الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
سنشرع في الكلام على أذكار الصَّباح والمساء، وسبق في المقدّمات بين يدي هذه المجالس والأذكار مسائل متنوعة، ومن ذلك الكلام على أوقات الأذكار، ومبدأ الصَّباح، ومبدأ المساء، ولا بأس بالإشارة للتَّذكر ببعض ما سبق:
فالصباح شرعًا: هو من طلوع الفجر الصَّادق إلى طلوع الشمس؛ ولهذا يُقال لصلاة الفجر: بأنَّها صلاة الصُّبح، وأذان الفجر الذي يكون عند دخول وقته يُقال له: أذان الصبح، فيُؤذن –يعني- ابن أم مكتوم: إنَّ بلالاً يُؤذن بليلٍ، فلمَّا ذكر ابنَ أم مكتوم، فكان لا يُؤذن إلا إذا قيل له: أصبحتَ، أصبحتَ[1]. فهذا مبدأ الصُّبح.
وأمَّا ما يُقال: بأنَّ ذلك من بعد الثانية عشرة من الليل، فيُقال: الواحدة صباحًا، ونحو ذلك، فهذا خلاف ما دلَّ عليه الشرع، هذا جرى عليه العمل، والاصطلاح عند الغربيين ومَن وافقهم، مع أنَّ ذلك ذكره بعضُ أهل العلم قديمًا من المسلمين، ولكنَّه على خلاف ما دلَّ عليه الشرع -والله تعالى أعلم-، وعلى خلاف ما هو المعهود المعروف في كلام العرب، لكن هناك مَن قال بهذا من أهل العلم المتقدّمين: بأنَّ الصبحَ يبدأ من بعد ..، ولكن لا يتمسّك بهذا ويتشبّث به مُوافقةً لهؤلاء من الغربيين ونحوهم؛ لأنَّ قائلاً قال به من المسلمين، فليس على هذا المنهج يتخير من الأقوال أو الأحكام.
فالصباح شرعًا من طلوع الفجر الصَّادق إلى طلوع الشمس، وهذا هو وقت الغدو الذي جاء ذكره في كتاب الله -تبارك وتعالى-، ويُقابله: الآصال، ثم أوقات النَّهار بعد ذلك، بعد هذا الوقت الذي هو الغدو يُقال له: الصَّباح، وهذا الصَّباح يمتدّ إلى ما قبل الزَّوال.
ولكن في أسماء أجزاء هذا الوقت الممتدّ؛ فإنَّ أوَّله هو الغدو، وبعضهم يخصّ أوَّله أيضًا باسم: الصباح، من طلوع الفجر إلى ما قبل طلوع الشمس، يقولون: هذا هو الصَّباح، فإذا جزئ هذا القدر من طلوع الفجر إلى زوال الشمس، فبعضهم يقول: يأتي بعد الصّبح الذي يكون إلى طلوع الشمس وقتُ الضُّحى، فهذا ضُحى يبدأ من طلوع الشمس إلى ما قبل الزوال، أو إلى ما قبل الاستواء، يقولون: ثم يأتي وقتُ الاستواء حينما تكون الشمسُ في كبد السَّماء، ثم بعد ذلك يكون وقتُ الزوال حينما تبدأ بالميل إلى النَّاحية الأخرى، إلى جهة الغرب، فمن هنا يبدأ الزوال، ومن هذا الحدّ يكون المساء، يبدأ المساء من زوال الشَّمس، ميل الشمس من حدِّ الاستواء إلى الناحية الأخرى جهة الغرب؛ ولهذا جاء عن جمعٍ؛ كالليث[2] قال: المساء بعد الظّهر إلى صلاة المغرب، هذا كلّه يُقال له: المساء.
وبعضهم قال: من بعد الظهر إلى مُنتصف الليل، هذا المساء، والذي يكون بعد منتصف الليل يكون صباحًا على هذا الاستعمال، ولكن هذا خلاف المشهور أن يُقال لما بعد مُنتصف الليل، ثم إنَّ مُنتصف الليل يختلف من الصيف إلى الشَّتاء إلى وقت الاعتدال، ولكن لما صار الناسُ يضبطون ساعة الوقت على الأربعة والعشرين؛ فتكون ثابتةً بهذه الطَّريقة، صاروا يستعملون ما بعد الثانية عشرة أنَّ ذلك وقت الصباح، هكذا، وإلا فقد يكون قبل ذلك، قد يكون مُنتصف الليل السَّاعة الحادية عشرة والنِّصف، وقد يكون قبل ذلك بقليلٍ، وقد يكون بعده، هذا يختلف، لكن وإن قيل لهذا: مساء، يعني: وقت الليل، فإنَّ ما بعد المنتصف لا يُقال له: صباح، لا شرعًا، ولا لغةً، وإن قال بعضُ أهل العلم بأنَّ ذلك يكون من قبيل الصَّباح.
