الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية، والأمرد الحسن لغير حاجة شرعية، أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه[1].
قوله ﷺ كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فذكر زنا العينين، وهو النظر، بمعنى أنه ينظر إلى ما لا يحل النظر إليه، فيمتع طرفه، ويلتذ بالنظر الحرام، فهذا زنا العينين، والأذنان زناهما الاستماع، بمعنى أنه يستمع إلى صوت إنسان، أو إلى كلام إنسان، أو إلى كلام امرأة يستمع إلى كلامها بلذة، وشهوة، يتحدث معها، يستمع إليها بشهوة، ولربما تتغنج هذه المرأة، وتزين صوتها، وترققه، فيلتذ بذلك، فهذا من زنا السمع.
قال: واللسان زناه الكلام، يتحدث، ويلتذ بهذا الحديث، يتحدث بحديث لا يليق مع امرأة أجنبية، أو مع من يستملحه، ويستحسنه، كما قال المصنف -رحمه الله- هنا: والأمرد الحسن، فيتكلم، وهو يلتذ بهذا الكلام.
ومعلوم أن اللذة تنقسم، منها ما يتعلق بحاسة الشم، ومنها ما يتعلق بحاسة السمع، فقد يسمع كلمة تعدل عنده ألف فعل، وقد يكون ذلك الالتذاذ بالنظر، فيتلذذ بالنظر، فيحرك من غرائزه ما لا يحرك الفعل، وهذا أمر معلوم لا يخفى، ولهذا نهى الله قال: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وقال: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وقال: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ فالقلوب تطرب لصوت الخلخال، فمن الناس من يحركه هذا بقوة، ومن الناس من يحركه النظر، ومن الناس من تحركه الروائح، ولهذا قال النبي ﷺ: أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية[2] ومن الناس من يحركه السمع، الأصوات فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وهكذا.
فهنا قال: واليدان زناهما البطش اللمس، وقد يكون ذلك بالمصافحة، ويستمتع بهذا، والرِّجل زناها الخطا، المشي إلى المنكر والفاحشة، وما إلى ذلك، المشي إلى الأماكن التي يلتذ فيها، يذهب إلى أسواق، يذهب إلى أماكن عامة، إلى حدائق، إلى ممشى يمشي فيه النساء، وهو لا يريد المشي، ولا يريد الرياضة، لكنه يستعرض بعضلاته المفتولة، ويلبس سراويلات قصيرة، وما إلى ذلك، ويقابل الرائحات الغاديات، وهو ابن زمانه، قد فتل عضديه، وأظهر قوته، وفتوته، وشبابه ليفتن هؤلاء النساء فقد يمشي المسافات الطويلة، وقد يمشي المشي الذي يعجز عنه أقوياء الرجال، وهو لا يشعر بالتعب كل ذلك؛ لأنه يهوى في هذا المشي، فيحركه قلبه الذي ينظر إلى الرائحات الغاديات، فلعل واحدة تعجب به، أو تفتن به، أو تشير إليه، أو نحو ذلك.
قال: والقلب يهوى ويتمنى قد لا يفعل، لكن القلب يتحرك بهذا الاتجاه، يتمنى، أماني القلب سماها النبي ﷺ زنا، زنا القلب من يرضى لنفسه أن يزني قلبه، أو أن يزني عينه، أو أن تزني أذنه، أو نحو ذلك.
قال: ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه فأولئك الذين يمشون في سبيل شهواتهم، الواقع أن خطوات هؤلاء هي من زنا القدم، زنا الرجل، هذا الذي يلمس أو يصافح، أو نحو ذلك بلذة، هذا في الواقع ذلك منه زنا لهذه اليد بالبطش، وهكذا.
ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال رسول الله ﷺ: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه الحديث.
إياكم والجلوس في الطرقات هذا الأسلوب يستعمل للتحذير، وذلك لما فيه من الآفات والمخاطر، من إطلاق النظر، فينظر إلى الحرام، ومن إطلاق اللسان، فيتكلم بالحرام، فيهزأ بهذا، يسخر بهذا، يشمت بهذا، يغمز هذا، يغتاب هذا، واللسان يتحرك، ويصعب السيطرة عليه، فإذا كان في مكان مفتوح فذلك أدعى إلى أن يعتلج هذا اللسان فيما حرم الله فيقع في هذا، وذاك، وهكذا نظره، وهكذا سمعه، فحذرهم من هذا.
قال يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد، يعني هي مجالسنا، نتحدث فيها، يعني يتحدثون في شؤونهم وأمورهم، فقال رسول الله ﷺ: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر[3] متفق عليه.
غض البصر عما حرم الله وكف الأذى، سواء كان باللسان، أو كان ذلك بالفعل، أو بأي طريق كان الأذى، يؤذي الناس، يؤذيهم، يتكلم في أعراضهم، أو يشتم هذا، أو يصدر عبارات تدل على سخرية، أو استفزاز لهؤلاء المارة، أو لربما يتصرف بصرفات تدل على سخرية، يعني بعض الناس يشمت بالمارة.
