الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
نواصل الحديث في الكلام على معاني الأذكار التي تُقال في الصَّباح والمساء، ومن ذلك ما جاء عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله ﷺ: مَن قال حين يُصبح وحين يُمسي: سبحان الله وبحمده، مئة مرة، لم يأتِ أحدٌ يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحدٌ قال مثلما قال، أو زاد عليه[1]. رواه مسلم.
هذا الحديث -كما سمعتُم- تضمّن عملاً يسيرًا، ولكنَّه رُتِّب عليه هذا الجزاء العظيم.
فقوله ﷺ: مَن قال حين يُصبح يعني: حين يدخل في الصَّباح، وعرفنا أنَّ الصباحَ إنما يكون بدخول يومٍ جديدٍ في أوَّله، وهو منذ طلوع الفجر إلى ما قبل الزَّوال، هذا كلّه يُقال له: صباح، فإذا قاله فجرًا، أو قاله ضُحًى، في أول الضُّحى، أو في وسطه، أو في آخره، وهو الضُّحى الأكبر، فإنَّ ذلك يصدق عليه أنَّه قاله.
وقوله: حين يُصبح، وحين يُمسي يحتمل أن يقول ذلك في صباح اليوم ومسائه، مجموعًا، أو مُفرَّقًا، يعني: يكون مجموعُ ما يقوله مئة مرة، هذا يحتمل بحسب لفظ هذا الحديث الذي سمعناه، وهذا المعنى مال إليه بعضُ أهل العلم؛ كالإمام النَّووي -رحمه الله-، باعتبار أنَّ المتيقّن هو الأقلّ، وذهب إليه أيضًا من الشُّراح الزُّرقاني في شرحه على "الموطأ"[2].
ولكن مع احتمال هذا اللَّفظ إلا إنَّه يوجد من روايات الحديث ما يدلّ على خلافه، وأنَّ المقصود أنَّه يقول ذلك مئة مرة في الصَّباح، ومئة مرة في المساء، فيكون مجموعُ ما يُقال في اليوم والليلة يبلغ مئتي مرة، وذلك كما يدلّ عليه اللَّفظ الآخر للحديث: مَن قال حين يُصبح: سبحان الله العظيم وبحمده، مئة مرة، وإذا أمسى كذلك؛ لم يُوافِ أحدٌ من الخلائق بمثل ما وافى[3]، فهذا نصٌّ صريحٌ، لا يحتمل، وهذا بمعنى قوله ﷺ: لم يأتِ أحدٌ يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحدٌ قال مثلما قال، أو زاد عليه.
قوله: سبحان الله عرفنا معنى التَّسبيح، وأنَّه التَّنزيه؛ التَّنزيه لله -تبارك وتعالى- عن كل عيبٍ ونقصٍ في ذاته، وصفاته، وأسمائه، وأفعاله، تنزيهٌ له في إلهيَّته، وربوبيَّته، وأسمائه، وصفاته، تنزيهٌ من العيوب والنَّقائص والآفات، وعن كل نقصٍ، ويُنزَّه عن الشَّريك والصَّحابة والولد، وجميع الرَّذائل.
كما أنَّ التسبيح أيضًا يُطلق بإطلاقٍ أوسع من هذا المعنى الخاصّ الذي هو التَّنزيه، فيُقال: التَّسبيح هو الذكر، وفلان يُسبِّح: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44]، يحتمل أن يكون المقصودُ أن يذكر ربَّه -تبارك وتعالى-، كما أنَّ التَّسبيح يُطلق على معنًى آخر؛ وهو صلاة النَّافلة، يقول ابنُ عمر لما رأى مَن يتنفَّلون في السَّفر بعد الفريضة: "لو كنتُ مُسبِّحًا لأتممتُ"[4]. يعني: لو كنتُ أُصلي الراتبة مثلاً بعد الفريضة لأتممتُ الفريضة وصليتُها أربعًا، غير مقصورةٍ، فأطلق التَّسبيح على هذا.
وهنا: سبحان الله وبحمده الواو هنا للحال، يعني: أُسبِّحُ الله مُتلبِّسًا بحمده، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي أنعم علينا النِّعَم الظَّاهرة والباطنة، ومن هذه النِّعَم أن وفَّقنا وهدانا لهذا الذكر والتَّسبيح: "سبحان الله وبحمده" مئة مرة -كما قلنا- في الصَّباح، ومئة في المساء، ولا يشترط أن يكون ذلك في مجلسٍ واحدٍ، فيُمكن أن يقول بعضَ ذلك بعد صلاة الفجر مثلاً، ويقول بعض ذلك في الضُّحى، حتى يُكمل المئة قبل الزَّوال، أو قبل أن تصير الشمسُ في كبد السَّماء، فيكون قد خرج وقتُ الضُّحى.
