الجمعة 13 / جمادى الأولى / 1446 - 15 / نوفمبر 2024
(102) دعاء الاستفتاح " اللهم أن الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك... "
تاريخ النشر: ٠١ / ربيع الآخر / ١٤٣٥
التحميل: 3485
مرات الإستماع: 2258

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

نواصل الحديثَ في هذه الليلة -أيّها الأحبّة- عمَّا جاء عن النبي ﷺ من قوله: وجَّهتُ وجهي للذي فطر السَّماوات والأرض حنيفًا، وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريكَ له، وبذلك أُمِرْتُ، وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، أنت ربي، وأنا عبدك، ظلمتُ نفسي، واعترفتُ بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، إنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيّئها، لا يصرف عني سيّئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كلّه في يديك، والشَّر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركتَ وتعاليتَ، أستغفرك وأتوب إليك[1].

وقد مضى الكلامُ على شرح شطره الأول، وبقي الكلامُ على قوله: اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت وما بعده.

فقوله: اللهم أنت الملك يعني: الذي لك الملك الحقيقي، فإنَّ الملك الذي يُضاف إلى غير الله -تبارك وتعالى- إنما هو ملكٌ ناقصٌ، مسبوقٌ بفقدٍ لهذا الملك، ويلحقه الفقدُ والعدمُ، وهو ينتابه بين ذلك النَّقصُ، ولا يقوم إلا بالأعوان والأجناد، وما إلى ذلك، فهذا مُلْكٌ ناقِصٌ.

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران:26]، فالله هو الذي يملك الملك في الدنيا والآخرة، ولكنَّه في الدنيا يُعطي الملك أو يُعطي بعضَه لمن شاء من عباده: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26]، وانظروا في صفحات تاريخ الأمم تجدون مصداق هذه الآية، يهب الله الملكَ لمن شاء من عباده، وينزعه ممن شاء، وقد شاهد الناسُ في هذا العصر في هذه السّنوات المتأخّرة ما فيه العظة والعبرة لمن كان له قلبٌ، فالله -تبارك وتعالى- هو الملك.

اللهم يعني: يا الله، كما عرفنا، وقلنا: إنَّ هذه الميم نيابة عن ياء النِّداء؛ ولهذا لا تجتمعان إلا في الشِّعر: يا الله لك الملك، ويا الله أنت الملك، والملك الحقيقي لك، وأنت المتصرِّف التَّصرف المطلق، وهذه هي حقيقة الملك.

لا إله إلا أنت فهذه كلمة التَّوحيد، لا معبودَ ولا مألوه بحقٍّ سواك، فهو الملك، وهو الإله الواحد -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-، وهو الربّ المعبود.

أنت ربي السَّيد، المربِّي، المالك؛ لأنَّ من معاني الربّ: المالك، فأثبت له المـُلْك، وأثبت له المِلْك، فهو الملك، وهو المالك، وهما القراءتان في قوله -تبارك وتعالى-: مَلِكِ يوم الدِّين[2]، كما هو قراءة الجمهور، وفي القراءة الأخرى المتواترة التي نقرأ بها: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، وقد مضى الكلامُ على الفرق بينهما في الكلام على أسماء الله الحسنى، وفي التَّعليق على التَّفسير عند الكلام على سورة الفاتحة.

أنت ربي أنت مالكي وسيدي، وأنت الذي تُربيني بالنِّعَم الظَّاهرة والباطنة، وأنت الذي تُدبِّر شؤوني، فإنَّ العبدَ لا تدبيرَ له، وإنما الذي يُدبِّره هو الله -تبارك وتعالى-؛ ولهذا فإنَّ العبدَ يسأل ربَّه أن يُدبِّره، فإنَّ العبدَ لا يُحْسِن التَّدبير، وماذا عسى أن يبلغ إليه عقلُ الإنسان ونظره القاصر الذي قد حُجب عن الغيوب؟! فهو لا يعرف مصلحته أين تكون؟ فقد يكره أشياء وهي عين الخير له، ولكنَّه لا يشعر.

