الجمعة 13 / جمادى الأولى / 1446 - 15 / نوفمبر 2024
(134) الدعاء بعد التشهد الأخير قبل السلام "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"
تاريخ النشر: ٠٨ / جمادى الآخرة / ١٤٣٥
التحميل: 2376
مرات الإستماع: 1906

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

في هذه الليلة نُواصل الحديث عمَّا يُقال بعد التَّشهد، وبعد الصَّلاة على النبي ﷺ من الأدعية الصَّحيحة الثَّابتة عن رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام-.

من ذلك: ما رواه معاذُ بن جبل : أنَّ رسولَ الله ﷺ أخذ بيده يومًا، ثم قال: يا معاذ، والله إني لأحبّك، فقال له معاذٌ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وأنا والله أحبُّك. قال: أُوصيك يا معاذ: لا تدعنَّ في دُبر كل صلاةٍ أن تقول: اللهم أعني على ذِكرك، وشُكرك، وحُسن عبادتك، وأوصى بذلك معاذٌ الصّنابحي، وأوصى به الصّنابحي أبا عبدالرحمن، وأوصى به أبو عبدالرحمن عقبة بن مسلم. هؤلاء هم رُواة الحديث في سلسلة الإسناد؛ فمعاذ يرويه عن النبي ﷺ، والذي يرويه عن معاذٍ هو الصّنابحي عبدالرحمن بن عسيلة، والذي يرويه عن الصّنابحي هو أبو عبدالرحمن الحبلي، وأبو عبدالرحمن كُنيته، واسمه: عبدالله بن يزيد، والذي يرويه عن أبي عبدالرحمن هو عقبة بن مسلم، فكل واحدٍ يُوصي مَن روى عنه بوصية رسول الله ﷺ.

هذا الحديث أخرجه أبو داود، وسكت عنه، والنَّسائي[1]، وقد ذكرنا من قبل أنَّ أبا داود قد صرَّح بأنَّ ما سكت عنه فهو صالح؛ يعني: للاحتجاج عنده، وقال عنه المنذري: إسناده صحيحٌ، أو حسنٌ، أو ما قاربهما، وصححه أيضًا جمعٌ: كالنَّووي[2]، وابن الملقن، وابن كثير، والحافظ ابن حجر[3]، والشيخ ناصر الدين الألباني[4]، رحم الله الجميع.

يقول معاذٌ بأنَّ النبي ﷺ أخذ بيده يومًا، ثم قال: يا معاذ، أخذ بيده من أجل إيقاظ الفكر، وجذب الانتباه، وحضور القلب، فكأنَّ ذلك يُشبه الوصية، بل هو وصية، ولكنه يُشبه المعاقدة على أمرٍ أراد منه أن يفعله، وأن يُلازمه، فقال له: يا معاذ، والله إني لأُحبُّك، وهذا من رفيع خُلُقه -عليه الصلاة والسلام-، وتلطّفه بأصحابه، وهو من تواضعه أيضًا، فهو يقول لمعاذ بن جبل، وهو شابٌّ في مُقتبل العمر، يقول له: يا معاذ، والله إنّي لأحبُّك، فأكَّد هذا المعنى وهذه المحبَّة بعد أن ناداه باسمه، أكَّد ذلك بالقسم الصَّريح: "والله"، وأكَّده أيضًا بمُؤكِّدٍ آخر، وهو "إنّ"، ودخلت اللَّامُ أيضًا على جواب القسم: والله إنّي لأحبُّك، وهذا فيه مشروعية الإخبار؛ إخبار مَن أحببتَه بأنَّك تُحبّه في الله.

وقد أمر النبيُّ ﷺ- بذلك صراحةً في الحديث الآخر: إذا أحبَّ أحدُكم أخاه فليُعلمه[5]، أو كما قال -عليه الصَّلاة والسَّلام-؛ وذلك أنَّ هذه الشَّريعة جاء في مقاصدها إشاعة المحبَّة بين أهل الإيمان، وتقوية الآصرة بين أتباعها: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].

والنبي ﷺ يقول: وكونوا عبادَ الله إخوانًا[6]، فما يُقوِّي هذه الآصرة من: إفشاء السَّلام، أو الإخبار بالمحبَّة، أو نحو ذلك، فهو مطلوبٌ شرعًا، والنبي ﷺ أصدق الخلق، ومع ذلك يُقسم لمعاذٍ أنَّه يُحبُّه.

