الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب تحريم الهجران بين المسلمين فوق ثلاثة أيام، إلا لبدعة في المهجور، أو تظاهر بفسق، أو نحو ذلك.
الهجر بمعنى القطيعة، والقطعية بين المسلمين لا تجوز، وهنا المصنف -رحمه الله- قيد ذلك بما يزيد على ثلاثة أيام، وذلك لما سيأتي من الأحاديث الدالة على هذا التقييد، والمقصود بذلك ما كان لحظ النفس، وذلك أن الإنسان كما مضى في مناسبات سابقة حينما يقع في قلبه شيء من فورة الغضب، أو لربما الحنق، أو الضيق، أو الحزن، أو الضغينة، أو نحو ذلك فإنه يضعف، ويتلاشى خلال ثلاثة أيام، ولهذا كان الحزن يضعف، ويتلاشى في ثلاثة أيام، فذكر بعض الفقهاء، وشاع ذلك بين العامة أن العزاء يكون في ثلاثة أيام مع أن هذا لا أصل له شرعًا، وإنما كأنهم نظروا إلى أن الحزن يذهب، ويضمحل في الأيام الثلاثة، ومن ثم رخص الشارع للمرأة أن تحاد ثلاثة أيام، فيكون ذلك من قبيل الرخصة إلا على زوج، فإن ذلك يكون أربعة أشهر وعشرًا على الوجوب، ويكون إلى العام على قول بعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على سبيل الاستحباب، أو الرخصة[1].
فالمقصود: أن هذا الإنسان الذي مات له ميت، وقعت له مصيبة إذا عزي بعد ثلاث كأنه يذكر بمصيبته؛ فتنكأ جراحه، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن ذلك لا يحد بهذا الحد، وإنما إذا كانت المصيبة حاضرة حية في نفسه؛ فإنه يعزى، فإذا تسلى عنها؛ فإنه لا يذكر بها؛ فتكون التعزية سببًا لتجديد الحزن عليه.
أما ما يتصل بالهجر فقد رخص الشارع فيه أيضًا بثلاثة أيام، وذلك من رحمة الله، ولطفه بعباده، فإن الإنسان قد تغلبه نفسه، فلا يستطيع مدافعة هذه المشاعر، ولكنه بعد ثلاثة أيام يضعف أثرها، ويخف، ومن ثم فلا يجوز له أن يهجر لحظ نفسه فوق ثلاثة أيام، وما عدا ذلك، يعني مما يتصل بحق الشارع، أو ما كان لمصلحة شرعية، فإن ذلك لا يحد بأيام ثلاثة، ولا بغير ذلك، وهذا يمكن أن يقال فيه بأن الهجر على حالين:
إما أن يكون هذا الهجر لله، وفي الله، فهذا يقال فيه: إنه كالدواء، إنما يوضع حيث نفع، فإذا كان المهجور ينتفع بهذا الهجر هجر، وإذا كان الهجر يزيده نقمة، وإعراضًا، وسوءًا، وفسادًا، وما إلى ذلك؛ فيتمادى فيما هو عليه، أو تأخذه العزة بالإثم، فإن الهجر لا يشرع في هذه الحال.
وكذلك أيضًا إذا كان لا يبالي بالهاجر أصلاً فلا معنى للهجر، أو كان هذا الهاجر في بيئة تكثر فيها هذه المخالفات، أو البدع، والضلالات، والمعاصي، ونحو ذلك، فإذا هجر يكون هو المهجور في الواقع، فمثل هذا لا أثر للهجر فيه، ولا يشرع فيه الهجر.
الحالة الثانية: أن يكون الهجر من أجل مصلحته هو، لا لحظ نفسه الشخصي، وإنما لمصلحة شرعية، وهو كون هذا الإنسان لا يسلم من أذى هذا من بدعته، أو معصيته، أو فجوره، أو أذيته إلا بهجره، ففي هذه الحال يشرع له أن يهجره، وذلك لا يحد يمكن أن يهجره إلى مدة طويلة، إلى أن يموت.
هنا قال: إلا لبدعة في المهجور، أو تظاهر بفسق، أو نحوه، يعني لو كان يعصي الله سرًا فإنه لا يهجر، لكن إذا كان يتظاهر بذلك، يعني يعلن ذلك فإنه يهجر لهذا المعنى.
قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ فهذه الأخوة الإيمانية، والرابطة الإيمانية تقتضي التواصل، ولا يحصل بينهم التقاطع والهجر، وقال تعالى: وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَان أمرهم بالتعاون على البر والتقوى، وألا يتعاونوا على الإثم والعدوان، فتكون الرابطة بين المسلمين قوية لأجل أن يحصل التعاون على البر والتقوى.
ثم ذكر حديث أنس قال: قال رسول الله ﷺ: لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث[2] متفق عليه.
وهذا الحديث مضى الكلام عليه، والتقاطع معروف، والتدابر أن يدبر هذا، ويدبر الآخر، فلا يلقاه ويسلم عليه، قال: ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث وهذا يدل على التحريم، ويدل على التقييد أن يكون الهجر لحظ النفس ثلاثة أيام فحسب.
ثم ذكر حديث أبي أيوب أن رسول الله ﷺ قال: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان، فيعرض هذا، ويعرض هذا هذا تفسير للهجر وخيرهما الذي يبدأ بالسلام[3] متفق عليه.
وهذا يدل على أن الهجر ينتفي بالسلام، فإذا كان بينهما السلام فإن الهجر يكون قد ارتفع، وإن لم تكن هناك بينهما صلة وعلاقة، ونحو ذلك.
وبعد ذلك ذكر حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس، فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك بالله شيئًا -يعني ما عدا الكبائر- إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: انظروا هذين حتى يصطلحا[4] رواه مسلم.
والمقصود: أن هذه الأمور أيها الأحبة يعني حينما يصل المسلم أخاه المسلم، ويترك قطيعته وهجره فهو لا يحسن إليه فحسب، بل يحسن إلى نفسه؛ لأن أعماله تكون موقوفة، فلا يغفر الله له بسبب هذا الهجر، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- انظر: الفتاوى الكبرى، لابن تيمية (5/364).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، برقم (6065)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن التحاسد والتباغض والتدابر، برقم (2558).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الهجرة، برقم (6077)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي، برقم (2560).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن الشحناء والتهاجر، برقم (2565).