الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
هذا باب (دعاء مَن أُصيب بمصيبةٍ)، وذكر فيه المؤلفُ حديثًا واحدًا، وهو ما جاء عن أمِّ سلمة -زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم-قالت: سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول: ما من عبدٍ تُصيبه مصيبةٌ، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مُصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها؛ إلا آجره الله في مُصيبته، وأخلف له خيرًا منها. قالت: فلمَّا تُوفي أبو سلمة قلتُ كما أمرني رسولُ الله ﷺ،فأخلف اللهُ لي خيرًا منه؛ رسول الله ﷺ.
هذا الحديث أخرجه الإمامُ مسلم في "صحيحه"[1].
وقوله: ما من عبدٍ تُصيبه مصيبة، فيقول،ما من عبدٍ"عبد" هنا نكرة في سياق النَّفي: ما من عبدٍ، وهي تُفيد العموم، وقد سُبقت بـ"من"، و"من" هذه تنقلها من الظُّهور في العموم إلى التَّنصيص الصَّريح في العموم، بمعنى: أنَّ ذلك يكون نصًّا صريحًا في العموم: ما من عبدٍ.
والعبد هنا يشمل الرجل والمرأة بحكم التَّبع، وإن كانت الصِّيغةُ صيغةَ المذكر، سواء كان هذا الذي قاله قد أُصيب بمصيبةٍ فيما يتعلق بالمال، أو الأهل والولد، وغير ذلك؛ لأنَّالمصيبة هنا جاءت مُنكرةً.
ما من عبدٍ تُصيبه مُصيبةٌ، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعونالمصيبة في أصل الوضع اللغوي: كلّ ما أصاب الإنسان مما يسوؤه، قلَّ ذلك أو كثر، جلَّ ذلك أو دقَّ،سواء كان ذلك دقيقًا، يسيرًا، أو كان ذلك كبيرًا، عظيمًا، ولكنَّه -والله أعلم- خصّ في عُرف الاستعمال بما يشتدّ وقعه على الإنسان، هذا الذي في العُرف يُقال له:"مصيبة" فيما يكون وقعُه عليه شديدًا، وأمَّا الأمور اليسيرة التي لا قيمةَ لها، ولا يقف العبدُ عندها، ولا يحزن من أجلها، ولا يكترث؛ فإنَّهذه في عُرف الاستعمال لا يُقال لها: مصيبة.
وقد جاء في حديثٍ:كل شيءٍ ساء المؤمن فهو مُصيبة[2]،لكنَّه لا يصحّ، وقد بنى عليه بعضُ أهل العلم حكمًا؛ وهو أنَّ كلَّ ما يسوء، ولو كان يسيرًا؛ فإنَّه مصيبة، ومن ثم يُقال فيه: إنا لله وإنا إليه راجعون.
على كل حالٍ، فيقول كما أمره الله، أين الأمر؟
هنا الحديث ليس فيه صيغة أمرٍ، وإنما فيه ذكر الجزاء المرتّب على هذا القول.
وأمَّا في قوله -تبارك وتعالى-: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]، فهذا فيه البشارة، وليس فيه الأمر الصَّريح.
ومن هنا وقفعددٌ من الشُّراح أمام هذه الجملة يتساءلون عن الأمر، وليس ثمّة صيغة أمرٍ.
والذي يظهر -والله أعلم- أنَّ الله -تبارك وتعالى- علَّم عباده كيف يقولون عند المصائب، بذكر ما يكون لهم من الثواب والبُشْرَى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ.
فهذا التَّعليم من الله -تبارك وتعالى- إنما هو من أجل أن يفعل، فالشَّارع يكون بذلك آمرًا عباده، مُعلِّمًا لهم بهذه الطَّريقة، وإن لم تكن من صيغ الأمر الصَّريحة، وإنما ذكر من أجل أن يمتثل، هذا الذي يظهر، والله تعالى أعلم.