فهذا الثَّناء الذي يُثني به العبدُ على ربِّه -تبارك وتعالى-، ويُقرّ له بملكه وإلهيته وربوبيته، ثم يُقرّ بالذلِّ والخضوع: أنت ربي، وأنا عبدك، ثم يُقرّ بالتَّقصير في حقِّه: ظلمتُ نفسي بما يقع من تقصيري في طاعة الله ، والمخالفات، والمعاصي، فيعترف العبدُ ويُقرّ بهذا، وكلنا مُقَصِّرٌ، ولكن العبدَ حينما يبلغ به الجهلُ مبلغه يُحجَب عن هذا النَّظر، ويظن أنَّه قد كمل، وأنَّه لا يتطرق إليه مثل هذا، وإذا دُعِيَ له بالهداية غضب، فهو يرى أنَّه على استقامةٍ وطاعةٍ، فلا يحتاج إلى تكميلٍ، ولا يعترف بالتَّقصير؛ لأنَّه دائمًا ينظر إلى مَن هو دونه فيما يتَّصل بالكمالات ومعالي الأمور ومُراتب العبودية، ومَن كان ينظر بهذا النَّظر -أيّها الأحبة- فهو لا يزال ينسفلُ ويهبط؛ لأنَّه سيجد مَن هو دونه حتى ينحدر إلى الهاوية، وهو يقول: هناك مَن هو أسوأ، وهناك مَن هو شرٌّ مني.

والمؤمن لا ينظر بهذا النَّظر إلا في الأمور الدّنيوية، فيمَن هو دونه في الغنى والعافية وصحّة البدن، وما إلى ذلك، حتى يعرف نعمةَ الله عليه، وأمَّا في معالي الأمور والطَّاعة والاستقامة ولزوم الصِّراط المستقيم فإنَّه دائمًا ينظر إلى مَن هو أعلى منه، حتى يعرف أنَّه دونهم، وأنَّه مُقصِّر، وأنَّه بحاجةٍ إلى مُجاهدات ومُزاولات ليرتقي.

هنا يقول: ظلمتُ نفسي بغفلتي وتقصيري وذنوبي، واعترفتُ بذنبي؛ لأنَّ الإنسانَ حينما يُقصِّر ويعصي هو لا يضرّ الله شيئًا، وإنما يعود ذلك إليه هو، فيقول: ظلمتُ نفسي ...، واعترفتُ بذنبي، فهو يُقرّ بهذه الجنايات، ثم بعد ذلك يسأل المغفرة، وهذا من أحسن ما يكون فيما يُقدِّمه بين يدي الدُّعاء من الثَّناء على الله -تبارك وتعالى-، وذكر الافتقار، وإظهار التَّذلل والخضوع والتَّقصير لربِّه وخالقه .

وهذه المقدِّمات التي تكون بين يدي الدُّعاء هي أنواع: فتارةً يُقدِّم بأنَّه لم يشقَ من قبل بدُعاء ربِّه -تبارك وتعالى-، كان الله يُجيبه ويُعطيه سُؤْلَه، ويُحقق مطالبه، فيقول: عوّدني الإجابة، فأجبني في مسألتي هذه.

وتارةً إذا كان العبدُ يُريد المغفرة ونحو ذلك، يعترف بالتَّقصير والذّل، ويعترف بالذَّنب، ويُظهر فقرَه ومسكنتَه، لعلَّ الله أن يغفر له.

فاغفر لي ذنوبي جميعًا نسمع بعضَ الناس يقول -وربما دعاهم إلى ذلك محبّةُ السَّجع والميل إليه-: أستغفر الله العظيم من كلِّ ذنبٍ عظيمٍ، من كلِّ ذنبٍ عظيمٍ فقط. وسمعتُم في الآيات التي في صلاة العشاء: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49]، بدأوا بالصِّغار، كما قال بعضُ التَّابعين: "ضجّوا والله من الصَّغائر"[3]، بدأوا بصغائر الذُّنوب قبل الكبائر: لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، فكل شيءٍ يُحصيه الله على عباده، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7- 8].

فهنا فاغفر لي ذنوبي جميعًا، وهذا هو اللَّائق في الاستغفار، ولا يقول: "أستغفر الله العظيم من كل ذنبٍ عظيمٍ"، أليس العبدُ بحاجةٍ إلى الاستغفار من جميع الذُّنوب؟ بل هذا هو الواجب عليه.

فاغفر لي، وعرفنا أنَّ الغفر يتضمّن أمرين: السَّتر والوقاية، السَّتر فلا يفتضح: لا في الدنيا، ولا في الآخرة، والوقاية: أنَّه يُوقى تبعةَ هذا الذَّنب وأثره، بحيث يكون سالـمًا من العقوبة؛ لأنَّ الإنسان إذا جنى الجنايةَ، وحصل المعصية، ووقع في المخالفة، فإنَّه عُرضة للمُؤاخذة، فإذا قال: أستغفر الله، فهو يطلب السّتر، ويطلب الوقاية. وقلنا: مثل "المغفر"، قيل له ذلك لأنَّه يستر رأسَ لابسه ويقيه الضَّرب بالسِّلاح والحديد، وما إلى ذلك.

