الأحد 27 / جمادى الآخرة / 1446 - 29 / ديسمبر 2024
(137) الدعاء بعد التشهد الأخير قبل السلام "اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحييني ما علمت الحياة خيراً لي..." [1]
تاريخ النشر: ١٢ / جمادى الآخرة / ١٤٣٥
التحميل: 2462
مرات الإستماع: 2058

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

نُواصل الحديثَ عن الأدعية والأذكار التي تُقال بعد التَّشهد، ومما أورده المؤلفُ من هذه الأحاديث: ما رواه عطاء بن السَّائب، عن أبيه قال: "صلَّى بنا عمارُ بن ياسر صلاةً فأوجز فيها، فقال له بعضُ القوم: لقد خففتَ، أو أوجزتَ الصَّلاة. فقال: أما على ذلك فقد دعوتُ فيها بدعوات سمعتُهنَّ من رسول الله ﷺ. فلمَّا قام تبعه رجلٌ من القوم. يقول عطاء: هو أبي، غير أنَّه كنَّى عن نفسه. يعني: ما قال: تبعتُه. فسأله عن الدُّعاء، ثم جاء فأخبر به القوم: اللهم بعلمك الغيب، وقُدرتك على الخلق، أحيني ما علمتَ الحياةَ خيرًا لي، وتوفَّني إذا علمتَ الوفاةَ خيرًا لي، اللهم وأسألك خشيتَك في الغيب والشَّهادة، وأسألك كلمةَ الحقِّ في الرِّضا والغضب، وأسألك القصدَ في الفقر والغِنَى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قُرَّةَ عينٍ لا تنقطع، وأسألك الرِّضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذَّة النَّظر إلى وجهك، والشَّوق إلى لقائك، في غير ضرَّاء مُضرّة، ولا فتنةٍ مُضلّة، اللهم زيّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداةً مُهتدين[1].

هذا الحديث العظيم أخرجه النَّسائي، وأحمد، وهو من الأحاديث جليلة القدر، عظيمة الشَّأن، وقد صححه ابنُ خُزيمة[2] وجمعٌ من أهل العلم من المعاصرين: كالشيخ ناصر الدين الألباني[3] -رحم الله الجميع-، وقال عنه الهيثمي: "رجاله ثقات، إلا أنَّ عطاء بن السَّائب اختلط"[4].

هذا الحديث الذي سمعنا جاء في صدره أنَّ عمَّار بن ياسر صلَّى بهم صلاةً فأوجز فيها، يعني: صلاةً خفيفةً، فقال له بعضُ القوم: "لقد خففتَ، أو أوجزتَ الصَّلاة"، كانت الصلاةُ قُرَّة العين لهم، فإذا خفف الإمامُ لم يفرحوا، وإنما لربما سألوه، أو عاتبوه على هذا التَّخفيف؛ لأنهم يأنسون بها، ويلتذّون بمُناجاة الله -تبارك وتعالى- فيها.

فقال: أما على ذلك فقد دعوتُ فيها بدعوات سمعتهنَّ من رسول الله ﷺ. فلمَّا قام تبعه رجلٌ من القوم، هو أبي، غير أنَّه كنَّى عن نفسه.

هذا الذي تبعه يدلّ فعله على حرصٍ على العلم، وعلى الخير، مع أنَّ هذا قد يقع من كثيرين، يعني: ليس فيه مزيَّة ظاهرة لا ينفرد بها إلا الواحد بعد الواحد، النادر من الناس، لا، تبعه يسأله، فالكثير تتطلع نفوسُهم إلى معرفة المبهم، تتشوف نفوسُهم لمعرفة ما خفي، لكن هذا في الجملة يدلّ على حرصٍ على الخير، فلمَّا كان يدلّ على هذا القدر أخفى نفسه: "تبعه بعضُ القوم"، وهو من بعض القوم.