وأمَّا ما ذكره بعضُ أهل العلم في الجواب عن هذا الإشكال: قالوا: لعله جاء الأمرُ في غير القرآن، فالنبي-صلى الله عليه وآله وسلم-أخبر عن ربِّه -تبارك وتعالى- كما أمره الله، وإن لم نعلم هذا الأمر المعين.
هكذا قال بعضُ أهل العلم:كأبي الوليد الباجي، وهو من فُقهاء المالكية، ومن الأصوليين أيضًا، وله شرح على "الموطأ".
وأيضًا ذكر غيره أنَّ ذلك يمكن أن يكون باعتبار أنَّ الله أمر بالدُّعاء: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[غافر:60]، فهذا عامٌّ، وفي الواقعة المعينة مما يكره الإنسان ويسوؤه فهو يقول: اللهم أجرني في مُصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها،فهذا دعاء.
فهو مأمورٌ بالدُّعاء عمومًا صراحةً في هذه الآية:ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، وغير ذلك من الآيات التي جاء الأمرُ فيها بالدُّعاء.
وهذا ذكره الحافظُ ابن حجر -رحمه الله-، واستظهر أيضًا أن يكون المرادُ باعتبار أنَّ الله -تبارك وتعالى- أعلم النبيّ -صلى الله عليه وآله وسلم-أن يُعلم أُمَّته أنه أمرهم أن يقولوا ذلك، ومن ثم لا حاجةَ لتكلف الجواب عنده أنهم مأمورون، النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أخبرهم أنَّ الله أمرهم بذلك.
فإذا قال العبدُ ما أمره الله -جلَّ جلاله- يكون بذلك موعودًا بهذا المذكور بعده، فيقول العبدُ الذي أُصيب بهذه المصيبة: إنا لله ملكًا؛ فهو مالكنا، وخلقًا؛ فهو خالقنا، وكذلك أيضًا نحن عبيده؛ عبيد لله -تبارك وتعالى-، فنحن ملكه، يأخذ مَن شاء، ويُمهل مَن شاء، يطول الأجل لمن شاء، وتخترم المنايا من شاء في مُقتبل الأعمار، أو في أوساطها، أو كان ذلك بعد أن يُعمَّر العبد، فهذا ملكه، يأخذ ما يشاء، لا مُعقِّب لحكمه، ولا رادَّ لقضائه.
يستيقن العبدُ هذا، يقول:"إنا لله"، كلنا لله، فهو يأخذ من مماليكه ما شاء، ليس لأحدٍ أن يعترض على هذا، ولا يتوقف فيه، ولا يوجد عنده أدنى تسخّط؛ لأنَّالله أخذ من ملكه، أخذ من خلقه، من عبيده، والأمر كلّه لله -تبارك وتعالى.
ثم أيضًا كما أننا ملكٌ له -تبارك وتعالى-، فنحن أيضًا وإنا إليه راجعون، نصير إليه، فهذا غاية التَّسليم والإقرار بأنَّ العبدَ وما يملك، وما يُنْسَب إليه؛ أنَّه عارية مُستردّة، فالله -تبارك وتعالى- هو الأول، وهو الآخر.
فهذه الأشياء التي بأيدينا، وما أعطانا من الولد، والمال، ونحو ذلك، فهو مُبتدأ منه؛ لأنَّه هو الأول، وهو الآخر، الكل سيمضي، الكل سيموت، والله -تبارك وتعالى- هو الباقي وحده، فكلّ ذلك عارية، ولا بدَّ أن تُستردّ، يستردّها مالكُها.
وإذا وطَّن العبدُ نفسَه على هذا المعنى؛ فإنَّ ذلك أدعى للصَّبر، وثبات القلب، وذلك مما يُهون عليه المصيبة.
