الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
لا زال الحديثُ متَّصلاً بشرح ما جاء من الذكر بعد الصَّلاة بقراءة هذه السّور الثلاث: سورة الإخلاص، وسورة الفلق، وسورة الناس، وتكلمنا عن السّورة الأولى كلامًا مُختصرًا.
وفي هذه الليلة نتحدَّث عن السورة الثانية، وهي سورة الفلق، هذه السّورة تتحدّث عن الاستعاذة بالله -تبارك وتعالى- من الشُّرور عمومًا، ومن شرورٍ خاصَّةٍ، كما سيتَّضح بعد قليلٍ -إن شاء الله تعالى-.
الله -تبارك وتعالى- يقول في أول هذه السُّورة: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، قل مُتعوِّذًا، جازمًا، واثقًا: أَعُوذُ أي: ألجأ وألوذ وأعتصم، بِرَبِّ الْفَلَقِ، فالعوذ وما تصرَّف منه يدلّ على التَّحرز والتَّحصن والنَّجاة، وحقيقة معنى هذه المادّة: الهروب من شيءٍ تخافه إلى مَن يعصمك منه، فأنت تقول: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، "أعوذ به" يعني: ألجأ إليه، وأعتصم به مما أخافه وأُحاذره.
وبعض أهل العلم يقولون بأنَّ العوذَ إنما يكون مما يخاف، وأمَّا اللَّوذ فيكون فيما يحبّ:
يا مَن أعوذ به مما أُحاذره | ومَن ألوذ به فيما أُؤمّله[1] |
فهذه الاستعاذة جاءت مُرتبطةً بهذا الاسم الكريم، وبهذه الإضافة للربِّ ؛ لأنَّ من معاني ربوبيته أن يعصمك ويحفظك، أن يكلأك بحفظه ورعايته وكلأته مما تخاف، فلا أحد يستطيع أن يُخلصك إلا الله -تبارك وتعالى-.
وجاء هذا الاسم الكريم "الربّ" مُضافًا إلى الفلق، والفلق هنا يشمل فلق الصّبح، ويشمل كلَّ فلقٍ: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [الأنعام:95]، فَالِقُ الْإِصْبَاحِ [الأنعام:96]، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يفلق الحبَّةَ عن السنبلة، ويفلق الحبَّ والنَّوى عن مسمار النَّبات، فهذا كلّه داخلٌ فيه، وهذا في غاية المناسبة؛ فإنَّ الذي يفلق الصبح فينشقّ عمودُه من بين الظَّلام قادرٌ على أن يُخلّصك من هذه المخاوف، وأن يُنجيك من هذه المكاره، وأن يُخرجك من هذه الكروب والشَّدائد التي نزلت بك، فيبقى الأطباءُ في حيرةٍ، وقد لا يتوصّلون إلى العلّة، وقد لا تنفع ولا تعمل أدويتُهم وعقاقيرهم مع هذه العلّة التي نزلت.
فالعبد يتوجّه إلى الله -تبارك وتعالى-، وقد تكون هذه العللُ خفيَّةً، كما في هذه العلل المستعاذ منها غالبًا: السِّحر والعين، وهي أمورٌ لا يعرفها الأطباء، وليس عندهم أدوية ومُضادات وأمصال يُعالج بها المسّ، أو العين، أو السِّحر، فتجد هذا الإنسان يبقى طريح الفراش، لا يدري الأطباءُ ما علّته؟ قد تظهر عليه أعراضٌ غريبةٌ، وقد يخلط ويتكلّم من غير رويَّةٍ ولا تعقُّلٍ، وقد يتوهم أشياء، وتتراءى له، والناس لا يرونها، فهو يتحدّث عن مُشاهدات، وربما يتحدّث عن أشياء يسمعها، والناس حوله لا يسمعون، فيبقون مُتحيرين؛ عندها يعرفون خطورة هذه الآفات، وأنَّ ما يعرفه الأطباء ربما كان أسهل بمراحل من هذه الأشياء التي لا يُدركونها، ولا يعرفون منشأها وطبيعتها؛ لأنَّها تتصل بأمورٍ غيبيةٍ، وجميع التَّحاليل والأشعة والفحوصات والنَّتائج سليمة، ليس به علّة، وليس به بأس، ومع ذلك لا يستطيع أن يتحرَّك، ومع ذلك يُعاني من آلامٍ شديدةٍ، يُشرف معها على الهلكة، مع ذلك يختلط عليه أمرُه، ويذهب عقلُه أحيانًا، لربما يرى الأطباء في دراستهم لهذه الحالة أشياء غير معروفةٍ بالنسبة إليهم: ككهرباء المخ، وأورام تتنقّل وتتحوّل، وغير ذلك، وكلّ هذا يقف الإنسانُ أمامه مُتحيرًا، وليس بيد البشر ما يمكن أن يُعالج مثل هذه القضايا.