ثم قال له معاذٌ جوابًا على هذا القول من رسول الله ﷺ الذي هو بمنزلة وسامٍ وتاجٍ على رأس مَن قيل له: أنَّ النبي ﷺ يقول لرجلٍ من أصحابه: والله إنِّي لأحبُّك، فالنبي ﷺ لا يُحبّ إلا أهل الصِّدق والإيمان، فهذا في ضمنه شهادة لمعاذٍ -رضي الله تعالى عنه- بالإيمان والصِّدق فيه، هذا شرفٌ عظيمٌ لمعاذ بن جبلٍ -رضي الله عنه وأرضاه-؛ أخذ بيده، وناداه باسمه، وأقسم له أنه يُحبّه، وأكَّد ذلك بهذه المؤكِّدات.

معاذ أجاب النبيَّ ﷺ بقوله: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله"، يعني: أفديك بأبي وأمّي، يفديه بأبيه وأمِّه، ثم قال: "وأنا والله أُحبُّك"، أجاب بنحو ما قاله رسولُ الله ﷺ، حيث أكَّد ذلك بالقسم، إلا أنَّ قول النبي ﷺ أبلغ؛ حيث ذكر التَّأكيد بإنَّ، ودخلت اللَّامُ على جواب القسم، لكن كأنَّ معاذًا لم يحتج إلى كثيرٍ من التَّأكيد؛ لكون محبَّة النبي ﷺ لازمة لأهل الإيمان: لا يُؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين[7]، فالنبي ﷺ تُطلب محبَّته، وهي من الإيمان.

فمعاذٌ من مُقتضيات إيمانه، ومن مطالبه الواجبة، كما هو الشَّأن في عموم أهل الإيمان: أن يُحبُّوا رسولَ الله ﷺ محبَّةً تزيد على محبَّتهم لكلِّ محبوبٍ بعد الله من النَّفس، والوالد، والولد، والناس أجمعين.

فقال له النبيُّ ﷺ، وكان ذلك المقول الأول؛ يعني: حينما قال له: يا معاذ، ناداه: والله إني لأحبُّك، توطئة ومُقدّمة لما سيقوله بعده من هذه الوصية الجامعة التي هي من أجمع الوصايا كما سيتَّضح.

فهنا قال: أُوصيك يا معاذ، والوصية هي القول بالمؤكّد فيما يطلب فعله أو تركه، كما قال الله : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11]، وقال: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يعني: ويعقوب وصَّى بنيه بذلك: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132]، وهذا أيضًا مُضمَّنٌ في قوله -تبارك وتعالى- في سورة الإسراء: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، فإنَّه مُضمَّنٌ معنى "وصَّى" كما ذكرنا في بعض المناسبات؛ لأنَّ المذكورات بعده منها ما هو مأمورٌ، ومنها ما هو منهيٌّ، وهذا إنما تنتظمه الوصيَّة؛ لأنَّ "قضى" بمعنى: أمر، وحكم، وهذه منها ما هو منهيٌّ؛ ولذلك كان مُضمَّنًا -والله أعلم- معنى "وصَّى".

أُوصيك يا معاذ: لا تدعنَّ في دُبر كل صلاةٍ أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشُكرك، وحُسن عبادتك، يعني: كأنَّه يقول: أُوصيك يا معاذ، أنا أُحبُّك، فأُوصيك ألا تدع في دُبر كل صلاةٍ أن تقول كذا وكذا، إذا كان بيني وبينك هذا التَّحابب؛ لأنَّ معاذًا قال: "وأنا أُحبُّك يا رسول الله"، قال: فلا تدعنَّ، أوصيك لا تدعنَّ؛ لأني أُحبُّك، أو إذا أردتَ ثبات هذه المحاببة فلا تدعنَّ، أو غير ذلك من الاحتمالات القريبة: لأني أُحبُّك أُوصيك بهذا، وهذا نهيٌ: لا تدعنَّ، والأصل أنَّ النَّهي يقتضي التَّحريم، هذا الأصل.

ولهذا ذهب بعضُ أهل العلم إلى أنَّ ذلك الدُّعاء من الواجب أن يُقال في آخر الصَّلاة، ولكن هذا ليس محلَّ اتِّفاقٍ، وعامَّة أهل العلم على أنَّ ذلك لا يجب، وبعضهم قال: إنَّ ذلك يجب على معاذٍ ؛ لأنَّ النبي ﷺ قاله له بخصوصه. ولكنَّ هذا يُشكل عليه أنَّ خطابَ النبي ﷺ لواحدٍ من الأُمَّة يتوجّه إلى مجموعها، إلا لدليلٍ يدلّ على التَّخصيص، وهنا لا دليلَ، والذي عليه عامَّةُ أهل العلم أنَّ هذا نهي إرشادٍ، وليس بنهي تحريمٍ.