وليس الشَّأن -أيّها الأحبّة- أنَّ الإنسان يتكلّم بمثل هذا، يقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وهو في غاية التَّسخط والجزع، وقد يصدر منه ما لا يليق من الاعتراض على أقدار الله -تبارك وتعالى-: فلان ما يستاهل! فلان طيب! المصائب تتجه إلى الطَّيبين! فهذا سوء ظنٍّ بالله -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه.
إنا لله وإنا إليه راجعون نرجع إليه في الآخرة، فيُجازينا، يتوفَّى الأنفس، ثم بعد ذلك ينقل العبدَ من حالٍ إلى حالٍ، ومن طورٍ إلى طورٍ، ومن مرحلةٍ إلى مرحلةٍ.
ثم يقولبعد ذلك:اللهم أجرني في مُصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها الظَّاهر أنَّ هذا من جملة ما يُقال، يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي كلّ ذلك يقوله.
وكما هو الظَّاهر:"أجرني في مُصيبتي"، ويُقال أيضًا: "آجرني في مُصيبتي"، لك أن تنطقه هكذا:"أأجرني"، أو "آجرني في مُصيبتي"، والمعنى:"أأجرني" يعني: أعطني الأجر والجزاء: جزاء الصَّبر، وجزاء المصيبة، وتعويض الفقد،"أأجرني"، وكذلك "آجرني": أعطني أجرًا. فكلّ ذلك يرجع في الأصل إلى معنًى واحدٍ.
"أأجرني في مُصيبتي"، الظَّاهر أنَّ"في" هذه بمعنى باء السَّببية،"أأجرني في مصيبتي" يعني: بسبب مُصيبتي هذه، بسبب ما وقع لي، وليست بمعنى "مع"، وإن كان قد ذكر بعضُ أهل العلم أنها بمعنى "مع"، يعني: "أأجرني مع مصيبتي"، لكن "أأجرني في مصيبتي"، يعني: بسبب هذه المصيبة أعطني أجري، لا تحرمني أجرها يا ربّ.
وأخلف لي خيرًا منها يعني: اجعل لي خلفًا مما فات عني في هذه المصيبة، يسأل العوض، قال: إلا أخلف اللهُ له خيرًا منها، ولاحظ بصيغة الحصر: النفي، والاستثناء: ما من عبدٍ... يقول،قال: إلا أخلف اللهُ له خيرًا منها، هذا وعدٌ جاء بأقوى الصِّيغ وأصرحها.
وقد ذكر بعضُ أهل العلم -كالإمام النَّووي-أنَّ قوله: وأخلف لي-كما هو ظاهر- أنَّه بقطع الهمزة، وكسر اللام: أخلف لي، لكنَّه قال: إنَّ ذلك يُقال لمن ذهب ما لا يتوقع حصول مثله بصيغة مُقاربة[3].يعني: يُقال له ذلك بصيغة غير التي وردت في الحديث، يُقال مثلاً لمن فقد أباه، الأب هل عنه عِوض؟ ليس عنه عوض، مَن فقد زوجته يمكن أن يجد أفضلَ منها، والمرأة التي تفقد زوجها قد تجد أفضلَ منه، والوالد إذا فقد ولده قد يُعوّض بولدٍ أبرّ، وأتقى، وأفضل، وأحسن، وأعظم نفعًا، وأرفع مقامًا في العاقبة والأولى، في الدنيا والآخرة، لكن الوالد؛ فقد الإنسانُ أباه، فقد أُمَّه، ما هو العوض؟ أخلف لي خيرًا منها.
النَّووي -رحمه الله- يقولفي مثل هذا الذي لا يتوقع العوض عنه أنَّه يقال: خلف الله عليك منه[4].يعني: كان الله خليفة منه عليك، ويُقال لمن ذهب له مال، أو ولد، أو ما يتوقع حصول مثله: أخلف الله عليك، يعني: ردّ الله عليك مثله.
