الجمعة 13 / جمادى الأولى / 1446 - 15 / نوفمبر 2024
(112) دعاء الركوع " اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت... "
تاريخ النشر: ١٩ / ربيع الآخر / ١٤٣٥
التحميل: 2251
مرات الإستماع: 2841

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

في هذا اليوم -أيّها الأحبّة- صُلِّيَ على نحو إحدى عشرة جنازة: رجال ونساء وطفل، وحينما ننظر في حالنا وهذه الجنائز تُحمل على الأعناق تباعًا إلى القبور، نجد -للأسف الشَّديد- أنَّ الغفلةَ غالبةٌ في هذا المقام والمشهد الذي ينبغي أن يكون موضعًا للتَّفكر والاعتبار.

كان السَّلفُ -رضي الله تعالى عنهم- إذا شهدوا جنازةً -كما وُصِفُوا- لا ترى إلا مُتقنِّعًا باكيًا، أو مُتفكِّرًا، حتى جاء عن بعض السَّلف أنهم لربما شهدوا الجنازةَ ولم يعلموا بأهل الميت؛ لما يرون من كثرة الباكين، فهذا مقامٌ للاتِّعاظ، لكن إذا نظرنا إلى اهتماماتنا وحديثنا في المقابر ونحن نصطفّ لنُعزِّي هؤلاء، تجد الكثير منا لربما يتحدَّث عن اهتماماته، وبعضنا يتحدَّث عن تويتر ويضحك، ويتحدَّث مع أصحابه، وآخرون يتحدَّثون عن قضايا أخرى، وضحك، وكأنَّهم في سوقٍ، أو في مُنتدى.

فإذا كان الاتِّعاظ لا يتحقق -أيّها الأحبّة- في مثل المقبرة، وهذه الأعداد من الجنائز، فلا أدري متى يكون ذلك؟!

فيحتاج العبدُ إلى مُراجعة قلبه وقسوته، وإصلاح ما فسد منه، وأحد هؤلاء الشَّباب كان يسأل في مثل هذا الموقف: أنَّه حفظ جملة المتون، فيقول: بماذا تُوصي؟ فقلتُ له: اعمل لمثل هذا اليوم، فليست القضيةُ حفظَ متونٍ، ولا قراءة، ولا كثرة كتبٍ ومراجع، ولا كثرة شهادات، وإنما العبرةُ بما يكون عليه الإنسان، وما يقدم به على ربِّه -تبارك وتعالى-، هذه العبرة؛ ولذلك فإنَّ المؤمن ينبغي له دائمًا أن يتفكَّر في هذا المصير المحتوم، وهي مسألة وقتٍ والكل سيمضي، فإذا أراد أن يتكلم بكلمةٍ يحسب لها حسابًا، وإذا أراد أن يكتب شيئًا فليحسب له حسابًا، وإذا أراد أن يُجيب على سؤالٍ فليحسب لذلك حسابًا، حينما يُسأل: قلتَ كذا، وأجبتَ بكذا، وكتبتَ كذا، ونظرتَ إلى كذا، ومشيتَ إلى كذا. فلا بدَّ أن يكون الجوابُ حاضرًا، فقبل أن يُجيب الإنسانُ يستحضر وقوفَه بين يدي الله ، وقبل أن يُقرر مسألةً في العلم والشَّرع أن يقول: هذا هو الصَّحيح، وهذا هو الرَّاجح، وما عداه باطل. فيستحضر الجواب، كيف قلت: هذا هو الراجح؟ وكيف قلت: هذا غلط؟ وكيف قلت: هذا هو الصَّواب؟

فتكون كلماتُه وعباراتُه له فيها مخرجٌ عند الله ، فلا يتكلم إلا بعلمٍ، وتكون عباراته: لو قال قائلٌ كذا، لو أنَّ أحدًا فسَّره بكذا لكان له وجهٌ، فإنَّه يحتمل.

