الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
نُواصل الحديث عمَّا رواه أنسٌ : أنَّ النبي ﷺ سمع رجلاً يقول: "اللهم إني أسألك بأنَّ لك الحمد، لا إله إلا أنت وحدك لا شريكَ لك، المنان، بديع السَّماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام"، فقال: لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سُئِلَ به أعطى، وإذا دُعِيَ به أجاب[1].
وذكرنا الرِّوايات الأخرى والزِّيادات في هذا الحديث: كقوله: "يا حيُّ، يا قيَّام"[2]، إلى غير ذلك.
فقوله: "يا حي، يا قيّام"، "الحيّ" هو الجامع، أو الموصوف بالحياة الكاملة، وذلك يستجمع صفات الذَّات؛ إذ إنَّ صفةَ الحياة مُتضمنة لجميع صفات الكمال، مُستلزمة لها، كما أنَّ صفةَ القيومية مُتضمنة لجميع صفات الأفعال، كما ذكر ذلك الحافظُ ابن القيم[3] -رحمه الله- وغيره؛ ولهذا كان اسمُ الله الأعظم الذي إذا دُعِيَ به أجاب، وإذا سُئِلَ به أعطى عند هؤلاء -كابن القيم- أنَّه "الحيّ القيوم".
فالله -تبارك وتعالى- هو الحيّ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، فحياته -تبارك وتعالى- حياة كاملة من كل وجهٍ، لا تعتريها النَّقائص، فلا ترد عليها الأسقام والآلام، فإنَّ حياةَ المخلوقين ناقصة بما يعرض لها من الضَّعف والمرض والاعتلال، كما أنَّ حياةَ المخلوقين مسبوقة بالعدم، ويتبعها العدم، وأمَّا الله -تبارك وتعالى- فهو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وأمَّا حياة أهل الجنَّة فإنها باقية، وذلك بإبقاء الله -تبارك وتعالى- لهم، فإنما قيامهم بإقامة الله ؛ ولهذا كان من أسمائه: القيوم، والقيّام؛ فذلك أنَّه -تبارك وتعالى- قائمٌ بنفسه، مُقيمٌ لغيره، وإنما قِيام هذه المخلوقات بإقامة الله -تبارك وتعالى- لها، فكمال القيومية لكمال الحياة؛ وذلك أنَّ الحيَّ المطلقَ التام لا تفوته صفةُ كمالٍ البتّة، والقيّوم لا يتعذّر عليه شيءٌ البتة.
فالله -تبارك وتعالى- قيّم، وقيّام، وقيّوم، وهذا وصفٌ ذاتيٌّ ثابتٌ له بالكتاب والسُّنة، والقيّوم من أسمائه.
وابن جريرٍ -رحمه الله- فسَّر القيّوم: "بالقيّم بحفظ كل شيءٍ، ورزقه، وتدبيره، وتصريفه فيما شاء وأحبَّ من تغييرٍ، وتبديلٍ، وزيادةٍ، ونقصٍ"[4]، فالله قائمٌ على خلقه بأرزاقهم، وأعمالهم، وآجالهم، فهو يُحصي ذلك جميعًا عليهم، كما أنَّه يرزقهم، ويُعافيهم، ولا غنى لهم بحالٍ من الأحوال عن كلاءته، وتدبيره، وتصريفه، وفضله، وإنعامه، فهو قائمٌ بنفسه، مُسْتَغْنٍ عن خلقه، وكل شيءٍ إنما قيامه به، فكل شيءٍ محتاجٌ إليه، وهو الغنيُّ عن كل شيءٍ.
وعلى هذا يكون القيّومُ أيضًا مُتضمنًا لصفة الغنى، أو مُستلزمًا لها؛ لأنَّه إذا كان قائمًا بنفسه، مُستغنٍ عن غيره، وكل شيءٍ محتاجٌ إليه، لا قيامَ للمخلوقات إلا به؛ فهذا يعني أنَّه يدلّ على كمال غناه، كما يدلّ على كمال قُدرته -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه.
والحافظ ابن القيم -رحمه الله- ذكر هذا الاسم –أعني: القيّوم-، وكذلك الحيّ في نونيته، وذكر هذه المعاني فقال:
هذا ومن أوصافه القيّوم والـ | ـقيّوم في أوصافه أمران |
إحداهما القيّوم قام بنفسه | والكون قام به هما الأمران[5] |
يعني: قام بنفسه، وقامت المخلوقات به، فهو مُقيمٌ لها، يقول:
فالأول استغناؤه عن غيره | والفقر من كلٍّ إليه الثَّاني[6] |
كلٌّ مُفتقرٌ إليه بالمعنى الآخر: أنَّه مُقيمٌ لغيره، إلى أن يقول:
والحيّ يتلوه فأوصاف الكما | لِ هما لأُفْقِ سمائه قطبان[7] |
يقول: الكمالُ يحصل بهذين: الحيّ الذي له الحياة الكاملة، لا يعتريه نقصٌ بوجهٍ من الوجوه، والقيّوم: قائمٌ بنفسه، مُقيمٌ لغيره.
إلى أن يقول:
وكذاك أوصاف الكمال جميعها | ثبتت له ومدارها الوصفان[8] |
الحيّاة والقيّومية، إلى أن يقول:
ولأجل ذا جاء الحديثُ بأنَّه | في آية الكُرسي وذي عمران[9] |
الحديث أنَّ الاسم الأعظم في سورة البقرة وآل عمران، جاء أنَّه في ثلاث سورٍ من القرآن.
ويقول ابنُ القيّم:
اسم الإله الأعظم اشتملا على اسـ | ـم الحيّ والقيّوم مُقترنان[10] |
هذا ما ذكره، وذكر في كتابه "بدائع الفوائد"[11] أنَّ هذين الاسمين قد انتظما جميع أوصاف الكمال والغنى التَّام، والقُدرة التَّامة، فكأنَّ المستغيث كما في هذا الحديث هنا: "يا حيّ، يا قيّوم"، كأنَّ المستغيث بهما مُستغيثٌ بكل اسمٍ من أسماء الربّ -تبارك وتعالى-، وبكل صفةٍ من أوصافه، يقول: "فما أولى الاستغاثة بهذين الاسمين أن تكون في مظنّة تفريج الكُربات، وإغاثة اللَّهفات، وإنالة الطَّالبات"[12]، يقول: مَن استغاث بهذين الاسمين كأنَّه استغاث بجميع الأسماء الحسنى والصِّفات العُلا؛ فحريٌّ أن يُغاث.
هذا ما يتعلّق بهذا الحديث.
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، إنَّه سميعٌ مُجيبٌ.
- أخرجه أبو داود: تفريع أبواب الوتر، باب الدعاء، برقم (1493)، وابن ماجه: أبواب الدُّعاء، باب اسم الله الأعظم، برقم (3857)، وأحمد في "المسند"، برقم (23041)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقات رجال الشَّيخين"، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"، برقم (1341).
- أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، برقم (893).
- "زاد المعاد في هدي خير العباد" (4/187).
- "تفسير الطبري" (6/157).
- "نونية ابن القيم" (ص211).
- "نونية ابن القيم" (ص211).
- "نونية ابن القيم" (ص211).
- "نونية ابن القيم" (ص36).
- "نونية ابن القيم" (ص37).
- "نونية ابن القيم" (ص37).
- "بدائع الفوائد" (2/184).
- "بدائع الفوائد" (2/184).