فالمقصود أنَّ أذكارَ الصباح والمساء التي تُقال في أول النَّهار وآخر النَّهار، ومَن أدخل ما بعد الغروب فيه، ولا شكَّ أنَّ ما بعد الغروب يعتبر مساءً، وهو من الليل، إلا على قول مَن حدَّ المساء بأنَّه إلى غروب الشَّمس، والذي يظهر -والله أعلم- أنَّ المساء يكون ما بعد الزَّوال، ويمتدّ أيضًا، فما بعد الغروب يُقال له: مساء، ويُقال له أيضًا: ليل.
ومن هنا فإنَّ بعض أهل العلم قالوا: بأنَّه يمتد إلى أول الليل، يعني: إلى ما قبل المنتصف، وذكرنا قول اللَّيث، ومَن قال بهذا من المعاصرين الشيخ محمد الصَّالح العثيمين[3]، أعني أنَّه قال: إنَّ المساء يمتدّ إلى ما بعد الغروب، ذكر هذا القدر: يمتدّ إلى ما بعد الغروب، إلى أول الليل، وأمَّا الصبح فيكون من طلوع الفجر وحده، أعني: الشيخ محمد الصَّالح العثيمين -رحمه الله- إلى ارتفاع الضُّحى.
ولكن كما ذكرتُ -والله أعلم- أنَّ الصبحَ لا يُحدّ بارتفاع الضُّحى، وإنما يحدّ، إلا إن قصد بذلك أنَّه هو قال هنا: "ينتهي بارتفاع الشمس ضُحى"، إلا إذا قصد بذلك ارتفاع الشمس إلى ما قبل الزَّوال؛ لأنَّ الضُّحى أكبر، ويقول: بأنَّ المساء يدخل من صلاة العصر، وينتهي بصلاة العشاء، وهذا التَّحديد ذكر بعضُ أهل العلم أنَّ المساء يبدأ من بعد العصر، وذكروا ذلك في العشي كما سيأتي، ولكن المشهور أنَّ المساء في لغة العرب يكون من بعد زوال الشمس، وليس من بعد صلاة العصر، ولا ينتهي بصلاة العشاء.
فالأذكار التي قُيِّدت بالصباح والمساء يقول الشيخُ العثيمين -رحمه الله-: "هذا وقتُها"، يعني: من بعد العصر إلى وقت العشاء، أو قريب منه، ومن بعد صلاة الفجر إلى ارتفاع الشمس ضُحًى، يقول: "والأذكار التي قُيِّدت بالليل تكون بالليل"[4]، مثل: قراءة الآيتين مثلاً من آخر سورة البقرة، ونحو ذلك، فهذه تكون في الليل، لا تكون قبل ذلك، يعني: ما يقرأها في العصر مثلاً، فمَن قرأهما في ليلةٍ كفتاه[5]، فهذه من الأذكار التي تكون في الليل، ولا يُقال: إنها من مُطلق أذكار المساء.
وجاء في فتاوى سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز[6] -رحمه الله- هذا السؤال: هل يجوز لي قراءة أذكار المساء قبل أذان المغرب بدقائق؛ لانشغالي بعد صلاة المغرب بتدريس القرآن الكريم؟
الجواب: نعم، يجوز أن تقرأ أذكار المساء بعد العصر؛ لأنَّ ورد المساء يبدأ من بعد الزَّوال؛ بعد زوال الشَّمس، يعني: من بعد دخول وقت الظهر، فالأذكار في هذا الوقت كلّها مساء، وأذكار العشي.
هذا كلّه واقعٌ في وقته، وإن كان -والله تعالى أعلم- أنَّ الأفضل والأكمل أن تُقال الأذكار: أذكار الصَّباح بعد صلاة الفجر، إلى ما قبل طلوع الشمس، هذا الأفضل في وقتها، وأنَّ الأذكار: أذكار المساء تُقال بعد صلاة العصر.
ومَن قالها بعد الظُّهر أجزأته؛ لأنَّ هذا مساء، وهو الطرف الثاني من النَّهار، ومَن قالها بعد المغرب أجزأته، لكن يكون قد فوَّت على نفسه وقتًا من المساء لم يقل فيه هذه الأذكار، والله تعالى أعلم.
وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ [هود:114]، ابن جرير -رحمه الله- والأزهري -من أئمّة اللغة- فسَّروا طرفي النَّهار، قالوا: يعني الغداة والعشي، هذا طرفٌ، وهذا طرفٌ.
الغداة تبدأ من بعد الفجر إلى طلوع الشمس، على خلافٍ بين أهل العلم: ما المراد بهذه الصَّلاة التي أمر بإقامتها؟ وبصرف النَّظر، لكن قال ابن جرير[7] -رحمه الله- بعد أن أشار إلى خلافهم: "بعد إجماع جميعهم على أنَّ التي عينت من صلاة الغداة الفجر": وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ، فالأولى -الطَّرف الأول- هي صلاة الفجر، يقول: هذا متَّفقٌ عليه، لكن يبقى الطرفُ الثاني ما هو؟
فبعضهم يقول –كالأزهري-: "الظهر والعصر هما من صلاتي العشي"[8]، فالأزهري يقول: المساء يبدأ من بعد الظهر. وهذا صحيحٌ، لا إشكالَ فيه، وبه قال مجاهد، ومحمد بن كعب القرظي، والضَّحاك[9]، يعني: عدُّوا صلاةَ الظهر التي تكون بعد الزَّوال يدخل وقتُها؛ أنَّ ذلك من صلاتي العشي، كذلك العصر.
