إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- نُواصل الحديث عمَّا أورده المؤلفُ من أدعية الاستفتاح، وذلك ما روته عائشةُ -رضي الله عنها-، قالت: كان رسولُ الله ﷺ إذا استفتح الصَّلاةَ قال: سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك[1].
هذا الذكر مما يُقال في الاستفتاح، جاء عن عمر ، وهو مُخرَّجٌ في "صحيح مسلم"، وجاء عن عمر موقوفًا[2]: أنَّه كان يجهر بهؤلاء الكلمات، يقول: سبحانك الله وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك.
وجاء أيضًا عن غيره من الصَّحابة: كأبي بكرة[3])، وعثمان[4]، وابن مسعود[5] -رضي الله عن الجميع-، ولكنَّه جاء مرفوعًا إلى النبي ﷺ، وليس في "صحيح مسلم"، وإنما رواه بعضُ أهل السُّنن، كما أنَّ الرِّوايات الواردة في هذا الحديث منها ما جاء تقييد ذلك فيه بقيام الليل، ومنها ما جاء على سبيل الإطلاق: "كان إذا قام إلى الصَّلاة"، هذا يشمل الفريضة، والنَّافلة، وصلاة الليل، وصلاة النَّهار، فكل ذلك يُقال فيه، لا سيّما أنَّ عمر -رضي الله تعالى عنه- كان يجهر كما في بعض الرِّوايات من أجل أن يُعلِّم الناس هذا الذكر، وهذا يفعله في صلاة الفريضة، إذًا هذا من الأذكار العامَّة التي تُقال في الفرض، وفي النَّفل.
يقول الأسود بن يزيد: صليتُ خلف عمر أكثر من سبعين صلاة، فكان يُكبِّر، ثم يقول ذلك[6]. وظاهره أنَّه صلَّى خلفه الفريضة.
وعرفنا أنَّ الجهرَ بدعاء الاستفتاح غير مقصودٍ، وإنما يكون ذلك للتَّعليم، وإلا فالأصل الإسرارُ به، وقد ذكرنا الأدلةَ على هذا، ووجه الجمع بينه وبين الأحاديث التي تُصرِّح بأنَّ النبي ﷺ كان يفتتح الصَّلاة بـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وقلنا: المقصود فيما يُسْمِع مَن وراءه، وأمَّا ما يُسرّ به فهذا كما سأل أبو هريرة النبيَّ ﷺ عمَّا يقوله في سكتته، فدلَّ على أنَّ النبي ﷺ لم يكن يجهر بذلك، ومن هنا سأله أبو هريرة .
هذا الذكر قلنا: هو الذي اختاره شيخُ الإسلام -رحمه الله-، ورأى أنَّه الأكمل والأفضل مما ورد من أدعية الاستفتاح[7]، واختاره قبله أيضًا الإمامُ أحمد -رحمه الله-[8]، ولكن الإمام أحمد وشيخ الإسلام، كلّ هؤلاء يقولون: لو أنَّه استفتح بشيءٍ مما جاء عن رسول الله ﷺ سوى هذا فلا شيءَ في ذلك.
وقد ذكرنا من قبل أنَّ الأفضل والأكمل هو هدي النبي ﷺ، وهو أن يُنوّع بين هذه الأذكار، وأنَّ من أهل العلم -كشيخ الإسلام رحمه الله- مَن أشار إلى أنَّه قد يكون أنفع لبعض المكلَّفين أن يتَّخذ واحدًا من هذه الأذكار بعينه؛ لأنَّه أصلح لحاله، أو نحو ذلك.
الحاصل: أنَّ شيخَ الإسلام -رحمه الله- حينما اختار مثل هذا الذكر له تعليلات، وقد أشرنا إلى شيءٍ منها من قبل، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- ذكر أوجهًا لهذا الاختيار، من ذلك: أنَّ عمر كان يُكثر من إسماع المأموم خلفه، فدلّ على أنَّ هذا هو المختار والأكمل والأكثر ذيوعًا وانتشارًا بين أصحاب رسول الله ﷺ.
