الجمعة 13 / جمادى الأولى / 1446 - 15 / نوفمبر 2024
(117) دعاء السجود " سبحان ربي الأعلى "
تاريخ النشر: ٢٤ / ربيع الآخر / ١٤٣٥
التحميل: 2182
مرات الإستماع: 2084

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

أيّها الأحبّة، في هذه الليلة نشرع في شرح الأذكار التي تُقال في السُّجود، وأول ما ذكره المؤلفُ هو جزءٌ من حديث حُذيفة الذي قد مضى شطرُه المتعلِّق بالركوع.

حديث حُذيفة بن اليمان : أنَّه سمع النبيَّ ﷺ يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات[1]. وهذا الحديثُ أخرجه ابنُ ماجه.

وقلنا: إنَّ ذكر "ثلاثًا" في حديث حُذيفة لا يخلو إسنادُه من ضعفٍ، وله شواهد، وهذه الشَّواهد أيضًا لا تخلو من ضعفٍ، لكن يتقوَّى بها، وذكرنا هناك من هذه الشَّواهد: ما جاء عن عبدالله بن مسعودٍ [2]، وكذا عن جبير بن مطعم عند البزَّار[3]، ومن حديث أبي مالكٍ الأشعري[4]، وحديث أقرم بن زيدٍ الخزاعي[5]، وحديث أبي بكرة -رضي الله عنهم أجمعين-[6].

وهذه كلّها جاء فيها التَّقييد بأنَّه كان يقول ذلك ثلاث مرات، لكن في أسانيدها ضعفٌ، ومن أهل العلم مَن رأى أنها تتقوَّى بمجموعها: كالشيخ: ناصر الدين الألباني -رحمه الله-[7]، والشيخ شُعيب الأرنؤوط[8]، وقد مضى ذكرُ ذلك.

قوله في السُّجود: سبحان ربي الأعلى عرفنا أنَّ التَّسبيح بمعنى التَّنزيه، وهو يُنزه الله -تبارك وتعالى- ويُبرئه في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله عن كل عيبٍ ونقصٍ.

ربي الربّ عرفنا أنَّه يأتي بمعنى السَّيد والمالك والمتصرِّف والمربِّي لخلقه، إلى غير ذلك من المعاني، وكلّها ثابتٌ لله -تبارك وتعالى-.

سبحان ربي سيدي ومالكي وخالقي ومُتصرِّف في شؤوني، والمربي لعباده بالنِّعَم الظَّاهرة والباطنة.

الأعلى هذا من أسماء الله -تبارك وتعالى-، ثابتٌ في القرآن والسُّنة، وهذا الحديث يدلّ لذلك، فالله -تبارك وتعالى- يقول: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:1]، فهو أعلى من كل شيءٍ: أعلى في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فهو الأعلى، وله العلو المطلق: علو الذَّات، وعلو القدر، وعلو القهر، فكل العلو ثابتٌ لله -تبارك وتعالى-.

وقوله هنا: سبحان ربي الأعلى ظاهرٌ أنَّ التَّسبيح لله -تبارك وتعالى-، وهذا يمكن أن يُفسَّر به قوله -تبارك وتعالى-: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، بدليل أنَّ النبي ﷺ كان إذا قرأ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: سبحان ربي الأعلى، مما يدلّ على أنَّ المرادَ بذكر الاسم: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ليس المقصودُ تسبيحَ الاسم، وإنما تسبيح الربِّ -تبارك وتعالى-، الذي هو المسمّى بهذا الاسم.

وعبارات العُلماء -رحمهم الله- اختلفت في توجيه ذكر الاسم: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، لماذا ذكر الاسم؟ هل نقول: سبحان اسم ربي الأعلى؟ فنُسبِّح اسمه؟ هل هذا هو المراد؟

بعض أهل العلم قالوا: إنَّ المرادَ الربُّ، طيب، والاسم؟

بعضهم قال: إنَّه مُقْحَمٌ، أي: زائدٌ. هكذا ذهبت إليه طائفةٌ، منهم: القُرطبي صاحب التَّفسير[9]، ومن المتأخِّرين -وهو مُتأثِّرٌ به؛ لأنَّه ينقل من كلامه كثيرًا، بل يُلخِّصه- الشَّوكاني[10] -رحم الله الجميع-، قالوا: المعنى: سبِّح ربَّك، فالتَّسبيح لله .

وطائفةٌ قالوا: لا، التَّسبيح للاسم، وإلا كيف يُذكر الاسم ثم يُقال: إنَّه مُقحم؟! فهو مقصودٌ إذًا: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، نزِّه اسمَه أن يُسمَّى به أحدٌ سواه.

وبعضهم يقول: نزِّه تسمية ربّك وذكره، أو ذكرك إياه ألَّا تذكره إلا وأنت خاشعٌ ومُعظِّمٌ له .