إذًا يلجأ إلى ربِّ الفلق، هذا الذي شقَّ هذا الظلام بعمود الصُّبح قادرٌ على أن يُخلِّص هذا الإنسان من هذه البليَّة والمصيبة والكُربة التي حلَّت به، فهذا الصّبح حينما ينشقّ لا شكَّ أنه مُبَشِّرٌ، وأنَّه يبعث الفألَ في النفوس، فإنَّ ظلامَ العلّة والمصيبة لا يتطاول، فالله قادرٌ على أن يُخرجك من ذلك كلِّه، وأن يُخلِّصك، وكذلك الذي يُخرج مسمار النَّبات من هذا الحبِّ، والسُّنبلة من الحبَّة؛ هو قادرٌ على أن يُعيد الأمورَ إلى مجاريها، والحياة والعافية إلى ما كانت عليه قبل ذلك وأفضل.
فهنا يكون اللُّجوء إليه -تبارك وتعالى-: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:1، 2]، لاحظ هنا استعاذ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، فالله -تبارك وتعالى- في هذه المخلوقات أودع فيها ما أودع وفق حكمته -تبارك وتعالى-، فجعل في بعضها الشَّر، وجعل في بعضها الخير.
فهنا: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ "ما" هذه تُفيد العموم، يعني: كلّ ما خلقه الله ، فهذا عامٌّ، يشمل جميع الشُّرور التي نعلمها، والتي لا نعلمها، الشُّرور التي تكون في الإنس، والشُّرور التي تكون في الجنِّ، والشُّرور التي تكون في البهائم والدَّواب والسِّباع، والشُّرور التي لا يُحصيها إلا الله -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه-.
مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ الإنس والجنّ والحيوان، فيُستعاذ بخالقها -تبارك وتعالى- الذي نواصيها بيده من الشَّر الذي فيها، فبدأ بهذا العموم الذي لا يخرج منه ذو شرٍّ.
ثم خصَّ فذكر الليلَ: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3]، فقد فُسِّر الغاسقُ بالليل، وفُسِّر الغاسقُ بالقمر، والنبي ﷺ صحَّ عنه أنَّه قال: يا عائشةُ، استعيذي بالله من شرِّ هذا، فإنَّ هذا هو الغاسق إذا وقب[2]، يعني: القمر، ولا شكَّ أنَّه آيةُ الليل، كما قال الله : فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ يعني: القمر، وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [الإسراء:12].
فالقمر وإن كان يبدو في بعض الأوقات بعد الصُّبح، أو يبدو قبل الغروب، لكن سُلطانه في الليل، فإذا ظهر القمرُ فذلك يعني: أنَّ الليلَ قد حلَّ، ومن ثم تنتشر شياطينُ الإنس والجنّ، وتنتشر السِّباع والهوامّ، وتكثر الشُّرور؛ لأنَّه يُغطِّيها بظلامه، فتكون الشُّرور في الليل أكثر منها في النَّهار: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ يعني: إذا ظهر، فهذا الليلُ حينما يغشى بظلامه، وينتشر فيه ما ينتشر من هذه الشُّرور والمؤذيات.
ثم خصَّ بعد ذلك أيضًا فقال: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4].
والمشهور في تفسير: النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ أنهنَّ السَّواحر.
وبعضهم يقول: النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ الأنفس النَّفاثات. ولكن المشهور: النِّساء السَّواحر، طيب، والرِّجال؟
والرجال أيضًا، ولكنَّه خصَّ النِّساء: إمَّا لأنَّ ذلك فيهنَّ أكثر، يعني: السَّاحرات أكثر من السَّحرة، أو أنَّ الأذى الذي يحصل بسحر هؤلاء النِّساء أكثر مما يحصل بسحر الرِّجال.
