الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
سنشرع في الحديث عن الأذكار التي تُقال بعد الصَّلاة:
وأول ذلك: ما جاء عن ثوبان قال: "كان رسولُ الله ﷺ إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا، وقال: اللهم أنت السَّلام، ومنك السَّلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام، يقول الوليد: قلتُ للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال: تقول: أستغفر الله، أستغفر الله"[1]. رواه الإمام مسلمٌ في "صحيحه".
فقوله: "كان رسولُ الله ﷺ إذا انصرف من صلاته"، يعني: سلَّم من صلاته، "استغفر ثلاثًا، وقال"، هذه الصِّيغة: "كان إذا انصرف من صلاته قال" تدلُّ على المداومة، وأنَّ النبي ﷺ كان يُواظِب على ذلك، فهذا هو الغالب في استعمال هذه الصِّيغة: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ [مريم:55]، يعني: إسماعيل ﷺ يُواظِب على ذلك.
فهنا النبي ﷺ كان يُواظب على هذا الذكر: يستغفر ثلاثًا، يقول: أستغفر الله، فإنَّ الأحرف الثلاثة في أوله للطلب، يعني: أنَّه يطلب مغفرةَ الله -تبارك وتعالى-، أصل الفعل: غفر، فدخل عليه الألف والسّين والتاء، هذه الأحرف الثلاثة تدلُّ على الطَّلب، "أستغفر" يعني: أطلب مغفرةَ الله، هذا هو المعنى، مثلما تقول: "أستعفي منك"، يعني: أطلب أن تُعفيني، تقول: "استطعم"، يعني: طلب الطَّعام، "استسقي"، طلب السُّقيا.
فهنا إذا قلت: "أستغفر الله" يعني: أطلب مغفرةَ الله، والغفر يشمل أمرين اثنين:
الأول: السَّتر، وقلنا: منه المغفر يُغطِّي رأسَ المقاتل، فهو يستر رأسَه، وفي الوقت نفسه تحصل به الوقاية من ضرب السِّلاح، فإذا قلت: "اللهم اغفر لي"، فمعنى ذلك أنَّك تطلب السَّتر، وتطلب أيضًا الوقاية من جرائر هذه الذنوب والمعاصي، أستغفر الله، جناية في حقِّ الله من المعصية، أو التَّقصير في طاعته -تبارك وتعالى-، أستغفر الله، أطلب ستره، وأطلب أيضًا أن يقيني تبعةَ هذه الذُّنوب وعواقبها وجرائرها، وما يحصل من جرَّائها من الأخذ والعقوبة، وما إلى ذلك.
وهنا أنَّه يستغفر ثلاثًا بعد هذه العبادة التي هي عمود الإسلام: الصَّلاة، وهي الركن الذي يأتي بعد الشَّهادتين مباشرةً، وهي صلةٌ بين العبد وربِّه -تبارك وتعالى-، فهي بتلك المنزلة التي وصفها الله -تبارك وتعالى-، ولها هذه الآثار العجيبة البليغة في الدنيا والآخرة: صلةٌ بين العبد وبين ربِّه.
وكذلك أيضًا هذه الصَّلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر، وتُكفّر بها ذنوبه، كما جاء ذلك في أحاديث متنوعة، منها: ما جاء عن النبي ﷺ من أنَّ ذنوبَ العبد تكون على عاتقه، فإذا ركع أو سجد تساقطت هذه الذُّنوب[2]، وقد ذكرتُ أشياء من هذا غير قليلةٍ في الكلام على: "ماذا ضيَّع مَن أضاع الصَّلاة؟"[3]، هذا عنوان مجلسٍ خاصٍّ تكلَّمتُ فيه عن هذه القضايا جميعًا.
فالمقصود: إذا كانت الصلاةُ بهذه المثابة، ولها هذه الآثار في الدنيا، وفي الآخرة الناس يأتون من أُمَّة محمدٍ ﷺ يوم القيامة غُرًّا مُحجَّلين من آثار الوضوء[4].
وقوله -تبارك وتعالى-: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29]، ذكر بعضُ السَّلف أنَّ ذلك في الآخرة ما يكون من النور بسبب هذه الصَّلاة.
