليه الصلاة والسلام-.
وقال: "وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليًا إلا رأيته، ولا نائمًا إلا رأيته"، يعني معناه أنه كان يصلي من أول الليل، وربما صلى من وسطه، وربما صلى من آخر الليل، فيرى ﷺ في هذه الأوقات الثلاثة يرى في حال من التهجد والقيام والضراعة إلى الله -تبارك وتعالى- والعبادة والجد والاجتهاد فيها، لكن ليس معنى ذلك أنه يحيي الليل كله فلم يكن ذلك من هديه ﷺ في شيء من ليالي العام إلا في العشر الأواخر من رمضان فقط، لكنه يصلي من أوله، ويصلي من وسطه، ويصلي من آخره.
وكذلك: "ولا نائمًا إلا رأيته"، بمعنى أنك ربما تراه نائمًا من آخر الليل، ربما تراه نائمًا من وسطه، ربما تراه نائمًا من أوله، لا أنه ينام الليل كله، أو أنه كما في الصيام مثلاً يبقي الليالي لا يصلي من الليل، ثم يمر عليه ليالي أخرى يصلي يحيي الليل فيها لا، ليس كذلك، كان النبي ﷺ يقوم الليل في كل ليلة، وكثير من أهل العلم يرون أن ذلك كان واجبًا عليه، وقد سبق الكلام على هذا في قوله -تبارك وتعالى-: نَافِلَةً لَكَ[الإسراء:79].
ثم ذكر حديث عائشة -رضي الله عنها-: "أن رسول الله ﷺ كان يصلي إحدى عشرة ركعة، -تعني في الليل-، يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية، قبل أن يرفع رأسه، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر ثم يضطجع على شقه الأيمن، حتى يأتيه المنادي للصلاة"[7]، رواه البخاري
يصلي إحدى عشرة ركعة يعني صلاة الليل، وهذه الصلاة طويلة، ويكفي في بيان طولها وحسنها أنها قالت: "يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية"، وهذا يعني أيضًا أنه يركع الركعة قريبًا من ذلك، وأن جلوسه بين السجدتين أيضًا قريب من ذلك، فكانت صلاته ﷺ متقاربة.
فهذه الصلاة الطويلة في قيامها وركوعها وسجودها إذا صلى إحدى عشرة ركعة فكم يستغرق ذلك من الليل؟
هذه الصلاة لا تقل بحال من الأحوال، -والله تعالى أعلم- عن ساعتين ونصف بهذه الصفة، السجدة الواحدة قدر خمسين آية وإذا قدر هذا بالآيات قدر بالخمسين آية فذلك في الآيات المتوسطة يعني ليست كالآيات الطويلة كآيات المائدة مثلاً وليست كالآيات القصيرة كما في قصار السور وإنما الآيات المتوسطة مثل الآيات التي في سورة الأنبياء، وطه ونحو ذلك.
فهذه إذا حسبتها تعرف كم يردد ﷺ من التسبيح، ونحوه، في ركوعه وسجوده؟!
وقالت: "ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر"، هاتان الركعتان بعد الوتر، وقبل صلاة الفجر.
وقالت: "ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المنادي للصلاة"، بعض أهل العلم قال: هاتان الركعتان هما سنة الفجر، يعني بعد آذان الفجر بعد دخول وقت الفجر، لكن هذا بعيد، ويدل عليه هنا في هذا الحديث: قالت: "حتى يأتيه المنادي للصلاة"، لكن من أهل العلم من يفهم من هذا أنه يؤذنه بالإقامة، وأن النبي ﷺ كان يضطجع بعد أن يصلي السنة الراتبة وقد مضى الكلام على هذه المسألة في الاضطجاع بعد السنة الراتبة، وكلام أهل العلم هل يضطجع في المسجد أو يضطجع في بيته وما المقصود بذلك؟ وهل هو سنة على كل حال ومن أهل العلم من يقول بأن هذه سنة بعد الوتر يصلي ركعتين بعد الوتر وأن ذلك يخصص أو يقيد ما جاء في قوله ﷺ: اجعلوا آخر صلاتكم في الليل وترًا، قالوا: هذه خارجة عن ذلك لا يصلي بعدها شيء من صلاة الليل، فيصلي بعد الوتر لكن هذه سنة للوتر بعده، سنة بعد قيام الليل.
وبعضهم يقول: هذا خاص برسول الله ﷺ؛ لأنه خاطبنا بقوله: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا، فنحن مخاطبون بذلك، وكان ﷺ يصلي هاتين الركعتين؛ إذن ذلك خاصة به، والأولون يقولون: التخصيص به ﷺ يحتاج إلى دليل والأصل أنه مشرع، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما كان رسول الله ﷺ يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا فقلت: يا رسول الله، أتنام قبل أن توتر؟ فقال: يا عائشة، إن عيني تنامان، ولا ينام قلبي[8].
وهذا من خصائصه ﷺ أو من خصائص الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، فدل ذلك على أنه ﷺ كان يصلي هذه الثمان، ثم بعد ذلك ينام، ثم بعد ذلك يؤخر الوتر إلى آخر الليل قبل الفجر، وهذه الإحدى عشرة ركعة مع الحديث السابق حديث عائشة: "كان يصلي ركعتين"، من أهل العلم من حمل الحديث الآخر أنه يصلي ثلاث عشرة ركعة قالوا: معها هاتان الركعتان اللتان بعد الوتر فيكون المجموع ثلاثة عشرة ركعة.
وبعضهم قال: حديث عائشة -رضي الله عنها- حدثت عما رأت، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص في ثلاث عشرة ركعة حدث عما شاهد أيضًا، فكان غالب صلاته ﷺ أن يصلي إحدى عشرة ركعة، وربما صلى ثلاث عشرة ركعة، والأمر في ذلك يسير، والله تعالى أعلم.
ولكن مما يوضح بعض ما سبق حديث آخر لعائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي ﷺ كان ينام أول الليل ويقوم آخره، فيصلي"[9]، متفق عليه.
مع أنه في حديث أنس: "كان لا تشاء أن تراه من الليل مصليًا إلا رأيته، ولا نائمًا إلا رأيته"، لكن هنا الغالب أنه كان ينام في أول الليل، ويقوم آخره.
وبعض أهل العلم قال: من نصف الليل الثاني يبدأ قيامه -عليه الصلاة والسلام-، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب: كيف كان صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ وكم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي من الليل؟، برقم (1137)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل، برقم (749).
- أخرجه أبو داود، باب تفريع أبواب التطوع وركعات السنة، باب في صلاة النهار، برقم (1295)، والترمذي، أبواب السفر، باب أن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، برقم (597)، والنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب كيف صلاة الليل، برقم (1666)، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب ما جاء في صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، برقم (1322)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3831).
- أخرجه البخاري، أبواب الوتر، باب ساعات الوتر، برقم (995)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل، برقم (749).
- أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالليل من نومه، وما نسخ من قيام الليل، برقم (1141).
- أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس، برقم (1162).
- أخرجه النسائي، كتاب الصيام، صوم يوم وإفطار يوم وذكر اختلاف ألفاظ الناقلين في ذلك لخبر عبد الله بن عمرو فيه، برقم (2388)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3793).
- أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب طول السجود في قيام الليل، برقم (1123).
- أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب كان النبي -صلى الله عليه وسلم- تنام عينه ولا ينام قلبه، برقم (3569)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي -صلى الله عليه وسلم-، برقم (738).
- أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب من نام أول الليل وأحيا آخره، برقم (1146)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي -صلى الله عليه وسلم-، برقم (739).