الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: سنُواصل الحديث في الكلام على دعاء قنوت الوتر الذي جاء عن الحسن بن عليٍّ -رضي الله عنهما-: أنَّ النبي ﷺ علَّمه هذا الدعاء أن يقوله في وتره: اللهم اهدني فيمَن هديتَ، وعافني فيمَن عافيتَ، وتولَّني فيمَن تولَّيت، وبارك لي فيما أعطيتَ، وقني شرَّ ما قضيتَ، فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك، إنَّه لا يذلّ مَن واليتَ، ولا يعزّ مَن عاديتَ، تباركتَ ربنا وتعاليتَ[1].
وقد وقفنا عند قوله: وقني شرَّ ما قضيتَ، يعني: احفظني واصرف عني شرَّ ما قضيتَه، وهذا يدلّ على أنَّ الشرَّ بقضاء الله -تبارك وتعالى-، فهو الذي يقي منه، والله مالك النَّفع والضُّر، وإن كان الشَّر لا يُنسَب إليه -تبارك وتعالى- تأدُّبًا معه، والله خالق كل شيءٍ، ولكن كما قال النبيُّ ﷺ: والشَّر ليس إليك[2]، فهو ليس في صفاته، ولا في أفعاله؛ لأنَّ أوصافَه وأفعاله خيرٌ، ولكن الشَّر يكون في مفعولاته، وإلا فإنَّ الله -تبارك وتعالى- لا يكون في صفاته ولا في أفعاله شرٌّ، وإنما يكون ذلك بالنسبة للمفعول.
فحينما خُلق الشيطانُ فهو بالنسبة للبشر شرٌّ، فهذا في مفعولاته، لكن في فعله؛ وهو خلقه -تبارك وتعالى-، الخلق الذي هو فعله ليس بشرٍّ؛ لأنَّ الله عليمٌ حكيمٌ، خلقه لحكمةٍ، ويحصل بسبب ذلك التَّمايز بين الخلائق: فريقٌ في الجنَّة، وفريقٌ في السَّعير، ويحصل الابتلاءُ الذي يترتب عليه الجزاء، وتظهر معاني الأسماء الحسنى: الغفور، الرَّحيم، وما إلى ذلك: كالتَّواب، ونحوه.
وهكذا مَن يقع له مثلًا هذه الأمطار التي تنزل بقضاء الله وقدره، وخلقه، وإيجاده، فأفعاله خيرٌ، لكنَّها قد يحصل بسببها لبعض الناس شرٌّ، فيغرق أو تغرق زروعه، أو دوابّه، أو تغرق دورهم، أو نحو هذا، فهو بالنسبة إليهم شرٌّ، هذا شرٌّ نسبيٌّ؛ شرٌّ في المفعولات، وليس شرًّا في فعل الله -تبارك وتعالى-، ليس بشرٍّ في فعله .
قني شرَّ ما قضيتَ، العبد يتوجّه إلى الله -تبارك وتعالى-، ويتضرَّع إليه، ويسأل ربَّه كلَّ ما أهمَّه، وكل حاجةٍ، فيكون فقرُه إلى الله، لا يكون فقره إلى أحدٍ من المخلوقين، فإذا خاف لجأ إلى الله، وإذا رجا لجأ إلى الله -تبارك وتعالى.
فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك الفاء هذه تُشعر بالتَّعليل، قني شرَّ ما قضيتَ، فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك، فالله هو الذي يقضي: يُقدِّر ويحكم بما أراد وشاء.
ولا يُقضى عليك لا مُعقِّب لحكمه، ولا رادَّ لقضائه، ولا يقضي عليه أحدٌ بشيءٍ، ولا يُوجِب أحدٌ عليه شيئًا، إنما يُوجِب على نفسه -تبارك وتعالى- ما شاء، كما أوجب محبَّته ورحمته للمُتحابين فيه، وقال الله -تبارك وتعالى- للرَّحم: أما ترضين أن أصل مَن وصلك، وأن أقطع مَن قطعك؟[3]، فالله يُوجِب على نفسه ما شاء، لكن لا يُوجب عليه أحدٌ من خلقه شيئًا، فهو أجلّ وأعظم من ذلك.