انظروا حرص هؤلاء على الإخلاص والنّية؛ لئلا يتوهم مُتوهِّمٌ أنَّه حريصٌ، فيكون قد أظهر عملَه للناس، إلى هذا الحدِّ؛ ولذلك نعرف في النَّجم الذي رُمِيَ، الشِّهاب: "أيُّكم رأى الكوكبَ الذي انقضَّ البارحة؟"، فكان مَن أجاب هذا السَّائل وقال له: "أنا" استدرك وقال: "أما إني لم أكن في صلاةٍ، ولكني لُدغت"، يعني: لئلا يتوهم أنَّه كان يسهر في العبادة والصَّلاة وقيام الليل في تلك السَّاعة في آخر الليل، أو في مُنتصف الليل والناس نيام، قال: "أنا، ثم قلتُ: أما إني لم أكن في صلاةٍ، ولكني لُدغت"[5]؛ لئلا يتوهم أنَّه كان يتعبّد، فانظروا إلى الدِّقة، إلى هذا الحدّ، والله المستعان.

ومن الطرائف التي تُذكر، لا أدري هل هذا صحيحٌ أو لا؟

أنَّ أحدهم ذهب إلى صيدلي، وقال: هل عندك دواء للتَّعب من قيام الليل؟ فقال: لا أعلمه. فقال: هل تُحبّ الصَّالحين؟ قال: نعم. قال: أحبَّك الله الذي أحببتني لأجله. يعني: هذا لا أدري، هل هذا –يعني- مُركّب أو صحيح؟

لكن المقصود أنَّ من الناس مَن يتكلَّف إظهار العمل، وهؤلاء انظروا إلى هذه الدِّقة، وهذه الحال التي كانوا عليها.

الحاصل أنَّه رأى أنَّ هذه الدَّعوات التي دعا بها في هذه الصَّلاة التي أوجز فيها أنها مُعوّضة عمَّا كانت تطلبه نفوسُهم من التَّطويل.

يقول: دعوتُ فيها بهذه الدَّعوات. يعني: كأنَّ هذا يُعوِّضهم عمَّا طلبوا من التَّطويل، فالشَّاهد سأله، ثم جاء فأخبر القوم؛ لينتفعوا ويدعوا بهذا الدُّعاء، ما هذا الدُّعاء؟

هو الذي سبق، لكن حينما قال: "دعوتُ فيها بدعوات"، أين كانت هذه الدَّعوات؟

يحتمل أنَّها في السُّجود، ويحتمل أنها في آخر الصَّلاة، يعني: قبل السلام، والحديث لم يرد فيه ما يُحدد موضعَها، ولكنَّه من المعلوم -كما سبق- أنَّ الدعاء إنما يكون في السُّجود، أو في الجلوس قبل السَّلام، ومن ثم، فإنَّ من أهل العلم مَن عدَّ ذلك من الأدعية التي تُقال في آخر الصَّلاة قبل السَّلام، ومنهم الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في "الوابل الصَّيب"[6].

فالأحاديث الواردة في هذا الباب كما ترون: منها ما جاء فيه ما يدلّ -أو في بعض رواياته- على أنَّه يُقال في الجلوس بعد التَّشهد وقبل السَّلام.

ومنها ما جاء فيه أنَّه يُقال في الصَّلاة، لكن من غير تقييدٍ، فلا بأس أن يكون ذلك مما يُقال بعد التَّشهد، لا إشكالَ في هذا، فإذا دعا به في السُّجود أيضًا فلا إشكالَ في ذلك.

يقول في هذا الدُّعاء العظيم الذي اشتمل على هذه الجُمل العظيمة، والمضامين التي تحوي معاني جليلة: اللهم بعلمك الغيب، يعني: كأنَّه يتوسّل في دُعائه بعلم الله الغيب، والتَّوسل يكون بالله: بأسمائه، وبصفاته، ويكون أيضًا -يعني: التَّوسل الصَّحيح المشروع- ويكون التَّوسل أيضًا بأعمال العبد الصَّالحة، مثل: الثلاثة الذين توسَّلوا لما انطبقت عليهم الصَّخرة، ذكروا صالح الأعمال في دُعائهم.

اللهم إني أسألك بأنَّك أنت الله، هذا توسّل إليه بأسمائه، اللهم أتوسّل إليك برحمتك وعظمتك، هذا توسّل بصفاته.

بعلمك الغيب، وقُدرتك على الخلق، أتوسّل بقُدرتك على الخلق.

