الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب تحريم الطعن في الأنساب الثابتة في ظاهر الشرع، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58] وقد مضى الكلام على هذه الآية في مناسبات شتى، والشاهد منها المتعلق بهذا الباب: أن الطعن في أنساب الناس يكون من قبيل الأذى لهم، بل هو من أبلغ الأذى، فإن الناس يتأذون ممن يطعنون بأنسابهم، وهذا الباب كما ترون تحريم الطعن في الأنساب الثابتة في ظاهر الشرع.
لكن لو كانت غير ثابتة أصلاً، فمثل هذا لا بأس ببيانه أن دعت الحاجة لذلك، مثال: العبيديون الذين حكموا بلاد المغرب ومصر، وهم من الباطنية، على شاكلها هؤلاء الذين يحكمون وقد تسلطوا على رقاب المسلمين في بلاد الشام، وهم من أسوأ الناس اعتقادًا، وليسوا من الثنتين والسبعين فرقة أصلاً، يعني: ليسوا من عداد المسلمين، وهم شر من اليهود والنصارى.
ففي بلاد الشام أخرجهم المستعمر الفرنسي، وأنزلهم من الجبال، وسماهم بالعلويين، من أجل أن يقبلهم الناس؛ لأن عُرفوا بالنصيرين، وسمعتهم في غاية السوء، فسموهم بالعلويين، من جل أن يُقبلوا.
وأولئك الذين حكموا بلاد المغرب والشام سموا أنفسهم بالفاطميين، نسبة إلى فاطمة -رضي الله عنها وأرضاها-، فمثل هؤلاء بيّن العلماء لا يمتون إلى فاطمة -رضي الله عنها- بصلة، وأن نسبهم لا يتصل بها إطلاقًا، فمثل هذا يُحتاج إليه.
وكذلك بعض المجرمين لربما يفاجئ الناس في أوقات وأحداث تحصل، فمما يتشبث به أن يدعي دعوى كبيرة، أنه ينتسب إلى أهل البيت، ولا يعرف له مستند لذلك إطلاقًا، وإلا في الأصل أن الناس مؤتمنون على أنسابهم، لكن ينبغي للإنسان أيضًا أن يتعقل معنىً -في نظري- أنه في غاية الأهمية، وهو أنه لا يدعي دعوى ليست له، أو لا تصلح لمثله من أجل لا يعرض نفسه لشماتة الناس.
فبعض الناس لا يُعرف له نسب لأهل البيت مثلاً، أو لا يُعرف له نسب لقبيلة مثلاً، وفجأة بين عشية وضحاها، وإذا هو ينتسب إلى قبيلة مشهورة من غير أي مستند، أو ينتسب بعد ذلك إلى أهل البيت، كما ذكر بعض أهل العلم في كتب التراجم عن بعضهم، قالوا: فلان ارتقى درجة، فانتسب إلى العرب، وهو ليس من العرب، ثم ارتقى مرتبة أعلى منها، فانتسب إلى قريش، ثم ارتقى إلى مرتبه أعلى من ذلك، فانتسب إلى أهل البيت.
وقد يكون الإنسان في بيئة هي في غاية العصبية، فيجعلونه ضُحكة للناس، فيتندرون به، ويستخفون به، وأكرم الناس عند الله أتقاهم، ولا حاجة أن يدعي الإنسان شيء ليس له، فيحفظ الإنسان عرضه، ويصونه من وقيعة الناس، الذين لا يراعون في مؤمن إلاً ولا ذمه، فيسخرون منه، ويشمتون به.
فهذا ينتقل من أعجمي إلى العرب، ومن العرب إلى قريش، ومن قريش يدعي بعد ذلك شيئًا، حتى وصل إلى انتساب إلى أهل البيت، فتجد هذا كثيرًا في بلاد في شرق الله وغربها، في بلاد الأعاجم، وغيرها، تجد في بلاد أفريقيا وفي آسيا: قبائل كاملة تنتسب لأهل البيت، وهذا يكثر في البيئات التي يكثر فيها التصوف، قبائل كاملة ينتسبوا إلى آل البيت من غير أي مستند، لا دليل على هذا.
والعجيب أن بعضهم تجده يتسول عند المساجد، ويقول: أن من أهل البيت، أعطوني من مال لله، فيقال له: الصدقة لا تحل لأهل البيت.