وقال آخرون: بل المراد صلاة المغرب، الطَّرف الثاني. هذا منقولٌ عن ابن عباس، والحسن، وابن زيد -رضي الله عن الجميع-.
وذهب آخرون إلى أنَّ المراد بها صلاة العصر، وهو منقولٌ عن الحسن وقتادة.
يقول أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله-: "وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصَّواب قول مَن قال: هي صلاة المغرب، طرفي النَّهار؛ باعتبار أنَّ الأولى -التي هي الفجر- في مبدئه، والمغرب في مُنتهاه، فتكون هذه طرفًا، وهذه طرفًا"[10]. هكذا قال ابنُ جرير -رحمه الله-.
وقوله -تبارك وتعالى-: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [آل عمران:41]، فهذا ما المراد بالعشي والإبكار؟
ابن جرير -رحمه الله- يُفسِّر العشي هنا يقول: "من حين تزول الشمس إلى أن تغيب"[11]، لاحظ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ هذا في حقِّ زكريا -عليه الصَّلاة والسَّلام-، دعا ربَّه بالولد، كما في سورة آل عمران، ثم بشَّرته الملائكةُ وهو قائمٌ يُصلي في المحراب، والمحراب يُقال: أشرف المجالس، أو أرفع المجالس، أو مكان العبادة، ليس المقصود به الذي نُصلي به الآن، وإنما المقصود به موضع العبادة، أو أشرف الأماكن، والعبادة تكون عبادةً تتّخذ في أشرف مكانٍ.
فهنا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ هذا جاء مع هذه البشارة، فدلَّ على أنَّ الذكرَ له تعلُّقٌ بشُكر النِّعَم، وهذا لا شكَّ فيه، وعلى هذه النِّعمة خاصَّة؛ وهي ما يتعلق بالولد، كثرة الذكر والتَّسبيح، فابن جرير يقول: "العشي: من حين تزول الشمس إلى أن تغيب، هذا العشي، وأمَّا الإبكار فمن بين طلوع الفجر إلى وقت الضُّحى"[12]. وبه قال مجاهد[13].
وقت الضُّحى هنا يمكن أن يُفسّر أنَّه وقت ضُحًى، يعني: إلى مُنتهاه، يعني: الأَضحى الأكبر؛ لأنَّه بعده يكون وقت الاستواء، فالضُّحى له أول، وله أوسط، وله آخر، وكلّه يُقال له: ضُحى، وأفضل الوقت الذي تُصلَّى به صلاة الضُّحى هو حينما ترمض الفصال؛ هي الصِّغار من الإبل، فتشتدّ حرارة الشمس، وهذا حين تكون الشمسُ قد ارتفعت، يعني: الضُّحى الأكبر.
وهذا كلّه يُقال له: الإبكار، هذا الإبكار غير الغدو، والعشي غير المساء.
فهذه الألفاظ والإطلاقات بينها تداخلٌ، وتتفق في بعض ما تصدق عليه، ويزيد بعضُها فيدخل فيه ما لا يدخل في الآخر، والله أعلم.
هذا القدر يكفي، فالحاصل أنَّ مَن قال: الأذكار، فأراد الأفضل، فليقلها قبل أن تطلع الشمس في أول النَّهار، ومن بعد العصر إلى ما قبل الغروب، فإن قالها بعد ذلك -يعني: قالها في الصباح بعد ارتفاع الضُّحى- أجزأه، وإن قالها بعد الظُّهر أجزأه، وإن قالها بعد المغرب أجزأه، فذلك وقتٌ للذكر، والله تعالى أعلم.
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب أذان الأعمى إذا كان له مَن يُخبره، برقم (617)، ومسلم: كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، برقم (1092).
- انظر: "تهذيب اللغة" (13/82).
- "فتاوى نور على الدرب" للعثيمين (24/2، بترقيم الشاملة آليًّا).
- "فتاوى نور على الدرب" للعثيمين (24/2، بترقيم الشاملة آليًّا).
- إشارة إلى حديث: ((مَن قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلةٍ كفتاه)). متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة، برقم (5009)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، والحثّ على قراءة الآيتين من آخر البقرة، برقم (808).
- "مجموع فتاوى ابن باز" (26/72).
- "تفسير الطبري = جامع البيان" ط. هجر (12/602).
- انظر: "تهذيب اللغة" (10/69).
- انظر: "تفسير الطبري" (12/602-604).
- انظر: "تفسير الطبري" (12/605).
- انظر: "تفسير الطبري" (5/391).
- انظر: "تفسير الطبري" (17/460).
- انظر: "تفسير الطبري" (17/461).