الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
هذا باب (الدعاء للميت في الصَّلاة عليه)، وذكر فيه المؤلفُ أربعة أحاديث:
الحديث الأول: هو حديث عوف بن مالك قال: صلَّى رسولُ الله ﷺ على جَنازةٍ، فحفظتُ من دُعائه وهو يقول: اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعفُ عنه، وأكرم نُزُله، ووسّع مُدخله، واغسله بالماء والثَّلج والبرد، ونقِّه من الخطايا كما نقَّيتَ الثوبَ الأبيضَ من الدَّنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلاً خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، وأدخله الجنةَ، وَأَعِذْهُ منعذاب القبر، أو من عذاب النار، قال: حتى تمنيتُ أن أكون أنا ذلك الميت[1].هذا الحديث أخرجه الإمامُ مسلم في "صحيحه".
قوله:"صلَّى رسولُ الله ﷺ على جَنازةٍ"،"جَنازة" هكذا بالفتح، وهي الميت.
يقولون: الفرق بين الجَنازة، والجِنازة: أنَّ الجَنارة للأعلى، والجِنازة للأسفل، يعني: النَّعش يُقال له: جِنازة، والميت يُقال له: جَنازة.
"صلَّى رسولُ الله ﷺ على جَنازةٍ،فحفظتُ من دُعائه"، هذا يدلّ على أنَّ ما ذكر هنا في هذا الدُّعاء أنَّه بعض ما دعا به النبيُّ ﷺ،وكما عليه عامَّة أهل العلم: أنَّ ذلك يكون بعد التَّكبيرة الثالثة، فهو يُكبر التَّكبيرة الأولى ويقرأ الفاتحة، ويُكبر الثانية ويُصلِّي على النبي ﷺ، ويُكبر الثالثة ويدعو للميت.
فهنا يقول: "فحفظتُ من دُعائه وهو يقول"يعني: بعد التَّكبيرة الثالثة.
وهنا سمعه عوفُ بن مالك ،فدلّ على أنَّ النبي ﷺ قد رفع صوتَه بذلك، وهذا الرفع، الأصل في الدُّعاء الإسرار، وصلاة الجنازة يسرّ بها،ليست بصلاةٍ جهريةٍ: لا في القراءة، ولا في غير القراءة، لكن الجهر هنا محمولٌ على التَّعليم، فالنبي ﷺ كان يجهر ببعض قراءته في السّرية أيضًا، يُسمعهم بعض الآيات تعليمًا لهم.
ولا بأس أنَّ الإمام يُسمع المأمومين في الصَّلاة السرية شيئًا مما يقوله من القراءة، أو من الأذكار التي تكون في هذه الصَّلاة، وكذلك أيضًا في صلاة الجنازة.
يقول: "فحفظتُ من دُعائه وهو يقول: اللهم اغفر له، وارحمه" المغفرة عرفنا أنها تعني: السّتر، وكذلك أيضًا الوقاية، يستر عيوبه وذنوبه، فلا يفتضح في الدُّنيا، ولا في الآخرة، وكذلك أيضًا تعني: التَّجاوز عن التَّقصير والإساءة، والرحمة أبلغ من ذلك؛ فإنَّه برحمة الله -تبارك وتعالى- يدخل الجنة، برحمة الله -تبارك وتعالى- يصل إلى أعلى الدَّرجات، برحمة الله -تبارك وتعالى- يحصل له المطلوب، كلّ هذا برحمته -تبارك وتعالى.
اللهم اغفر له، وارحمه تجاوز عن سيئاته، استر عيوبه، ارحمه، بعضهم يقول: بقبول الطَّاعات، ولكن المعنى أوسع من ذلك -كما سبق.
قال: وعافه، واعفُ عنه، عافه من ماذا؟
عافه من العذاب، نجِّه منه، سلِّمه من ذلك، "واعفُ عنه" مما وقع من التَّقصير، والخلل، والنَّقص، والعيب، والزلّة، والمعصية،"اعفُ عنه" فهو يُعافى من كلِّ ما يُحاذر، ويُكره، عافه.
والعافية إذا حصلت للعبد سلم من الشُّرور، والآفات، وأنواع المخاوف، ولهذا نسأل العافية في الدنيا والآخرة: اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وكذلك أيضًا في ديننا ودُنيانا، فهذا من أعظم المطالب:"عافه، واعفُ عنه"، يعني: مع المغفرة والرحمة.