فاغفر لي ذنوبي جميعًا هنا قدَّم هذا الاعتراف بالتَّقصير على سؤال المغفرة تأدُّبًا، انظروا إلى آدم وحواء -عليهما السلام-: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، قالوا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا، والدُّعاء هنا يُناسِب ذكر اسم الربِّ -تبارك وتعالى-، كما هو الغالب في القرآن، وغالب دعاء الأنبياء: (ربنا)؛ لأنَّ العطاء والمنع والغفر والعفو كلّ ذلك من معاني ربوبيته -تبارك وتعالى-.

فإنَّه لا يغفر الذُّنوبَ إلا أنت الفاء هنا تدل على التَّعليل، مع دلالة (إنَّ) على التوكيد، فإنَّه يقول: أنا أعترف لك، فاغفر لي، فإنَّه لا يغفر الذُّنوبَ إلا أنت، فأتوجّه إلى مَن؟ فأنت الذي تملك ذلك وحدك، دون سواك، ومن ثم فإني أتوجّه إليك بطلب المغفرة، فمغفرة الذنوب بيدك، وليست لأحدٍ سواك، ولا يتولاها غيرك، ولا يقدر عليها مخلوق.

واهدني لأحسن الأخلاق اللَّفظ السَّابق طلب المغفرة، وهذا من باب التَّخلية، فإنَّ المحلَّ المتَّسخ بحاجةٍ إلى تنظيفٍ وتطهيرٍ، ثم بعد ذلك يأتي التَّعطير والتَّطييب، فالمحلّ الذي نريد أن نزرعه ليُثمر نحتاج أولاً إلى إزالة الشَّوائب والعوالق والعوائق، فتكون الأرضُ صالحةً للنبات، وهكذا القلوب والنفوس في إصلاحها وتربيتها وتزكيتها وتقويمها هي بحاجةٍ إلى تهذيبٍ وبناءٍ، وهذه حقيقة التَّزكية: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] طهَّرها وبناها بالإيمان والعمل الصَّالح، فالعملية تقوم على هذين الأصلين.

فقوله: اهدني لماذا؟ لأحسن الأخلاق، والهداية هنا تشمل هدايةَ الإرشاد: دُلَّني عليها، وهداية التَّوفيق، فإنَّ من الناس مَن قد لا يعرف أصلاً أنَّ هذا من الفضائل والأخلاق، أو أنَّ هذا أفضل وأكمل من غيره، ومن الناس مَن يعرف، ولكنَّه أبعد ما يكون عن هذا: إمَّا لأنَّ نفسَه أقعدته، أو لأنَّه يحسب الأمور بطريقةٍ مختلفةٍ، فيرى أنَّ هذا من الضَّعف في هذا المقام، أو أنَّ هذا يُجَرِّئ الآخرين، أو نحو ذلك مما يتصوره أحيانًا ويظنّه من الظنون الفاسدة، فيظنّ أنَّه إذا قدَّر الآخرين، أو تعامل معهم بشيءٍ من الاحترام؛ أنَّ هذا نوعٌ من التَّملُّق.

فبعض التَّلاميذ لربما يرون الأستاذ هو الذي يمسح السّبورة، وهو الذي يبحث عن كرسيٍّ يجلس عليه، وهو الذي يحمل كتبًا كثيرةً أحيانًا تبلغ عشرين مجلدًا، فيحملها، ولا يقوم أحدٌ، فالأستاذ هو الوحيد الذي لا يُوجد له كرسيٍّ يجلس عليه، والطَّلاب أخذوا كلَّ المقاعد وجلسوا عليها، وما يقوم أحدٌ ويقول: تفضّل اجلس هنا؛ لماذا تعجز وأنت تُريد أن تُفسّر هذه التَّصرفات وهذه السَّلبية؟ ولا يعرفون محاسنَ الأخلاق، أو أنَّ هؤلاء قد تحجَّرتْ نفوسُهم، أو أنَّهم يُفكِّرون بطريقةٍ أخرى.

