الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «ائذنوا له، بئس أخو العشيرة..» إلى «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:

ففي باب ما يباح من الغيبة أورد المصنف -رحمه الله- حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رجلاً استأذن على النبي ﷺ فقال: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة[1] متفق عليه.

قال المصنف -رحمه الله-: احتج به البخاري في جواز غيبة أهل الفساد، وأهل الريب، يعني الذين يفعلون ما يوجب الريبة والشك فيهم.

قال: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة فذكره النبي ﷺ بأمر يكرهه، وهو لا يسمع، فهذا سؤال يرد على مسألة الغيبة، فيقال: إن ذلك مما يستثنى من الأحوال.

ائذنوا له فقد تكون العلة في ذلك -والله تعالى أعلم- أن النبي ﷺ أراد أن يبين حاله؛ لئلا يلتبس، ويخفى على الناس، وأن المصلحة تقتضي ذلك، كما يذكره بعض أهل العلم.

وقد يكون هذا لكون هذا الرجل كان معلنًا بالسوء، ولربما الأذى للناس، والقرينة في هذا أن النبي ﷺ لما سألته عائشة حينما هش له وبش، فسألته عن هذا، فقال لها ﷺ: يا عائشة إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة، من ودعه، أو تركه الناس اتقاء فحشه فدل هذا على أن الداعي للنبي ﷺ لهذا الفعل هو اتقاء شر هذا الإنسان، فهذا الإنسان الذي يحتاج مثل النبي ﷺ إلى أن يتقي شره، هذا يدل على أنه يوصل الأذى للناس، وأنه قد عُرف بذلك، فإذا ذُكر الإنسان بمثل هذا الذي قد عرفه الناس به، وهو مستعلن بذلك، فهذا لا يكون من قبيل الغيبة، كما سبق في الأحوال الستة التي ذكرها الإمام النووي -رحمه الله- قبل ذلك.

والبخاري كما سمعتم حمله على جواز غيبة أهل الفساد وأهل الريب، فهذا يحتمل أن يكون مستعلنًا بذلك، بمعنى أنه ذكره بم اشتهر عنه، وأهل الريب يعني الذين يكون لهم أحوال توجب الريبة، فأراد أن يبين حاله للناس؛ لئلا يغتر به أحد، فكلام البخاري -رحمه الله- يحتمل حالتين من الحالات التي تجوز فيها الغيبة.

ثم هذا الرجل تكلم أهل العلم في بيان عينه وشخصه، من هو؟ ولا حاجة في هذا، وسموا رجلين، ولا حاجة لمعرفة هذا المعين، وإنما يترك ذكره قصدًا، يعني أن رجلاً استأذن على النبي ﷺ، والغالب أن عائشة -رضي الله عنها- كانت تعرف من هذا الرجل.

ثم ذكر حديثا آخر لها قالت: قال رسول الله ﷺ: ما أظن فلانًا وفلانًا يعرفان من ديننا شيئًا[2]، رواه البخاري. قال الليث بن سعد أحد رواة هذا الحديث: هذان الرجلان كانا من المنافقين[3].

يعني هذا الجواب، وعائشة -رضي الله عنها- أبهمت هذا المعين، أو أبهمت هذين الرجلين.

ما أظن فلانًا وفلانًا يعرفان من ديننا شيئًا إذا كانا لا يعرفان من ديننا شيئًا، فهذا يقتضي أيضًا أنهما لا يعملان بمقتضاه، يعني ليسوا من أهل المعرفة بدين الإسلام، ولا من أهل العمل به، ومن كان بمثل هذه المثابة، فهذا يكون من المنافقين الذين يظهرون الإسلام، ويبطنون خلاف ذلك، ومن ثم فتكون هذه الحال من الأحوال التي ذكرها الإمام النووي -رحمه الله- أن تذكر حال الإنسان من باب التحذير أو النصح، وبيان تلك الحال؛ لئلا يغتر بها الناس.

ثم ذكر حديث فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- قالت: "أتيت النبي ﷺ فقلتُ" وفاطمة بنت قيس هذه -رضي الله عنها- هي أخت الضحاك بن قيس، وهي من المهاجرات الأول، ومن خيار الصحابيات، وكانت من أهل العقل والرجاحة فيها، فقالت: إن أبا الجهم ومعاوية خطباني؟ هذا مقام استشارة واستنصاح، فقال رسول الله ﷺ: أما معاوية فصعلوك لا مال له والصعلوك يقال لمن لا مال له، فقير.

وأما أبو الجهم، فلا يضع العصا عن عاتقه[4] متفق عليه.

لا يضع العصا عن عاتقه جاء في رواية لمسلم: فرجل ضراب للنساء[5] وهو تفسير لرواية: لا يضع العصا عن عاتقه وقيل: معناه: كثير الأسفار؛ لأن العرب تكني، يقولون: فلان لا يضع العصا عن عاتقه، يعني: أنه كثير الترحل والانتقال والسفر، فهذا يحتمل، ويحتمل أن يكون المراد بذلك أنه كثير الضرب للنساء، ما يضع العصا، والأقرب هنا هو ما جاء مفسرًا في الرواية الأخرى: فرجل ضراب للنساء وبعض أهل العلم قال: لا مانع من حمله على الأمرين، وأنه كان يضرب النساء كثيرًا، وكان أيضا كثير الأسفار، والله أعلم.