يعني وجد مثلاً من يربط شيئًا من النقود بسلك لا لون له، سلك السنارة، ويلقيه، يضع خمسمائة ريال في الطريق، وهو جالس عند حانوت، دكان، ويمر الناس في هذا الطريق، في السوق، فكل ما جاء أحد، وأراد أن يهوي إليه ليأخذ هذا المال، سحبه، فيضحك، ويضحك من معه ممن جلسوا في هذا المكان، هذا لا يجوز، لا يجوز للإنسان أن يتخذ الناس شماتة، وموسى لما قال له بنو إسرائيل: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين فدل على أن الذي يسخر بالناس، ويستهزئ بهم أنه من الجاهلين، هذه ليست من أوصاف أصحاب العقول الكاملة، هذا سفه.
فالشاهد: أن الأذى بجميع أنواعه، ورد السلام؛ لأنه واجب، قال: والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإذا رأى شيئًا غيره، وهذا الإنكار قد يكون باليد إذا كان يستطيع ذلك، ولا يترتب عليه مفسدة أعلى منه، وقد يكون هذا التغيير باللسان، وقد يكون هذا التغيير بالقلب، وإن كان بالقلب فيما يعجز عنه باليد، أو اللسان فإن ذلك يقتضي مفارقة المنكر، ما يجلس في مكان، والمنكر أمامه، ثم يقول: أنا أنكر بقلبي.
ويدخل في الجلوس في الطرقات، يدخل فيه صور متنوعة، قد لا يكون جالسًا في الطريق، لكنه قد يجلس على شرفة في المنزل، أو في السوق، أو نحو ذلك، وينظر إلى الطريق، في شرفة المنزل، ويتفرج، قد يجلس في حانوت، في دكان مفتوح، ويجلس على العتب، أو في داخل الحانوت، وينظر إلى الطريق، ينظر إلى الرائحات، يأتي زملاؤه، ويجلسون معه، وينظرون إلى من يذهب، ويجيء، وقد يجلسون في مكان بلكونة، أو نحو ذلك في البيت، مفتوحة على الخارج، فينظرون إلى من يذهب، ويجيء، فلا فرق بين هذا، وبين من جلس على قارعة الطريق، لا فرق.
وعلى كل حال، الجلوس في الطرقات النبي ﷺ حذر منه، فينبغي أن يتنبه لمثل هذا، فإن كان، ولا بدّ تعطى آداب وحقوق الطريق.
ومن الأشياء التي لربما نشاهدها دائمًا وتتكرر، يجلس بعض الجموع في طريق من الطرقات، وأصوات المعازف عالية، ويتأذى الناس، ويتأذى الجيران، ويتأذى المارة، فيكون ذلك من إعلان المنكر، وهذا لا يجوز بحال من الأحوال.
ومن الصور أن تحصل تجمعات لا يأمن الناس معها على بيوتهم، وعلى أنفسهم، وعلى أولادهم، وعلى محارمهم، يتجمعون من أحياء مختلفة، أشكال من الناس قد لا تكون مرضية، ولا بصور مطمئنة، وبحالات تبعث إلى الانشراح والسرور، والاطمئنان عند رؤيتهم، بل إذا رأيتهم سألت الله العافية، لما ترى من تصرفات وحماقات، وسفه وطيش، وما إلى ذلك، جموع تتجمع في بعض النواحي، في بعض الأحياء، فيتأذى الجيران، هذا لا يجوز، يتأذى أهل الحي برمته، هذا لا يجوز.
ومن هذه الصور أيضًا تجد بعض هؤلاء الشباب يتجمعون، وتقف السيارات بجوار بعضها، ويتحدثون، وهم في السيارات، والناس ينتظرون خلفهم، وكأن شيئًا لم يكن، ولربما لو أن أحدًا أنكر عليهم، أو قال لهم: لو سمحتم ابتعدوا عن الطريق؛ لما رأى من السفه، والحماقات ما لا قبل له به، طيش بما يمكن أن تؤديه هذه اللفظة من المعاني -نسأل الله العافية- يقفون في الطريق، ويتحدثون، سيارة بجوار سيارة بجوار سيارة، ولا يستطيع الناس الاجتياز، والعبور، فهذا يؤذي الناس، وهو داخل في الوعيد في وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا، والله تعالى أعلم.
- أخرجه أحمد في مسنده، برقم (8844)، وصححه الألباني في التعليقات الحسان، برقم (4402).
- أخرجه النسائي في سننه، برقم (5126)، وحسنه الألباني في التعليقات الحسان، برقم (4407).
- أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، برقم (6229)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن الجلوس في الطرقات وإعطاء الطريق حقه، برقم (2121).