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ فهنا ينفثنَ في العُقدة، ويعقدن العُقدة، ثم ينفثن فيها مُستعينات بذلك على سحرهنَّ بهذا النَّفث.
ثم ذكر أيضًا مُستعاذًا منه خاصًّا، وهو الحاسِد، وخصَّه في حالةٍ مُعينةٍ، فقال: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5] يعني: حال كونه قد توجّه بالحسد، فهنا يكون قد تهيّأ بهيئةٍ وكيفيةٍ الله أعلم بحقيقتها، فيصل أذى هذا الحاسد إلى المحسود بقدر الله .
فالحسد معروفٌ، وهو تمني زوال النِّعمة عن المنعَم عليه، سواء تمنى هذا الحاسدُ أن تنتقل إليه، أو تمنى الزَّوال مُطلقًا، فهذا هو الحسد، ويدخل فيه نوعٌ خاصٌّ، وهو العين، فهنا لما قال: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ كأنَّ ذلك يُشير إلى هذا المعنى، وهو حينما يتوجّه هذا الحاسد بحسده، فيحتاج إلى الاستعاذة بالله -تبارك وتعالى- من شرِّه، وإبطال كيده، فهو يسعى لإزالة هذه النِّعمة وإبطالها، فقلبه وَغِرٌ على هذا المنعَم عليه، فهو مُعترضٌ على ربِّه -تبارك وتعالى- في قسم الأرزاق والعطاء والإفضال والنِّعَم: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:54]، فهذه علّة ومرض.
وكما قال شيخُ الإسلام -رحمه الله-: "ما خلا جسدٌ من حسدٍ، ولكن الكريمَ يُخفيه، واللَّئيم يُبديه"[3]، فالكريم يدفع ذلك بأنَّ هذا عطاء الله وفضله ورزقه، فيدعو لهذا بالبركة، ويتمنّى أن يزيده الله من فضله؛ ولهذا يُشرع للإنسان إذا رأى ما يُعجبه أن يُبَرِّك عليه، وهذا هو الطَّريق لقطع أثر الحسد، فلا يصل إلى المحسود بإذن الله ، فيدعو له بالبركة، يقول: أسأل الله أن يُبارك لك، بارك الله لك في كذا، بارك الله لك في نفسك، وفي مالك، وفي عافيتك، وفي ولدك، وفي زوجك. فيدعو له بالبركة.
ولا يكفي أن يقول: ما شاء الله، تبارك الله. فإنَّ هذا ليس بدعاءٍ له بالبركة، والنبي ﷺ أمر أن يُبرك عليه، ويُدعى له بالبركة، وهذا خلاف مقصود الحاسد؛ لأنَّه يتمنى زوال النِّعمة، فإذا دعا له بالبركة فذلك تكثيرٌ وتثميرٌ لهذه النِّعمة.
فهنا قبل وقوعها إذا رأى ما يُعجبه، فإذا وقع منه شيءٌ، ووصلت هذه العينُ إلى المحسود؛ فإنَّه يفعل كما أُمِرَ: يتوضّأ وضوءه للصَّلاة، ويغسل مغابنَه ومراقه وداخلة إزاره، يعني: يغسل باطن الرُّكبتين مع أعضاء الوضوء، ويغسل داخلةَ الإزار، فهذه المواطن الرَّقيقة كما يقول الحافظُ ابن القيم: "كأنَّ العينَ تنبعث منها"[4]، فإذا غُسِلَتْ وأُخذ هذا الماء المتقاطر، وصُبَّ على هذا المصاب؛ فإنَّه يقوم كأنما نشط من عقالٍ، ليس به بأسٌ، وهذا أمرٌ مُشاهَدٌ، لا شكَّ فيه، ولا ينبغي لأحدٍ أن يأنف إذا دُعِيَ لذلك ويقول: أنا ما أُصيب الناس! ونحن ما نحسد أحدًا! فإنَّه ينبغي أن يستجيب.
