الجمعة 13 / جمادى الأولى / 1446 - 15 / نوفمبر 2024
(154) الأذكار بعد السلام من الصلاة وقفات مع آية الكرسي "الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم..."[1]
تاريخ النشر: ٠٨ / رجب / ١٤٣٥
التحميل: 2433
مرات الإستماع: 2281

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

من الأذكار الواردة بعد الصَّلاة: ما جاء من حديث أبي أُمامة، وكذلك أيضًا من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنهما-: أنَّ النبي ﷺ قال: مَن قرأ آيةَ الكرسي في دُبر كل صلاةٍ لم يمنعه من دخول الجنَّة إلا أن يموت.

فهذا الحديث -حديث أبي أُمامة - أخرجه النَّسائي في "عمل اليوم والليلة"، وابن السُّني في "عمل اليوم والليلة"[1]، والعُلماء -رحمهم الله- مُختلفون في حكمهم على هذا الحديث: فالطَّبراني يقول: لم يروِ هذا الحديث عن محمد بن زياد إلا محمد بن حمير، ولا يُروى عن أبي أُمامة إلا بهذا الإسناد[2].

الدَّارقطني يقول: تفرَّد به محمد بن حمير[3]. وكذلك أيضًا ضعَّفه شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وفي بعض المواضع قال: ضعيفٌ جدًّا. قال: ولهذا لم يروه أحدٌ من أهل الكتب المعتمد عليها. يعني: مثل الكتب السِّتة، و"مسند الإمام أحمد"، ونحو ذلك، يقول: فلا يمكن أن يثبت به حكمٌ شرعيٌّ[4]. مع أنَّ ابن القيم -رحمه الله- نقل عنه في "زاد المعاد" أنَّه قال –أعني: شيخ الإسلام-: ما تركتُها عقب كل صلاةٍ[5]. يعني: كان يعمل به، ويُلازم على قراءة هذه الآية بعد الصَّلاة.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- في "زاد المعاد" قال: له أصلٌ[6].

وقال ابنُ كثيرٍ: عن عليٍّ، والمغيرة بن شُعبة، وجابر بن عبدالله، ولكن إسناد كلٍّ منها ضعيفٌ، أو في إسناد كلٍّ منها ضعفٌ[7].

هؤلاء أعلّوا هذا الحديث، وصححه أو حسَّنه آخرون؛ فقد قال الشَّوكاني -رحمه الله-: بأنَّ في إسناد النَّسائي الحسن بن بشر، قال النَّسائي: لا بأسَ به. وقال في موضعٍ آخر: ثقة[8]. وقال الهيثمي: رُوِيَ بأسانيد، وأحد هذه الأسانيد قال عنه: بأنَّه جيدٌ[9]. بل قال السّيوطي في بعض كُتبه: صحيحٌ على شرط البُخاري. وهذا فيه مُبالغة، وقال في موضعٍ آخر: صحيحٌ[10].

ومَن صحَّحوا هذا الحديث: الشيخ أحمد شاكر، والشيخ عبدالعزيز بن باز[11]، والشيخ ناصر الدِّين الألباني[12] -رحم الله الجميع-.

ومسألة الحكم على روايةٍ بالصّحة أو الضّعف هذا -كما هو معلومٌ- من المسائل التي يدخلها الاجتهاد، بمعنى: أنَّ العلماء -رحمهم الله- قد يختلفون في بعض قواعد هذا العلم، وأيضًا قد يختلفون في توثيق راوٍ، أو تضعيفه، كما يختلفون أيضًا في احتمال هذه الرِّواية أو هذا الرَّاوي للتَّصحيح إذا جاء ما يُقويه من طريقٍ آخر لا يخلو من ضعفٍ، فهذا الاعتضاد من أهل العلم مَن يعتبره في بعض المواضع، ومنهم مَن لا يعتبر ذلك مُقوِّيًا لهذا الرَّاوي، أو لهذه الرِّواية -كما هو معلومٌ-، إلى غير ذلك من الأسباب التي تُورث اختلافًا بين أهل العلم في الحكم على الرِّوايات، فكما يختلفون في الأحكام من حيث الجواز من عدمه، أو المشروعية، أو غير ذلك، أو الحكم على عملٍ بأنَّه سنة، أو بدعة، كذلك أيضًا يختلفون في الحكم على الرِّواية.