وبعضهم فسَّر التَّسبيح في قوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى "أي: صلِّ لربِّك الأعلى"[11]، وهو قول الحسن البصري، إلى غير ذلك من الأقوال.

وأحسن مَن تكلم على هذا -فيما وقفتُ عليه- الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله-[12]، والحافظ ابن القيم[13]، فإنَّهم لم يقولوا بأنَّ الاسم مُقحمٌ، ولا أنَّ التَّسبيح للاسم، وإنما قالوا: التَّسبيح للربِّ -تبارك وتعالى-، ولم يقولوا مثل الأوَّلين: بأنَّ الاسم هنا زائدٌ، وإنما قالوا: الاسم هنا قصد ذكره، فليس بزائدٍ.

فالحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: بأنَّ الذكرَ الحقيقي محلّه القلب؛ لأنَّ الذي يُقابله النِّسيان، والتَّسبيح نوعٌ من الذكر، فلو أطلق الذكرَ والتَّسبيح، يعني: لو قال: اذكر ربَّك، سبِّح ربَّك. يقول: فإنَّه يُفهم منه ما يُقابل النِّسيان، وهو الذكر بالقلب، يعني: أن يبقى ذكرُه حاضرًا في قلب العبد، فلا يغفل، يعني: ليس الذكرُ باللِّسان، يقول: والله -تبارك وتعالى- أراد من عباده الأمرين جميعًا، ولم يقبل الإيمان وعقد الإسلام إلا باقترانهما واجتماعهما، يعني: القلب، وإقرار اللِّسان، بأن يتواطأ القلبُ واللِّسانُ.

يقول: فصار المعنى: "سبِّح ربَّك بقلبك ولسانك، واذكر ربَّك بقلبك ولسانك"[14]، فذكر الاسم يدلّ على أنَّ اللِّسان يلهج به، فلمَّا ذكر الاسم أفادنا هذه الفائدة: أنَّ هذا الذكر باللِّسان، فتذكر ربَّك ذكرًا بالقلب، مع اللِّسان، فيتواطأ القلبُ مع اللسان على الذكر. فهذه فائدة ذكر الاسم: أن تنطق باسمه وأنت تذكره، إذًا هذا كلامٌ ونطقٌ.

يقول: فجيء بالاسم هنا تنبيهًا على هذا المعنى، حتى لا يخلو الذكرُ والتَّسبيحُ من اللَّفظ باللِّسان. لاحظ، يقول: لو ذكر الذكر فقط فقد يكون ذكر القلب الذي يُقابل النِّسيان والغفلة، لما ذكر الاسم دلَّ على أنَّ اللِّسان ناطقٌ بهذا الذكر، مع مُواطأة القلب. يقول: لأنَّ اللَّفظَ لا يُراد لنفسه، فلا يتوهم أحدٌ أنَّ اللفظَ هو المسبّح، دون ما يدلّ عليه من المعنى. يعني: ليس المقصودُ أنَّك تُسبِّح اسمَه، وإنما ذكر القلب "مُتعلّقه المسمّى المدلول عليه بالاسم دون ما سواه"، الذي هو اسم الله: سبِّح ربَّك ذاكرًا اسمه: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى.

ففائدة ذكر الاسم أنَّك تُسبِّحه ذاكرًا اسمه، فتقول: سبحان ربي الأعلى، وتنطق بذلك؛ ولهذا النبي ﷺ كان إذا قرأ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: سبحان ربي الأعلى، ولم يقل: سبحان اسم ربي الأعلى، فهذا يُفسّر الآية، ويُبين المراد.

ثم نقل عن شيخه الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- فيقول بأنَّه عبَّر له عن هذا المعنى بعبارةٍ لطيفةٍ وجيزةٍ، فقال: "المعنى: سبِّح ناطقًا باسم ربِّك، مُتكلِّمًا به"[15]، يقول ابنُ القيم: وهذه الفائدة تُساوي رحلةً[16]. يعني: سفرًا، يُسافر من أجلها، يقول: لكن لمن يعرف قدرَها[17].

ثم أفادنا الحافظُ ابن القيم -رحمه الله- فائدةً أخرى في الفرق بين قوله: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:74]، حيث دخلت الباء بِاسْمِ رَبِّكَ، وفي سورة الأعلى قال: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى بدون باءٍ، فذكر وجه الفرق بينهما فقال: "بأنَّ التَّسبيح يُراد به التَّنزيه، والذكر المجرد دون معنًى آخر، ويُراد به ذلك مع الصَّلاة، وهو ذكرٌ وتنزيهٌ مع عملٍ"[18].