وأكرم نُزله، ووسّع مُدخله أكرم نُزله، ووسّع مُدخله، النُّزل هو في الأصل يُقال لما يُعدّ للضَّيف، قِراء الضَّيف، يعني: أحسن نصيبَه من الجنة.
وهكذا قول مَن قال: "أكرم نزله"، أي: رزقه الذي يكون له من النَّعيم، المقصود بـ"أكرم نزله"، أي: أنَّه يصير إلى ضيافة الله -تبارك وتعالى-، فتحصل له أنواع الألطاف، والخيرات، والنَّعيم، سواء كان ذلك في قبره؛ فإنَّ العبد يُنعّم في القبر، أو يُعذّب، أو كان ذلك أيضًا حينما يلقى الله -تبارك وتعالى- ويُبعث، ويصير إلى الجنة، بمعنى: اجعل نُزله وضيافته عندك كريمة:"أكرم نُزله".
ووسّع مُدخله يعني: وسّع له في قبره، افسح له في هذا القبر، وكذلك أيضًا"وسّع مُدخله" يُوسّع له في آخرته، وما يصير إليه في المنازل في الجنة؛ لأنَّالمدخلَ مفرد مُضاف إلى المعرفة، وهي الضَّمير:"مدخله"، وهذا يُفيد العموم.
وقد تكلَّمتُ في مجلسٍ خاصٍّ في غير مجالس الأذكار عن قوله -تبارك وتعالى-:وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ[الإسراء:80]، وقلنا: هذا يعمّ جميع المداخل:أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، وهنا: ووسّع مُدخله، فيدخل في ذلك القبر، ويدخل في ذلك ما بعد القبر، أي: يُوسّع له في منازله في البرزخ، والقيامة، والجنة، "وسّع مُدخله".
واغسله بالماء، والثَّلج، والبرد وقد مضى الكلامُ على هذه الثلاث في مناسبات سابقةٍ، وبيَّنا وجه ذلك، فهذه الأمور الثلاثة: الماء، والثَّلج، والبردتُقابل حرارة الذُّنوب، فالذُّنوب لها حرارة تحرق، كما قال النبي ﷺ: تحترقون، وتحترقون، فإذا صليتم الصُّبح غسلتها، ثم تحترقون، وتحترقون، فإذا صليتم الظُّهر غسلتها، ثم تحترقون، وتحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها إلى أن ذكر العشاء[2].
فهذه الذُّنوب تحرق أصحابها، وإنما تُطفأ بماذا؟ تُطفأ هنا في الدنيا بالطَّاعات: بالصَّلاة، وغيرها، والصَّدقة تُطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماءُ النَّار[3]،أمَّا في هذا الدعاء: واغسله بالماء، والثَّلج، والبرد هذا يُقابل الحرارة؛ حرارة الذنوب، وما يعقبها من العذاب.
ونقِّه من الذنوب كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدَّنس فذكر هذه المطهِّرات، وذكر هذه الصِّفة في التَّنقية من الذنوب كما يُنقَّى الثوبُ الأبيض من الدَّنس، فالتَّنقية بمعنى: التَّنظيف والتَّطهير، طهِّره من ذنوبه وخطاياه كما يُطهّر ويُنقَّى الثوب الأبيض من الدَّنس.
وخصَّ الثوبَ الأبيضَ لأنَّه تظهر فيه النَّظافة والنَّقاء، كما أنَّه يظهر فيه الدَّنس،فإذا نُقي الثوب الأبيضمن الدَّنس فإنَّ ذلك أدعى لظهور ذلك النَّقاء، بخلاف غيره من الألوان.
وعلى كل حالٍ، هنا قال: وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلاً خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، دارًا خيرًا من داره، داره هذه التي في الدنيا ما هي؟ ما قيمتها؟ دارًا خيرًا من داره، فيصير إلى دورٍ أعظم، وأكرم، وأوسع من هذه الدُّور، على ما فيها من النَّكد، والكبد، والعناء بأنواعه.