كذلك أيضًا ما ذكرناه سابقًا من أنَّه يتضمن أفضل الكلام بعد القرآن والباقيات الصَّالحات، حيث اشتمل على التَّسبيح والتَّحميد والتَّهليل، فإذا اجتمع معه تكبيرةُ الإحرام في أول الصَّلاة؛ فهنا يكون قد اشتمل ذلك جميعًا على الكلمات الأربع، فهذا من حيث المضمون.
كذلك أيضًا أنَّه قد تمحض في الثَّناء على الله -تبارك وتعالى-، وذكرنا من قبل في المفاضلة بين الأذكار: أنَّ الأعلى من ذلك ما كان من قبيل الثَّناء المحض على الله، ثم يلي ذلك من الذكر ما كان من قبيل الإخبار: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك[9] يُخبر عن نفسه وعن تعبُّده، وما إلى ذلك، ثم يلي ذلك الدُّعاء.
فهذه الأذكار الواردة منها ما هو ثناء محض، ومنها ما هو إخبار، ومنها ما هو من قبيل الدُّعاء، فهذا من النوع الأول، وقلنا من قبل: إنَّ ذلك لا يختصّ به، وذكرنا ما يمكن أن يصدق عليه مثل هذا الوصف.
وكذلك أيضًا باعتبار أنَّ كثيرًا من هذه الأذكار الواردة قد جاء تقييده بأنَّه في صلاة الليل، وقد أشرتُ إلى ذلك من قبل، وميزتُ بين هذه الأذكار، هذا بالإضافة إلى أمورٍ أخرى يكفي منها ما ذُكِرَ.
هنا: "كان إذا قام إلى الصَّلاة"، وهنا في حديث عائشة: "كان رسولُ الله ﷺ إذا استفتح الصَّلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك"، وعرفنا من قبل أنَّ مثل هذه الصِّيغة تدل غالبًا على التَّكرار والمداومة، مع أنها قد تأتي لمجرد الإخبار عن الفعل، ولو كان ذلك وقع على غير المداومة والتَّكرار.
ثم يقول: سبحانك اللهم التَّسبيح هنا عرفنا من قبل أنَّ المقصود به التَّنزيه لله -تبارك وتعالى- عن كل عيبٍ ونقصٍ في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فهو كاملٌ في ذاته، وهو كاملٌ في صفاته، وأسمائه، وأفعاله، لا يتطرَّق إلى ذلك شيءٌ من النَّقص والعيب، فهذا تنزيهٌ له -تبارك وتعالى- في هذه جميعًا، وهذا يتضمّن أنَّه مُنَزَّهٌ عن الشُّركاء في إلهيته، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته، فذاته لا تُشبه الذَّوات، وأفعاله هي الكاملة من كلِّ وجهٍ، وأسماؤه هي الحُسنى، وهي مُتضمنة للأوصاف العُلا، كلّ هذا يُنزّه الله -تبارك وتعالى- فيه عن النَّقائص والعيوب، وما نزَّهه مَنِ ادَّعى له الشَّريك، أو الصَّاحبة، أو الولد، فالله -تبارك وتعالى- مُنزَّهٌ في ذلك جميعًا.
سبحانك اللهم وبحمدك "سبحان" هذا مصدر من التَّسبيح، أو أنَّه اسمٌ أُقيم مقام المصدر، يعني: التَّسبيح هو المصدر: سبَّح تسبيحًا، فالسّبحان: اسم مصدر، على وزن الرّجحان والغفران، وما إلى ذلك، يعني: أُنزهك يا ربّ تنزيهًا من كل سوءٍ وعيبٍ ونقصٍ.
اللهم عرفنا أنَّ هذه الميم تكون عِوَضًا عن ياء النِّداء، يعني: أصله: يا الله، فلمَّا حُذفت الياء لكثرة الاستعمال عُوِّض عنها بالميم، فقيل: اللهم، وعرفنا أنها لا تجتمع الياء مع الميم، فلا يُقال: يا اللهم، وإنما يُقال: اللهم، أو يُقال: يا الله.