لكن هذا قد لا يكون دقيقًا -والله أعلم-، والسَّبب أنَّ قائله كأنَّه نظر -والله أعلم- إلى الخلف والعوض المماثل، ما كان من قبيل النَّظير لهذا الفائت: زوجة مكان زوجة، زوج مكان زوج، ولد مكان ولد، طيب: ووالد؟ لا يوجد مكانا لوالد، الوالدة؟ لا يمكن مكان الوالدة، لا أحدَ.
إذًا فلمَّا نظر إلى هذا قال: العبارة تُقال هكذا، ولكن هذا لا يخلو من إشكالٍ؛ لأنَّ العوضَ ليس بالنَّظير فقط، العوض يكون بصورٍ لا تخطر على البال؛ انظر إلى قوله -تبارك وتعالى-: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْهذا أعظم مما فاته وذهب عليه:وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ[البقرة:157]، فما يعوض من الأجر، ووجوه البرّ، والإحسان، والألطاف الربانية في الدنيا، وما يكون له بعد ذلك في الآخرة ممالا يُقادر قدره، مما لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى- على هذه المصيبة التي رضي وسلَّم معها؛ هذا لا يمكن أن يُقاس بفقد أحدٍ من أهل الدنيا، الكل سيمضي، والكل سيموت، والناس يذهبون بآجالهم، لكن ما الذي يصدر من هذا العبد؟
فإذا قال ذلك أعطاه الله، وأخلف عليه خيرًا منها، خيرًا من هذا الذي أصابه أو فاته بهذه المصيبة، فيكون الإنسانُ في رفعةٍ ومنازل عظيمة؛ ولذلك كان بعضُ السَّلف يُحبّ أن يحتسب مَن يُحبّ، ولهم في ذلك أخبارٌ:سفيان الثوري -رحمه الله-، وعمر بن عبد العزيز قبله.
وقد لا تحتمل كثيرٌ من العقول ذكر بعض ذلك، ويُراجع في مظانِّه، لكن أذكر مثالاً واحدًا، وهو ما جاء عن عمر بن عبدالعزيز، كان يقول لولده عبدالملك: "والله إني أحبّ أن تموت قبلي من أجل أن أحتسبك"، وكان ولدهيقول: "والله يا أبتي ما لي كراهة لما تحب"[5]،ومات قبله، مات وهو شابٌّ، أظنُّه لم يبلغ العشرين، وكان في غاية الصَّلاح، ويحثّ أباه حثًّا على ردِّ المظالم، وألا ينام في القيلولة ولا يستريح، عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز.
هذا مثالٌ واحدٌ، يقوله في ولده، يقول: "أُحبّ أن أحتسبك"، جاء مثل هذا وأكثر من هذا عن جماعةٍ: جاء عن ابن مسعودٍ لما دخلوا عليه ورأوا عنده صبية كالدَّنانير، مثل الذهب، فقال كلامًا. على كل حالٍ، يُراجع في مظانِّه.
وكما قلتُ: سفيان الثوري، وغير هؤلاء، هذه مراتب عالية، قد لا تصلح لأمثالنا، لكن نحن نقول: مَن أُصيب بمصيبةٍ فعليه أن يصبر، ويحتسب، ويتجلّد، ويقول مثل هذا الكلام، ولا يتسخّط.
فالشَّاهد: أنَّ هذه وجوه ينبغي النَّظر فيها، لا النَّظر في العوض المماثل في الدنيا: ألطاف الله، ورحماته، والعوض الذي يكون للعبد، فلا يقتصر على أنَّه يُعطى ولدًا مكان ولدٍ، لكن قد يحصل له شيء من ذلك، يُعجّل له أيضًا في الدنيا، فالأجر على المصيبة: الدَّرجات التي تحصل، المنازل التي في الجنة، كلّ ذلك لا يُقادر قدره.