فهذا دعاءٌ له بأن يُبدل دارًا خيرًا من داره، و"خيرًا" هنا الذي يظهر أنَّه يُراد بها الوصف، وليس أفعل التَّفضيل؛ لأنَّ"خيرًا"-كما مضى في بعض المناسبات- تأتي بمعنى أفعل التَّفضيل، كما قال ابنُ مالك:
وغالبًا أغناهم خير وشرّ | عن قولهم: أخير منه وأشرّ[4] |
"خير"، تقول: زيد خيرٌ من عمرو، يعني: أخير منه، فيقولون: خير، ويقولون: فلان شرٌّ من فلانٍ، هذه الواقعة شرٌّ من التي قبلها، يعني: أشرّ.
فهنا المراد -والله أعلم- الوصف؛ لأنَّه لا مجالَ للمُقارنة بين دور الدنيا ودور الآخرة.
ألم ترَ أنَّ السيفَ ينقص قدره | إذا قيل: إنَّ السيفَ أمضى من العصا[5] |
ما في مقارنة،ما دور الدنيا؟ لا شيء، إذا كان النبيُّ-صلى الله عليه وسلم-أخبر أنَّ: موضعَ سوطٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها[6]،موضع السَّوط ما هو؟ موضع السوط:اثنان سم، في خمسين سم، هل يستطيع الإنسانُ أن يسكنها هنا؟لا ينتفع بها في الدنيا.
لو قيل لإنسانٍ: نُعطيك أرضًا في أغلى مكانٍ في العالم، لكن موضع سوطٍ. فإنَّه لا ينتفعبها: لا بسُكنى، ولا ببيعٍ، ولا شراءٍ، ولا غير ذلك، لكن في الجنَّة هذا خيرٌ من الدنيا بما فيها من الأملاك، والثَّروات، وما يتنافس فيه المتنافسون من العقارات، والأحمر، والأصفر، وما إلى ذلك مما تشقى به كثيرٌ من النفوس.
على كل حالٍ: أبدله دارًا خيرًا من داره بعضهم فسَّره بهذا، وقيل غير ذلك، على كل حالٍ، هذا الذي يظهر.
قال: وأهلاً خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه الأهل هنا فسَّره بعضُهم بالخدم، والأهل: أهل الإنسان، يصدق ذلك على زوجته، وعلى مَن يحت يده من ولدٍ، ونحو ذلك، هؤلاء يُقال لهم:إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ[العنكبوت:33]، فاستثنى المرأة، إذًا ما الذي ينجو، وقد نصَّ عليه أنه يُنجيه؟ الذي يبقى هم الأولاد، والبنات، ونحو ذلك.
فهنا وأهلاً خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه الزوج خير من زوجه، الآن من الحور العين، يزوج من الحور العين، وكل واحدٍ له -من أهل الجنة- اثنتان من الحور العين، مع زوجته التي من أهل الدنيا، وهي أجمل من الحور العين، وكذلك أيضًا الشَّهيد يزوج بسبعين من الحور العين.
فهنا أبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلاً خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، فهذا كلّه يكون له في ذلك، هذا دعاء له بأن يتحقق له هذا جميعًا.
هنا التَّبديل: تبديل الزوجة، والأهل، ونحو ذلك، هذا فيما يبدو -والله أعلم- يشمل تبديل الأعيان، وتبديل الأوصاف.
تبديل الأعيان: بأن يُعوضه الله خيرًا منهم، الخدم: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا[الإنسان:19]، عنده في الدنيا خادم، أو خادمة، لربما يتعنَّى معها ويتعب:من تلكُّئها في العمل، أو من سُوء عملها، وسُوء أدائها، أو سُوء خلقها، أو كثرة تضجرها، أو ما تفعله ربما من أنواع الإساءة، فهنا الخدم من الجنَّة الولدان، والحور العين كزوجات، هذا كلّه من الأعيان.
وأمَّا الأوصاف: فترجع المرأةُ الكبيرةُ في السنِّ التي تجاوزت سنَّ الشبابَ، وصارت عجوزًا، ترجع شابَّةً، الدَّميمة غير الجميلة ترجع أجملَ مايكون في النِّساء، أجمل من الحور العين.
فالنبي ﷺ أخبر عن المرأة من أهل الجنَّة: لو أطلَّت على الدنيا لأضاءتها[7].هذه المرأة من أهل الدنيا التي في الجنة، غير الحور العين، فهي أجمل وأكمل من الحور العين، هذا من تبديل الأوصاف؛ المرأة الكبيرة، الهرمة، العجوز ترجع شابَّةً، الدَّميمة ترجعجميلةً، التي فيها عاهات، فيها عيوب، ترجع أجمل ما تكون، سيئة الخلق ترجعحسنةَ الخلق، أخلاقها على أكمل ما يكون، لا يسمع منها، ولا يرى، ولا يجد شيئًا يسوؤه البتة، بخلاف هذه الدنيا، فهي مجبولة على الأكدار.