وقوله: وقُدرتك على الخلق يحتمل معنيين:

يعني: "قُدرتك على الخلق" يعني: على خلق الأشياء، تخلق ما تشاء.

ويحتمل أن يكون المرادُ بـ"قُدرتك على الخلق" أي: أنَّهم تحت قهرك وتصرُّفك، تتصرف فيهم كما تشاء، ترحم مَن تشاء، وتُعذِّب مَن تشاء، وتُحيي مَن تشاء، وتُهلك مَن تشاء، وتُميت مَن تشاء، فأنت تقضي فيهم بما أردتَ. وكلا المعنيين صحيحٌ.

فالله قادرٌ على الخلق، أي: على خلقهم، وإيجادهم، فيكون الخلقُ مصدرًا، أو قادرٌ على الخلق، يعني: على المخلوقين، يتصرَّف فيهم بما يشاء، وفق حكمته .

أحيني ما علمتَ الحياة خيرًا لي، وتوفَّني إذا علمتَ الوفاةَ خيرًا لي، هذا يصلح أن يكون قرينةً على أنَّ المعنى المراد بقوله: وقُدرتك على الخلق يعني: قُدرتك على خلقك، على المخلوقين، تتصرف فيهم كما تشاء، فهذا مناسبٌ هنا ليكون للقرينة هذه التي بعده؛ لأنَّه يتوسّل بقُدرته على الخلق، وبعلمه الغيب على تحقيق مطلوبه: أحيني ما كانت الحياةُ خيرًا لي، وتوفَّني ما كانت الوفاةُ خيرًا لي، فهذا من قُدرته على المخلوقين؛ تصرُّفه فيهم كيف شاء، بما شاء، فهذه قرينة تُرجّح أحد هذين المعنيين: بقُدرتك على الخلق، بمعنى: خلق المخلوقين، وإيجاد المخلوقين من العدم. هذا معنًى.

المعنى الثاني: لتصرُّفك فيهم، وهم تحت قُدرتك وقهرك وإرادتك. والمعنى الثاني تُرجّحه هذه القرينة؛ أنَّه قال بعده: "أحيني"، ويتوسّل بهاتين الصِّفتين: علم الغيب، والقُدرة على الخلق.

فمَن يعلم الغيبَ، ويتصرَّف في خلقه كما يشاء؛ فهو يعلم ما يكون الأصلحُ له، هل هو البقاء أو الفناء؟ الحياة أو الموت؟ لأنَّ الإنسانَ نظره قاصر، فهو لا يعلم ما يستقبل في قادم أيامه، فيُفوّض ذلك إلى الله -تبارك وتعالى-، فيقول: أحيني ما كانت الحياةُ أنت الذي تتصرَّف في الخلق كما تشاء، قادرٌ عليهم، لا أحدَ يقدر سوى الله -تبارك وتعالى-، ذاك الذي قال: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258]، أراد المكابرة، قال: أنا أُحيي وأُميت. والواقع أنَّه لا يُحيي، ولا يُميت، ولا يستطيع أن يتصرَّف بنفسه، فضلاً عن أن يتصرَّف في غيره، هذا أمرٌ معلومٌ، والله المستعان.

فهنا: أحيني ما علمتَ الحياةَ خيرًا لي فناسب التَّوسّل بهاتين الصِّفتين غاية المناسبة في هذا المطلوب، أو لهذا المطلوب: بعلمه الغيب، وقُدرته على الخلق، يقول: "أحيني"، كونك تعلم الغيبَ وأنا لا أعلم، كونك أنت الذي تتصرَّف في خلقك كما تشاء بالإيجاد والإعدام، والإحياء والإماتة، والنَّفع والضّر لا يملكه إلا الله -تبارك وتعالى-.

أحيني ما علمت الحياةَ خيرًا لي، وتوفّني إذا علمتَ الوفاةَ خيرًا لي هنا "أحيني" يعني: أبقني على قيد الحياة "ما علمت الحياة خيرًا لي"، لما كان هذا هو الأصل: أنَّ المؤمن إذا مدّ في أيامه وعمره فإنَّه يزداد من الأعمال الصَّالحة، إن كان مُشمِّرًا مجتهدًا في العمل الصَّالح فإنَّه يزداد، فكل يومٍ هو في زيادةٍ، وأمَّا إذا كان مُقصِّرًا فلعله أن يستعتب ويرجع ويتوب إلى الله -تبارك وتعالى-.