وهكذا حينما يكتب يتذكر أنَّ ذلك يُكتب في صحيفته، وحينما يتكلم في كل مواقفه وأحواله، فهكذا ينبغي أن يكون أهلُ الإيمان، أمَّا الغفلة في الحياة، وعند رؤية المقابر والقبور والجنائز وهي تُحْمَل، وبهذه الأعداد، جنائز مُتتابعة محمولة خلف بعضها: إحدى عشرة جنازة، ولا يُحرِّك في نفوسنا شيئًا، ونضحك، ونتحدَّث عن اهتمامات أخرى لا قيمةَ لها، فهذا لا شكَّ أنَّه من الغفلة.

فنسأل الله أن يلطف بنا، وأن يُصلح قلوبنا وأعمالنا.

بعد ذلك أقول -أيّها الأحبّة-: في هذه الليلة نشرح حديثًا آخر من الأذكار التي تُقال في الركوع؛ وذلك ما جاء عن علي بن أبي طالبٍ -رضي الله تعالى عنه- في الحديث الذي أخرجه الإمامُ مسلمٌ في "صحيحه": أنَّ النبي ﷺ كان إذا ركع قال: اللهم لك ركعتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، أنت ربي، خشع سمعي وبصري ومخِّي وعظمي وعصبي[1]، وفي لفظٍ: خشع سمعي وبصري ومخي وعظمي وما استقلَّت به قدمي لله ربِّ العالمين[2]، هذه الزِّيادة ليست في "صحيح مسلم"، لكنَّها ثابتة.

فقوله: اللهم لك ركعتُ عرفنا أنَّ (اللهم) يعني: يا الله، لك ركعتُ. ولاحظوا هنا أنَّه قدَّم الجار والمجرور ليُفيد الحصر، فلم يقل: ركعتُ لك، فإنَّه لو قال ذلك فإنَّه لا يُفيد الحصر، ركعتُ لك مثلاً يحتمل ولغيرك، لكنَّه هنا قال: لك ركعتُ، مثلما قلنا في: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، يعني: نعبدك وحدك، ونستعين بك وحدك.

فهنا لك ركعتُ يعني: دون ما سواك. وهذا ينبغي أن يُراعي فيه قائلُه النية والقصد والإخلاص، فقد يقول الإنسانُ: لك ركعتُ وهو يتزين بركوعه وصلاته لأحدٍ من المخلوقين، فلا يكون قد ركع لله حقيقةً.

لك ركعتُ والركوع معروفٌ: هو الانحناء والميلان، يُقال: "ركعت النَّخلةُ" إذا مالت، وقد يُراد به الصَّلاة أحيانًا، من باب إطلاق اسم الجزء على الكلِّ: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، ما المراد به؟ الصَّلاة، والصَّلاة يُقال لها: ركوع، كما يُقال لها أيضًا: سجود، فتُسمَّى ببعض أجزائها مما هو ركنٌ فيها.

اللهم لك ركعتُ، وبك آمنتُ يعني: أذعنتُ، وانقدتُ، وأقررتُ، وصدقتُ تصديقَ الانقيادِ، فهذا إذعان الباطن وتصديقه وانقياده.

ولك أسلمتُ يعني: أسلم لساني وجوارحي لله ربِّ العالمين، فهي طيِّعةٌ لربها وخالقها، لا تخرج عن طاعته، ولا تتمرد على عبادته، وإنما تكون في حالٍ من الاستسلام لله ربها وخالقها -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-.

خشع لك سمعي كما سبق في الكلام على الخشوع مُفَصَّلاً في الأعمال القلبية، وتطرقت إلى معناه، وهنا في بعض هذه المجالس.

والخشوع فُسِّر بالسُّكون والتَّواضع، كما قال شيخُ الإسلام -رحمه الله-، فإنَّ هذا المصلِّي حينما يقول: خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي يكون قد وصف نفسَه بالخشوع في حال الركوع؛ لماذا؟ لأنَّ هذا الراكعَ ساكنٌ مُتواضعٌ[3]، خاضعٌ لله -تبارك وتعالى-، قد حنى جسدَه إعلانًا وإيذانًا بتواضعه لربِّه -تبارك وتعالى-، وتعظيمه له، وبهذا فُسِّر قوله -تبارك وتعالى-: فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2]، فهذا الخشوع في الصَّلاة فُسِّر بالسُّكون.

وابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: خائفون، ساكنون[4]. وجاء عن مجاهدٍ أيضًا تفسيره بالسُّكون فيها[5]، وكذلك محمد بن شهاب الزهري[6]، وطائفة من السَّلف، فمَن بعدهم -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم-.

فهذا الخشوع يكون في القلب، ويظهر أثرُه بعد ذلك على رعيَّة هذا القلب، وما رعيَّة هذا القلب؟ كلّ ما عدا القلب فهو من رعيَّته: كالسَّمع والبصر والمخ والعصب وسائر الأعضاء، كلّها رعيَّة لهذا القلب، فإذا خشع القلبُ خشع كلُّ شيءٍ وسكن، وإذا كان هذا القلبُ شاردًا اشتغلت هذه الجوارح بالحركة والفكر بالتّجوال هنا وهناك في أمور دُنياه، وما إلى ذلك مما هو بعيدٌ كل البُعد عن صلاته، فلم يخشع فكرُه ومخُّه؛ لأنَّ قلبَه لم يخشع، وكذلك بقية أعضائه وأبعاضه، فإنَّها لا تكون خاشعةً؛ لأنَّ الملكَ غير خاشعٍ.

ولذلك تجد الإنسان حينما يتأثّر في صلاته، أو في الموعظة، أو نحو ذلك، أو يتفكّر؛ فيلين قلبُه، تجد أنَّ جميع الجوارح تكون في حالٍ من السُّكون، فإذا رأيتَ عابثًا في هذه الحال تعلم أنَّه أبعد ما يكون عن الخشوع.

فهذا الخشوع -أيّها الأحبّة- يكون في القلب، وينبعث على بقية الجوارح والأعضاء والأبعاض بالخضوع والتَّواضع والسُّكون؛ ولذلك نجد العلماء -رحمهم الله- حينما يُفسِّرون الخشوع تارةً يُفسِّرونه بسببه، أو ببعض أسبابه ومُوجباته، وتارةً يُفسِّرونه ببعض آثاره، والواقع أنَّ السكونَ هو أثرٌ من آثار الخشوع، وإلا فإنَّ الخشوعَ يكون في القلب.

وهنا يقول: خشع لك سمعي وبصري ومخِّي المخُّ فسَّره العلماء بالدِّماغ، والعلماء يُفسِّرونه يقولون: أصله الودك الذي في العظم، ويُقال لخالص كل شيءٍ: مخّه، يعني: خُلاصته، وهذا المخّ لا شكَّ أنَّه في الدِّماغ، ويُوجد أيضًا في العِظام -كما هو معلومٌ- مخٌّ، ما دام هذا العظم في حالٍ من عافيته وصحّته وسلامته، حينما يكون الإنسانُ صحيحًا، لكن هذا المخّ تجري فيه عمليات ترتبط مع القلب، وإن كان العقلُ في القلب كما دلَّت عليه نصوصُ الكتاب والسُّنة، لكنَّه يرتبط بالدِّماغ.

يقول: خشع لك سمعي وبصري ومخِّي وعظمي وعصبي الكلّ، العِظام والعصب لا يتحرَّكان ولا يقومان إلا بالله -تبارك وتعالى- وطاعته.

وما استقلَّت به قدمي يعني: ما قامت به وحملته، وما الذي حملته القدم؟ جميع البدن بما فيه القلب، فكأنَّ هذا من عطف العام على الخاصِّ، يعني: ذكر أشياء خاصَّة: السَّمع والبصر والمخّ والعصب والعظم، ثم قال: وما استقلَّت به قدمي؛ ليشمل الجميع، فذكر أشياء أساسية مهمة في البداية سمَّاها، ثم عمَّم بعد ذلك، فيكون ذلك من باب ذكر العام بعد الخاصِّ.

هذا الدعاء -أيّها الأحبّة- أو هذا الذكر كما يقول الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-: قد جمع بين شهود عبوديته لربِّه -تبارك وتعالى-، وشهوده معبوده[7]، وهذا كمال العبودية، يعني: أن يشهد ما يأتي به من العبودية مُوجِّهًا لها إلى المعبود -تبارك وتعالى-، محضِرًا لها بين يديه، مُتقرِّبًا بها إليه، فهو يُخاطِب ربَّه -تبارك وتعالى- فيقول: "اللهم"، فهو مُسْتَحْضِر الإخلاص، وأنَّه ركع لله ، ثم أيضًا هو مُستحضرٌ لهذه العبادة التي يقوم بها، وأنَّه يتقرَّب بها إلى الله -تبارك وتعالى- على الوجه الصَّحيح.

