الجمعة 13 / جمادى الأولى / 1446 - 15 / نوفمبر 2024
(242) تابع دعاء التعزية والدعاء عند إدخال الميت القبر والدعاء بعد دفن الميت
تاريخ النشر: ١٧ / محرّم / ١٤٣٦
التحميل: 2085
مرات الإستماع: 1558

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فأورد المؤلفُ في دعاء التَّعزية قال: وإن قال: "أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك" فحسنٌ.

هذا ذكره بعضُ أهل العلم، ولم يُنقل عن رسول الله ﷺ، والفُقهاء يذكرون عبارات، ولا بأس أن يُقال ما تحصل به التَّسلية للميت، والتَّخفيف عن المصاب، ولكن ما جاء عن رسول الله في التَّعزية لا شكَّ أنه أكمل، ولكن مثل هذا يصحّ فيه أن يُنشئ من عند نفسه دعاءً أو عزاءً يقوله ويُخاطِب به المصاب إذا كان ذلك يتضمن معنًى حسنًا يليق بالمناسبة.

ثم ذكر الباب الذي بعده، وهو:"باب الدُّعاء عند إدخال الميت القبر"، وقد جاء في ذلك حديثُ ابن عمر -رضي الله عنهما-: أنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان إذا وضع الميتَ في القبر قال: بسم الله، وعلى سُنة رسول الله [1].

وعن ابن عمر أيضًا رواية:"أنَّالنبي ﷺ كان إذا أدخل الميتَ القبر"[2]، وفي لفظٍ:"إذا وضع الميتَ في لحده قال:بسم الله، وبالله، وعلى مِلَّة رسول الله"[3]، وفي لفظٍ:بسم الله، وبالله، وعلى سُنَّة رسول الله ﷺ.

أخرجه أبو داود[4]، والترمذي[5]، وابن ماجه[6]، وسكت عنه أبو داود.

وقال الطَّبراني في "الأوسط":"لم يروِ هذا الحديث عن سُويد أبي حاتم إلا شيبان"[7]، قال البيهقي:"تفرد برفعه همام بن يحيى، وهو ثقة، ورُوي موقوفًا"[8]، وقال ابنُ دقيق العيد: "تفرد به همام بن يحيى، إلا أنَّ شُعبة وهشامًا الدّستوائي روياه، وهما أحفظ من همام"[9].

وصححهجماعةٌ من أهل العلم: كالسيوطي[10]، والشيخ أحمد شاكر[11]، والشيخ ناصر الدين الألباني[12]، وغير هؤلاء،فالحديث جاء بهذه الألفاظ، وهذه الرِّوايات، ويمكن أن يُفسّر بعضُها بعضًا.

فقوله:"كان إذا وضع الميت في القبر"، هل يكون هذا بمجرد الإدخال -بدء إدخال الجنازة في القبر-؟

الرواية الأخرى:"كان إذا أدخل الميت القبر"،فهنا "وضع الميت في القبر" و"أدخل" بينهما مُقاربة، ولكن الرِّواية الأخرى:"إذا وضع الميت في لحده"، فهذا يدلّ على أنَّ المقصود بالوضع هنا والإدخال في القبر أنَّه حينما يُوضَع في اللَّحد، وإن لم يكن اللَّحد كما هو الشَّأن في المقابر هنا، فالأرض لا تحتمل أن يلحد في القبر، فإنَّه إذا وضع في موضعه الذي يكون فيه في القبر، يُوضع ويُقال: "بسم الله، وعلى ملَّة رسول الله"، أو "على سنة رسول الله".

فهنا في هذا اللَّفظ:"وعلى سنة رسول الله ﷺ"،وفي اللَّفظ الآخر:"بسم الله، وبالله، وعلى مِلَّة رسول الله"، وفي اللَّفظ الآخر:"بسم الله، وبالله، وعلى سنة رسول الله"، فيُمكن أن يُؤتى بأكمل هذه الألفاظ؛ يُقال:"بسم الله، وبالله، وعلى مِلَّة رسول الله"، أو "على سنة رسول الله"، فالأمر في ذلك يسير، ولو قال: "بسم الله، وعلى ملَّة رسول الله" أو "على سنة رسول الله ﷺ"، فإنَّ ذلك يُجزئ -إن شاء الله.