فهنا قال: أحيني ما علمتَ الحياةَ خيرًا لي، ولاحظ في الموت قال: وتوفّني إذا علمت الوفاةَ خيرًا لي؛ لأنَّ الأصلَ: خيركم مَن طال عمرُه وحسُن عمله[7]، والمؤمن يكون البقاءُ في الأصل خيرًا له؛ ولهذا نهى النبيُّ ﷺ أن يتمنّى المؤمنُ الموتَ لضرٍّ نزل به[8]، هذا نهى عنه لماذا؟ لأنَّ الأصلَ أنَّ بقاءه يكون سببًا للتَّزود بالعمل الصَّالح والتوبة والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى- والمراجعة.

توفّني إذا علمتَ الوفاةَ خيرًا لي، والله هو الذي يعلم الغيبَ، فجاء هنا التَّقييد بما يتعلَّق بطلب الحياة بكونها خيرًا له، وطلب الوفاة بكونها خيرًا له، فإنَّ الله -تبارك وتعالى- قد يُقدّر له الحياة، مع كون الوفاة أفضل له؛ لما يكون في تلك الحياة من الفتنة، وقد يُقدّر له الوفاة، مع أنَّ الحياةَ قد تكون خيرًا لهذا المعين؛ لما فيها من اكتساب الخيرات، ولكنَّه أمرٌ لا بدَّ منه، أعني: الموت لا بدَّ منه، يكرهه العبدُ، وهو أمرٌ لازمٌ: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ [الجمعة:8].

فهذا كما في الاستخارة في الأمور المشتبهة، فهذا ليس كالتَّعليق بالمشيئة، ما يقول: اللهم أحيني إن شئتَ، وتوفّني إن شئتَ. فهذا لا يليق؛ فإنَّ الله لا مُكره له؛ ولهذا نُهي عن التَّعليق بالمشيئة في الدُّعاء، وعلل بذلك، أُمِرَ العبدُ أن يعزم المسألة، ولا يُعلِّق يقول: إن شئتَ. اللهم اهدني إن شئتَ، اللهم اهدِ فلانًا إن شئتَ، الله يهديك إن شاء الله، أصلحك الله إن شاء الله. هذا ما يصلح، بل لا بدَّ من العزم؛ لأنَّ الله لا مُكره له، فلا يعلّق بالمشيئة، لكن هنا لم يُعلّق بالمشيئة، هنا علَّق بالعلم: ما علمتَ الحياةَ خيرًا لي، وتوفَّني إذا علمتَ الوفاةَ شرًّا لي، أمَّا المشيئة فلا يقع شيءٌ في الوجود إلا بها؛ بمشيئة الله -تبارك وتعالى- وإرادته.

ثم ذكر بعده قال: اللهم وأسألك خشيتَك في الغيب والشَّهادة، الخشية هي خوفٌ خاصٌّ، الخوف الذي يكون مع علمٍ بالمخوف منه يُقال له: خشية، الخوف مُطلق، وهو مراتب، مثلما يُقال: الحبّ مُطلق، وله مراتب، بعض أهل العلم ذكر عشرة مراتب للمحبَّة، والخوف كذلك له مراتب؛ فالخوف قد يكون من مُبْهَمٍ، يقول: أنا خائفٌ، نقول: من ماذا؟ يقول: ما أعرف. لكن إذا كان مع علمٍ بالمخوف منه يُسمَّى: خشية، يُقال: فلان يخشى الله، ومَن يخشى الله؛ يعني: يخاف ربَّه -تبارك وتعالى-، مع علمٍ بهذا الربِّ من صفات عظمته، وجلاله، وقوّته، وجبروته، وما إلى ذلك، يقول: أنا أخشى الله.

الإنسان إذا كان يخاف من شيءٍ يعرفه ويعلمه، يقول: أنا أخشى من كذا، وعارفٌ يخاف من ماذا، لكن إذا كان عنده خوفٌ لا يعرف منشؤه يقول: أنا خائفٌ، أشعر بخوفٍ، ولا يعرف منشأ هذا الخوف.