على كل حال الطعن في الأنساب هذا من أعمال الجاهلية، يدل على ذلك حديث أبي هريرة الذي أورده المصنف -رحمه الله-:
قال: قال رسول الله ﷺ: اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت[1]، رواه مسلم.
فقوله: اثنتان يعني: خصلتان في الناس هما بهم كفر المقصود بذلك -والله تعالى أعلم- أنه من قبيل أعمال الكفر، ومعلوم: أن الإنسان قد يكون فيه خصلة من خصال الكفر، ولا يلزم من ذلك أن يكون كافرًا، وقد يكون فيه خصلة من خصال الجاهلية، ولا يلزم أن يكون جاهلين بإطلاق.
وقد يكون فيه خصلة من خصال النفاق كذلك، والنبي ﷺ ذكر هذا في أحاديث.
قال لأبي ذر: إنك امرؤ فيك جاهلية[2]؛ ولما ذكر النبي ﷺ أوصاف المنافقين قال: أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر[3].
فهذه من خصال الكفر هما بهم كفر وبعض أهل العلم يقول: ذلك في المستحل، يعني: الكفر المخرج من الملة.
وبعضهم يقول: هذا من قبيل الكفر الذي هو كفر النعمة، ولا حاجه لمثل هذا، والله تعالى أعلم، والمقصود: أن ذلك من خصال الكفر.
قال: الطعن في النسب، والنياحة على الميت فالطعن في النسب أن يطعن في انتسابه لآبائه، أو إلى قبيلته، أو ينتقص نسبه، يعني: قد لا يطعن في ثبوت النسب؛ ولكنه ينتقص ذلك، فيحتقر هؤلاء في أنسابهم مثلاً، وهذا لا يجوز، وهي خصلة باقية من خصال الجاهلية، تجد ذلك للأسف الشديد في طوائف كثيرة من الأمة من العرب والعجم، فتجد الأعاجم أحيانًا القبليين أو الشعبين، أو أهل هذه البلاد، وهذه البلاد لا ترى فرقًا في الصورة الظاهرة بينهم، ولا في أعمالهم، وأخلقهم إطلاقًا، وهؤلاء يحتقرون هؤلاء، وهؤلاء يحتقرون هؤلاء، وهؤلاء لا يُزوجون من هؤلاء، وكلهم من المسلمين، وهؤلاء لا يُزوجون من هؤلاء، وإذا نظرتَ ما هي الأشياء التي تميز بها هؤلاء عن هؤلاء، حتى يحتقرون إخوانهم ؟ لا شيء!
فما موجب ذلك؟ هذا لا يجوز، وتجد هذا أيضًا في القبائل، فهذه القبيلة يحتقرون هذه القبيلة، ينتقصونها، وهذا لا يجوز، هذا من قبيل الطعن في الأنساب، فهو وإن لم ينف عنه هذا النسب؛ لكنه يسخر منه ويحتقره لقبيلته ونسبه.
وتجد هذا أيضًا عند غيرهم ممن قد لا ينتسب إلى قبيلة، قد يطعن ويحتقر نسب من دونه، في الوقت الذي قد تجده يُنكر على هؤلاء الذين يطعنون في الأنساب، والذين ينتقصون الناس لهذا، وإذا نظرت إلى كلامه أحيانًا فيمن دونه تجد أنه يصدر منه مثل ما يصدر من هؤلاء، إلا من عصم الله ، وخلصه من هواه.