في روايةٍ لمسلم: إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها[6]،ربما يُقال: هذه اللَّفظة ذكر فيها الأجر، وذكر فيها الخلف، فيبقى أنَّ الخلف المتوقّع أن يكون في الدنيا، ولكن ليس هذا بالضَّرورة، فإنَّ الأجر تُبينه الجملة التي بعدها: وأخلف له خيرًا منها، أخلف له خيرًا منها بما يسوقه اللهُ له في الدنيا، أو في الآخرة، المهم أنه خير منها.
تقول أمُّ سلمة -رضي الله عنها-: "فلمَّا مات أبو سلمة"، تعني: زوجَها عبدالله بن عبد الأسد المخزومي، هذا تُوفي على المشهور في السنة الرابعة للهجرة، أُصيب بجراحه في غزوة أحدٍ، ثم بعد ذلك حصل نقضٌ لهذه الجراحة؛ فمات في السنة الرابعة، هذا كان من السَّابقين الأوَّلين، أسلم بعد عشرة أنفسٍ دخلوا في الإسلام، يعني: هو الحادي عشر، هذا الرجل الذي بهذه المثابة، وذكروا أنَّه أول مَن هاجر إلى المدينة، وذكروا أيضًا أنَّه هاجر إلى الحبشة قبل أن يُهاجر إلى المدينة، وهاجر أيضًا معه بامرأته، يقولون: أول مَن هاجربالظَّعينة إلى أرض الحبشة، ثم إلى المدينة، وكان أخًا للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-من الرَّضاع، وابن عمّته.
هذه زوجته كانت تتساءل، تقول: مَن؟ لما سمعت: إلا أخلف اللهُ عليه خيرًا منها، تقول: مَن مثل أبي سلمة؟ مَن مثله؟ مَن سأُعوض؟ أول مَن هاجر.
انظر إلى المعايير عند هؤلاء الأصحاب ، ما قالت: إنَّه جميل الصُّورة، أو أنَّه يملك مالاً كثيرًا، أو أنَّه كان يُغدق عليَّ الأموال، والمصوّغات، والمجوهرات، ونحو ذلك، مَن سيُعطيني كهذا الزوج، لا، لا، كانت تتساءل: أين هذا الرجل؟ تقول: أيّ المسلمين خيرٌ من أبي سلمة؟! أول بيتٍ هاجر إلى رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلم-، هذه المعايير في الأفضليَّة، إذا كان هو أول بيتٍ هاجر، يعني: مع زوجته، هاجر إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فمَن سيكون أفضلَ منه؟ مَن الذي يأتي بعده ويكون مُتقدِّمًا عليه في نظرها؟ هو أول مَن هاجر، والهجرة لها شأنٌ، هي من أعظم الأعمال بعد الدخول في الإسلام.
فتقول:"فقلتُ ذلك"، هي طبعًا -فيما يظهر- كانت تقول ذلك في نفسها، يعني:مَن؟ أيّ المسلمين خيرٌ من أبي سلمة؟!
تقول:"ثم إني قلتُها"، قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مُصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها، فدعت بذلك، تقول: "فأخلف اللهُ لي رسولَ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-"، فخطبها النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- وتزوَّجها، وكان خير عوضٍ، وخير خلفٍ، أفضل من أبي سلمة، هذا لربما لم يخطر في بالها حينما قالته، لكن قالت ذلك انقيادًا وتسليمًا لما جاء عن رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلم.
فهذه الكلمة على قصرها، انظر ما لها من الآثار العجيبة، ما لها من العواقب المحمودة، ما يحصل للإنسان من العوض إذا قال ذلك، ولو لم يكن للعبد إلا ما جاء في هذه الآية: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ[البقرة:157]، فهذا كم فيه من الخيرات للعبد.
لكن العبد يحتاج حينما يقول هذا أن يقوله برضا وتسليمٍ، وأن يُدرك ما تحت هذه الكلمة، وهذا لا شكَّ أنَّه مع ما يحصل له من العوض والأجر، فإنَّ ذلك أيضًا يكون من أعظم الأسباب لتسليته في حال المصيبة.
