الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
من الأذكار الواردة بعد الصَّلاة: ما جاء من حديث أبي ذرٍّ: أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: مَن قال في دُبر صلاة الفجر وهو ثانٍ رجليه، قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، يُحيي ويُميت، وهو على كل شيءٍ قدير. عشر مرات؛ كُتِبَ له عشر حسناتٍ، ومُحِيَ عنه عشر سيئاتٍ، ورُفِعَ له عشر درجاتٍ، وكان يومه ذلك كلّه في حرزٍ من كل مكروهٍ، وحُرِسَ من الشَّيطان، ولم ينبغِ لذنبٍ أن يُدركه في ذلك اليوم، إلا الشِّرك بالله. هذا الحديث أخرجه الترمذي، وقال عنه: حسنٌ، غريبٌ، صحيحٌ[1]. وأحمد[2].
وقال المنذري: إسناده صحيحٌ، أو حسنٌ، أو ما قاربهما[3].
وممن صحّح هذا الحديث أو حسَّنه: الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله-، فقد ضعَّفه في بعض كُتبه[4]، ثم بعد ذلك قال: حسنٌ لغيره[5]. وقال عنه الشيخُ شُعيب الأرنؤوط أيضًا: حسنٌ لغيره[6].
وهذا الحديث ضعَّفه جماعةٌ من أهل العلم؛ فقد قال الحافظُ ابن رجب: "وشهر بن حوشب مختَلَفٌ فيه، وهو كثير الاضطراب، وقد اختُلِفَ عليه في إسناد هذا الحديث كما ترى ...، وقد رُوِيَ نحوه عن النبي ﷺ من وجوهٍ أُخَر كلّها ضعيفةٌ"[7].
والحافظ ابن حجر -رحمه الله- قال: "سنده مُضطربٌ، وشهر بن حوشب مختَلَفٌ في توثيقه ...، وللحديث شاهدٌ عن أبي أيوب الأنصاري"[8].
وكذا أيضًا جاء هذا الحديثُ عن جماعةٍ من الصَّحابة بنحو هذا اللَّفظ، فمن ذلك ما أخرجه الإمامُ أحمد من حديث أبي عياش بنحو لفظ حديث أبي ذرٍّ، مع مُغايرةٍ في بعض المواضع، وقد صحح الشيخُ شعيب الأرنؤوط إسناده.
وجاء أيضًا من حديث أبي هريرة ، لكنَّه ذكر بدل: (عشر حسنات، ومحو عشر سيئات)، (مئة حسنة، ومحو مئة سيئة، وعتق رقبة)، وهذا قال عنه الشيخ شُعيب الأرنؤوط: صحيحٌ على شرط الشَّيخين[9].
وجاء أيضًا من حديث أبي أيوب الأنصاري ، وقد صحح إسناده الشيخ شعيب الأرنؤوط[10].
وجاء من حديث أمِّ سلمة -رضي الله عنها-، وقال عنه الشيخ شُعيب الأرنؤوط بتعليقه على "المسند": صحيحٌ لغيره[11].
كما جاء أيضًا من حديث عبدالرحمن بن غنم، وأيضًا متكلّم في إسناده، ولكن حسَّنه بعضُ أهل العلم لشواهده، فمجموع هذه الأحاديث قد يُقوِّي بعضُها بعضًا، ومن هنا حكم بعضُ أهل العلم بأنَّه حسنٌ لغيره، أو صحيحٌ لغيره، باعتبار هذه الشَّواهد، وإلا فإنَّ هذه الرِّوايات لا تخلو من ضعفٍ في مجملها.
وأيضًا هذه الرِّوايات والأحاديث مُتفاوتة؛ ففي بعضها ذكر الصَّلاتين (الصبح والمغرب)، وفي بعضها من غير تقييدٍ بالصَّلاتين، يعني: أن يقول إذا أصبح وإذا أمسى، فذكر الصَّباح والمساء من غير تقييدٍ بالصَّلاة، وفي بعضها من غير ذكر ما جاء في صدر هذا الحديث، من قوله: وهو ثانٍ رجليه، قبل أن يتكلّم، من غير هذا التَّقييد، وفي بعضها أيضًا أنَّ مَن قال ذلك كان له من الأجر كذا، من غير ذكر الصَّباح والمساء.
ألفاظ هذا الحديث قد مضى الكلامُ على عامَّتها.