فالإنسان لا يخلو من أن يجد من أهله ويجدون منه ما ينغّص، ولكن في الجنَّة لا تنغيص، لا تجد المرأةُ من زوجها شيئًا، ولايجد الرجلُ من امرأته شيئًا، هناك دار النَّعيم، دار الراحة، هناك لا يوجد كبدٌ، ولا يوجد عناءٌ، ولا يوجد تعبٌ، ولا توجد أمراض، ولا يوجد صداعٌ، ولا يوجد همٌّ، ولا غمٌّ، ولا حزنٌ، ولا فقرٌ، ولا حاجةٌ، ولا يوجد قلقٌ، ولا توجد مُشكلات، ولا صداع، ولا لغو، ولا تأثيم، ولا أحقاد، ولا بغي، ولا غلّ، ولا عدوان، ولا ظلم،ما في شيء من هذا.
هناك الراحة الكاملة، ولا يوجد مللٌ؛ الإنسان يملّإذا كان فيهذه الدنيا عنده استراحة، عنده أماكن مُتنزهات، ذهب إلى مكانٍ يتنزّه فيه، أول ما يذهب يطرب، ويأنس، وينبسط، ثم يملّ، ثم بعد ذلك تدعوه نفسُه إلى الانتقال، والتَّغيير، والذَّهاب هنا وهناك؛ ولذلك تجد أنَّ البائسَ الذي لا يجد شيئًا في هذه الدنيا يبحث عن وسائل النَّعيم والراحة، وينظر إلى دور أهل النَّعيم، وقصورهم، وإلى مُتنزهاتهم، ويتمنى لو بقي فيها ساعة من نهارٍ.
بينما تجد مَن ألفوا هذا، وانغمسوا فيه، يبحثون عن غيره، فتجد أولئك يبحثون عن الأكلات القديمة أيام الفقر، يبحثون عن هيئات الدُّور القديمة، الأزياء القديمة -أعني: أهل الترف-، ملّوا من النَّعيم، والحرير، والطَّعام الذي يُستلذّ بصنوفه، ملّوا، فصاروا يبحثون عن الأشياء القديمة، الأكلات القديمة، حتى صارت توجد محلات تبيع المعلبات القديمة جدًّا، وصار الناسُ يطلبونها، ويبحثون عنها، التي تُذكِّرهم بأيام الحاجة، والمعاناة، والفقر، فيبحث عن هذا في المأكول، والمشروب، والملبوس، والمركوب، يبحث عن سيارةٍ قديمةٍ جدًّا قد تخلَّى عنها أهلُها، وزهدوا فيها، يشتريها بأغلى الأثمان، ويُفاخر بها، على ماذا؟
هؤلاء زهدوا في هذه النِّعمة، ملُّوها، فصاروا يبحثون عن غيرها، يبحثون عن شيءٍ آخر، فتجد في لباسهم أحيانًا من التَّبذل ما لا يختاره العاقلُ لنفسه إطلاقًا، وقد يضطر إليه البائسُ الفقير.
وتعرفون خبر ما جاء في التاريخ عن زوجةٍ من زوجات بعض ملوك الطَّوائف في الأندلس: لما رأت الفقيرات-وهي تُطلّ من القصر- يمشين في المطر، في الوحل والطِّين، حافيات الأقدام، يبعن الحليب، فتمنَّت أنها تمشي في الطين، فأمر زوجُها -هذا الملك من ملوك الطوائف- بطحن الطِّيب -العود يُطحن ويُعجَن-، ثم وُضع في صحفةٍ من الذهب، وقُدِّم بين يديها لتمشي عليه؛ حتى تتمتع بالمشيفي الطين، لكنَّه ليس بطينٍ في الواقع، وإنما لون الطين، ولكنَّه الطيب.
هكذا يطلب الإنسانُ إذا بطر النِّعمة وملَّها، فإنَّ هذه الحياة لا يجد الإنسانُ فيها راحته وبُغيتَه مهما أُوتي، فهنا دعا بهذا الدُّعاء.