ومن ثم فإنَّ مَن اجتهد وتوصّل إلى تصحيح حديثٍ، وعمل بمُقتضاه، أو توصّل إلى تحسينه، أو نحو ذلك؛ فلا تثريبَ عليه إذا كان مُؤهَّلاً لذلك، فيدخل فيما ذكره النبيُّ ﷺ: إذا حكم الحاكمُ فاجتهد ثم أصابَ فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجرٌ[13]، فهذا من جملة الاجتهاد، وينبني عليه ما ينبني من الأحكام، وما إلى ذلك من الأعمال، ومَن لم يكن مُؤهلاً للنَّظر في الرِّوايات فقلَّد عالـمًا يثق به في أحكامه على الرِّوايات، ومعرفته في هذا الفنِّ، وبصره فيه؛ فإنَّه يكون بذلك معذورًا.

ولكن هنا ينبغي أن يتنبّه إلى أمرٍ؛ وهو أنَّ البعض ربما يشيع وينشر كلامًا لأحد طلاب العلم في الحكم على روايةٍ، وهذا الذي ينشر ذلك ليس من أهل البصر في هذا الفنِّ، فيقول: فلانٌ من طلاب العلم ضعَّف هذا الحديث. وينشر ذلك بوسائل مختلفة، ويُذيعه في الناس، ولربما يكون هذا الحديثُ قد اشتهر عند أهل العلم بالصحّة والقبول، وتتابع الناسُ على العمل به، ويكون حكمُ طالب العلم هذا لا يخلو من نوعٍ من الإغراب، يفجأ الناس في عملٍ قد تلقوه بالتَّسليم من عُلمائهم، وتصحيح هذا الحديث، ثم يُفاجؤون بمَن يقول: بأنَّ هذا الحديثَ أصلاً لا يصحّ.

أنا أقول في مثل هذا: إذا كان هؤلاء يُقلِّدون، وهذا الذي ينشر هو ممن يُقلد؛ فينبغي أن يُقلد على الأقلّ العالم الذي أفنى عمره، فبقي في هذا الفنِّ عقودًا مُتطاولةً، قد تزيد على ستين أو سبعين عامًا في هذا الفنِّ، هذا أولى من أن يُؤخذ هذا من أحد طلبة العلم الذي لربما لم يتجاوز عشر سنوات في ممارسة هذا العلم، أو قريب من هذا، أو عشرين سنةً، أو نحو ذلك، يعني: لربما يكون من تلامذة تلامذة ذلك العالم الذي قضى عمره في هذا الفن، فإذا كان الإنسانُ سيُقلد فإنَّه يُقلد الأعلم، والأبصر، والأعرف في هذا العلم، ولا يفرح بالغرائب، هذا هو اللَّائق -والله أعلم.

في هذا الحديث يقول النبي ﷺ: مَن قرأ آيةَ الكرسي دُبر كل صلاةٍ مكتوبةٍ لم يمنعه من دخول الجنَّة إلا أن يموت، السُّور معلومٌ أنها سُميت بأسماء، وقد سُميت بعض الآيات بأسماء، ومن أشهر ما سُمي من الآيات باسمٍ خاصٍّ هذه الآية: آية الكُرسي؛ لذكر الكرسي فيها: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وقول النبي ﷺ في هذا الحديث: بأنَّ مَن قرأها دُبر كلِّ صلاةٍ لم يمنعه من دخول الجنَّة إلا أن يموت، يعني: لم يبقَ عليه حتى يدخلها إلا الموت، فإنَّ الإنسان لا يدخل الجنةَ حتى يموت، ولا يمكن أن يدخلها في الدنيا.

وهذا الدُّخول الذي يكون بعد الموت إنما يكون دخولاً خاصًّا، يعني: دخولاً ليس بالدُّخول الكُلي الذي يحصل به النَّعيم الكامل، وذلك بعد البعث، والنُّشور، والحساب، والصِّراط، وما إلى ذلك، ثم يدخلون الجنةَ، لكن أرواح المؤمنين تُنَعَّم في الجنة، كما ثبت ذلك عن رسول الله ﷺ[14]، ويرى منزلَه من الجنَّة[15]، فهذا يحصل بلا شكٍّ.

ودُبر الصَّلاة المقصود به هنا بلا شكٍّ يعني: المكتوبة، وليس بعد السُّنن والنَّوافل.