فهذا مقام نصيحة، فلا يصح فيه الورع، بحجة أنه لا يريد أن يقع الإنسان بالغيبة، فيكتم ما عرف من حال من سُئل عنه، بل يجب عليه أن يبين، لكن كما سبق في بعض الليالي أن يبين بالقدر الذي يحتاج إليه دون توسع.

ثم ذكر أيضًا حديث زيد بن أرقم قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ في سفر أصاب الناس فيه شدة، وهذا في غزوة بني المصطلق، في القصة المعروفة، فقال عبد الله بن أبي: لا تنفقوا على من عند رسول الله ﷺ، حتى ينفضوا، يعني حتى يتفرقوا عنه، وحتى يطلبوا بلدًا آخر، وكان ينصح قومه أن يمنعوا النفقة في سبيل الله عن أصحاب النبي ﷺ، ويقول: إن إنفاقكم وبذلك جعلهم يكاثرونكم في بلدكم، يعني حتى صار المهاجرون في بعض الأوقات أكثر من الأنصار، قال: قد كاثروكم في بلدكم، فكان ينصحهم أن يمنعوا عنهم البذل والنفقة في سبيل الله تعالى، والله رد عليه بما قد علمتم هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون:7].

يقول: فأتيت رسول الله ﷺ والمقالة الثانية أيضًا قالها في بني المصطلق في نفس الغزوة لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون:8] لما حصلت خصومة على الماء بين رجل يقال له: الجهجاه، مولى لعمر ﷺ، وبين رجل من جهينة، مولى لعبد الله بن أبي، فهذا يمثل الأنصار، وهذا يمثل المهاجرين، في هذا النزاع، فقال الأنصاري أو هذا الحليف للأنصار: يا للأنصار، وقال حليف المهاجرين: يا للمهاجرين، فقال النبي ﷺ: ما بال دعوى أهل الجاهلية؟[6] ولما بلغ ذلك عبد الله بن أبي قال: أوقد فعلوها؟ والله ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، ثم قال: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون:8] يقصد أنه هو الأعز، وأن رسول الله ﷺ الأذل.

يقول زيد بن أرقم، وكان من صغار الصحابة، وقد خرج في هذه الغزوة مع عمه: فأتيت رسول الله ﷺ فأخبرته بذلك، فأرسل إلى عبد الله بن أبي، فاجتهد يمينه ما فعل، يعني يحلف، وهم كما قال الله : اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [المنافقون:2] اتخذوها مثل الترس، يتقون فيه ما يوجه لهم من التهم.

فقالوا: كذب زيد رسول الله ﷺ يعني أخبره بخلاف الواقع، فوقع في نفسي مما قالوه شدة، حتى أنزل الله تعالى تصديقي: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ [المنافقون:1] ثم دعاهم النبي ﷺ ليستغفر لهم، فلووا رؤوسهم[7]. متفق عليه. 

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [المنافقون:5] يعني: أن الواحد منه يلوي رأسه، ويعرض يشيح تكبرًا وصلفًا وتعاليًا وترفعًا أن يأتي للنبي ﷺ ليستغفر له، وعلى كل حال، فزيد بن أرقم ذهب وأخبر النبي ﷺ عن عبد الله بن أبي، وما قال، فهل هذا يعتبر من الغيبة؟ أخبر عنه بما يكره، هذا ليس من الغيبة، فبيان حال أهل الفساد وأهل الشر، وما إلى ذلك والنصح للمسلمين هذا لا إشكال فيه.

ثم ذكر الحديث الأخير: وهو حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قالت هند امرأة أبي سفيان للنبي ﷺ: إن أبا سفيان رجل شحيح، يعني بخيل، والشح أشد من البخل، على خلاف بين أهل العلم في تفسير الفرق بينهما.

"رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم؟ قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف[8] متفق عليه.

هند هذه امرأة أبي سفيان بنت عتبة بن ربيعة، وهي والدة معاوية ، وأسلمت بعد إسلام أبي سفيان بليلة واحد، عام الفتح، جاءت للنبي ﷺ وقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، وهذا الشاهد، فذكرته بما يكره، وهذا مقام استفتاء، فيجوز في حال الاستفتاء، مع أنه يمكن أن يقال: ما تقول في امرأة لها زوج شحيح، لا ينفق عليها النفقة الكافية، فيأتي الجواب دون أن تسمي زوجها مثلاً، لكن دل هذا على جواز أن يسمى، ولو كان عن التسمية مندوحة، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب برقم (6054) ومسلم في البر والآداب والصلة، باب مداراة من يتقى فحشه برقم (2591).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب ما يكون من الظن برقم (6067).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب ما يكون من الظن برقم (6067).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب قصة فاطمة بنت قيس برقم (5321) ومسلم في كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها برقم (1480) واللفظ لمسلم.
  5. أخرجه مسلم في كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها برقم (1480).
  6. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قولِه: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8] برقم (4907) ومسلم في البر والصلة والآداب باب نصر الأخ ظالما أو مظلوماً برقم (2584).
  7. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قولِه: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1] إِلَى {لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] برقم (4900) ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم برقم (2772).
  8. أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب القضاء على الغائب برقم (7180) ومسلم في كتاب الأقضية، باب قضية هند برقم (1714).

مواد ذات صلة