وقوله: مَن قال في دُبر صلاة الفجر، وعرفنا أنَّ دُبر الصَّلاة قد يُقال لما قبل السَّلام، وقد يُقال لما بعده، والمراد هنا ما بعده، وذكرنا الضَّابط الذي ذكره الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-: أنَّ ما كان من قبيل الأدعية فهو قبل السَّلام، وما كان من قبيل الأذكار فهو بعد السَّلام، حيث يقول: "وعامَّة الأدعية المتعلّقة بالصَّلاة إنما فعلها فيها، وأمر بها فيها، وهذا هو اللَّائق بحال المصلِّي، فإنَّه مُقبلٌ على ربِّه يُناجيه ما دام في الصَّلاة، فإذا سلَّم منها انقطعت تلك المناجاة، وزال ذلك الموقف بين يديه، والقُرب منه، فكيف يترك سُؤاله في حال مُناجاته، والقُرب منه، والإقبال عليه، ثم يسأله إذا انصرف عنه؟!"[12]، يعني: إذا جاء لفظ (دُبر الصَّلاة) وذُكِرَ بعده دُعاء، فهذا يكون قبل، مثل: اللهم أعني على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك[13]، وإذا كان من قبيل الذكر كهذا، فإنَّه يكون بعد السلام.
قوله: وهو ثانٍ رجليه، قبل أن يتكلّم هذه اللَّفظة لم تتكرر في الرِّوايات الأخرى، من ثم فإنَّ الشَّواهد التي تُقوِّي هذا الحديث قد لا تُقوِّي هذه الجملة -والله تعالى أعلم-.
والمقصود بـثانٍ رجليه، قبل أن يتكلّم يعني: قد عطف رجليه على هيئته في الجلوس في التَّشهد، يعني: قبل أن يتحرَّك، وقبل أن يُغير هيئته في الجلوس، أو ينهض، أو إذا كان إمامًا قبل أن يلتفت إلى الناس.
وهنا قوله: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، يُحيي ويُميت، وهو على كل شيءٍ قدير كلّ هذا قد مضى شرحُه في مناسباتٍ سابقةٍ.
قال: عشر مرات؛ كُتبت له عشر حسناتٍ، ومُحِيَ عنه عشر سيئات، ورُفِعَ له عشر درجات، وكان يومه ذلك كلّه في حرزٍ من الشَّيطان، فمحو السَّيئات أبلغ من الغفر، كما ذكر بعضُ أهل العلم، وقد يُقال غير ذلك.
وعرفنا أنَّ الغفرَ يتضمن معنيين:
الأول: السَّتر.
والثاني: أن يقيه تبعة الذَّنب والمؤاخذة والعقوبة.
ومن هنا قال مَن قال: بأنَّ المحوَ أبلغ، فإنَّه قد يُوقَى، ولكن المحو بمعنى الإزالة بالكُلية.
قال: وكنَّ له حرزًا أي: حفظًا له، والحرز يُقال للموضع الحصين، ويُقال أيضًا للتَّعويذ: حرز، وتقول: احترزتُ من كذا، أي: توقيته.
وجاء في روايةٍ من حديث أبي أيوب الأنصاري : وكنَّ له مسلحةً من أول النَّهار إلى آخره[14]، هذا يُفسّر الحرز، فهذا يكون له حمايةً من أول النَّهار إلى آخره.
حرزًا من الشَّيطان فلا يتسلط عليه بالوسواس والإغراء بالمعاصي، وكذلك لا يُلقي في قلبه الشُّبهات، إلى غير ذلك مما يحصل من كيد الشيطان وأذاه.
ويقول هنا أيضًا في أثر هذه الكلمات: وكان يومه ذلك كلّه في حرزٍ من كل مكروهٍ، وحُرِسَ من الشَّيطان[15]، والحرز من كل مكروهٍ هذا يشمل جميع المكاره، فيدخل في ذلك ما يتخوّفه الإنسانُ، أو ما يصل إليه من الأذى من النَّاس، ومن الحيوان والهوامّ، وما إلى ذلك.
ويدخل في ذلك الشَّياطين، ولكنَّه عطف ذكر الشَّياطين: وحُرِسَ من الشَّيطان، ويكون ذلك من قبيل عطف الخاصِّ على العامِّ؛ إذ إنَّ ما يفعله الشَّياطين بابن آدم كلّ ذلك من المكروه، فكأنَّ ذلك -والله تعالى أعلم- من قبيل ذكر الخاصِّ الذي يكون مُرادًا به التأكيد؛ لشدّة خطره، وعظيم أثره، فذكر الشياطين أو الشَّيطان على سبيل الخصوص.
ولم ينبغِ لذنبٍ أن يُدركه في ذلك اليوم إلا الشِّرك بالله، لم ينبغِ لذنبٍ أي: لم يكن له، ولم يجز له، وما معنى: أن يُدركه؟
كثيرٌ من أهل العلم فسَّروا ذلك بمعنى: أن يُهلكه ويُبطل عمله.