المقصود: أنَّ هذه العبادة بهذه المثابة، فإذا فرغ استغفر ثلاثًا، كما قال الله : فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ هذا الركن الخامس: الحجّ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200]، فأمر بذكره بعد قضاء المناسك، وهنا بعد الصَّلاة استغفار، وفي قيام اللَّيل: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [آل عمران:17]، فبعد أن يقوم ليلاً طويلاً يبقى في السَّحر مُستغفرًا، مُستغفرٌ من ماذا؟
يُحيي الليلَ بقيامٍ، وليس بمُشاهدة قنوات سيئة، أو ما إلى ذلك من معاصي الله -تبارك وتعالى-، ومع ذلك يستغفر في الأسحار.
فهذا كلّه يدلّ على أهمية الاستغفار من جهةٍ، ثم أيضًا فيه دفع العُجْب؛ عُجْب العبد بنفسه، وبعمله، ثم أيضًا هذه الأعمال الصَّالحات التي يعملها العبدُ هي توفيقٌ من الله، ومنَّةٌ، وهدايةٌ، ونعمةٌ أنعم بها عليه، فهو يحتاج إلى شكرٍ عليها، فيستغفر ربّه؛ لعجزه؛ لأنَّه مهما عمل من شكرٍ فذلك إلهامٌ من الله، وتوفيقٌ، وهدايةٌ تحتاج إلى شكرٍ آخر.
ثم إنَّ هذه الأعمال التي يُؤديها العبدُ من صلاةٍ وحجٍّ وغير ذلك لا تخلو من تقصيرٍ وإخلالٍ، فيحتاج إلى استغفارٍ، وفي آخر الصِّيام: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ عدّة الصّوم، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
نشكره على الهداية، ونشكره على التَّوفيق، ونشكره على الإعانة على الصِّيام؛ هدانا لرمضان، وهدانا لأحكام الصِّيام، وهدانا لهذه الشَّريعة؛ هدانا للإيمان، هدانا للعمل هدايةً توفيقيَّةً، وفَّقنا، فإنَّ هناك مَن لا يصوم، أيضًا أعاننا وقوَّانا، هناك مَن يتوق إلى الصِّيام، لكنَّه لا يستطيع، عاجزٌ، مريضٌ، فكلّ ذلك يحتاجه العبدُ.
ولذلك ليلة العيد، وفي صبيحة يوم العيد حتى يأتي الـمُصلَّى، حتى يخرج الإمامُ؛ يُكبّر، فيختم هذه الطَّاعات والعبادات بهذه الأذكار.
فالعبد حينما يكون بهذه المثابة يكون ذاكرًا، شاكرًا، ولا يمكن أن يحصل له شيءٌ من العُجْب أو رُؤية العمل، أو أن يكون ممن يتعاظم بعمله الصَّالح، أو نحو ذلك، فلا يكون مُدلاً على ربِّه -تبارك وتعالى- بالطَّاعة، وإنما يكون مُخبتًا، مُنكسرًا، ولا تزيده الطَّاعةُ والعبادةُ إلا مزيدًا من الإخبات والانكسار.
فهنا: "إذا انصرف من صلاته -سلَّم- استغفر ثلاثًا"، هذا يدلُّ على أنَّه يبدأ بذلك.
وهذه نِعَمٌ؛ أننا نتعلم السُّنن، إذا سافرت في كثيرٍ من البلاد شرقًا وغربًا تجد من البدعِ ما لا يُقادر قدره، بمجرد دخول الوقت، أو قبل دخول الوقت لكل صلاةٍ يبدأ في منارة المسجد في الميكرفون صلوات على النبي ﷺ.
وبعضهم يضع تلاوةً حتى يُؤذّن، ثم بعد المؤذّن يُرددون أشياء ما أنزل اللهُ بها من سلطانٍ بعد الأذان، ثم بعد ذلك إذا صلّوا يبدأ الإمامُ يُوزع على هؤلاء الناس هذه المسابح، كل واحدٍ يأخذ واحدةً مُعلَّقةً عنده على مسمارٍ طويلٍ، ثم بعد ذلك يُوزِّعها على هؤلاء، ثم يبدأ هو، وأحيانًا يكون مؤذنُ المسجد، أحيانًا يكون رئيس المسجد هو المؤذن، فيجلس على مكانٍ مُرتفعٍ، ويبدأ يُردد أذكارًا أكثرها غير مشروعٍ، ويبدؤون يُرددون، ثم بعد ذلك يرفع الإمامُ يديه ويبدأ يدعو ويقرأ الفاتحة، ويبدؤون يُرددون.