وكذلك أيضًا دُبر الصَّلاة المقصود به: ما يكون بعد الانصراف منها، وليس ما يكون قبل السَّلام.

وقد عرفنا أنَّ دُبر الصَّلاة تارةً يُراد به هذا، وتارةً يُراد به هذا، فالمقصود -والله أعلم- هنا ما يكون بعد الانصراف، يعني: بعد السَّلام.

افتتحت هذه الآية بهذا الاسم الذي قال كثيرٌ من أهل العلم بأنَّه الاسم الأعظم، واستدلُّوا على هذا بأدلةٍ قد ذكرناها في مناسباتٍ سابقةٍ، وقالوا: هذا أيضًا من جهة النَّظر؛ فإنَّ جميع الأسماء الحسنى تعود إليه لفظًا ومعنًى، فهي تُعطف عليه دائمًا، ولا يُعطف على شيءٍ منها، كما أنَّه أيضًا يتضمّن جميع معاني الأسماء الحسنى؛ فإنَّ هذا الاسم الكريم يتضمّن صفةَ الإلهية، وهذه الصِّفة أوسع الصِّفات؛ لأنَّ الإله لا بدَّ أن يكون ربًّا، وأن يكون خالقًا، رازقًا، مُحييًا، مُميتًا، سميعًا، بصيرًا، عليمًا، قديرًا، إلى غير ذلك، فكلّ هذا داخلٌ فيه، وإلا فإنَّه لا يكون إلهًا إلا إذا كان مُستوفيًا جميع أوصاف الكمال، فهذا الاسم الكريم: الله، يعني: أنَّه المألوه، فهو مُتضمّنٌ لصفة الإلهيَّة، وهو مُشتقٌّ من هذه الصِّفة.

وقال بعده: لا إله إلا هو، عرفنا أنَّ معنى هذه الجملة أي: لا معبودَ -فالإله هو المألوه- لا معبودَ بحقٍّ إلا هو، وقلنا: إنَّ جزأها الأوَّل لا إله هذا نفيٌ لكلِّ ما يُعبد من دون الله -تبارك وتعالى-، ويدخل في ذلك جميع العابدين، وجميع الأعمال والمزاولات التي يتقرّب بها إلى غير الله ، فيدخل فيها البراءة من المشركين، ومن عبادتهم، ومن معبوداتهم، فهذه ثلاثة أمورٍ.

وقوله: إلا الله هذا فيه جانب الإثبات، يعني: إثبات الوحدانية لله -تبارك وتعالى-، والعبادة له وحده دون مَن سواه، وهذا أيضًا يدخل فيه محبَّة ما يُحبّه من الأعمال، والأقوال، والذَّوات، يعني: الولاء لأهل الإيمان، لأهل هذه الكلمة، فلا معبودَ بحقٍّ سواه، فهو الإله الحقّ.

ثم قال: الحيّ القيّوم فهو يذكر هذه الأسماء المتضمنة لهذه الأوصاف من غير عطفٍ، يذكرها مُتعاقبةً: الحيّ، القيّوم، فهذان الاسمان الكريمان: "الحيّ والقيّوم" يدلّان على سائر الأسماء الحسنى بأنواع الدّلالة: المطابقة، والتَّضمن، واللُّزوم؛ فالحيّ: مَن له الحياة الكاملة، الحياة التي لم يسبقها عدم، ولا يعقبها عدم، ولا يتخللها ويعتورها نقصٌ، فهي حياةٌ خاليةٌ مما ينقصها، بخلاف حياة المخلوقين.

فهنا هذا معنى هذا الاسم الكريم، ثم أيضًا مَن له الحياة الكاملة، فذلك يستلزم جميع صفات الذَّات، لا تكون الحياةُ كاملةً إلا بالسَّمع، والبصر، والعلم، والقُدرة، والإرادة، وما إلى ذلك من أوصاف الذَّات.

وأمَّا القيّوم فهو القائم بنفسه، القائم على خلقه بأعمالهم، وآجالهم، وأرزاقهم: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [الرعد:33]، فهو أيضًا يُقيم غيره، فلا قيامَ لخلقه إلا به، فهو الذي يخلقهم، وهو الذي يُحييهم، وهو الذي يرزقهم، وهو الذي يُعافيهم، ولو وكلهم إلى أنفسهم طرفةَ عينٍ لما كان لهم بقاءٌ بحالٍ من الأحوال، فالله القيّوم، والقيّام، القائم على خلقه، مع قيامه -تبارك وتعالى- بنفسه، فهذا يدلّ أيضًا، أو يستلزم جميع الأفعال التي اتَّصف بها الربُّ -تبارك وتعالى-.

