الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فهذا باب (دعاء الوسوسة في الصَّلاة والقراءة).
عرفنا المراد بالوسوسة، وكان الأليقُ أن يكون هذا البابُ تابعًا للباب الأربعين، وهو (دُعاء مَن أصابته وسوسةٌ في الإيمان)، وأن تكون الأبوابُ المتعلقة بالوسوسة مُتتابعةً، كما سيأتي في الباب الخامس والأربعين، وهو (دعاء طرد الشَّيطان ووساوسه)، فهذه لو كانت مُتتابعةً لكان هذا أليق.
على كل حالٍ، ذكر هنا حديثًا واحدًا، وهو ما جاء عن عثمان بن أبي العاص : أنَّه أتى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: يا رسول الله، إنَّ الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي، يَلْبِسُها عليَّ. وضبطه بعضُهم بالتَّشديد: "يُلَبِّسُها عليَّ"، فهذا يدلّ على التَّكثير، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ذاك شيطانٌ يُقال له: خنزب، وضُبِطَ بغير هذا كما سيأتي -إن شاء الله-: فإذا أحسستَه فتعوّذ بالله منه، واتفُل، ويُقال أيضًا بالكسر على يسارك ثلاثًا، قال: ففعلتُ ذلك، فأذهبه اللهُ عني.
هذا الحديث أخرجه الإمامُ مسلم -رحمه الله- في "صحيحه"[1].
قوله: "إنَّ الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يَلْبِسُها عليَّ" أو "يُلَبِّسُها عليَّ"، فـ"حال بيني وبين صلاتي" يحتمل أن يكون حال بيني وبين الدُّخول فيها ابتداءً، كما يحصل لبعض الناس؛ يُريد أن يُكبّر، ثم بعد ذلك يحصل عنده وسواس؛ فيُوهمه الشيطانُ أنَّه لم يُكبر تكبيرةَ الإحرام، ثم يُعيد ثانيةً وثالثةً ورابعةً، وهكذا، ولا يدخل في الصلاة.
أو أنَّه قصد بذلك أنَّه حال بيني وبين الشُّروع في القراءة؛ لأنَّه قال: "حال بيني وبين صلاتي وقراءتي"، فيُريد أن يقرأ فلا يستطيع، فبعضهم يُردد الفاتحة، ويتوهم أنَّه لم يقرأ، ويُعيد مرارًا.
ويحتمل أنَّه قصد بذلك أنَّه يحول بينه وبين صلاته وقراءته، فلا يعقل شيئًا منها، كما يحصل لأكثر الناس؛ يُصلي ولكن لا يتذكّر أعمالَه وأشغاله وما نسيه منها إلا إذا شرع في الصَّلاة؛ فيبدأ يُذكِّره بكذا وكذا، فيحول بينه وبين القراءة؛ فلا يعرف ما قرأ.
وإذا نظرنا الآن وسألنا أنفسنا عمَّا قرأه الإمامُ في الركعة الأولى، وما قرأه في الركعة الثانية، ربما أننا لا نعرف الجواب، والسَّبب أنَّ الشيطان يحول بين العبد في قراءته هو، يلبس عليه الشيطانُ، فلربما قرأ السورةَ في الركعة الأولى، وقرأها في الركعة الثانية نسيانًا، لا قصدًا، يعني: يجري ذلك على لسانه من غير إرادةٍ، ولا ينتبه لذلك، وقد يكتشف هذا بآخر القراءة.
وهكذا يلبس عليه في قراءته في الصَّلاة، وفي خارج الصَّلاة، كما قال الله : إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52]، فسّره جمعٌ من أهل العلم من المفسّرين وغيرهم، أي: في قراءته. هذا أحد الأقوال المشهورة في الآية، فيقع الخطأ واللَّبس؛ ولذلك قد يقرأ الإمامُ السورةَ التي لا يُخطئ فيها أحدٌ من قصار السُّور، ويُخطئ، مع أنَّه قد يقرأ هذه السورة ولا يحتاج إلى تأملٍ وتبصرٍ وإعمال ذهنٍ، تجري على لسانه؛ لأنها أصبحت من الأشياء التي لا تحتاج إلى جمعٍ للقلب أو الذِّهن عند قراءتها، ليس من جهة التَّدبر، وإنما من جهة جريان ذلك على اللِّسان؛ لقوة حفظه لها، مثل: الفاتحة، قد يُخطئ في الفاتحة، وقد يُخطئ في المعوذات، وقد يكون من كبار القُرَّاء.