وأدخله الجنة أدخله الجنةَ ابتداءً، وَأَعِذْهُ من النار أجره، أَعِذْهُ من عذاب القبر، أو من عذاب النار. شكَّ الراوي فيما يبدو، مع أنَّه يحتمل أن يكون، أو هنا بمعنى الواو، فإنَّ "أو"تأتي بمعنى الواو، يعني: أَعِذْهُ من عذاب القبر وعذاب النار.
وفي روايةٍ: وقِهِيعني: من الوقاية والحفظ،فتنة القبر[8]، فتنة القبر حينما يأتيه الملكان: مَن ربُّك؟ما دينك؟ مَن هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟
ويقول هنا: "قال"يعني: عوف بن مالك، هذا الصَّحابي الذي يروي لنا الحديثَ لما سمع النبيَّ ﷺ يدعو لهذا الرجل بهذه الصَّلاة، والنبي ﷺ مُستجاب الدَّعوة، قال: "حتى تمنيتُ أن أكون أنا ذلك الميت"؛ لما سمع.
فهذا الحديث فيه مشروعية الدُّعاء للميت، وأنَّه يجوز الجهرُ للإمام به جهرًا يُسمع بعض مَن خلفه ليُعلِّمهم، وليس المقصودُ بذلك هو الجهر، ومقصود الصَّلاة على الجنازة هو الدُّعاء للميت؛ ولهذا حُفظعنه هذا، ما نقلوا عنه ماذا قرأ؟ مثلاً: قرأ الفاتحة، وأنَّه جهر بالفاتحة، مع أنَّه لا إشكالَ في أن يجهر بشيءٍ من ذلك؛ليُعلِّمهم، يجهر بالآية الأولى مثلاً، أو نحو هذا.
وستأتي -إن شاء الله- أدعية أخرى غير هذا الدُّعاء، والمصلِّي على جنازةٍ يمكن أن يُنوّع هذه الأدعية؛ تارةً يقول هذا، وتارةً يقول هذا، ويمكن أن يجمع؛ لأنَّ هذا مقام دعاءٍ، فيستكثر من ذلك ما استطاع، لكن من غير تطويلٍ زائدٍ؛ لأنَّ الإسراعَ بالجنازة مقصود ومطلوب، فلا يكون ذلك الإيجازُ الذي ما أن يُكبر حتى يُسلِّم،كما يفعل بعضُ الأئمة، هذا غير صحيحٍ، هذا يُدْعَى له، بحاجةٍ إلى دُعاء هؤلاء الناس، ولا يكون ذلك أيضًا بتطويلٍ زائدٍ؛ فيكون ذلك حبسًا للجنازة، وتأخيرًا لها.
على كل حالٍ، الاعتدال في مثل هذه الأمور مطلوب، والميت أحوج ما يكون إلى الدُّعاء.
فهذا الدُّعاء -كما ترون- جامعٌ، وقد تمحض للدُّعاء للميت، فالإنسان لا يدعو بذلك لنفسه، إلا أن يقولما ورد، كأن يقول: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنَّا بعده[9]،ونحو ذلك، فهذا الدُّعاء الذي في هذا الحديث هو متمحض للميت بالعفو، والغُفران، والسَّلامة، والنَّجاة، والإكرام، والإحسان، وهكذا ما ذُكر في هذا الدُّعاء، والله تعالى أعلم.
- أخرجه مسلم: كتابالجنائز، باب الدعاء للميت في الصلاة، برقم (963).
- أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"، برقم (2224)، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"، برقم (357).
- أخرجه الترمذي في "سننه": باب ما ذُكر في فضل الصَّلاة، برقم (614)، وضعَّفه الألباني في "ضعيف الجامع"، برقم (2781).
- انظر: "أضواء البيان" للشنقيطي (2/370).
- انظر:"أبيات مختارة تشتمل على: عقيدة، نصائح، مواعظ، وصايا، حكم، أمثال، أدب" للبصيري(80).
- أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3250).
- أخرجه البخاري: كتابالجهاد والسير، باب الحور العين، وصفتهنَّ يحار فيها الطرف؛ شديدة سواد العين، شديدة بياض العين، برقم (2796).
- أخرجه مسلم: كتابالجنائز، باب الدعاء للميت في الصلاة، برقم (963).
- أخرجه أبو داودفي "سننه": كتابالجنائز، باب الدعاء للميت، برقم (3201)، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (1675).