القيّوم من الكلام، والخلق، والاستواء، والنُّزول، والرزق، والإماتة، والإحياء، وما إلى ذلك؛ لأنَّه قائمٌ على هؤلاء الخلق: يُدبّر شُؤونهم، ويقوم على أرزاقهم، وهداياتهم، وما إلى ذلك، فهذا كلّه داخلٌ في قيّوميّته، وهو الذي -تبارك وتعالى- يُحصي أعمالهم، وقائمٌ على آجالهم؛ ولهذا قال بعضُ أهل العلم: بأنَّ هذين الاسمين "الحيّ القيّوم" هما الاسم العظيم، والمشهور -كما ذكرنا في بعض المناسبات- أنَّ الاسم الأعظم الذي عليه كثيرٌ من أهل العلم: أنَّه "الله"، يليه في القوّة ومن حيث الأدلة: "الحيّ القيّوم"، فهذا يأتي ثانيًا، ثم بعد ذلك تأتي أسماء أخرى، قيل إنَّها -"الحيّ القيّوم"- قد تدلّ على بعضها بعض الأدلة، مثل: الحنان، وكذلك: "الواحد الأحد"، ونحو ذلك، فلو أنَّ الإنسان جمعها في دعاءٍ وقال: يا الله، يا حيّ، يا قيّوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا حنان، يا منان، يا واحد، يا أحد؛ يكون قد جمع ما جاء في الرِّوايات الصَّحيحة.

وعلى كل حالٍ، قال بعده: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، وهذا من كمال حياته وقيّوميّته، قلنا: هذه الحياة حياة كاملة، لا يعتورها نقصٌ، وهو قائمٌ على الخلائق، فإذا كان كذلك فهذا يقتضي ألا تأخذه سنةٌ ولا نومٌ، فالسِّنَة فُسِّرَت بالنعاس.

وفرَّق بعضُ أهل العلم بين السِّنة والنُّعاس؛ فبعضهم يقول: السِّنة في الرأس، والنُّعاس في العين. وبعضهم يقول غير ذلك، والمعنى مُتقارب، فالسِّنَة والنُّعاس هما مُقدّمة النوم: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، والنوم في القلب، فيرتفع معه الإدراك، فلا يشعر الإنسانُ بما حوله.

وقد يقول قائلٌ: إذا نُفيت عنه السِّنة؛ فمن باب أولى أن ينتفي عنه النوم، وإذا نُفي عنه النوم؛ فإنَّ ذلك قد يقتضي انتفاء السِّنة.

فيُقال: هذا ليس بلازمٍ؛ لأنَّه قد توجد السِّنة، ولا يحصل النّوم، فيُدافعه الإنسان، وقد يحصل النوم للإنسان مُباشرةً؛ لشدّة حاجته إليه، وشدّة تعبه، ونحو ذلك قبل النّعاس، لا يحصل نُعاسٌ، وإنما ينام مُباشرةً بمجرد ما يُلامس جنبه الأرض، فهذا كلّه، كلّ واحدٍ من هذا له دلالة خاصَّة: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ.

ومثل هذا لا تأخذه سنةٌ كما قال كبيرُ المفسّرين أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله-: أنَّ هذا يدلّ على نفي الآفات جميعًا[16]. يعني: هذه العوارض من السِّنة والنّوم التي هي نقصٌ في الحياة، ونقصٌ في القيومية، فإنَّ مَن تأخذه السِّنة أو النّوم كيف يقوم على الخلق، ويُحصي أعمالهم، وآجالهم، وأرزاقهم، وما إلى ذلك؟! فيفوته الكثير، وأمَّا الله -تبارك وتعالى- فلا تعتريه الآفات.