ثم قال: إنَّه لا يذلّ مَن واليتَ، "لا يذلّ"، الذلّ تقول: "ذلَّ فلانٌ" صار ذليلًا، من الذلِّ، يعني: ما يكون بالضَّعف، أو بالاستكانة ونحو ذلك، والانقياد وما أشبه هذا، فيُقال: "دابَّة ذلول" فهي بيِّنة الذِّل –بالكسر- مُنقادة، سهلة، مُذلَّلة، لكن الذُّل –بالضم- هو الذي يكون بمعنى المهانة، يكون بمعنى المذلّة.
هكذا فرَّق بعضُ أهل العلم، والله -تبارك وتعالى- يقول في الوالدين: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ [الإسراء:24]، فإنَّ هذا بمعنى التَّواضع، أي: اخفض لهما جناحَك الذَّليل. وبعض أهل العلم يقول: هما سواء.
إنَّه لا يذلّ، المقصود هنا: "لا يذلّ" يعني: لا يصير ذليلًا حقيقةً، ولا عبرةَ بما يقع على الإنسان من الأذى، فإنَّ ذلك لا يسلم منه أحدٌ.
إنَّه لا يذلّ مَن واليتَ مَن تولَّاه الله -تبارك وتعالى- فإنَّه لا يكون ذليلًا مهينًا بحالٍ من الأحوال، يقول الحافظُ ابن حجر -رحمه الله-: "أي: لا يذلّ مَن واليتَ من عبادك في الآخرة، أو مطلقًا"[4]، وهذا هو الصَّحيح، الذين قالوا: "في الآخرة"، قالوا ذلك كأنَّه باعتبار أنَّهم يرون أنَّ المؤمن يقع عليه الأذى، ونحو ذلك، فقالوا: هذا في الآخرة.
والواقع أنَّ العزَّةَ لأهل الإيمان، فهو وإن وقع عليه شيءٌ من الأذى، إلا أنَّ ذلك لا يُصيره إلى حالٍ من الذلِّ؛ فإنَّ المؤمن لا يكون ذليلًا، أصحاب النبي ﷺ وقع لهم ما وقع في يوم أحدٍ من القتل والجراح والهزيمة، ومع ذلك قال الله -تبارك وتعالى- مُعزِّيًا ومُسلِّيًا لهم: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، في حال الهزيمة والأذى والجراح يقول لهم: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، فالهوان لا يكون لأهل الإيمان، وإن كان الأذى يقع عليهم.
فالحافظ ابن حجر -رحمه الله- يقول: "أو مطلقًا –يعني: في الدنيا والآخرة-، وإن ابتُلِيَ بما ابتُلِيَ به، وسُلِّطَ عليه مَن أهانه وأذلّه باعتبار الظَّاهر"[5]، يعني: يقع عليه الأذى باعتبار المشاهد الظَّاهر؛ لأنَّ ذلك غاية الرِّفعة والعزَّة عند الله وعند أوليائه، ولا عبرةَ إلا بهم، ومن ثم وقع للأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- من الامتحانات العجيبة ما هو مشهور: كقطع زكريا بالمنشار، وذبح ولده يحيى، ونحن نُشاهد إلى يومنا هذا أنَّ أهلَ الإيمان لربما يُوجَّه إليهم أنواع الأذى، ثم يخرجون منه بعد ذلك بحالٍ من التَّألق والرِّفعة والعزَّة، ولا يكون الواحدُ منهم ذليلًا، ولا يحصل مطلوب هؤلاء الأعداء الذين يُوجِّهون إليهم سهامهم، هذا أمرٌ صحيحٌ ومُدْرَكٌ لا إشكالَ فيه.