فهنا: أسألك خشيتَك في الغيب والشَّهادة، الغيب يعني: إذا غاب عن الناس، والشَّهادة: في العلانية، بحضرة الناس، فيكون مُلازمًا للخشية في أحواله كلِّها، وإذا كان مُلازمًا للخشية في أحواله كلِّها فإنَّ ذلك يقتضي أن يحفظ جوارحه، وسمعه، وبصره، ويحفظه لسانَه عن كلِّ ما لا يليق؛ عمَّا يُسخط الله -تبارك وتعالى-، وأن يكون قائمًا بما أمره الله به، سواء كان بحضرة الناس، أو في حال المغيب، في حال الغيب حيث لا يُشاهدونه، ولا يرونه، ولا يطَّلعون على حاله، وهذا معنى: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:33]، خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ يعني: حينما يغيب عن الناس.

أما قوله -تبارك وتعالى- في سورة البقرة: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3]، فإنَّ المشهور من كلام المفسّرين أنَّ المقصودَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ: كلّ ما غاب عن الحسِّ، فيدخل في ذلك الإيمانُ بالله وملائكته، وما إلى ذلك من أمور الغيب.

والمعنى الثاني: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يعني: ليسوا كالمنافقين يُظهرون الإيمانَ أمام الملأ: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14]، فأهل الإيمان يُؤمنون في الحالين: في حال الجلوة، وفي حال الخلوة، هم مُلازمون للإيمان.

فهنا خشيتُك في الغيب والشَّهادة، ونحن أحوج ما نكون إلى هذا؛ يحتاج العبدُ دائمًا أن يسأل ربَّه ذلك؛ لأنَّ أسبابَ الفتنة اليوم في حال الغيب حينما يغيب الإنسانُ عن الأنظار عظيمة، وتحتاج إلى مُراقبةٍ لله ، الناس لا يطَّلعون عليه، هذه الفتنة تُلاحقه بجهازه الجوَّال، تُلاحقه في بيته، في غُرفته، في فراشه، تُلاحقه في مكتبه، تُلاحقه في سيارته، تُلاحقه في كل مكانٍ، أقرب شيءٍ إليه، لاصقةٌ به، معه هذا الجهاز في كل مكانٍ، حتى في المسجد، وفيه من أسباب الشَّر من الفتن المتعلقة بالشُّبهات، والمتعلقة بالشَّهوات، ويستطيع أن يكتب ما شاء، وفي نفس اللَّحظة يقرأه مَن في الآفاق، وقد يضع أشياء مُبهمة، وقد يُشاهد مشاهد محرَّمة، فيحتاج أن يسأل ربَّه كثيرًا، يدعو بهذا: "أسألك خشيتَك في الغيب والشَّهادة"، فيكون مُلازمًا لهذا، لا يكون في حال الجلوة أمام الناس على حالٍ من الاعتدال والاستقامة، وظاهره الصَّلاح، وإذا خلا بمحارم الله انتهكها -نسأل الله العافية-، هذا لا يكون عليه المؤمن الذي يخشاه في الغيب والشَّهادة.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه النَّسائي: كتاب السَّهو، نوع آخر من الدُّعاء، برقم (1305)، وأحمد في "المسند"، برقم (18325)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (1301).
  2. "التوحيد" لابن خُزيمة (1/30).
  3. صححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (1301).
  4. "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (10/177)، برقم (17387).
  5. أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب الدَّليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حسابٍ ولا عذابٍ، برقم (220).
  6. انظر: "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص107-108).
  7. أخرجه الترمذي: أبواب الزهد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في طول العمر للمؤمن، برقم (2329)، وأحمد في "المسند"، برقم (20443)، وقال مُحققوه: "حديثٌ حسنٌ"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (3296).
  8. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب الدُّعاء بالموت والحياة، برقم (6351)، ومسلم: كتاب الذكر والدُّعاء والتوبة والاستغفار، باب كراهة تمني الموت لضرٍّ نزل به، برقم (2680).

مواد ذات صلة