ولعلنا -إن شاء الله تعالى- إذا يسَّر الله -تبارك وتعالى- نذكر بعض الجوانب في هذا إذا انتهينا من هذا -إن شاء الله-، وهو شيءٌ من اللَّطائف في التَّفسير وفي غيره، فأذكر نماذج نحتاج إليها في الحياة، وهي مبثوثة في كتب التاريخ، وفي غيرها.
فتجد هذا من كبار الأئمة القُرَّاء الجبال يقرأ سورةً من قصار السور في الصَّلاة، ثم يُخطئ فيها، فلربما تعجَّب، أو ربما يَشْمَت به بعضُ مَن حضر، فذاك أخطأ مثلاً في سورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص]، والثاني يُخطئ في الفاتحة، وهو نفسه الذي لربما تعجّب منه، أو نحو ذلك، فيُصلِّي في اليوم الثاني بين يدي الخليفة، وقد حضروا جميعًا مجلسه، فيُخطئ الثاني في الفاتحة، وهم أئمّة جبال، أمثال: الكسائي.
فعلى كل حالٍ، الشيطان يلبس على المؤمن في الصَّلاة، ويلبس عليه في قراءته في الصَّلاة، وفي خارج الصَّلاة، ويُذكره أمورًا تشغله عن هذه القراءة، وتجد الإنسان لربما يقرأ حزبَه من القرآن، ثم بعد ذلك لو قام أو التفت إلى شيءٍ آخر، ثم أغلق المصحف، فأراد أن يرجع لربما يشكّ في الأجزاء: هل هو في هذا الجزء، أو في الذي قبله، وكان يقرأ فيه؟ والسَّبب أنَّ قلبَه كان مشغولاً ومُنصرفًا عن ذلك كلِّه.
فهنا قال: "يلبسها عليَّ" يلبس عليَّ الصَّلاة والقراءة، ومن ذلك أنَّه يُصلي وما يدري ما صلَّى: ثلاثًا، أم أربعًا، يُذكِّره بكذا، ويُذكِّره بكذا، ونحو ذلك، فهو يلبس عليه هذه الصَّلاة والقراءة، بمعنى أنَّه يخلط عليه أمره، ويُشككه في قراءته وصلاته.
فقال النبي ﷺ: ذاك شيطانٌ يعني: شيطان مُعين، يُقال له: خَنزَب، هكذا بفتح الخاء: خَنزَب عند جمعٍ من أهل العلم، وضبطه بعضُهم بالكسر: خِنزب، وضبطه بعضُهم أيضًا بكسر الزاي: خِنزِب بكسر أوَّله وثالثه، وبعضهم ضبطه بضمِّ الخاء وفتح الزاي: خُنزَب، كل هذا ضُبِطَ به.
وذكر الحافظُ ابن حجر: أنَّه يصحّ فتح الخاء، مع ضمِّ الزاي[2]: خَنزُب، فهذه -على كل حالٍ- ألفاظه التي ضُبط فيها.
ومعناه في اللغة: الجريء على الفجور، هذا اسم شيطانٍ، مَن كان يسأل عن أسماء الشياطين فهذا خنزب، وهو الشَّيطان الذي يحول بين المرء وبين صلاته.
قال: فإذا أحسستَه يعني: أدركتَه، أو وجدتَ أثرَ ذلك في صلاتك، فتعوّذ بالله منه، فإنَّه لا خلاصَ من وسوسته إلا بحول الله -تبارك وتعالى- كما سبق، فلا طريقَ إلى التَّخلص إلا الاستعاذة.
واتفُل على يسارك يعني: ثلاثًا، فأمره بقولٍ وفعلٍ: يستعيذ بالله، ويتفل على يساره، وإنما كان التَّفل على اليسار -والله أعلم- باعتبار أنَّ اليسارَ يكون للأمور المذمومة، فيتفل على يساره، وكما سبق أيضًا فيما يتَّصل بالرؤية السَّيئة التي يراها النَّائمُ؛ فإنَّه يتفل أيضًا على يساره.