وهذه الآية دلَّت على أنَّ السحرَ له حقيقة، وتأمّل تناسُب هذه الآيات الثلاث: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ هذا الليل، فالبلاء والشَّر يكون فيه خفيًّا، لا يظهر، كما أنَّ السحرَ خفيٌّ، والعين خفيَّة، فهذه ثلاثةُ أشياء خفيَّة: الليل، والشُّرور التي تنتشر فيه، وكذلك أيضًا السحر، فهو علّة خفيَّة، ما الذي يُثبت أنَّ هذا الإنسان سحره فلان، أو نحو ذلك؟
وكذلك قد يموت هذا الإنسانُ، أو يتطاول به المرض، والناس لا يعرفون أنَّه مسحورٌ، وقد يُصاب بالعين ويموت، وقد يتطاول به المرضُ عشرات السِّنين وهو على فراشه، لا حراكَ به، والناس لا يعرفون أنَّ علَّته من العين، وقد يذهب بصرُه، وقد يذهب عقلُه، وقد يذهب سمعُه، وقد تذهب عافيتُه.
فهنا شُرع لنا أن نستعيذ: بِرَبِّ الْفَلَقِ الذي يفلق الإصباحَ والحبَّ عن النَّوى حتى يتبين ويظهر ويبرز، فهذه مناسبة المقْسَم به مع المقْسَم عليه.
والحاسدُ هنا: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ يعمّ الحاسدَ من الجنِّ والإنس؛ فإنَّ الجنَّ يحسدون، وقد قال النبيُّ ﷺ لما رأى امرأةً في وجهها سفعةً -كما في الحديث- فقال: استرقوا لها؛ فإنَّ بها النَّظرة[5]، وقد قال جمعٌ من الشُّراح بأنَّ النَّظرةَ المقصود بها: عين الجنِّ، فالجنُّ يُصيبون بالعين، ويقع منهم الحسد؛ ولذلك فإنَّ بعض الناس قد يتكلم ببجاحةٍ عن عافيته وقُدرته على أمورٍ يعجز عنها كثيرٌ من الناس، سواء من أكل الطَّعام، أو غير ذلك من الأمور التي يُزاولها، فيذكر ذلك، فإذا قيل له: لا حاجةَ لمثل هذا الاستعراض بالعافية. قال: ما عندي أحدٌ. والجنّ قد يُصيبونه بهذه العين.
وهكذا أولئك النِّسوة اللَّاتي يتعرين في صالات الأفراح، وهذه التي تُبدي مفاتنها مع حضور هذه الآلات والمعازف الصَّاخبة، وتجد هذه الصَّالة ترتجّ بالأصوات، فهذا مظنّةٌ لحضور هؤلاء الشَّياطين ولاجتماعهم، هذا بالإضافة إلى شياطين الإنس والحسدة، فهذه التي قد عرَّت أجزاء من جسدها، وظهرت بأبهى حُلَّةٍ، بجسدٍ قد حُرمت الكثيرات مما أعطيته هذه، فهؤلاء ينظرن، ومَن حضر من هؤلاء الشَّياطين ينظرون، فهي بين مخافتين: إمَّا أن يُصيبها هؤلاء الشَّياطين؛ فيتخطَّفونها، أو يُصيبونها بشيءٍ من العين، أو أنَّ هؤلاء الإنس يُصيبونها بشيءٍ من العين.
وكم من امرأةٍ تذكر وتُصرّح أنها ما أنكرت عافيتَها إلا في تلك الليلة حينما ذهبت إلى هذه المناسبة، ذهبت وقد أبدت أجزاء من جسدها في لباسٍ فاتنٍ يفتن النِّساء، ويفتن مَن حضر، ثم بعد ذلك حصل لها ما كدَّر عليها صفو عيشها.
فهنا ينبغي للإنسان أن يتحرز، وأن يتَّقي الله ، ولا داعي لمثل هذا الاستعراض.
ولعله يأتي يومٌ -إن شاء الله- نتكلّم عن هذه الأجهزة الجديدة التي عمَّت وطمَّت، وأصبح الناسُ لا يدرون كيف يتعاملون معها، إلا مَن رحم الله -تبارك وتعالى-.
فهذا الاستجرام مثلاً: تجد هذه تُصور أجزاء من بيتهم الذي هو بمثابة قصرٍ من القصور، مُلِئَ بأفخر الأثاث والتُّحَف، وآخرون لا يجدون ربما أجرةَ شقةٍ بسيطةٍ يسكنون فيها، وهذه تستعرض فيراها الذين هم في أقاصي الدنيا يسكنون الأكواخ، ومَن يشعرون بالحرمان، وهذه تستعرض وتُصور زوايا البيت والأثاث، وما إلى ذلك.
