الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما جاء عن السلف في قيام الليل ما جاء عن عاصم بن عصام البيهقي قال: "بت ليلة عند أحمد بن حنبل فجاء بماء فوضعه، فلما أصبح نظر إلى الماء بحاله فقال: سبحان الله، رجل يطلب العلم لا يكون له ورد بالليل"[1]، -يعني وضع له ماء ليتوضأ به، فلما جاءه لصلاة الفجر وجد أن الماء لم يتغير، يعني أنه لم يقم من الليل ولم يتوضأ، فقال: سبحان الله رجل يطلب العلم لا يكون له ورد بالليل؟
وجاء عن الجنيد قال: "ما رأيت أعبد لله من السري، أتت عليه ثمان وسبعون سنة، ما رئي مضطجعًا إلا في علة الموت"[2].
وكان الإمام البخاري -رحمه الله- يصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة، وكان يقول له خادمه: أراك تحمل على نفسك ولا توقظني[3]، فقال: يعني اعتذر إليه، وهذا يدل على كمال أدب البخاري -رحمه الله- ورفقه.
وجاء أيضًا عن الخلدي قال: "رأيت جنيدًا في النوم فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: طاحت تلك الإشارات وغابت تلك العبارات، وفنيت تلك العلوم، ونفدت تلك الرسوم، وما نفعنا إلا ركعات كنا نركعها في الأسحار"[4]، يعني الجنيد له كلام، وله خواطر، وله أشياء في تزكية النفوس، وما إلى ذلك، يقول: ذهب ذلك جميعًا وما بقي إلا ما كان نصليه من الليل.
ويقول الحاكم النيسابوري: "قال لي محمد بن أحمد السكري: كان جدي يعني جعفر بن أحمد الحصيري قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء، ثلثًا يصلي، وثلثًا يصنف، وثلثًا ينام، وكان مرضه ثلاثة أيام لا يفتر عن قراءة القرآن[5].
وكان أبو العباس أحمد بن محمد الآدمي ينام في اليوم والليلة ساعتين[6].
طبعًا كثير من الأطباء القدماء والمعاصرين يقولون: بأن الجسم يحتاج إلى ثمان ساعات نوم، هكذا قالوا، وذكره أيضًا الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في كتابه في الهدي النبوي "زاد المعاد"[7].
والأقرب -والله تعالى أعلم- أن ذلك يختلف باختلاف الناس، ثم أيضًا جسم الإنسان إذا عود ودرب على عادة فإن ذلك لا يضره بإذن الله -تبارك وتعالى-، فإذا عود على أربع ساعات في اليوم والليلة استطاع أن يجري على ذلك، وقد ذكر هذا بعض الأطباء المعاصرين، وذكر أنه قد جرب ذلك على نفسه، ومن العلماء المعاصرين الذين حفظ عنهم أنه ما كان ينام إلا أربع ساعات سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-، وفضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين ما كانوا ينامون إلا أربع ساعات في اليوم والليلة، وذلك يرجع إلى تعويد البدن.
وهذا عبد الله بن علي بن خمشاء كان يقول: "ما أعلم أن أبي ترك قيام الليل"[8].
وكان أبو بكر بن الحداد الكناني فقيهًا عالمـًا كثير الصلاة والصيام يصوم يومًا ويفطر يومًا، ويختم القرآن في كل يوم وليلة، قائمًا مصليًا[9].
فالمراد بهذه الآثار أن يرجع الإنسان إلى حاله، وتقصيره، وإلا فليس من المشروع أن يحيي الإنسان الليل كله، ولا أن يختم في كل ليلة.
وكذلك أيضًا ما ذكره الحاكم عن محمد بن حمدون قال: "صحبت أبا بكر بن إسحاق سنين فما رأيته قط ترك قيام الليل لا في سفر ولا في حضر"[10].
وكان أبو بكر أحمد بن محمد بن جميع يقوم الليل كله، فإذا صلى الفجر نام إلى الضحى، وإذا صلى الظهر يركع إلى العصر، قال: وكانت هذه عادته"[11].
وقال أبو نعيم عبيد الله بن أبي علي الحداد: "سمعت بعض جيران الفضل بن أبي حرب يقول: ما ترك أحدًا -يعني الفضل بن أبي حرب- ما ترك أحدًا في جواره منذ ثلاثين سنة أن ينام من قراءته وبكائه"[12]، يعني أن ينام نومًا مستقرًا؛ لما كان يسمع من قراءته وبكائه.
هذه بعض الآثار المتصلة بقيامهم لليل، وكما سبق العاقل يعتبر بذلك، وذكرتُ لكم أنواع النظر في مثل هذه الآثار، ومن الناس من ينظر إليها بطريقة لا تنفعه، بطريقة سلبية، فيتعلق ببعض الأمور التي قد يكون فيها ملحظ أو لربما يرى أن ذلك لا يمكنه فييأس، ويقعد عن العمل، وأن العاقل إنما يرى في ذلك حثًا له، ودفعًا لمزيد من العمل الصالح.
وأما من ينظر إلى من دونه في مثل هذه الأمور والعبادات، والتقرب إلى الله، والاستقامة على الصراط المستقيم فإنه لا يزال يهبط وينسفل حتى يصير إلى حال من ترك العبادة، والتقصير في طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ؛ لأن الإنسان لن يزال يرى من هو دونه دائمًا، وإنما في مثل هذه الأمور يرى من فوقه، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- صفة الصفوة (1/480)، وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (11/298).
- صفة الصفوة (1/501)، وسير أعلام النبلاء (12/186)، ووفيات الأعيان (2/358).
- سير أعلام النبلاء (12/441).
- انظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (10/257)، وصفة الصفوة (1/522)، ووفيات الأعيان (1/374)، وطبقات الحنابلة (1/129).
- سير أعلام النبلاء (14/219).
- سير أعلام النبلاء (14/255).
- انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (1/153).
- سير أعلام النبلاء (15/399).
- سير أعلام النبلاء (15/448).
- سير أعلام النبلاء (15/485).
- سير أعلام النبلاء (16/319).
- انظر: سير أعلام النبلاء (19/41).