ثم حينما تتساءل لربما تعرف من بعضهم أنَّهم يرون أنَّ ذلك من قبيل الـتَّملُّق الذي يترفَّعون عنه، وبعض الناس لربما لا يهوي إلى رأس أبيه أو أمِّه ليُقبّله؛ لأنَّه يرى أنَّ هذا نوعٌ من التَّذلل، فتحمله عزَّته على التَّجافي عنه، أخلاقه جافَّة، وتعامل جاف، وأخلاق صحراوية، بيتٌ بعيدٌ عن الرِّفق والتَّلطف، وعن العبارات اللينة، والكلام الطَّيب الحسن الذي يجذب القلوبَ ويأسرها، فتجد التَّعامل بين الإخوان جافًّا، فلا توجد لغةُ حوارٍ، ولا توجد لغةُ تفاهمٍ، وهذا للأسف خلاف الأخلاق.

اهدني لأحسن الأخلاق فلم يقل: اهدني للأخلاق الحسنة، وإنما أحسن الأخلاق؛ لأنَّ المؤمنَ دائمًا يطلب الارتقاء، فمهما استطعتَ أن تُجاهد نفسَك لتكون الأحسن في الأخلاق، لا أن تكون الأخلاقُ حسنةً، أمَّا أخلاق سيئة فهذا مرفوضٌ، لا يمكن أن يُقبل، لكن أحسن الأخلاق، وانظر إلى مَن حولك: هل أنت الأفضل في الخلق تعبُّدًا لله بهذا الخلق، لا نفاقًا، ولا رياءً، ولا تملُّقًا، وإنما لإرادة ما عند الله -تبارك وتعالى؟

فالنَّفس تحتاج إلى مجاهدةٍ، قد يصعب عليها بعضُ هذا، بعض الناس قد يقول: يُسْتَنْكَر مني هذا، الناس ما اعتادوه، يستنكرون منك الإحسان واللُّطف، هذا أمرٌ لا يجمل، ولا يحسُن، لكنَّهم دعهم يستنكرون منك خلافه لو بدر لأي سببٍ من الأسباب، لو رأوا منك شيئًا من ترك بعض ذلك استغربوا، قالوا: فلان ما له اليوم؟! لم نعهد اللُّطف الذي عهدناه منه! هذا أحسن من أن يُستغرب من الإنسان اللُّطف، فيُقال: ماذا عنده اليوم؟! غريبة! أليس هو فلانًا الذي عرفناه؟! هم عرفوه وحشًا كاسرًا -نسأل الله العافية-، لا يقف في وجهه أحدٌ، ولا يستطيع أحدٌ أن يُطالبه بحقٍّ، ولا يتكلَّم معه، ولا أن يتحاور، ولا أن يتفاهم، يغضُّون عنده، ويبلعون ما في نفوسهم؛ لأنَّه لا يتحرك أحدٌ إلا ثار في وجهه، وشرُّ الناس مَن أحسن الناسُ إليه اتِّقاء شرِّه.

فلاحظ هذا الدُّعاء، فنحن حينما ندعو في صلاتنا دعاء الاستفتاح: اهدني لأحسن الأخلاق، أرشدني ودُلَّني عليها لأعرفها، فهذا هو الخطوة الأولى للعمل والامتثال.

وأيضًا وفِّقني؛ لأنَّ ما كلّ مَن عرف طبَّق، وهذه قضية نحن أحوج ما نكون إليها، وينبغي على المربين أن يُركِّزوا على هذه المحاضن التَّربوية بربط صلة هؤلاء الشَّباب والفتيات بالله ، هذا أمرٌ ينبغي أن يُوثق، بحيث يكون عنده انبعاثٌ إلى الطَّاعة من عند نفسه، ولا يحتاج إلى دفعٍ، فإذا أذّن ذهب إلى المسجد، لا يُقال له: قم صلِّ. ويُجاهد على هذا جهادًا كبيرًا حتى يذهب إلى المسجد، وظاهره الصَّلاح، هذه تربية ضعيفة وناقصة وهشَّة، وسرعان ما يتساقط هؤلاء وينحرفون لأدنى عارضٍ.

هذا هو الجانب الأول: نحتاج أن نُربي الأولاد والبنات عليه، ويعتني به المربّون، مع الآباء والأمّهات، وهو تقوية الصِّلة بالله .

الجانب الثاني: وهو برّ الوالدين. والجانب الثالث: الأخلاق.

فإذا وُجدت هذه الثلاثة يأتي ما بعدها -إن شاء الله-، وهي صلته بالله : بإدامة ذكره، وإقبال القلب عليه، وما إلى ذلك، وهذا هو الذي يُثمر كلّ عملٍ طيبٍ، وقولٍ طيبٍ، وما إلى ذلك، هذه أصول كبار.