فينبغي لكل مَن أُصيب بمصيبةٍ، ليس فقط فقدموت، المصائب أنواع؛ أن يقول مثل ذلك، وأن يفزع إليه.
يقول ابنُ جريج -رحمه الله-: ما يمنعه أن يستوجب على الله ثلاث خصالٍ، كل خصلةٍ منها خيرٌ من الدنيا وما فيها[7]؟
لاحظ الأشياء المذكورة في الآية: صلوات الله، ورحمته، والهدى، كل خصلةٍ خيرٌ من الدنيا وما فيها، فهذا إذا نظرنا إليه فهو من أعظم العوض.
وجاء عن سعيد بن جبيرٍ -رحمه الله- قال: لقد أُعطيت هذه الأُمَّة عند المصيبة ما لم يُعطَ الأنبياء: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ[البقرة:156]. يقول: لو أُعطيه الأنبياء، لو أُعطيه يعقوب -صلى الله عليه وآله وسلم-إذ قال: يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ[يوسف:84][8].
على كل حالٍ، الاسترجاع عند المصيبة أمرٌ مشروعٌ.
وفي هذا الحديث بيان فضل الصَّبر والتَّسليم لقضاء الله وقدره، وأنَّ مَن فعل ذلك رُجي له الخلف في الدنيا، والأجر في الآخرة.
وكذلك أيضًا الذي يظهر أنَّ مثل هذا يكفي أن يقوله العبدُ مرةً واحدةً عند المصيبة، ولو قاله أكثر من ذلك فلا إشكال، يُثبّت به نفسه، ويُظهر الرِّضا، لكن لو قاله مرةً واحدةً كفى.
لكن متى مثل هذا يُقال؟ هل يُقال بعدما تبرد المصيبة، بعد الصَّدمة الأولى، بعدما تسلو النَّفس، وقبل ذلك الجزع، والانهيار، والسُّقوط، والنِّياحة، وشقّ الجيوب، وما إلى ذلك، ثم بعدما يفيق من الصَّدمة يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون؟
الذي يظهر -والله أعلم- أنَّه يقولذلك عند الصَّدمة الأولى، عند المصيبة، هذا هو المعول، هذا هو المحكّ، هذا الذي يظهر فيه الثَّبات والصَّبر الحقيقي، وقد قال النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- لتلك المرأة التي أمرها بما أمرها به من الصَّبر، فقالت: إليك عني، فإنَّك لم تُصب بمثل مُصيبتي! ما عرفت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فلمَّا عرفت جاءت،فقال: إنما الصَّبر عند الصَّدمة الأولى[9].
النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما دخل على أبي سلمة، وكان قد فاضت نفسُه -رضي الله عنه وأرضاه-، أغمض -صلى الله عليه وآله وسلم- عينيه، وكان قد شخص بصرُه، فأخبر النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- أنَّ البصرَ يتبع الروح[10].
وقد تكلَّمتُ في بعض المناسبات في "شرح رياض الصالحين" على هذا المعنى، وكلام العلماء فيه، وقول مَن قال منهم بأنَّ آخر ما يموت في الإنسان هو البصر، وما ذكره بعضُهم من الاحتمالات: أنَّ الروحَ حينما تفيض، فإنَّ الموت يسري من أسافل الجسد، ثم بعد ذلك يبقى شيء في أعاليه، فيتبعه البصر، يتبع الروح وهي تخرج، يعني: حينما تخرج الروحُ هل يكون البصرُ في هذه الحال يراها؟
الله أعلم، هذه قضايا غيبية، يحتمل، فبعض الأطباء يقولون: إنَّ البصر يبقى مدةً بعد الوفاة يُبصر. هكذا يزعمون، من الأطباء المعاصرين، بعيدًا عن الحديث، هم لا يتحدَّثون عن الحديث وشرح الحديث، هم يتكلَّمون عن الحياة الطّبية، فإن كان كذلك فهذا قد يكون معنًى يُوجّه به، وإن لم يكن؛ فقد يكون ذلك حينما خرجت الروح، فبقي البصرُ شاخصًا، ثم تعطّلت منافعه، فلم يكن لبقائه هكذا شاخصًا معنًى، فكان إغماض العينين هو المشروع.