لم يأتِ أحدٌ يوم القيامة بأفضل مما جاء به هذا القائل، إلا أحدٌ قال مثلما قال، أو زاد عليه، هذا حمله بعضُ أهل العلم على معنًى خاصٍّ: وهو أنَّه لم يأتِ بأفضل مما جاء به في باب الذكر، لكن إنسانٌ قال مثل هذا، وآخر بذل نفسَه في سبيل الله، فأيُّهما أفضل؟ فالذي خرج بنفسه وماله، ولم يرجع من ذلك بشيءٍ، هل الذي قال مئة مرة: سبحان الله وبحمده أفضل منه؟
فبعض أهل العلم حمله على الذكر، وأنَّه لم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به من الأذكار.
وقوله ﷺ: أو زاد عليه يدلّ على أنَّ المئة هنا التي تُقال في الصَّباح والمساء ليست بحدٍّ يُوقَف عنده، فلا يُزاد عليه، وتكلمنا على الزيادة على الأذكار المحددة بعددٍ، لكن هنا ذكر الزيادة، مما يدلّ على أنَّ الزيادة هنا لا إشكالَ فيها، بل هي أكمل وأفضل، فيستكثر العبدُ من هذا الذكر: سبحان الله وبحمده.
يقول القاضي عياض -رحمه الله- مُشيرًا إلى مسألةٍ سبق الكلامُ عليها في المفاضلة بين التَّهليل والتَّسبيح، فذكر أنَّ هذا الحديثَ قد يُشعر بأنَّ التَّسبيح أفضلُ من التَّهليل؛ لأنَّ عدد زبد البحر أضعاف أضعاف المئة المذكورة في مُقابلة التَّهليل[5]؛ لأنَّه جاء في بعض الأحاديث: مَن قال: سبحان الله وبحمده، في يومٍ مئة مرة؛ حُطَّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر[6]، وهذا من حديث أبي هريرة، وهو مُخرَّجٌ في "الصَّحيحين"، ولاحظ هنا أطلق فقال: مئة مرة، ولم يقل: في أول النَّهار، ولم يقل: في آخر النَّهار.
وجاء من حديث أبي هريرة : كلمتان خفيفتان على اللِّسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده[7]، وهو مُخرَّجٌ أيضًا في "الصحيحين".
وجاء من حديث أبي ذرٍّ : سُئل النبيُّ ﷺ: أيّ الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى اللهُ لملائكته، أو لعباده: سبحان الله وبحمده[8]، وفي لفظٍ: أحبُّ الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده، وهو مُخرَّجٌ في "صحيح مسلم"[9])، وفي لفظٍ عند مسلمٍ: ألا أُخبرك بأحبِّ الكلام إلى الله؟ سبحان الله وبحمده[10].
وفي حديث أبي هريرة في التَّهليل والتَّسبيح أيضًا: مَن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، في يومٍ مئة مرة؛ كانت له عدل عشر رقاب، وكُتبت له مئة حسنةٍ، ومُحيت عنه مئة سيئةٍ، وهناك في التَّسبيح: ولو كانت مثل زبد البحر، هنا مئة في التَّهليل: وكانت له حرزًا من الشَّيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به، إلا رجلٌ عمل أكثر منه[11].
لاحظ هذه في التَّهليل: لم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به، إلا رجلٌ عمل أكثر منه، ومَن قال: سبحان الله وبحمده، في يومٍ مئة؛ حُطَّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر، وهذا مُخرَّجٌ في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة بهذا السِّياق، لكن يمكن أن يُقال: بأنَّ القاعدة أنَّ (أفعل) التَّفضيل لا تمنع التَّساوي، ولكن تمنع الزِّيادة؛ ففي التَّهليل ذكر هذه المزايا: أنه يكون له عدل عشر رقاب، وتُكتب له مئة حسنةٍ، وتُمحى عنه مئة سيئةٍ، وتكون له حرزًا من الشَّيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به، إلا رجلٌ عمل أكثر منه.
إذًا هل يوجد أحدٌ أكثر منه يُساويه؟
الجواب: نعم، مَن قال: "سبحان لله وبحمده"، يمكن أن يكون هذا وجهًا في الجمع بينهما؛ فـ(أفعل) التَّفضيل لا تمنع التَّساوي، لكن تمنع أن يزيد أحدٌ عليه، تقول: فلان أكرم الناس، وفي مناسبةٍ أخرى تقول عن شخصٍ آخر: أكرم الناس، فيكون هذا محمله -والله تعالى أعلم-، فهذا وجهٌ.