وهذا التَّفل أبلغ من النَّفث؛ لأنَّ النفثَ عرفنا أنَّه نفخٌ بريقٍ، وأمَّا التَّفل فهو إخراج الريق، هذا إذا كان يُصلي وحده، وفي مكانٍ يصلح فيه التَّفل، كأن يكون في بريةٍ، أو في صحراء، ويمكن أن يتفل بمنديلٍ، لكن لا يفعل ذلك في المسجد؛ لأنَّه سيُؤذي المصلين بهذا، فهذا لا يمكن، وليس هذا هو المراد -والله أعلم-، وإنما بمنديلٍ ونحو هذا.
فيتفل على يساره ثلاثًا، ونحن لا نقول شيئًا، أو نقول: "أعوذ بالله من الشَّيطان الرجيم" بدون نفخٍ، فهذا لا يكفي؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يذكر النَّفخ، بل لم يذكر النَّفث، وإنما ذكر التَّفل؛ فهو أبلغ، وهو إخراج الريق.
يقول: "ففعلتُ ذلك، فأذهبه الله"، فهذا الشيطانُ الذي يُوسوس للناس، ويحول بينهم وبين صلاتهم، فلا يدري الواحد كم صلَّى؟ وماذا قرأ؟ ولربما يُشككه في قراءته وصلاته وتكبيره وقيامه وقعوده، مثل هذا يُستعاذ منه كما وصف النبيُّ ﷺ.
فهذا يدلّ على شأن هذه الاستعاذة وعظمها؛ ولذلك تُقال بين يدي القراءة من أجل أن يتهيَّأ القارئ فيتخلَّص من هذا الشَّيطان في قراءته، فلا يُشوش عليه فكرَه؛ فيكون له من حضور القلب والخشوع والتَّدبر.
أمَّا إذا تسلَّط عليه الشيطانُ، فإنَّه قد يبلغ الأمرُ به إلى أن يُصوِّر له المكروه مع الآيات، يعني: يربط الآيات والألفاظ وأوصاف الله بمعانٍ مكروهةٍ قبيحةٍ، فيتأذّى القارئ من هذه القراءة، ثم يدع، وهذا غير صحيحٍ.
بالإضافة إلى أمرٍ آخر، وهو: ألا يسترسل مع هذه الوساوس، وأن يتفقّه في الدِّين، فمَن ابتُلِيَ بشيءٍ من هذه الوسوسة التي تتجاوز الإشغالَ الذي يقع لأكثر الناس عن الخشوع والتَّدبر وعقل الصَّلاة وما تضمّنته، فإذا كان الأمر قد تجاوز ذلك بحيث إنَّ الإنسان هذا صار يشكّ في تكبيره وقراءته، وفي عدد السُّجود والركوع، وفي قيامه وقعوده، وما إلى ذلك، وهل قرأ الفاتحةَ، أو لم يقرأ؟ ثم يُعيد الصَّلاة مرارًا، وقد يتكرر هذا ساعات طويلة حتى يستثقل المرءُ الصلاةَ، وتصير عبئًا شاقًّا ثقيلاً يُؤرِّقه، ويُورثه ضيقًا وألـمًا وحسرةً!
والصَّلاة تشرح الصَّدر، ويحصل بها من قوة الثَّبات واليقين والاستعانة على أمور الدنيا والآخرة: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [البقرة:153]، لكن حينما يستجيب لدواعي الشَّيطان فإنَّه ربما يقضي شطر يومه أو يومه كلّه وهو يُعيد في هذه الصَّلاة، فيُعيد في صلاة العصر إلى خروج وقت صلاة العشاء، وإلى قريبٍ من الساعة الثانية عشرة، وهو لا زال يُعيد صلاةَ العصر، فهذا موجودٌ -نسأل الله العافية-.
وبعضهم أخبرني أنَّه تَرَكَ الصَّلاة، وبعضهم يقول: صار لا يغتسل من الجنابة؛ لأنَّه كان يوسوس في غسل الجنابة، وبعضهم ذكر أنَّه بقي قريبًا من الشهر وهو لا يتوضأ، ويُصلي بلا وضوءٍ؛ فهذا الذي يُريده الشيطان، لكن هذا يحتاج إلى قوة عزيمةٍ بعد الاستعانة بالله، والاستعاذة من الشيطان، وما ذكر من التَّفل.