فإذا صلَّيتَ بين هؤلاء ولم تفعل نظروا إليك نظرًا يكاد أن يُزيلك من مقامك شدّة الإنكار، ولربما اجترؤوا على بعض أهل بلدهم ممن عرف السُّنة ونحو ذلك، فأخرجوهم من المسجد إخراجًا؛ لأنَّه لا يُشاركهم في هذه الأشياء: بِدَع وخُرافات، وتتحير مع هؤلاء كيف تتعامل معهم؟! لأنَّهم لا يمكن أن يتقبَّلوا منك قليلاً أو كثيرًا إلا إذا شاركتهم بمثل هذه البدع، وإلا فكأنَّك لم تُصلِّ عندهم.
فهذه نعمةٌ من الله -تبارك وتعالى- أن هدانا للسُّنة، وهذه الأذكار الشَّرعية ما نعرف قدرَ هذا إلا إذا ذهبنا هنا وهناك، ورأيت هذه البدع في مشارق الأرض ومغاربها، هذا إذا سلم المسجدُ من القبر، ففي بعض البلاد لا يكاد يوجد مسجدٌ إلا وفيه قبرٌ -نسأل الله العافية-، وبعض هذه القبور يطوفون به كما يطوفون بالكعبة، ويعتكفون عنده، ويُقدِّمون النُّذور والقرابين من غير نكيرٍ، والله المستعان.
فكان يستغفر ثلاثًا ﷺ، ثم يقول: اللهم أنت السَّلام، نحن عرفنا في الكلام على التَّشهد معنى السلام، حينما يُقال ذلك في أسماء الله -تبارك وتعالى-: اللهم أنت السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ [الحشر:23]، وذكر قبله القدُّوس في آية الحشر: الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ [الحشر:23].
فالسَّلام أصل ذلك من السَّلامة، ومنه قيل للجنَّة: دار السَّلام؛ لأنها سالـمةٌ من الآفات والعيوب والنَّقائص، لا يحصل فيها مرضٌ، ولا تعبٌ، ولا حزنٌ، ولا حاجةٌ، ولا فقرٌ، ولا صُداعٌ، ولا هَمٌّ، ولا موتٌ، ولا خوفٌ، ولا حزنٌ، إنما هي سالـمةٌ من جميع الآفات، لا يملّ ساكنُها كما هو في الدُّنيا، ولا يطلب عنها حولاً، يتحوّل إلى مكانٍ آخر، فهي سالمةٌ من كل عيبٍ ونقصٍ وآفةٍ، والله هو السَّلام، الذي سلم من كل عيبٍ، وبرأ من كلِّ آفةٍ، كما قال الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- في النُّونية:
وهو السَّلام على الحقيقة سالمٌ | من كل تمثيلٍ ومن نقصانِ[5] |
فهذا معنى صحيحٌ: أنَّه سالم، يعني: من العيوب والنَّقائص.
وذكر بعضُ أهل العلم معنًى آخر، وهو الذي أنَّه سلم خلقُه من ظلمه، يسلمون من ظلمه، لا يظلم الناسَ شيئًا، فهذا يرجع إلى المعنى الأول في الواقع، سلامٌ يعني: أنَّ الله -تبارك وتعالى- سالمٌ من كل عيبٍ ونقصٍ، ومن هذه العيوب والنَّقائص الظُّلم، فهو مُنَزَّهٌ عنه -تبارك وتعالى.
وقد ذكر الحافظُ ابن القيم[6]) -رحمه الله- فيه قولين، أعني في السَّلام:
الأول: السَّلام، أنَّه اسم مصدرٍ، والمعنى أنَّه ذو السَّلام، يعني: على حذف المضاف، يعني: ذو السَّلامة.
والثاني: أنَّ المصدر هنا "السَّلام" بمعنى الفاعل، أي: السَّالم، يعني: السَّالم من كل العيوب والنَّقائص، فهو السَّلام من الصَّاحبة والولد، والسَّلام من الكفء والنَّظير والسَّميّ والمماثل، والسَّلام من الشَّريك.
وإذا نظرتَ إلى جميع صفاته -تبارك وتعالى-، صفات الكمال، وجدت كلَّ صفةٍ سالمة من كل عيبٍ ونقصٍ، فصفاته سلامٌ عن كلِّ ما يُضاد الكمال، فحياته سلامٌ من الموت، ومن السِّنة والنَّوم، وكذلك قيّوميّته وقُدرته سلامٌ من التَّعب واللُّغوب، وعلمه سلامٌ من عزوب شيءٍ عنه، أو عروض نسيانٍ، أو حاجةٍ إلى تذكّر أو تفكّر، وإرادته سلامٌ من خروجها عن الحكمة والمصلحة، وكلماته سلامٌ من الكذب والظُّلم، فكلماته تمَّت صدقًا وعدلاً.