هكذا قال الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-، لكن ينبغي أن نتأمّل هنا معنى: حينما يقول الإنسانُ: خشع لك سمعي وبصري.. إلى آخره، ويكون أبعد ما يكون عن الخشوع، فإنَّ هذا يكون كذبًا، ويقول بلسانه غير الحقيقة، فينبغي التَّنبه لمثل هذا، وأن يعي الإنسانُ ما يقول، وألا يكون قولُه مُكذِّبًا لحاله، وألا تكون حالُه مُكذِّبةً لقوله، وألا يكون فعلُه مُكذِّبًا لقوله.

وقد يقول قائلٌ: ما وجه ارتباط هذه الجُمَل في أول الحديث حينما يقول بأنَّه ركع لله ، ثم بعد ذلك يقول: خشع لك سمعي.. إلى آخره؟

أجاب العلماء عن وجه الارتباط، ولماذا حُذفت واو العطف، فلم يقل: وخشع لك سمعي وبصري؟ فوجه ذلك كما قال بعضُ أهل العلم: هذا تفسيرٌ لقوله: لك أسلمتُ، فما هذا الإسلام؟

إسلام جميع الأعضاء والجوارح لربِّها وخالقها ، وإسلام الظَّاهر، فهنا يقول: انقدتُ وأطعتُ، فهذا الانقياد في كلِّ أجزائه وأبعاضه وخلايا جسده، فهي مُنقادةٌ كلّها، وخاضعةٌ لربِّها -تبارك وتعالى-.

فهنا كأنَّه بيَّن نوعي الانقياد والطَّاعة: خشع سمعي، ثم بيَّن الانقياد هذا في أشياء ظاهرة: كالسَّمع، والبصر، وأيضًا في أشياء لا تُرى، مثل: المخّ، والعصب، فخشع الظاهرُ والباطنُ، الجوارح والأعضاء الظَّاهرة، والأبعاض الباطنة، الكلّ مُستسلمٌ لله -تبارك وتعالى-، خاشعٌ، خاضعٌ له، فيكون ذلك كأنَّه توضيحٌ وبيانٌ وشرحٌ لهذا الإسلام في قوله: لك أسلمتُ.

وقد يقول قائلٌ: لماذا خصَّ السَّمع والبصر من بين الحواس الظَّاهرة، والمخّ والعظم والعصب من الأشياء الباطنة، مع أنَّ الأبعاضَ أكثر من هذه؟

أجاب بعض أهل العلم بالقول: بأنَّه خصَّ السَّمع والبصر لأنَّهما أعظم الحواس وأخطرها، بهما يُتلقَّى، فهما كالميزابين يصبَّان في القلب، والصّور المشاهدة تُؤثِّر في القلب، فالتَّلقي يكون بالسَّمع والبصر؛ ولهذا قال الله : إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36]، فهي أخطر هذه الأعضاء وأكثرها عملاً، كما قيل: العين لا تشبع من النَّظر ولا تكتفي، بعكس البطن مثلاً، يأكل ثم يشبع، ولا يستطيع أن يأكل بعد ذلك، لكن العين تنظر بلا كللٍ ولا مللٍ، وكلّما تُعطيها من المشاهد والصُّور فهي تتبعه، ولا تقول: اكتفيتُ بصورةٍ أو صورتين أو خمسٍ أو عشرٍ، وإنما هل من مزيدٍ؟

وكذلك ما يسمعه الإنسانُ؛ ليس هناك شيءٌ يملأ النفسَ من هذه المسموعات، يقول: أستطيع أن أسمع عشر دقائق مثلاً، أو ساعة. لا، هو يمكن أن يجلس ويسمع ما شاء الله، إلى أن يسقط مُنهكًا ومُتعبًا أو ينام، ولا يزال يسمع.

فهنا الخواطر والوساوس تأتي إلى القلب، والأشياء التي يُشاهدها تُشوش فكرَه وصلاتَه، وقد ينشغل بمَن بجواره، يريد أن يتعرف على المصلِّي بجانبه، وما إلى ذلك.