قوله:"بسم الله" إذا وُضع في القبر يُقال ذلك، ما المراد؟

الباء هذه يمكن أن تكون للاستعانة، أو أن يكون ذلك بمعنى كأنَّه يقول: أضعه بسم الله، يعني: يمكن أن يكون المراد كما قال بعضُ أهلالعلم: ليكون اسمُ الله وسنةُ رسول الله ﷺ زادًا له. ولكن الأقرب -والله أعلم-أن يكون ذلك بمعنى: أضعه، أو أُدخله بسم الله، يمكن أن يكون للاستعانة: مُستعينًا بالله.

و"بالله" يعني "بالله" أي: بأمره، أو بحكمه، أو بقُدرته، أو بعونه أيضًا.

"وعلى مِلَّة رسول الله" ملَّته ﷺ هي هذه الشَّريعة والدِّين الجامع الذي جاء به من عند ربِّه -تبارك وتعالى-، الملَّة الحنيفية السَّمحة، فهذا دينُه وشرعه -عليه الصَّلاة والسَّلام.

وهكذا في الرِّواية الأخرى:"وعلى سنة رسول الله ﷺ"، فهي طريقته، وطريقته هي شريعته التي جاء بها من عند ربِّه -تبارك وتعالى-.

فهذه المعاني مُتقاربة، فكان النبيُّ ﷺ يقول ذلك إذا وضع الميت في قبره، وقد جاء الأمرُ به أيضًا، يعني: هذه سنة عملية، أو سنة قولية؛ كان من هديه ﷺ أن يقول ذلك إذا وضع الميت في قبره، لكن جاء الأمرُ به: إذا وضعتُم موتاكم في القبور فقولوا[13]، فهذا أمرٌ منه -صلى الله عليه وآله وسلم-، فنحن نعيش على سنَّته، ونموت عليها، ونُوضَع في القبور على سنته وشريعته.

فينبغي على المؤمن أن يحرص كلَّ الحرص على أن تكون حياتُه على سنة رسول الله ﷺ وشريعته وملَّته، وأن يموت على ذلك، كما يُوضَع في القبر، ويُقال فيه كذلك، ثم بعد ذلك يُبعث عليها.

الحديث الآخر يتعلق ببابٍ آخر، وهو:"باب الدُّعاء بعد دفن الميت"، إذا وُضع قيل:"بسم الله، وعلى مِلَّة رسول الله"، أو "وعلى سنة رسول الله ﷺ".

الدُّعاء بعد الدَّفن، إذا فرغ من دفنه تمامًابعد ذلك يُشرع الدُّعاء، كما جاء عن عثمان بن عفان  قال: كان النبيُّ ﷺ إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم، وسلوا له بالتَّثبيت، فإنَّه الآن يُسأل.

أخرجه أبو داود[14]، وسكت عنه، فهو صالحٌ للاحتجاج عنده، وعند المنذري[15] لا ينزل عن درجة الحسن، وجوَّد إسناده النَّووي[16]، وحسَّنه في موضعٍ آخر[17]، وقال عنه الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-:"ثابت"[18]، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني[19]-رحم الله الجميع.

قوله:"كان إذا فرغ من دفن الميت"،"فرغ من دفن الميت" ليس معنى ذلك أنه يُهال عليه التراب، ثم بعد ذلك يدعو، لا، وإنما يفرغ منه تمامًا، يردّ عليه تراب القبر، فإذا فرغ من ذلك جميعًا عند ذلك يُشرع الدُّعاء.

من الناس مَن يستعجل؛ فإذا دفن بمقدار نصف القبر تقريبًا أو نحو ذلك بدأوا بالتَّعزية، وهذا غير صحيحٍ، وإنما ينتظر حتى يفرغ من الدَّفن تمامًا، فإذا سُوِّي القبر وسنم وفرغوا من ذلك جميعًا عند ذلك يقف عليه؛ على رأس القبر، أو إزاء القبر.