وتأمّل فيما تراه، وما تُشاهده مما وقع للأخيار والصَّالحين والدُّعاة إلى الله -تبارك وتعالى- من أذى المنافقين وغيرهم؛ تجد أنَّ الواحدَ منهم يخرج بعد هذا الأذى الكثير في حالٍ من الرِّفعة والعزَّة، ويكون ذلك سببًا لمزيدٍ من الكمال.
والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول في هذا الموضع: إنَّه لا يذلّ مَن واليتَ يقول: "فإنَّه منصورٌ، عزيزٌ، غالبٌ بسبب تولِّيك له"[6]، ثم يذكر ما في هذا من التَّنبيه على أنَّ مَن حصل له ذلٌّ في الناس فهو بنقصان ما فاته من تولِّي الله، ليس الذي يقع عليه الأذى، وإنما بسبب ما فاته من تولي الله، وإلا فمع الولاية الكاملة ينتفي الذلُّ كلّه، ولو سُلِّط عليه بالأذى مَن في أقطارها، فهو العزيز غير الذَّليل، هكذا قال ابنُ القيم -رحمه الله- في "شفاء العليل"[7].
ففرقٌ بين الأذى الواقع على البدن، والذلّ الذي تُوصَف به النَّفس، في زيادةٍ عند البيهقي والطَّبراني من طرقٍ: ولا يعزّ مَن عاديتَ[8]، يعني: كما أنَّه لا يذلّ مَن والاه الله -تبارك وتعالى-، فمَن عاداه الله فهو ذليلٌ، ولو كان في الظَّاهر مُنتصرًا غالبًا، فإنَّ الذلَّ لا يُفارقه، وإن أُعطي من نعيم الدُّنيا ما أُعطي، فالمعصية ذلٌّ، لا شكَّ أنها تقع على أصحابها، وتُورثهم مهانةً، ولو طأطأت بهم المراكب والبراذين، وهملجت، ولو كانوا في حالٍ من النَّعيم في ظاهر الأمر.
وجاء أيضًا عند ابن أبي عاصم: نستغفرك ونتوب إليك[9]، هذه زيادةٌ أيضًا.
الحاصل أنَّ قوله: تباركتَ أي: تكاثر خيرُك، فالبركة هي الكثرة في الخير.
ربنا يعني: يا ربنا؛ ولهذا جاء منصوبًا.
وتعاليت الله -تبارك وتعالى- له العلو بأنواعه: علو الذَّات؛ فهو فوق العرش، فوق السَّماوات، وعلو القدر والمنزلة، وعلو القهر، كلّ ذلك مما يُوصَف به -تبارك وتعالى-.
هذا ما يُقال في قنوت الوتر، وسيأتي أيضًا غير هذا.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دُنيانا.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود: تفريع أبواب الوتر، باب القنوت في الوتر، برقم (1425)، والترمذي: أبواب الوتر، باب ما جاء في القنوت في الوتر، برقم (464)، والنَّسائي: كتاب قيام الليل وتطوع النَّهار، باب الدُّعاء في الوتر، برقم (1745)، وأحمد في "المسند"، برقم (1718)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ، رجاله كلّهم ثقات"، والزيادة في رواية أبي داود، والبيهقي في "السنن الكبرى"، برقم (3181).
- أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم (771).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22]، برقم (4830)، وكتاب الأدب، باب مَن وصل وصله الله، برقم (5987)، ومسلم: كتاب البرِّ والصِّلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، برقم (2554).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (3/950).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (3/950).
- "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل" (ص111).
- "شفاء العليل" (ص111).
- أخرجه أبو داود: باب تفريع أبواب الوتر، باب القنوت في الوتر، برقم (1425)، والطَّبراني في "الدعاء"، برقم (737)، وفي "المعجم الكبير"، برقم (2701)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"، برقم (1281).
- انظر: "بذل المجهود في حلِّ سُنن أبي داود" (6/110)، و"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (3/950).