فـسبحانك اللهم وبحمدك لاحظ هنا عندنا الواو: "وبحمدك"، وعندنا الباء، فهذه الواو بعضهم يقول: إنها زائدة، يعني: سبحانك اللهم بحمدك، يعني: أُسبِّحك تسبيحًا مُتلبِّسًا بحمدك، باعتبار أنَّ الباء هذه للمُلابسة، أو أنها للمعية والمصاحبة: أُسبِّحك تسبيحًا مصحوبًا بحمدك، ويمكن أن تكون هذه الواو للاقتران: أُسبِّحك تسبيحًا مُقترنًا بحمدك، ويمكن أن تكون الباءُ للسَّببية، فيكون المعنى على أحد الاحتمالات على هذا الوجه، يعني: أنَّه يُسبح الله بسبب حمده -تبارك وتعالى-، وهذا لا يخلو من بُعْدٍ، يعني: بحمدك سبَّحتك، أو بسبب الثَّناء الجميل -الذي هو الحمد- عليك، إضافة الأوصاف والكمالات إلى الله -تبارك وتعالى-، يقول: اعتقدتُ نزاهتك. هكذا ذكر بعضُ أهل العلم، ولكن هذا لا يخلو من بُعْدٍ -والله تبارك وتعالى أعلم-، لكن يمكن أن يُقال: سبحانك اللهم وبحمدك يعني: أنَّك تُسبّح الله تسبيحًا مُقترنًا بحمده، مُتلبِّسًا به.
وهنا: سبحانك اللهم وبحمدك يعني: أُسبِّحك تسبيحًا مُقترنًا بحمدك.
وتبارك اسمك الحمد عرفنا في مناسباتٍ شتى أنَّه إضافة أوصاف الكمال، وإضافة الكمالات إلى الله -تبارك وتعالى-، ووصفه بالكمال مع المحبَّة والتَّعظيم يكون حمدًا؛ لأنَّه إن خلا من المحبَّة والتَّعظيم ومُواطأة القلب، فإنَّ ذلك قد يكون تملُّقًا، ومن هنا جاء الفرقُ بين المدح والحمد: فالمدح قد يكون تملُّقًا وتزلُّفًا، قد يكون نفاقًا، ونحو ذلك، فإذا حصلت مُواطأة القلب مع المحبَّة والتَّعظيم فهذا هو الحمد.
وعرفنا أيضًا من قبل أنَّ الحمدَ يفترق مع الشُّكر في كون الحمد يكون باللِّسان، فهذا من أبرز الفروقات بين الحمد والشكر؛ إذ إنَّ الشُّكر يكون باللسان والقلب والجوارح، ويقولون بأنَّ مورد الشُّكر يكون من جهة النِّعمة، يعني: يُشكر على النِّعمة، وأنَّ الحمدَ يكون مورده أعمّ، بمعنى: أنَّ الحمدَ يكون على السَّراء والضَّراء، هكذا يقولون.
وعند التَّحقيق: قد لا يكون ذلك لازمًا؛ وذلك أنَّ الشُّكر قد يكون أيضًا على الضَّراء، وقد تكلَّمنا على هذا طويلاً في الكلام على الأعمال القلبية، وقلنا: إنَّ المراتبَ أربع:
فالأولى: التَّسخط، وهو حرامٌ.
والثانية: الصَّبر، وهو واجبٌ.
والثالثة: الرِّضا، وقلنا: إنَّ الراجحَ أنه مُستحبٌّ.
والأخير: هو الشُّكر، وهذه درجة عالية مُستحبَّة، يُشكر على البلاء، ويُشكر على المصيبة، وذكرنا نماذج من أحوال السَّلف -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم- في ذلك.
وتبارك اسمك تبارك يعني: كثرت بركةُ اسمك، والبركة تدل على النَّماء والكثرة في الخير، يعني: كثرت بركةُ اسمك، وتكاثر خيرُه، فضلاً عن مُسمَّاه، فالبركة هي ثبوت الخير، وكثرته، ونماؤه، وتعاظمه، وإنما تكون من الله -تبارك وتعالى-، وهذا فيه إشارة -كما ذكر بعضُ أهل العلم- إلى ارتباط أسماء الله -تبارك وتعالى- بالبركة.