فكان النبيُّ ﷺ يقول لأصحابه: استغفروا لأخيكم، الحروف الثلاثة في أول هذه الكلمة تدلّ على الطلب: اطلبوا له المغفرة،ومعنى المغفرة: السَّتر والتَّجاوز.

استغفروا لأخيكم ذكر هنا الأخ من باب أنَّ أهل الإيمان إخوة: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات:10]، وفيه من الاستعطاف بذكر هذا الوصف.

وهذا يدل على أنَّ دُعاء الأحياء للأموات ينفعهم، وهذا بالإجماع، خلافًا لبعض أهل البدع، كل مَن يعتدّ به لا شكَّ أنَّ ذلك قد جاء هذا في الكتاب والسُّنة: استغفروا لأخيكم، إذن القضية الأولى هي الاستغفار.

والأمر الثاني: ثم سلوا له بالتَّثبيت هذا الأمر الآخر،نقول: اللهم اغفر له،ونقول أيضًا: اللهم ثبِّته.

ولاحظوا هنا أنَّ هذا الفعل "سلوا"عُدِّي بالباء: بالتَّثبيت، وهذا الفعل "سأل" يتعدَّى بنفسه:"سلوا له التَّثبيت"، اطلبوا التَّثبيت، هذا المعنى، فلماذا عُدِّي بالباء؟

يمكن أن يُقال: بأنَّ هذا الفعل "سلوا" قد ضمن معنى فعل آخر، يصحّ أن يُعدَّى بالباء، كما في قوله -تبارك وتعالى-: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ[المعارج:1]، يعني: سلوا.

إذن مُضمن معنى: ادعوا، فإنَّ"ادعوا" يصحّ أن يُعدَّى بالباء: دعوتُ لك بكذا، ادعوا بكذا، دعوتُه بكذا، دعوتُ الله بالعافية. لكن تقول: سألتُه العافية، سألتُه الجنة. لكن دعوتُه بالرحمة، بالجنة، فيُعدَّى، فيكون "سلوا" مُضمن فعل "ادعوا".

وقلنا: إنَّ هذا مذهب البصريين، وإنَّه أبلغ، وفيه من تكثير المعاني، يعني يُقال: اللهم ثبته، اللهم ثبته، يمكن أن يُكرر هذا: ثبّته بالقول الثَّابت، وذلك عند السؤال؛ سؤال الملكين: مُنكر ونكير.

فهذا هو المشروع، لا أن يُلقن الميت ويُقال: يا فلان بن فلان، كنت تشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وأنَّ دينَك هو دين الإسلام، وأنَّ نبيك هو محمد ﷺ.

هذا لا يصحّ فيه حديث: تلقين الميت، وإن قال به بعضُ أهل العلم، لكن لا يثبت فيه شيء عن النبي ﷺ، ولكن سؤال التَّثبيت هو المشروع، أن ندعو الله له بذلك.

وعلل هذا فقال: فإنَّه الآن يُسأل فالفاء هذه تدلّ على التَّعليل، تدلّ على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإنَّه –يعني- كأنَّه يقول: لأنَّه الآن يُسأل.

وهذا يدل على أنَّ الميتَ يُسأل إذا وُضع في القبر وفُرغ من دفنه، وهنا يأتيه الملكان، كما يدلّ على ذلك حديث البراء -رضي الله تعالى عنه- مرفوعًا إلى النبي ﷺ[20]،فهو في هذا المقام، في هذا الموقف الميت أحوج ما يكون إلى الدعاء.

وظاهره أنَّه يسمع كلامهم؛ لأنَّ النبي ﷺ ذكر أنَّه يسمع صوتَ نعالهم، وهذا السَّماع محصورٌ في هذا الموقف، يعني: الميت لا يسمع دائمًا، ولكنَّه في هذا الموقف يسمع.

هذا الحديث ليس بصريحٍ في أنَّه يسمع، لكن قال: سلوا له التَّثبيت، هذا دُعاء الله ، بصرف النَّظر عن الميت: هل يسمع، أو لا يسمع؟

نحن نسأل الله له التَّثبيت، ولا نُخاطب الميت بشيءٍ من ذلك.