والقاضي عياض يقول: قد يُشعر هذا بفضل التَّسبيح على التَّهليل؛ لأنَّ عدد زبد البحر أضعاف أضعاف المئة المذكورة في مُقابلة التَّهليل[12].
زبد البحر هذا لمن قال: "سبحان الله وبحمده" مئة مرة؛ تُغفر خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر، يقول: فيُعارض قوله فيه: ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به، فيُجمع بينهما: بأنَّ التَّهليل أفضل بما زيد من رفع الدَّرجات، وكتب الحسنات، ثم ما جُعِلَ مع ذلك من عتق الرِّقاب من حديث أبي هريرة الطَّويل الذي ذكرتُه آنفًا، يعني: فيه مزيَّة، فهذا قد يزيد على فضل التَّسبيح وتكفير الخطايا.
يقول: والتَّهليل صريحٌ في التوحيد: "لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له"، والتَّسبيح مُتضمّنٌ للتوحيد؛ لأنَّك إذا قلتَ: "سبحان الله" نزَّهته عن الشُّركاء، لكن منطوقه تنزيهٌ، ومفهومه توحيدٌ، إذا نزَّهتَه فإنَّ مفهومَ ذلك أنَّه لا شريكَ له، ومنطوق "لا إله إلا الله" توحيدٌ، ومفهومه تنزيهٌ، إذا قلتَ: "لا إله إلا الله"، و"لا معبودَ بحقٍّ إلا الله"، فهذا يُفهم منه التَّنزيه، فإذا كان "لا إله إلا هو"، و"لا معبودَ بحقٍّ إلا هو"؛ إذًا هو كاملٌ من كل وجهٍ، ومُنزَّهٌ عن كل عيبٍ ونقصٍ؛ لأنَّ الإله لا يكون ناقصًا.
ومن هنا يتبيّن أنَّ التوحيد أكمل وأفضل، وكلمة "لا إله إلا الله" هي مفتاح الجنَّة -كما هو معلومٌ-، وهي الكلمة التي يُدخل بها في الإسلام، وأول واجبٍ على المكلَّف هو التوحيد، فالتوحيد أفضل من التَّسبيح بهذا الاعتبار.
ويقول ابنُ بطَّال: "هذه الفضائل التي جاءت عن النبي ﷺ: مَن قال: "سبحان الله وبحمده" مئة مرة؛ غُفِرَ له ...، وما شاكلها؛ إنما هي لأهل الشَّرف في الدِّين، والكمال، والطَّهارة من الجرائم العِظام.
ولا يظنّ أنَّ مَن فعل هذا وأصرَّ على ما شاء من شهواته، وانتهك دين الله وحُرماته؛ أنَّه يلحق بالسَّابقين المطهرين، وينال منزلتهم في ذلك بحكاية أحرفٍ ليس معها تُقًى، ولا إخلاص، ولا عمل، ما أظلمه لنفسه مَن يتأوَّل دينَ الله على هواه!"[13].
يعني: هذا الإنسان قد يقول: أنا أقول مئة مرة: "سبحان الله وبحمده"، وأقول: "لا إله إلا الله" ... إلى آخره، في اليوم، ويفعل ما يشاء، ويُضيع المكتوبات –الفرائض- ويُقارف ما يُقارف من الشَّهوات، ولا يُبالي.
والمقصود أنَّ هذا الحديثَ -كما يقول الطِّيبي- قد دلَّ على أنَّ مَن زاد على العدد المذكور كان له الأجر المذكور والزيادة، فهذا ليس للتَّحديد[14]. وهذا قال به جماعةٌ، كالنَّووي، وغيره.
هذا، والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدُّعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التَّهليل والتَّسبيح والدُّعاء، برقم (2692).
- "شرح الزرقاني على الموطأ" (2/32).
- أخرجه أبو داود: أبواب النوم، باب ما يقول إذا أصبح، برقم (5091)، وصححه الألباني.
- أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (689).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (8/192).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب فضل التَّسبيح، برقم (6405)، ومسلم: كتاب الذكر والدُّعاء والتوبة، باب فضل التَّهليل والتَّسبيح والدُّعاء، برقم (2691، 2692).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب فضل التَّسبيح، برقم (6406)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل التَّهليل والتَّسبيح والدُّعاء، برقم (2694).
- أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل "سبحان الله وبحمده"، برقم (2731).
- أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل "سبحان الله وبحمده"، برقم (2731).
- أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل "سبحان الله وبحمده"، برقم (2731).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، برقم (293)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل التَّهليل والتَّسبيح والدُّعاء، برقم (2691).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (8/192).
- "شرح صحيح البخاري" لابن بطَّال (10/134).
- "شرح المشكاة" للطيبي = "الكاشف عن حقائق السنن" (6/1820).