وجاء في حديث أبي أيوب الذي أشرتُ إليه آنفًا: ولم يعمل يومئذٍ عملاً يقهرهنَّ بمعنى: أنَّه يكون في حرزٍ من الشَّيطان، ويكون أيضًا قد لاذ بجناب التوحيد، ودخل حصنَه، والله -تبارك وتعالى- يقول: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فلا يكون لشيءٍ من الذنوب أن يُحيط به، أو أن يُدركه، أو أن يُوبق عمله، أو أن يُبطله، إلا الشِّرك بالله -تبارك وتعالى.
فمَن قال كلمةَ التوحيد هذه خالصًا من قلبه، فإنَّه قد دخل حرمًا آمنًا، فلا يستقيم لذنبٍ أن يهتك حُرمة هذا التوحيد، فإذا خرج عن حُرمة التوحيد أدركه الشِّركُ، ولا ينبغي لذنبٍ أن يُدرك هذا القائل فيُوبِق عمله فيبطل إلا الشِّرك، كما قال الله -تبارك وتعالى-: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81]، ولا توجد خطيئةٌ تُحيط بصاحبها إلا الإشراك.
وهذا الذي مشى عليه المفسّرون سلفًا وخلفًا؛ فإنَّ المعصية مهما عظمت فإنَّها لا تُحيط بصاحبها، ولا يكون من أهل الخلود في النار: وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، فهذا لا يكون إلا للشِّرك بالله -تبارك وتعالى-، فتستولي عليه هذه السَّيئة حينما تُحيط به، وتشمل جملةَ أحواله، وتكون من كل ناحيةٍ وجانبٍ -والله المستعان.
وبعض أهل العلم فسَّر: ولم ينبغِ لذنبٍ أن يُدركه يعني: أن يُؤاخذ بهذا الذَّنب إلا بضميمة الشِّرك، كما قال الله : إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ يعني: يُرجى لأهل التوحيد مغفرة الرب -تبارك وتعالى.
ويقول شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بناءً على بعض رواياته التي جاء فيها: كانت له عدل أربع رقابٍ من ولد إسماعيل[16]: إنَّ ذلك يدلّ على ثبوت الرقِّ على العرب الخُلَّص[17]، وإنما كانوا من ولد إسماعيل إذا كان ذلك بسبب الكفر؛ لأنَّ الرقَّ له مصدران كما هو معلومٌ:
الأول: استرقاق الأحرار، وهذا لا يكون إلا بالكفر، حينما يُسترقّ هؤلاء في الحرب فيُؤخذون، فالخيار للمسلمين بأن يسترقوهم، أو أن يقتلوهم، أو أن يُفادوهم، أو أن يعفو عنهم مجانًا، فالرقّ أصله الكفر.
الثاني: ما توالد من هؤلاء الأرقّاء، فإنَّهم يكونون أرقّاء، ولو كانوا مسلمين، يعني: إذا أسلم الأرقّاء فإنَّ أولادهم يكونون أيضًا أرقّاء، ولو كان الآباءُ من المسلمين.
فهذا ما يتَّصل بهذا الحديث.
وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات، برقم (3474)، وضعفه الألباني.
- أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (17990)، وقال مُحققو "المسند": "حسنٌ لغيره، وهذا إسنادٌ ضعيفٌ؛ لإرساله".
- "الترغيب والترهيب" (1/172).
- "التعليق الرغيب" (1/166)، و"ضعيف الجامع الصغير" (5738).
- "تراجعات الألباني" (ص168) (289).
- في تعليقه على "مسند أحمد" ط. الرسالة، برقم (17990).
- "فتح الباري" لابن رجب (7/428).
- "نتائج الأفكار" لابن حجر (2/322).
- أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (8719)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده صحيحٌ على شرط الشَّيخين".
- أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (23568)، وقال مُحققو "المسند": "حديثٌ صحيحٌ، وهذا إسنادٌ حسنٌ من أجل إسماعيل بن عيَّاش".
- أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (26551)، وقال مُحققو "المسند": "صحيحٌ لغيره".
- "زاد المعاد" (1/248).
- أخرجه أبو داود: كتاب الصَّلاة، بابٌ في الاستغفار، برقم (1301)، وصححه الألباني.
- أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (23568)، وقال مُحققو "المسند": "حديثٌ صحيحٌ، وهذا إسنادٌ حسنٌ من أجل إسماعيل بن عياش".
- أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب الدَّعوات، برقم (3474)، وضعَّفه الألباني.
- أخرجه الترمذي في "سننه": أبواب الدَّعوات، برقم (3553)، وصححه الألباني.
- "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية، ط. المعرفة (3/111).