وغناه سلامٌ من الحاجة إلى غيره بوجهٍ، وكلّ ما سواه فهو محتاجٌ إليه، وهو غنيٌّ عن كلِّ ما سواه، وملكه سلامٌ من مُنازعٍ فيه، أو مُشاركٍ، أو مُعاونٍ، أو شافعٍ عنده بدون إذنه، وهذا لكمال قوّته، وعظمته، وغناه؛ لأنَّ أهل الدنيا يشفع عندهم مَن يشفع من غير إذنٍ؛ لنقص ملكهم، ولحاجتهم أيضًا إلى هؤلاء الشُّفعاء، فإذا ردُّوا شفاعتهم تخوَّفوا غوائلهم؛ لأنَّ ملكَهم قد لا يكون إلا بهم؛ من الأعوان وما إلى ذلك.
وإلهيته -تبارك وتعالى- سلامٌ من مُشاركٍ له فيها، بل هو الذي لا إله إلا هو، وحلمه، وعفوه، وصفحه، ومغفرته، وتجاوزه، كلّ ذلك سلامٌ من أن يكون لضعفٍ، أو لحاجةٍ، كما يكون من المخلوقين، بل هو محض جوده وإحسانه وكرمه.
وكذلك عذابُه -تبارك وتعالى- وانتقامه وشدّة بطشه وسُرعة عقابه، كلّ ذلك سلامٌ من أن يكون ظلمًا، أو تشفيًا، أو غلظةً، أو قسوةً، بل هو محض الحكمة والعدل، ووضع الأشياء في مواضعها، فهو سلامٌ مما يتوهم أعداؤه والجاهلون به.
وقضاؤه وقدره سلامٌ من العبث والجور والظُّلم، وشرعه ودينه سلامٌ من التَّناقض والاختلاف والاضطراب، وعطاؤه سلامٌ من كونه مُعاوضةً، أو لحاجةٍ إلى الـمُعطَى، ومنعه سلامٌ من البخل وخوف الإملاق، بل عطاؤه إحسانٌ محضٌ، لا لمعاوضةٍ، ولا لحاجةٍ، ومنعه عدلٌ محضٌ وحكمةٌ، لا يشوبه بخلٌ ولا عجزٌ، واستواؤه وعلوه على عرشه سلامٌ من أن يكون مُحتاجًا إلى العرش، أو إلى حملة العرش، بل كلّ ذلك مُفتقرٌ إليه -تبارك وتعالى-، وهو غنيٌّ عن ذلك كلِّه.
وكماله -تبارك وتعالى- سلامٌ من كلِّ ما يتوهمه المتوهمون، وسلامٌ من أن يصير -تبارك وتعالى- مُفتقرًا إلى شيءٍ، بل كلّ شيءٍ يفتقر إليه، ومُوالاته لأوليائه سلامٌ من أن تكون عن ذلٍّ أو ضعفٍ أو خوفٍ، كما يُوالي المخلوقُ المخلوقَ، بل هي مُوالاةُ رحمةٍ وخيرٍ وإحسانٍ وبرٍّ، كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ [الإسراء:111]، يعني: بسبب الذل.
وكذلك محبَّته لمحبيه وأوليائه سلامٌ من عوارض محبّة المخلوق للمخلوق؛ من كونها محبّة حاجةٍ، أو تملُّقٍ، أو انتفاعٍ بقُربه، وهكذا أيضًا ما أضافه إلى نفسه من صفات الكمال: كاليد، والوجه، ونحو ذلك، فهو سلامٌ عمَّا يقوله الممثلون، أو المعطِّلون.
فهذا كلّه داخلٌ في هذا الاسم الكريم: "اللهم أنت السلام"، يقول ابنُ القيم -رحمه الله-: "وكم ممن حفظ هذا الاسم لا يدري ما تضمّنه من هذه الأسرار والمعاني"[7]، نُردده وقد لا نشعر بما تحته من هذه المعاني الكبار العظيمة، فهو الـمُعظَّم السَّالم من مماثلة الخلق، ومن كلِّ نقصٍ، ومن كلِّ ما يُنافي الكمال.