هذا الدُّعاءإلى أي حدٍّ يكون؟ ما مقداره من الزمن –الوقت-؟

النبي ﷺ أمر أن يستغفر له، ويسأل له التَّثبيت، فلو بقينا مع ظاهره أنَّه لو قال: اللهم اغفر له، اللهم ثبِّته، حصل المقصود، ولكنَّه جاء في "صحيح مسلم" عن عمرو بن العاص في قصته عند احتضاره[21]، والحديث في ذلك مشهورٌ، الشاهد: أنَّه أمر أهله أن يُقيموا عنده إذا دفنوه قدر ما تُنحر جزور، وعلل ذلك بأنَّه قال: "لعلي أستأنس بكم، وأنظر ماذا أُراجع به رسل ربي" يعني: الملائكة، بقدر نحر جزور، فهل قالذلك اجتهادًا منه؟

الذي يظهر أنَّ مثل هذا: قدر نحر جزور، بهذا التَّقدير، أنَّ هذا لا يُقال من جهة الرأي؛ لأنَّ هذه قضية غيبيَّة، فالذي يظهر أنَّ مثل هذا له حكم الرفع، هذا نظر.

النَّظر الآخر أن يُقال: هذا منقولٌ عن صحابيٍّ لا يُعلم له مخالف من الصحابة ، وقول الصَّحابي إذا لم يُعلم له مخالف فإنَّه يكون حُجَّةً بيانيةً، تُبين لنا عن أمرٍ خفيٍّ من حال رسول الله، أو من مقاله -عليه الصلاة والسلام-،فمثل هذا لا يُعلم له مخالف، لكن هل يُقال: إنَّ هذا يُعارض ما جاء عن النبي ﷺ بقوله: استغفروا لأخيكم، وسلوا له التَّثبيت، بحُجّة أنَّ النبي ﷺ لم يقدر ذلك، ولم يجلس عند القبر؟

يُقال: لم يُنقل إلينا كم بقي رسولُ الله ﷺ،ويمكن أن يكون عمرو بن العاص شهد من حال رسول الله ﷺ ومن مقامه على القبر أنَّه بقدر ما تُنحر جزور ويُقسم لحمها، وإلا كيف قدَّر هذا؟ هذا لا يُقدّر بالاجتهاد؛ لأنَّه لا يعرف مقدار سؤال الملكين.

فهذا هو الأقرب -والله أعلم-: أنَّ ذلك يُشرع البقاء عند القبر هذه المدّة يدعون للميت، خلافًا لمن قال من أهل العلم بأنَّ ذلك لا يُشرع، وأنه يكفي أن يسأل له التَّثبيت، ويستغفر له.

ممن يقول بهذا، ولا أعلم قائلاً به قبل ذلك، لكن من المعاصرين الشيخ محمد الصَّالح العثيمين[22]-رحمه الله-؛ أخذًا من ظاهر الحديث أنه يكفي الاستغفار وسؤال الثَّبات له، وأنَّ فعل عمرو بن العاص  يُخالف المنقول عن رسول الله ﷺ.

والواقع أنَّه لا يُخالفه أبدًا، فالنبي ﷺ أمر بالدُّعاء وسؤال التَّثبيت، لكن ما مقدار هذا؟ إلى أي حدٍّ؟ لم يذكر في الحديث، الحديث لم يُبين هذا: هل أطال رسولُ الله أو لم يطل مقامه؟ لا نعلم، لكن حديث عمرو بن العاص يُبين لنا هذا المقدار والعلم عند الله -تبارك وتعالى-.