والأمر الثاني: يحتاج إلى فقهٍ في الدِّين، فالقاعدة في هذا الباب أولاً: "أنَّ الشكوك إذا كثُرت طُرِحَتْ"، هذه قاعدة، فمن كثُرت شكوكُه لم يلتفت إلى شيءٍ منها: لا في العبادة، ولا في الطَّلاق، ولا في غير ذلك.
فهذا الذي في كل صلاةٍ يشكّ في الفاتحة، ويشكّ في تكبيرة الإحرام، ويشكّ كم ركعةٍ صلَّى؟ ويشكّ هل سجد واحدةً أو سجدتين؟ يُقال: هذه لا يلتفت إلى شيءٍ منها، تُطرح هذه الشُّكوك، انتهى.
ويُقال: ليس عليك حتى سجود السَّهو، سواء كان إمامًا أم مأمومًا، هذه القاعدة الأولى.
القاعدة الثانية: "أنَّ الشَّك في العبادة بعد الفراغ منها لا يُؤثر"، هو توضّأ وانتهى، وبعد ذلك قال: هل مسحتُ على رأسي أو لا؟ نقول: لا تمسح. أو انتهى من رمي الجمار، ثم جاءه الشيطانُ وقال له: لعلك رميتَ ستًّا. أو طاف بالبيت وانتهى، وبعد ذلك قال: لعلي طفتُ ستة أشواطٍ. فلا يلتفت إلى شيءٍ من ذلك.
فإذا فتح على نفسه هذا الباب، فإنَّ الشيطان سيتلاعب به، هذه القاعدة الثانية: "الشَّك في العبادة بعد الفراغ منها لا يُؤثر".
القاعدة الثالثة: "أنَّ اليقينَ لا يزول بالشَّك"، فالطَّهارة مُتيقنة، شكَّ في الحدث لا يلتفت إليه.
فلو عمل الإنسانُ بهذا وتفقّه فإنَّه لا يحتاج إلى إعادة شيءٍ من ذلك؛ ولذلك قال النبي ﷺ في الطَّهارة لما ذكر تلبيس الشَّيطان: فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا[3]، فأحاله إلى أمرٍ حسيٍّ، أما مجرد التَّوهم والشَّك؛ فإنَّ الشَّك ضعيفٌ، ولا يَرْفَع اليقينَ الذي هو قوي، فاليقين لا يزول بالشَّك، فهذا الشَّك العارض لا يلتفت إليه، ولا يقطع صلاته، وإنما يستمرّ فيها، فإذا استقام أمره على هذا، ولم يلتفت لشيءٍ؛ فبإذن الله تتلاشى عنه كلّ هذه الوساوس وتنتهي.
لكن يحتاج إلى قوة إرادةٍ بعد الاستعانة بالله ، وكثيرٌ من الناس ليس عنده هذه الإرادة القويّة؛ فيُلقّن، ثم يُلقّن، ثم يُلقّن، ثم يُعيد من جديدٍ السُّؤال والمشكلة، ويُعيد ذلك بصيغٍ مختلفةٍ، ولو كانت آلاف السُّؤالات بصيغٍ مختلفةٍ، هو تعميقٌ للمشكلة، ودورانٌ معها، فهذا السؤال خطأ، فيُقال له: لا تسأل؛ لأنَّ هذا السؤال من باب الوسوسة.
بخلاف ما يقوله العامَّة فيمَن أراد أن يستفتي في دينه عن أمرٍ ربما يسمع به ما يُخالف هواه من الفُتيا، فيُقال له: لا تسأل، يعني: حتى لا تقع في حرجٍ إذا جاء الجوابُ على غير ما تُريد، هذا غلطٌ، ولا يصحّ أنَّ الإنسانَ يسترسل مع عمايةٍ، وإنما يسأل ويأتي العبادة من وجهها الصَّحيح، والمعاملة كذلك: ببيعه، وشرائه، ومُعاملاته، وأخذه، ومُعاطاته.
هذا، والله تعالى أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم: كتاب السَّلام، باب التَّعوذ من شيطان الوسوسة في الصَّلاة، برقم (2203).
- نقله عنه في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (1/ 146)، ولم نجده في كتبه.
- أخرجه أبو داود: كتاب الطَّهارة، باب إذا شكَّ في الحدث، برقم (177)، وصححه الألباني.