وأمَّا المخّ والعظم والعصب، فبعض أهل العلم يقول: إنَّ ذلك لكون ما في أقصى قعر البدن هو المخّ، ثم العظم، ثم العصب؛ لأنَّ المخَّ -كما قالوا- يُمسكه العظم، والعظم يُمسكه العصب، وسائر أجزاء البدن مُركَّبة عليها، يعني: هذه هي -كما يُقال- مثل العُمد والأُسس والأُصول في البناء، والباقي مثل الطوب والأبواب والنَّوافذ، وما إلى ذلك، فقالوا: هذه الأُسس التي يقوم عليها اللحمُ والشَّحم، إلى آخره، فهذا اللَّحم والشَّحم يذهب ويجيء ويتبدّل، لكن يبقى العصبُ لا يتبدّل، وتبقى العظامُ عليها قوام البدن، وهكذا أيضًا المخّ، فهذه الأشياء التي يقوم عليها بناءُ الإنسان والحيوان، وهكذا.

لكن ما معنى انقياد هذه الأشياء؟

أما السمع والبصر فظاهرٌ، ومن خضوعه وخشوعه أن يقبل الحقَّ، ويُعرض عن سماع الباطل، ويُقْبِل على ما ينفع.

وكذلك البصر ينظر به إلى ما يُرضي الله ، ويُعرض عمَّا حرم الله -تبارك وتعالى-.

أما المخّ والعظم والعصب فهذا يعني: انقياد الباطن، وانقياد جميع أبعاض الإنسان؛ ليكون مُحقِّقًا للعبودية بكلِّ ذرَّاته، خاضعًا، خاشعًا، فحينما يقول هذا في هيئة الركوع، ويُخاطِب ربَّه، فهذا مقامٌ يحتاج إلى استحضارٍ: هل كلّ الأجزاء فعلاً خاشعة؟ وهل هي بهذه المثابة إلى هذا الحدِّ من عظمٍ وعصبٍ ومخٍّ وما إلى ذلك؟ أو أنَّ هذا الإنسان يُصلي وعيناه تجولان في المسجد، في سقفه، وفي المصلين، ونحو ذلك؟

فإذا حصل هذا الانقيادُ الكامل صار العبدُ في حالٍ من النَّزاهة والطُّهر والاستقامة والعبودية، وأبعد ما يكون من خواطر السُّوء والفساد والشَّر في باطنه وظاهره، فيسلم ويسلم منه الناسُ، وبهذا تنهاه صلاتُه عن الفحشاء والمنكر، عرفتم لماذا كانت الصلاةُ تنهى عن الفحشاء والمنكر؟

فلو نستحضر هذه المعاني لم نحتج إلى كلامٍ كثيرٍ في الجواب الذي أوردناه من قبل؛ ولماذا يخرج الإنسانُ من المسجد فيذهب يفتح صورًا مُحرَّمةً؟ ويخرج من المسجد ويغشّ في البيع، ويُخاصم ويفجر في الخصومة، ويكتب ما لا يُرضي الله -تبارك وتعالى-، والقلب مليءٌ بالغشِّ والغلِّ والحسدِ لإخوانه المسلمين، والظنّون السَّيئة، والأوهام الفاسدة، كلّ هذا يتنزَّه منه المؤمنُ الذي يُصلي بهذه الصَّلاة، ومَن كانت صلاتُه لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر، فهذه الصَّلاة صورةٌ بلا روحٍ، وقد لا تزيده من الله إلا بُعْدًا، نسأل الله العافية.

هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدُّعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
  2. أخرجه أحمد في "مسنده" ط. الرسالة، برقم (960)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده صحيحٌ على شرط الشَّيخين".
  3. "مجموع الفتاوى" (22/555).
  4. "تفسير الطبري = جامع البيان" ت. شاكر (19/9).
  5. "تفسير الطبري = جامع البيان" ت. شاكر (19/8).
  6. "تفسير الطبري = جامع البيان" ت. شاكر (19/8).
  7. "طريق الهجرتين وباب السَّعادتين" (ص222).

مواد ذات صلة