فالخُلاصة: أنَّ ابنَ القيم -رحمه الله- يقول: بأنَّ الذي يتعدَّى بالحرف (الباء): فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أنَّ هذا ذكرٌ مع عملٍ، الذي هو الصَّلاة، يقول: فلا يُقال: سبَّحتُ بالله، إلا إذا أردتَ ما كان مقرونًا بالفعل، وهو الصَّلاة، فتدخل الباء تنبيهًا على ذلك، كأنَّك قلتَ: سبّح مُفتتحًا باسم ربِّك، أو ناطقًا باسم ربِّك، كما تقول: أُصلِّي مُفتتحًا أو ناطقًا باسمه، فالباء هذه أفادتنا فائدةً زائدةً: أنَّ هذا ذكرٌ باللِّسان، زائد عملٍ، وهو الصَّلاة، فيقول: حيث وجدت هذه التَّعدية بالحرف، فيدلّ على أنَّ هناك عملٌ إضافي على الذكر باللِّسان، فيدلّ على أنَّه: سبّح مُفتتحًا باسمه، صلِّ له، فالصَّلاة يُقال لها: تسبيحٌ؛ ولهذا قال الله : سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحديد:1]، فُسِّر بأنَّه يُصلي له، فعُدِّيَ بحرفٍ، وهو اللام: سَبَّحَ لِلَّهِ.

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الأعلى هنا يرجع إلى الربِّ -تبارك وتعالى-، فالعلو صفةٌ ذاتيةٌ له -جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه-، ومن أسمائه الثابتة: العلي، والأعلى، والمتعال، فله علو القدر والشَّأن والمنزلة، وعلو القهر، وعلو الذَّات، فالله فوق خلقه، وفوق عرشه، وفوق سماواته، مُستوٍ على العرش، يعلم أحوالَ الخلق، مُحيطٌ بأعمالهم، لا تخفى عليه منهم خافية، وهو العلي العظيم، عالم الغيب والشَّهادة، الكبير المتعال، فكلّ هذا يدلّ على ثبوت هذه الأسماء لله -تبارك وتعالى.

والشّنقيطي -رحمه الله- حينما تكلَّم على هذه الآية: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: بأنَّه يمكن أن يكون المرادُ نفس الاسم؛ لأنَّ أسماء الله ألحد فيها قومٌ، ونزَّهها آخرون عن كلِّ ما لا يليق، ووصفها الله بأنها حُسنى، بمعنى: أنها بالغةٌ في الحُسن غايته، وفي ذلك أكمل تنزيهٍ لها؛ لأنَّها مُشتملة على صفاته الكريمة[19]، فهو يحتمِل أن يكون المرادُ تنزيه الاسم، لكن ما ذكرتُه من كلام شيخ الإسلام وابن القيم أحسن من هذا وأدقّ وأوضح.

هذا ما يتعلَّق بهذا الذكر.

وأسأل الله أن ينفعني وإيَّاكم بما سمعنا، ويجعلنا وإيَّاكم هُداةً مُهتدين، والله أعلم.

وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلّم.

  1. أخرجه ابنُ ماجه: كتاب إقامة الصَّلاة والسُّنة فيها، باب التَّسبيح في الركوع والسجود، برقم (888)، وصححه الألباني، وهو بنحوه في مسلمٍ برقم (772).
  2. أخرجه أبو داود: كتاب الصَّلاة، باب مقدار الركوع والسُّجود، برقم (752)، وابن ماجه: كتاب إقامة الصَّلاة والسُّنة فيها، باب التَّسبيح في الركوع والسجود، برقم (880)، والترمذي: كتاب الصَّلاة، باب ما جاء في التَّسبيح في الركوع والسجود، برقم (242)، وضعفه الألباني.
  3. أخرجه البزار برقم (3447)، والطبراني برقم (1572)، والدارقطني (1/342)، وفي إسناده عبدالعزيز بن عبيدالله الحمصي، وهو ضعيفٌ.
  4. أخرجه الدَّارقطني برقم (1312)، والبزار برقم (3447).
  5. أخرجه الدَّارقطني برقم (1313).
  6. أخرجه البزار برقم (3686).
  7. "صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-" للألباني (ص133).
  8. "سنن ابن ماجه" ت. الأرنؤوط (2/58).
  9. "تفسير القرطبي" (20/14).
  10. "فتح القدير" للشَّوكاني (5/514).
  11. "تفسير القرطبي" (20/15).
  12. "الجواب الصَّحيح لمن بدَّل دين المسيح" لابن تيمية (3/400).
  13. "بدائع الفوائد" (1/19).
  14. "بدائع الفوائد" (1/19).
  15. "بدائع الفوائد" (1/19).
  16. "بدائع الفوائد" (1/19).
  17. "بدائع الفوائد" (1/19).
  18. "بدائع الفوائد" (1/20).
  19. "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" (8/498).

مواد ذات صلة