ولهذا بعض أهل العلم من المفسّرين يُعبِّرون بمثل هذا في هذا الموضع، يقولون: لا تعتريه الآفات. وهنا حينما يقول: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ فإنَّ ذلك من قبيل النَّفي؛ نفي النَّقائص عن الله ، وهذا النَّفي إذا جاء في حقِّ الله، أو في حقِّ الرسول ﷺ، أو في حقِّ الملائكة، أو في حقِّ القرآن -أربعة أشياء-؛ فإنَّ هذا يقتضي ثبوت كمال ضدّه، يعني: أنَّ النفي المجرد لا يدلّ على المدح.

فحينما نقول: هذه الطَّاولة لا تجهل، هل أثبتنا لها العلم؟ الجواب: لا، حينما نقول: هذه السَّارية لا تجهل، ليس معنى ذلك إثبات العلم لها.

لكن حينما نقول في حقِّ الله، أو في حقِّ الملائكة، أو في حقِّ الرسول ﷺ، أو في حقِّ القرآن، لما ننفي صفةً، فيُقال في حقِّ الله: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، فهذا يقتضي ثبوت كمال ضدّه، يعني: ليس بنفيٍ مُجرَّدٍ، فهذا يقتضي ثبوت كمال حياته، وثبوت كمال قيّوميته.

حينما ينفي الله عن نفسه الظُّلم: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46] فهذا يقتضي ثبوت كمال عدله، وحينما يُنفى ذلك عن القرآن، يُقال مثلاً: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:2] نفيٌ للريب؛ فهذا يقتضي ثبوت كمال ضدّه: أنَّه يشتمل على كمال اليقين، وأنَّ مَن طالعه وتدبّره أورثه اليقين، وليس فيه ما يُوجِب الشَّك من التَّناقض والتَّعارض، وما إلى ذلك.

وهكذا حينما يُقال عن الملائكة: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6]، لا يعصون، هل هم مُطيعون تمامًا؟ يُقال: نعم، فهذا يقتضي ثبوت كمال ضدّه، وهو إثبات كمال الطَّاعة لهؤلاء الملائكة -عليهم الصَّلاة والسَّلام.

وهكذا في حقِّ الرسول ﷺ حينما يقول اللهُ في حقِّ نبيِّه ﷺ: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير:22]، فهذا يقتضي ثبوت كمال عقله -عليه الصَّلاة والسلام-، حينما يقول مثلاً: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3]، هذا يقتضي ثبوت كمال ضدّه؛ وهو أنَّ قوله ﷺ وحيٌ يُوحى، كما قال النبيُّ ﷺ لما قال له عبدُالله بن عمرو -رضي الله عنهما- بأنَّ قريشًا قالت له: إنَّك تكتب عن رسول الله ﷺ وهو بشرٌ، تكتب عنه في الرِّضا والغضب! فأخذ النبيُّ ﷺ بلسانه وقال: اكتب، ثم بيَّن له ﷺ قائلاً: فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حقّ[17]، وهنا قال: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ.

الوقت انتهى، أتوقَّف عند هذا القدر، وأُكمل غدًا، إن شاء الله تعالى.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا.

  1. أخرجه النَّسائي في "عمل اليوم والليلة"، برقم (100)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة"، برقم (124)، وقال الوادعي: هذا حديثٌ حسنٌ. انظر: "الصحيح المسند مما ليس في الصَّحيحين" للوادعي، برقم (478).
  2. انظر: "المعجم الأوسط" للطبراني (8/92).
  3. انظر: "نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار" لابن حجر (2/295).
  4. انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (22/508).
  5. انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (1/294).
  6. انظر: نفس المصدر.
  7. انظر: "تفسير ابن كثير" (1/677).
  8. انظر: "تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين" للشوكاني (ص182).
  9. انظر: "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" للهيثمي (10/102).
  10. انظر: "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" للسيوطي (1/210).
  11. انظر: "فتاوى نور على الدرب" لابن باز (8/132).
  12. انظر: "صحيح الجامع" للألباني، برقم (6462).
  13. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، برقم (7352)، ومسلم: كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، برقم (1716).
  14. أخرجه ابن حبان في "صحيحه": كتاب السّير، باب فضل الشَّهادة، برقم (4657)، وصححه الألباني في "التعليقات الحسان"، برقم (4638).
  15. انظر: "تفسير ابن كثير" (7/240).
  16. انظر: "تفسير الطبري" (5/393).
  17. أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب العلم، بابٌ في كتاب العلم، برقم (3646)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (1195).

مواد ذات صلة