فيحتاج العبدُ إلى هذا الدُّعاء، فالمسألة ليست بسهلةٍ، النفوس تحتاج إلى مجاهدةٍ: اهدني، ودُلَّني، ووفقني، وثبّتني، وأوصلني لأحسن الأخلاق في عبادتك أو غيرها، الأخلاق الظَّاهرة والباطنة، والحياء من الأخلاق، والبنت حين تكون ما تستحي: تلبس لباسًا يُظهر العورات، ويكشف السَّوآت، أو يحجّمها، أو يشفّ عنها، وتخرج أمام أخواتها، أو أمام زميلاتها، أو في مناسباتٍ؛ فهذا خلاف الأخلاق، فالحياء خلقٌ منه ما هو جبليٌّ، ومنه ما هو مُكتَسَبٌ، وقلْ مثل ذلك في الحلم والقول اللَّين، وهذا بابٌ واسعٌ: لأحسن الأخلاق لأكملها، وأفضلها.

لا يهدي لأحسنها إلا أنت مَن الذي يهدي لأحسن الأخلاق إلا الله في الدّلالة عليها؟ والناس حينما يتكلَّفون ويعصرون أذهانهم من أجل أن يُولِّدوا أخلاقًا فاضلةً في زعمهم، قد تكون هذه الأخلاق غير نظيفةٍ؛ لأنَّ الأذهانَ والعقولَ قاصرةٌ وناقصةٌ، وإنما الذي يدل على الأخلاق هو الله -تبارك وتعالى- بتشريعاته الكاملة.

إذًا هذا يُؤخذ من أين؟ من مشكاة الوحي، لا من المناهج الغربية والنَّظريات التي لا تخلو في غالبها من لوثات، ثم يأتي قائلٌ يقول -وهو ينتسب ربما إلى التربية أو الدَّعوة-: أفضل التربية اليوم هي التربية الأمريكية. هذا كلامٌ يقوله مَن عرف الوحي وما جاء به الرسولُ ﷺ؟!

فالله هو الذي يهدي لأحسنها، ويدلّ عليها، إذًا تُؤخَذ هذه من الوحي، وكذلك أيضًا التَّوفيق إليها؛ لا يمكن أن يُوفّق، ولا يمكن أن يُوصِل إلى ذلك إلا الله، فالعبد تقعد به نفسُه عن الوصول إلى هذه المقامات، إلا مَن هداه الله ووفَّقه.

والنبي ﷺ يقول: إنَّ من أحبِّكم إليَّ، وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة: أحاسنُكم أخلاقًا[4]، يعني: هذا أثر حُسن الخلق في الآخرة، يصل بالعبد إلى القُرب من النبي ﷺ، فيصل به إلى هذه المراتب العالية، ويبلغ بالخلق مرتبةَ الصَّائم الذي لا يُفطر، والقائم الذي لا يفتر، وتجد الإنسان أحيانًا صاحب الخلق الطَّيب، والكلام اللَّطيف، والقلب النَّظيف، والله أحبّ إلينا من إنسانٍ يصوم الدَّهر، ويقوم الليل، ولكن قلبُه مُظلم؛ يحقد على الناس، ويحسدهم على ما آتاهم اللهُ من فضله، ولسان -أعوذ بالله- لا يسلم منه أحدٌ، فما هذه الصَّلاة؟! وما هذا الصِّيام؟! وما هذا القيام؟! هذا الذي يذهب في الصَّباح ويشتري خبيزات، ثم يجلس مع أولاده؛ والله خيرٌ من ذاك الذي أصبح صائمًا، ولكنَّه يحمل قلبًا مُظلمًا، ولسانًا -أعوذ بالله- فاحشًا، فيحتاج العبدُ إلى أن يتضرَّع إلى الله -تبارك وتعالى- ليصل إلى هذه المقامات.

وأسأل الله أن ينفعنا وإيَّاكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإيَّاكم هُداةً مُهتدين.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا.

ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنَّك رؤوفٌ رحيمٌ.

 

  1. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
  2. "السبعة في القراءات" (ص64).
  3. من قول الفُضيل في "الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التَّأويل" (2/678).
  4. أخرجه الترمذي في "سننه": كتاب البرِّ والصِّلة، باب ما جاء في معالي الأخلاق، برقم (1941)، وصححه الألباني.

مواد ذات صلة