الذي يظهر -والله أعلم- أنَّ هذا مشروعٌ: أن يبقى مقدارًا طيبًا، ما مقدار نحر الجزور؟ حتى يُقسم لحمها طبعًا، ليس هذا بالنسبة للناس الذين يتطببون ويتعلمون، ولا يُحسنون الذَّبح أو النَّحر، ولا قسم اللحم، إنما لأهل المهنة، فهذا في أقصى حالاته لا يتجاوز عشرين دقيقة عندهم، تنحر ثم بعد ذلك يقسم لحمها، تُسلخ، إلى آخره، لا يتجاوز عشرين دقيقة، وقد يكون أقلّ من ذلك، لكن في أقصى حالاته لا يتجاوز العشرين دقيقة، فلو بقيهذا المقدار: نحوًا من ربع ساعة، إلى عشرين دقيقة، فهذا حسنٌ، والله تعالى أعلم.

الذي يحصل عادةً عند دفن الميت أنَّ الناس يتسارعون، يُريدون أن يعزّوا أهلَ الميت وينصرفوا بأسرع ما يكون من الوقت، ينطلقون، فلا يُريدون أن ينتظروا إلى هذه المدّة، ثم بعد ذلك يصطفون طوابير حتى يعزوا.

أنا أقول: حتى لو انصرفوا، فإنَّ البقاء عند القبر أولى وأهمّ، المشروع أن يقف أهلُ الميت، وهم أولى الناس به، ويقف الآخرون معهم يسألون التَّثبيت.

أهلالميت عادةً في ذلك الموقف الغالب أنَّ الإنسان يكون في حالٍ من الذهول والصَّدمة؛ فينسى كثيرًا من المقررات عنده والمعلومات، ويذهل عنها حتى في الأشياء البسيطة: في وضع الميت في القبر: على الجنب الأيمن، أو الجنب الأيسر، حتى أين القبلة؟ يكون في حالٍ من الذهول، وهذا أمرٌ يحصل كثيرًا، فيأتي الناسُ ويسحبون أهل الميت من القبر، أو عند القبر، ويذهبون بهم إلى موقفٍ، إلى مكانٍ من أجل استقبال المعزّين، فيُفوتون على هذا الميت خيرًا عظيمًا.

فالمشروع أن يبقى الناسُ ويدعون، فإن كان الناسُ يُريدون الخروج والانصراف، يستعجلون في هذا فلا بأس، لكن يبقى أهلُ الميت، ومَن وقف، ومَن انتظر معهم يدعون له، ويسألون التَّثبيت،ولا شأنَ لهم بالناس، لكن كثيرًا ما يستعجلهم الناس.

وأحيانًا يقف الجميعُ مع أهل الميت، يصطفون، ويبقى واحدٌ، والناس يُجرجرونه في العزاء، يُعزّون، وبقيتَ أنت يبحثون عنك، ولا يتركونه يطمئنّ.

فيُنتبه لمثل هذا، فالميت أحوج ما يكون في تلك اللَّحظات إلى هذه الدَّعوات.

جاء عن أنس بن مالك: أنَّه كان إذا سوى على الميت قبره قام عليه فقال:"اللهم عبدك رُدَّ إليك، فارأف به، وارحمه، اللهم جافِ الأرضَ عن جنبه، وافتح أبواب السَّماء لروحه، وتقبّله منك بقبولٍ حسنٍ، اللهم إن كان مُحسنًا فضاعف في إحسانه -أو قال: فزدْ في إحسانه-، وإن كان مُسيئًا فتجاوز عنه"[23]. رواه ابن أبي شيبة وغيره عن أنسٍ من قوله.

وقلنا: إنَّه يُشرع سؤال المغفرة والتَّثبيت بأي صيغةٍ كان، فهذا منقولٌ عن أنسٍ، لكن ليس فيه التَّثبيت، ليس فيه سؤال التَّثبيت صراحةً.

وشيخ الإسلام ابن تيمية[24]-رحمه الله- يقول: بأنَّ الدعاء للميت بعد الدَّفن، وكذلك أيضًا يكون الدُّعاء عند الزيارة، كما هو معلومٌ، فيقول:"هذا تحية للميت –يعني: الدعاء الذي يُقال عند الزيارة-ودعاء له، هذا كما يُحيي الحيّ إذا لقيه ويدعو له، فكذلك الميت، وكذلك في الصَّلاة عليه"، يقول:"وفي ضمن الدُّعاء للميت دعاء الحيّ لنفسه ولسائر المسلمين، كما في الصَّلاة يدعو لنفسه، لكن يكون ذلك ضمنًا: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده"، ونحو ذلك، يقول:"كما أنَّ الصلاة على الجنازة فيها الدُّعاء للمُصلي ولسائر المسلمين، وتخصيص الميت بالدعاء له، فهذاكله وما كان مثله من سنة رسول الله ﷺ، وما كان عليه السَّابقون الأولون هو المشروع للمسلمين في ذلك".