فلا تدعنَّ أن تقول في دُبر كل صلاةٍ[8] الدُّبر هنا يحتمل أن يكون قبل السَّلام؛ يعني: آخر الصَّلاة، في آخر جزءٍ منها، بعد الصَّلاة على النبي ﷺ، في آخر جزءٍ من الصَّلاة أن تقول، فدُبر الشَّيء يُقال تارةً لما هو منه، كما يُقال: دُبر الدَّابة، ويُقال أيضًا لما هو بعده مما يكون خارجًا عنه، وهذا الحديث يحتمل؛ ولهذا ذهب بعضُ أهل العلم إلى أنَّ ذلك يُقال قبل السَّلام، وذهب آخرون إلى أنَّه يُقال بعد السَّلام، والسَّبب هو الاحتمال في هذه اللَّفظة.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- وكذلك الحافظ ابن القيم ذهبا إلى أنَّ المرادَ هنا بدُبر الصَّلاة أنَّه قبل السلام، مع أنهم لا يُنكرون أن يكون مثل هذا اللَّفظ دالاً على ما كان بعد الشَّيء مما يكون خارجًا عنه؛ فالحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: وكان شيخُنا -يعني: شيخ الإسلام- يُرجِّح أن يكون قبل السَّلام، فراجعتُه فيه، فقال: دُبر كل شيءٍ منه، كدُبر الحيوان[9]. مع أنَّ الحافظ ابن القيم يتبنَّى هذا بقناعةٍ، هذا القول الذي قاله شيخُ الإسلام، وراجعه فيه، يتبنَّاه، ويزيد على ما قاله شيخُ الإسلام مما يُؤكِّد فيه هذا القول، ويُدلل عليه، فهو يذكر أنَّ ذلك يُقال في آخر الصَّلاة قبل السَّلام، قال: هكذا جاء في بعض الرِّوايات. هذا كلام ابن القيم: هكذا جاء في بعض الرِّوايات أنَّه يقولها قبل السَّلام. قال ابنُ القيم: وهو حقٌّ.

ثم ذكر قاعدةً مُفيدةً لطالب العلم، احفظوها، قال: بأنَّ المقيدَ بالدُّبر: دُبر كذا، دُبر الصَّلاة، المقيَّد بالدُّبر؛ أي: دُبر الصَّلاة، إن كان دعاءً فهو قبل التَّسليم، وإن كان ذكرًا فهو بعد التَّسليم[10]، هذا دُعاءٌ، أو ذكرٌ؟ هذا دعاءٌ، أعني: دعاء.

يقول ابنُ القيم: ويدلّ لهذه القاعدة أنَّ رسولَ الله ﷺ قال في حديث ابن مسعودٍ في التَّشهد لما ذكره[11]، قال: ثم ليتخيّر من الدُّعاء ما شاء، أو ما أحبَّ، أو أعجبه إليه[12].

يقول ابنُ القيم: أمَّا الذكر فقال اللهُ تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103][13].

فقوله هنا: لا تدعنَّ في دُبر كل صلاةٍ يعني: قبل السَّلام.

وهذا الدُّعاء يقول فيه: "اللهم" يعني: يا الله -كما عرفنا- "أعنِّي على ذكرك"، كل قولٍ يُقرِّب إليك، فيدخل في ذلك أنواع الذكر اللِّساني، مع أنَّ الذكرَ أعمُّ من هذا، لكن من أهل العلم مَن قال: إنَّ الذكرَ هنا يتَّصل باللِّسان، والشُّكر يتَّصل بالجنان -بالقلب-.

وحُسن العبادة: أعني على ذكرك، وشُكرك، وحُسن عبادتك قالوا: حُسن العبادة يتعلَّق بالأركان، فانتظم هذا الدِّين كلّه.

ذكرتُ لكم قبل قليلٍ أنَّ هذا الدُّعاء من الأدعية الجامعة، فعلى هذا التَّوجيه يكون الذكرُ ما يتَّصل باللِّسان من: قراءة القرآن، والدُّعاء، وكذلك أيضًا سائر أنواع الأذكار: الثَّناء على الله -تبارك وتعالى- بما يُنشئه المؤمنُ في هذا، أو فيما يُخبر به عن نفسه -كما ذكرنا في أنواع الأذكار-، فكلّ هذا داخلٌ فيه.