هذه المعاني ذكر الشيخُ عبدالرحمن ابن سعدي[8] -رحمه الله- أنها ضابط ما يُنزّه عنه، فهو يُنزّه عن كلِّ نقصٍ، هذا أولاً، ويُعظَّم أن يكون له مثيلٌ أو شبيهٌ، يعني: يُنزَّه عن النُّظراء، وعن المثيل والشَّبيه، وعن الكفء، أو السَّميِّ، أو النِّد، أو المضاد، كما يُنزَّه عن نقص صفةٍ من صفاته التي هي أكمل الصِّفات، وأعظم الصِّفات، وأوسع الصِّفات.
إذن يُنزَّه عن كلِّ سوءٍ، وعن مماثلة المخلوقين، وعن النُّقصان، هذا معنى قولنا: أنَّه السَّالم من كل عيبٍ ونقصٍ.
ومنك السَّلام يعني: منك يُطلب ويُرجَى، فلا تحصل السَّلامة إلا لمن سلَّمه الله -تبارك وتعالى-، وإلا فإنَّ السَّلامة مُتعذِّرة: واعلم أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمعوا على أن ينفعوك، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، ولو اجتمعوا على أن يضرُّوك، لم يضرُّوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليك[9]، اعلم أنَّ ما أصابَك لم يكن ليُخطئك -لا تقل: لو-، وأنَّ ما أخطأك لم يكن ليُصيبك[10]، فإنما تُستوهب السَّلامة وتُطلب من الله-، فمَن أراد السَّلامة فليتوجّه إليه، فهو الذي يملك ذلك وحده، لا إله إلا هو، ولا معبودَ سواه.
تباركتَ البركة تدلّ على كثرة الخير، تعاظم الخير، تعاظم خيره وبرّه وإحسانه وجوده، وما إلى ذلك، فهو صاحب العظمة والمنّة، هو ذو الجلال والإكرام، والجلال فُسِّر بالعظمة، وما إلى ذلك، والإكرام بمعنى المنّة والإحسان، فهو مُكْرِمٌ لأوليائه بالإنعام عليهم، والإحسان إليهم.
وبعض أهل العلم يقول: "ذو الجلال والإكرام" أنَّه المستحقّ لأن يُجلّ ويُكْرَم، إلى غير ذلك مما ذكرناه سابقًا.
الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: "تأمّل هذه الألفاظ الكريمة كيف جمعت نوعي الثَّناء؟ أعني: ثناء التَّنزيه: اللهم أنت السَّلام، فهذا فيه تنزيهٌ لله ، ثناء التَّنزيه والتَّسبيح، وثناء الحمد والتَّمجيد: ومنك السَّلام تباركتَ، فهذا تمجيدٌ لله، وحمدٌ له بأبلغ لفظٍ وأوجزه وأتمّه معنًى.
فهنا إذا قلتَ: اللهم أنت السَّلام، فأنت تُنزِّهه عن كل عيبٍ ونقصٍ، وإذا قلتَ: تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام .. إلى آخره، فهذه صفات ثبوتيّة، تُثبت له الكمالات.
هذا ما يتعلق بهذا الذكر الذي يُقال أول ما يُقال بعد السَّلام.
وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين، والله أعلم.
- أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب استحباب الذكر بعد الصَّلاة وبيان صفته، برقم (591).
- أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، برقم (1734)، والمروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (1/316)، برقم (293)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"، برقم (1398)، وفي "صحيح الجامع"، برقم (1671).
- محاضرة على الرابط الآتي: https: //2u. pw/dEXa0.
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الوضوء، باب فضل الوضوء، والغرّ المحجّلون من آثار الوضوء، برقم (136)، ومسلم: كتاب الطَّهارة، باب استحباب إطالة الغُرَّة والتَّحجيل في الوضوء، برقم (248).
- "نونية ابن القيم" (ص210).
- انظر: "بدائع الفوائد" (2/138).
- "بدائع الفوائد" (2/137).
- انظر: "تفسير السَّعدي" (ص854).
- أخرجه الترمذي في أواخر أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (2516)، وقال: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ"، وأحمد في "المسند"، برقم (2669)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (7957).
- أخرجه أبو داود: كتاب السُّنة، بابٌ في القدر، برقم (4699)، وابن ماجه: أبواب السنة، بابٌ في القدر، برقم (77)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (5244).