فالحاصل: أن هذا جميعًا لا يجوز، ولو تأمل الإنسان في كثير من المعايير التي يتكئ عليها هؤلاء الناس الذين يتعصبون هذه العصبيات، قد تجد مواضع من الخلل تعتورها، يعني: هؤلاء الذين ينتسبون لقبيلة إلى آخره، وليس من نسب رسول الله، ولا من قريش مثلاً، بأي شيء يفتخرون على إخوانهم؟ قبيلة مثل غيرها من القبائل، يفتخرون على الآخرين بماذا؟ هم كغيرهم، والنبي ﷺ أخبر أن المعيار هو التقوى، ثم أيضًا إذا نظرت إلى ما قد يتفاخر به هؤلاء، ويتعصبون له، لربما تجد أنه يقع فيما ينكره، فقد يتزوج من امرأة يهواها في بلد آخر لإشباع غرائزه وشهوته، ولا يعرف لها نسبًا، ولا يعرف تربيتها، ولا نشأتها، ونسبها، ولا يعرف شيئًا من ذلك، وأخرى في بلده وبيئته، وحافظة لكتاب الله، وصالحة ومن الأخيار، ويعرف نشأتها وأهلها، وينفر غاية النفور من التزوج منها؛ لأنه لا يعرف لها نسبًا، ولا قبيلة معينة، وتلك التي تزوجتها من ذلك البلد أين نسبها وقبيلتها؟ ما يعرف شيء، وأين نشأت وتربت؟ وما أخلاقها؟ وما أعمالها؟ هل تصلي؟ وهل تعبد الله ؟ وهل هي تقية؟ وهل هي عفيفة شريفة؟ ما يعرف، وإنما نزل البلد وتزوج، ولو قيل: تزوج من البلد واحدة حافظة لكتاب الله صالحة أهلها من أهل الخير والصلاح، فأنه ينفر، طيب ما هي المعايير؟ يكون المعيار واحدًا، يمشي على طريقة متحدة، أما أن يتقلب بالهوى بهذه الطريقة فهذا الكلام غير صحيح، ويدل على أن الإنسان لا يكون على أساس بين واضح، وأن الهوى هو الذي لربما يحكم هذه التصرفات والمفاضلات والتحولات التي تحصل عند هؤلاء، أو بعض هؤلاء الناس، وقل مثل ذلك أيضًا: قد يتزوج من بلاد الكفار، ولا يعرف أصلاً أن لها نسب شرعي من أبيها، يعني: ولدت قبل الزواج بسنتين، يقيمون علاقة، ثم ينجبون الطفل الأول والثاني، ثم يتزوجون فيأتي هذا ويتزوجها، وهي لا يثبت لها نسب، يعني: بنت ليس شرعية، وإنما يكفي نسبها إلى تلك الدولة العظمى والبلد العظيم في نظره، فهي بنت هيان بن بيان، يكفي أن نسبها البلد العظيم الكبير هو النسب، لكن من أبوها؟ الله أعلم، لقيها في الكلية، أو في الصيدلية، أو في المطار، وتعرف عليها وتزوجها ويفتخر بهذا، ويرفع رأسه في المجالس أنه تزوج من ذلك البلد.
ولو قيل له: من أهل بلدك تزوج واحدة من هذا القبيل، وبهذه المثابة، لا يعرف لها أب شرعي؛ لنفر غاية النفور، وقد تكون صالحة تقية، وما لها ذنب، فيقول: أبدًا لا يمكن هذا، طيب وتلك التي في البلاد البعيد صاحبة العيون الزرقاء؟ وما الذي يجعلها تقبل وهذه لا تقبل؟ المعاير ليست منضبطة، يدل على أن المحرك عندنا في كثير من الأحيان هو الهوى، ولو فكر الإنسان وعقل لوجد كثير من تصرفاته، لا تستند على أساس صحيح، والله تعالى أعلم.
والشاهد: أن هذا معنى قول النبي ﷺ: اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في النسب، والنياحة على الميت وقد مضى.
وسيأتي -إن شاء الله- شيء من هذا الكلام على النياحة والمقصود بها: القدر الزائد على البكاء، سواء كان ذلك برفع الصوت بالبكاء، أو كان ببعض المزاولات، مثل: لطم الخدود، وشق الجيوب، ومعط الشَّعْر[4]، أو الكلام بأمور لا تليق: واعضداه، واجبلاه، وأشياء من هذا القبيل، فهذا كله من النياحة، وذكر مآثر الميت إذا مات في الأماكن العامة والمجالس... إلى آخره، فيقال: فلان هو الطاعم الكاسي، وهو كذا، فهذا يُعد أيضًا من جملة النياحة، وهو النعي المحرم، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة على الميت برقم (67).
- أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك برقم (30) ومسلم في الإيمان والنذور، باب إطعام المملوك مما يأكل برقم (1661).
- أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق برقم (34) ومسلم في الإيمان، باب بيان خصال المنافق يرقم (58).
- أي: نتفه.