والشُّكر خصَّه بعضُهم بما يتَّصل بطاعة القلب، وحُسن العبادة قالوا: ما يتَّصل بالأركان، كأنَّهم أرادوا أن يُفرِّقوا بين هذه الأمور؛ لينتظم ذلك الدِّين كلّه، ولكن الواقعَ أنَّ الشُّكر يكون بالقلب، ويكون باللِّسان، ويكون بالجوارح، كما أنَّ الذكرَ لا بدَّ فيه من مُواطأة القلب، فالقلب يكون ذاكرًا، واللِّسان يكون ذاكرًا، كما أنَّ الجوارح تكون أيضًا ذاكرةً، وحُسن العبادة مرتبة أعلى من ذلك.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- له كلامٌ في هذه المسألة: بأنَّ الإنسان إذا أُعين على ذكر الله؛ فهو مُعانٌ على العبادة بجميع أنواعها: باللِّسان، وبالقلب، وبالجوارح، ولما كان العبدُ بين طاعات، وعبادات، وأعمال، وتكاليف يتقرَّب بها إلى الله -تبارك وتعالى-، ونِعَم تستوجب الشُّكر، ومن ذلك: التَّوفيق إلى هذه الأعمال، فهو بحاجةٍ إلى شُكْرٍ، ومن ثم فلا بدَّ للعبد من ذكرٍ، وشكرٍ، وهو يتقلَّب بينهما: بين الذكر، والشُّكر، ثم بعد ذلك هو بحاجةٍ إلى أن يرتقي إلى مقام الإحسان: وحُسن عبادتك، هو الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، فإذا أُعين العبدُ على ذكر الله، وشُكره، وحُسن عبادته؛ فقد استجمع الخيرَ كلَّه، كما يذكر شيخُ الإسلام -رحمه الله-.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: جمع بين الذكر والشُّكر، كما جمع سبحانه بين هذين في قوله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]، يقول: فالذكر والشُّكر جماع السَّعادة والفلاح[14].

وله كلامٌ أيضًا في مواضع من كُتبه، كـ"مدارج السَّالكين"، حيث يذكر أقسامَ الناس في العبادة والاستعانة، أعني: ابن القيم -رحمه الله-، فهو يذكر: أنَّ أفضل هؤلاء هم أهل الاستعانة والعبادة بالله عليه، ويذكر أنَّه كان من أفضل ما يسأل الربّ -تبارك وتعالى- الإعانة على مرضاته، كما في حديث معاذٍ، يقول: فأنفع الدُّعاء طلب العون على مرضاته، وأفضل المواهب إسعافه بهذا المطلوب، وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا، وعلى دفع ما يُضاده، وعلى تكميله وتيسير أسبابه. ونقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال: تأمَّلتُ أنفع الدُّعاء؛ فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيتُه في الفاتحة في: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5][15].

كثيرٌ من الناس يسأل يقول: علِّمني دُعاءً هو من أفضل الأدعية، أو أجمع الأدعية أدعو به. فيُقال: هذا من أجمع الدُّعاء.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يذكر في كتابه "الفوائد": أنَّ مبنى الدِّين على قاعدتين: الذِّكْر، والشُّكر. وذكر الآية: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ، وذكر حديثَ معاذٍ هذا، قال: وليس المرادُ بالذكر مجرد الذكر باللِّسان، بل الذكر القلبي واللِّساني. قال: وذكره يتضمّن ذكر أسمائه وصفاته، وذكر أمره ونهيه، وذكره بكلامه، وذلك يستلزم معرفته، والإيمان به، وبصفات كماله، ونعوت جلاله، والثَّناء عليه بأنواع المدح، وذلك لا يتمّ إلا بتوحيده، فذكره الحقيقي يستلزم ذلك كلّه، ويستلزم ذكر نِعَمِه، وآلائه، وإحسانه إلى خلقه؛ يعني: باللِّسان والقلب.

قال: وأما الشُّكر: فهو القيام بطاعته، والتَّقرب إليه بأنواع محابِّه: ظاهرًا، وباطنًا.

وهذان الأمران هما جماع الدِّين؛ فذكره مُستلزمٌ لمعرفته، وشُكره مُتضمّنٌ لطاعته، وهذان هما الغاية التي خلق لأجلها الجنّ، والإنس، والسَّماوات، والأرض، ووضع لأجلها الثَّواب والعقاب، وأُنزلت الكتب، وأُرسلت الرسل، وهي الحقُّ الذي به خُلقت السَّماوات والأرض وما بينهما.