وأخرى تُصور المشتريات التي اشترتها، والمقتنيات والمجوهرات التي عندها، وتستعرض بهذه الكمية الهائلة من الحُلي، وما إلى ذلك، وغيرها قد لا تجد إلا أساور من الحديد، أو الخيوط، أو البلاستيك، أو نحو ذلك، فلا تجد شيئًا تتزيّن به.
ولربما كانت تعرض صنوفَ الطَّعام في الحفلات التي يُقيمونها والمناسبات: حفلة تخرّجها، وحفلة نجاحها، فتُصور هذه الموائد الضَّخمة، وهذه الأنواع من المطعومات والمشروبات والهدايا التي قُدِّمت لها بهذه المناسبة، وآخرون لا يُقدَّم لهم شيءٌ، ولا يجدون من هذا شيئًا إطلاقًا، فهذا مظنّة لتحريك هذه النُّفوس، فما حاجة الإنسان إلى هذا كلّه؟!
الإنسان يحمد الله على هذه النِّعَم التي أعطاه، ولا يُسرف، ولا يُبذِّر، ويُعطي ويُواسي مَن حُرِمَ، أمَّا أن يتَّخذ ذلك مجالاً للاستعراض، فهذا غير صحيحٍ.
وهكذا تلك التي تصنع صنوفَ الطعام، ثم تعرضه وتتباهى بهذه الأطعمة التي صنعتها يدُها، وغيرها ربما لا تُحسِن أن تصنع شيئًا، قلَّ أو كثر، وترى هذه -ما شاء الله- بهذه المهارة في أنواع المأكولات والحلوى وغير ذلك، وأخرى يُعاني زوجُها معها ويُكابد، ما تستطيع أن تصنع له شيئًا من القهوة أو الشَّاي، وتلك تستعرض؛ فهذه قد تُصاب ببلاءٍ، فما الحاجة لمثل هذا؟!
ثم إذا أصاب الإنسانَ الضرُّ، فكما سمعتُم في الآيات، إلا مَن رحم الله : إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج:19-22] إلى آخر ما ذكر الله .
وكثيرٌ من الناس بعد هذا الاستعراض وهذا التَّبجح لو أصابهم الضرُّ خارت قواهم، وتجد الإنسانَ منهم لربما ينهار باكيًا، ولا يتمالك، ويزهد في الدنيا من أوَّلها إلى آخرها، وما عادت تُساوي عنده شيئًا، ولا تتوق نفسُه إلى شيءٍ من هذه المطعومات التي كان يعرضها، أو المشروبات، أو غير ذلك، ولا تسمو همَّته لصنع شيءٍ من هذا، قلَّ أو كثر، تطيب نفسُه من هذا كلّه.
فلا داعي لأن يقع الإنسانُ في أمورٍ كهذه، أو أنَّه ربما يُؤذي الآخرين بهذا الاستعراض، يعني: العلماء لما تكلّموا عن تحريم آنية الذَّهب والفضَّة -الأكل فيها-، فمن العلل التي ذكرتها طائفةٌ من أهل العلم، قالوا: كسر قلوب الفُقراء؛ فهذا يأكل بآنية ذهبٍ وفضَّةٍ، وهؤلاء ما يجدون شيئًا يسدُّون به رمقَهم.
هذا قولٌ لجمعٍ من أهل العلم، بصرف النَّظر عن العلّة الحقيقيّة، لكنَّه قولٌ مشهورٌ، فهذا مُراعاة نفوس الناس، وسدّ حاجتهم وفاقتهم، وما إلى ذلك، كيف هذا الذي من وراء هذا الجهاز يستعرض بهذه النِّعَم، ولا يصل إليهم منه شيءٌ؟! إن كانوا بحضرته كان أعطاهم؟!
هذا، والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- البيت للمتنبي في "شرح ديوان المتنبي" للواحدي (ص34).
- أخرجه الترمذي: أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة المعوذتين، برقم (3366)، وقال الألباني: "حسنٌ صحيحٌ".
- "أمراض القلوب وشفاؤها" (ص21).
- "زاد المعاد" (4/154).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الطّب، باب رُقية العين، برقم (5739)، ومسلم: كتاب السَّلام، باب استحباب الرقية من العين والنَّملة والحمة والنَّظرة، برقم (2197).