وكثيرٌ من الفُقهاء يذكرون ذلك في جمل الآداب عند حضور الميت، يقولون: لأنَّصورتَه وهيئته وقد شخص بصرُه تكون غير مُستحسنةٍ، مُخيفة، فإذا أُغمضت العينان كان ذلك أحسن في المرأى.
وهذا كأنَّه قريبٌ في مسألة الإغماض، لكن في مسألة تعليل شخوص البصر، فكما ذكر النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم-، والله أعلم بالتَّفاصيل التي وراء ذلك، هذه أمور من الغيب.
لكن بالنسبة لغير الإنسان: بعض الدَّواب، بعض الحيوانات تبقى العينُ تنظر، ويتحرَّك الجفنُ، ولربما تصدر منه بعض التَّصرفات.
الرأس وهو مقطوع، الحيَّة إذا قُطع رأسها، فلو أنَّ الإنسان أراد أن يعبث بهذا الرأس فقد يُلدغ من قبل هذه الحيَّة، فلا زال في رأسها نوع حياةٍ.
ونحن نُشاهد بعض الحيوانات: الضبّ إذا ذُبِحَ، وقُطع رأسه؛ تبقى جفونه تفتح وتغمض، وينظر، ولربما يعضّ ما وضع عند فمه، وهو قد قُطع رأسه، وأعضاؤه تتحرك في القدر، أعضاؤه مُقطعة قطع، ويُوضع في القدر، وهذه الأعضاء تتقافز حينما تجد مسّ النار، هذا شيء نُشاهده، ونعرفه، أمرٌ لا يُنكر.
فهذه أمور غيبية الله أعلم بها، المقصود أنَّ الإنسان يتأدَّب بمثل هذه الآداب، وفيه دليلٌ على أنَّه يُدْعى للميت عنده موته، ولأهله أيضًا وعقبه بأمور الآخرة والدنيا؛ لأنَّ الملائكة أخبر النبيُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- في هذا الحديث أنَّهم يُؤمِّنون، فيقول الإنسانُ عندئذٍ خيرًا، ولا يدعُ على نفسه، ولا على أهله.
بعض الناس يدعو على نفسه أنَّ الله يأخذه، وأنَّ الله كذا، وكلام لا حاجةَ إليه، ولا يردّ سليبًا، فالملائكة تحضر، وتُؤمِّن عند ذلك، فلا يقل المؤمنُ إلا خيرًا، والله تعالى أعلم.
هذا ما يتعلق بما اشتمل عليه هذا الحديث.
والله تعالى أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم: كتاب الجنائز، باب ما يُقال عند المصيبة، برقم (918).
- أخرجه أبو داود في "المراسيل": كتابالطَّهارة، باب ما جاء في الجنائز، برقم (412)، وضعَّفه الألباني في "ضعيف الجامع"، برقم (4233).
- انظر: "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنووي (6/220).
- انظر: المصدر السَّابق.
- انظر:"إحياء علوم الدين" للغزالي (4/133).
- أخرجه مسلم: كتابالجنائز، باب ما يُقال عند المصيبة، برقم (918).
- انظر: "الاستذكار" لابن عبدالبر (3/81).
- انظر:"شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك" للزرقاني (2/115).
- أخرجه البخاري: كتابالجنائز، باب زيارة القبور، برقم (1283).
- أخرجه أحمد في "مسنده"، برقم (17137)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (491).