تبارك اسمك كمل وتعاظم وتقدّس، وكثرت بركته، فإذا كان الاسمُ يُقال فيه ذلك، فالمسمَّى من باب أولى، فالله -تبارك وتعالى- البركة إنما تكون منه، وليست من غيره.
ومن هنا ذكرنا في مناسباتٍ شتى أنَّه لا يُقال: يا فلان، تباركت علينا، أو نحو ذلك مما يُعبِّر به كثيرٌ من الناس، أو قد يقول: تبارك هذا الشَّيء الذي ركبته، أو نحو ذلك، وإنما البركةُ تكون من الله؛ وذلك جميعًا يُمنَع تارةً لأنَّه غير صحيحٍ في ذاته، كما يُقال: تباركتَ علينا؛ لأنَّه ليس هو مصدر البركة، وتارةً لأنَّه لا يخلو من تزكيةٍ؛ كأن يُقال مثلاً: حلَّت بنا البركة، ونزلت علينا البركة، مع أنَّه لا يُنكر أنَّ بعض الذَّوات جعل الله فيها البركة، ولكن مَن يستطيع أن يحكم بأنَّ فلانًا مُباركٌ، أو نحو هذا؟
فحينما نقول: "تبارك" هذه اللفظة مبنية في أصلها على السَّعة والمبالغة، يعني: هذا يدل على كمال البركة، وعظمتها، وسعتها، فاسم الله -تبارك وتعالى- لا شكَّ أنَّه مُبارك، وأنَّه سببٌ لحلول البركة فيما ذُكِرَ عليه، ومن هنا يُسمَّى على الطَّعام، فيكون ذلك سببًا للبركة فيه، وقل مثل ذلك في كثيرٍ من المزاولات التي أُمرنا بالتَّسمية عندها.
وتعالى جدُّك التَّعالي بمعنى: الارتفاع، تعالى يعني: ارتفعت عظمتُك فوق كلِّ عظمةٍ، جدُّك الجدّ فُسِّرَ بمعنى: العظمة، وفُسِّرَ بمعنى: الغنى.
ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ[10]، قيل: لا ينفع صاحبَ الغنى منك غناه، يعني: تعالى غناك عن أن يحتاج لأحدٍ، أو أن يلتجئ إليه مُفتقرٌ ويرجع خائبًا، والجنّ أخبر الله عن قيلهم: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا [الجن:3]، أي: عظمته، كما قال بعضُهم، أو غناه، كما قال آخرون.
ولا إلهَ غيرك هذه كلمة التوحيد، وقد مضى الكلامُ عليها، يعني: لا معبودَ بحقٍّ إلا أنت، وجاء ذلك مُرتبًا على ما قبله؛ وذلك أنَّ مَن كان مُستحقًّا لأوصاف الكمال من كلِّ وجهٍ فهو المستحقّ لأن يُعبد وحده دون مَن سواه.
وقوله هنا: ولا إله غيرك يعني: لا معبودَ بحقٍّ سواك، فصار هذا الذكرُ مُشتملاً على التوحيد بأنواعه الثلاثة.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإيَّاكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإيَّاكم هُداةً مُهتدين، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم: كتاب الصَّلاة، باب حُجّة مَن قال: لا يجهر بالبسملة، برقم (399).
- أخرجه مسلم: كتاب الصَّلاة، باب حُجّة مَن قال: لا يجهر بالبسملة، برقم (399).
- أخرجه الطَّبراني في "المعجم الكبير" برقم (9301).
- أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" برقم (9301).
- أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" برقم (9301).
- "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (2/355).
- "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (2/355).
- "مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني" (ص46).
- أخرجه أحمد في "مسنده" ط. الرسالة، برقم (3712)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده ضعيف".
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصَّلاة، برقم (844)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة، باب استحباب الذكر بعد الصَّلاة وبيان صفته، برقم (593).