هذا كما ذكرنا، لكن أن يخصّ الإنسان نفسه بالدُّعاء عند القبورفهذاغير مشروعٍ، بمعنى: على سبيل الانفراد، يعني: أن يتحرى الدعاء لنفسه عند القبور، يذهب إلى المقبرة ويدعو لنفسه، أو يذهب عند قبر النبي ﷺ ثم يشتغل بالدُّعاء لنفسه، يعتقد أنَّ الدعاء في هذا المقام يُقبل ويُستجاب، وهذا غير صحيحٍ، وإنما يدعو للميت، فإذا دعا لنفسه في ضمن ذلك فهذا لا إشكالَ فيه، لكن لا يتحرى المقابر أو القبور فيدعو لنفسه عندها، والله أعلم.

 

 

  1. أخرجه أبو داود: كتاب الجنائز، بابٌ في الدعاء للميت إذا وُضِع في قبره، برقم (3213)، والنَّسائي في "السنن الكبرى"، برقم (10861).
  2. أخرجه الترمذي: أبواب الجنائز عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما يقول إذا أدخل الميت القبر، برقم (1046).
  3. أخرجه الترمذي: أبواب الجنائز عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما يقول إذا أدخل الميت القبر، برقم (1046).
  4. أخرجه الترمذي: أبواب الجنائز عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما يقول إذا أدخل الميت القبر، برقم (1046).
  5. انظر: الحاشية المتقدمة.
  6. أخرجه ابن ماجه: أبواب الجنائز، باب ما جاء في إدخال الميت القبر، برقم (1550).
  7. "المعجم الأوسط" (8/181)، برقم (8336).
  8. انظر: "نصب الراية" (2/302)، و"البدر المنير" (5/311)، و"عجالة الراغب المتمني في تخريج كتاب "عمل اليوم والليلة" لابن السني" لسليم بن عيد الهلالي (2/662).
  9. "الإلمام بأحاديث الأحكام" (1/290).
  10. "الجامع الصغير وزيادته"، برقم (8927) بترقيم الشَّاملة آليًّا.
  11. انظر: "مسند أحمد" ت: شاكر (4/409)، برقم (4812).
  12. صححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"، برقم (3213)، و"أحكام الجنائز" (192).
  13. أخرجه أحمد في "المسند"، برقم (4990)، وقال مُحققوه: "رجاله ثقات، رجال الشيخين، غير عبدالواحد الحداد -وهو ابن واصل-، فقد روى له البخاري مُتابعةً، وهو ثقة"، وصححه على شرط الشيخين الألباني كما في "أحكام الجنائز" (192).
  14. أخرجه أبو داود: كتاب الجنائز، باب الاستغفار عند القبر للميت في وقت الانصراف، برقم (3221)، والحاكم في "المستدرك"، برقم (1372)، وقال: "هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الإسناد، ولم يخرجاه"، وحسَّنه الوادعي في "الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين" (2/298)، برقم (1236).
  15. انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (4/180)، برقم (5334)، و"البدر المنير" (5/331).
  16. "المجموع شرح المهذب" (5/292).
  17. لم أقف عليه.
  18. "مجموع فتاوى ابن باز" (205/13).
  19. انظر: "صحيح الجامع"، برقم (945)، و"أحكام الجنائز" (1/156).
  20. أخرجه أحمد في "المسند"، برقم (18534)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيح، رجاله رجال الصَّحيح".
  21. أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحجّ، برقم (121).
  22. "شرح رياض الصالحين" (4/562).
  23. أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/20)، برقم (11706).
  24. "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" (2/179).

مواد ذات صلة