قال: فالذكر للقلب واللِّسان، والشُّكر للقلب محبَّةً وإنابةً، وللسان ثناءً وحمدًا، وللجوارح طاعةً وخدمةً[16]. فالذكر يشمل هذا كلّه، والشُّكر أيضًا كذلك.

هذا الحديث -أيّها الأحبّة- جمع بين هذه الأمور، ويُؤخذ من الفوائد من هذا الحديث:

أنَّ مَن أحبَّ أحدًا من إخوانه المؤمنين؛ فإنَّه يُشرع له أن يُخبره.

وفيه أيضًا منقبةٌ لمعاذٍ كما سبق.

وأخذ من هذا شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حكمًا، وهو ما يتعلَّق بالدُّعاء في الصَّلاة؛ يعني: جاء عن النبي ﷺ أنَّ الإمام إذا دعا، وأنَّه حينما يدعو لنفسه دون مَن وراءه؛ فإنَّه يكون قد خانهم، لكن ما محمل ذلك؟

محمل ذلك إذا كانوا يسمعون دعاءَه، ويُؤمِّنون عليه، ثم هو يدعو لنفسه، أمَّا إذا كانوا لا يسمعون دُعاءَه؛ فالمشروع في حقِّه أن يدعو لنفسه، وهم يدعون لأنفسهم[17].

فمما استدلّ به شيخُ الإسلام: أنَّ النبي ﷺ كان إمامًا، ومعاذ كان كذلك يُصلي لقومه، فهو يدعو بهذه الصِّيغة: أعني بالإفراد، ما قال: أعنَّا على ذكرك؛ يعني: هو ومَن وراءه ممن يُصلي خلفَه؛ فدلَّ على أنَّ الإمام يُشرع له، وكذلك المأموم أن يدعو بصيغة الإفراد، إلا إذا كان في القنوت مثلاً، فهم يُؤمِّنون عليه، فلا يُفرد نفسه.

ويقول شيخُ الإسلام: مما يُوضِّح ذلك ما جاء في "الصَّحيح" عن البراء بن عازب قال: كنَّا إذا صلينا خلف رسول الله ﷺ أحببنا أن نكون عن يمينه، يُقبل علينا بوجهه، قال: فسمعتُه يقول: ربّ قني عذابَك يعني: في الصَّلاة، يوم تبعث عبادك، أو تجمع عبادك[18]. قال: فهذا فيه دُعاؤه ﷺ بصيغة الإفراد، كما في حديث معاذٍ، وكلاهما إمامٌ.

هذا ما ذكره شيخُ الإسلام -رحمه الله-، وهذا ما يتعلَّق بهذا الحديث[19].

فأسأل الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الصَّلاة، بابٌ في الاستغفار، برقم (1522)، والنَّسائي في "سننه": كتاب السَّهو، باب الدُّعاء بعد الذكر، برقم (1303)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان"، برقم (2017).
  2. انظر: "خلاصة الأحكام في مهمات السنن وقواعد الإسلام" للنووي (1/468).
  3. انظر: "نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار" لابن حجر (2/297).
  4. انظر: "التعليقات الحسان" للألباني، برقم (2017).
  5. أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب الزهد، باب ما جاء في إعلام الحبّ، برقم (2392)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان"، برقم (569).
  6. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب ما يُنهى عن التَّحاسد والتَّدابر، برقم (6065)، ومسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب النَّهي عن التَّحاسد والتَّباغض والتَّدابر، برقم (2558).
  7. أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب وجوب محبَّة رسول الله ﷺ أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين، وإطلاق عدم الإيمان على مَن لم يُحبّه هذه المحبَّة، برقم (44).
  8. أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الصَّلاة، بابٌ في الاستغفار، برقم (1522)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (949).
  9. انظر: "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (1/295).
  10. انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (2/264)، و"الصلاة وحكم تاركها وسياق صلاة النبي من حين كان يُكبر إلى أن يفرغ منها" لابن القيم (ص217).
  11. انظر: "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص329).
  12. أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب ما يتخير من الدُّعاء بعد التَّشهد وليس بواجبٍ، برقم (835).
  13. انظر: "مدارج السَّالكين" لابن القيم (2/398).
  14. انظر: "الوابل الصّيب" لابن القيم (ص68).
  15. انظر: "مدارج السالكين" لابن القيم (1/97-100)، و"المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام" لابن تيمية (1/175).
  16. انظر: "الفوائد" لابن القيم (ص129).
  17. انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (23/116- 117).
  18. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب يمين الإمام، برقم (709).
  19. انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (22/501).

مواد ذات صلة