الجمعة 13 / جمادى الأولى / 1446 - 15 / نوفمبر 2024
(247) من أدعية الاستسقاء " اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا "
تاريخ النشر: ٠١ / صفر / ١٤٣٦
التحميل: 2133
مرات الإستماع: 1585

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

من أدعيته ﷺ في الاستسقاء ما جاء من حديث أنسٍ: أنَّ رجلاً دخل المسجد يوم جمعةٍ من بابٍ كان نحو دار القضاء، ورسول الله قائمٌ يخطب، وهذا الرجل قيل: إنَّه كعب بن مرة، كما دلَّت عليه بعض الرِّوايات، وجاء في بعض الرِّوايات التي لا تصحّ: أنَّه خارجة بن حصن الفزاري.

وذكر بعضُ أهل العلم بناءً على روايةٍ: أنَّه أبو سفيان بن حرب، وكان ذلك الذي وقع لأبي سفيان قبل دخوله في الإسلام.

وهذا الحديثُ فيه أنَّ الرجل قال:"يا رسول الله"، فدلَّ على أنَّه كان من المسلمين، كما أنَّه جاء في بعض الرِّوايات ما يدلّ على أنَّه من الأعراب، كما جاء في روايةٍ عن أنسٍ : "أصاب الناسَ سنةٌ –أي: جدب- على عهد رسول الله ، فبينا رسول الله ﷺ يخطب يوم الجمعة قام أعرابي"[1]،وفي بعض الرِّوايات:"أتى رجلٌ أعرابي من أهل البدو"[2].

وأمَّا ما جاء من رواية أيضًا ثابت، عن أنسٍ، وفيها:"فقام الناسُ فصاحوا" يعني: في المسجد، يعني: رفعوا صوتهم يطلبون من النبي ﷺ أن يستغيث لهم.

فهذا يحتمل أنهم صاحوا بعد أن تكلم هذا الرجلُ، أو باعتبار أنَّهم وافقوه، وهو واحدٌ من هؤلاء الناس، يعني: كأنَّ هذا الرجل قام أو دخل فقال ما قال، فقال الناسُ ما يدلّ على الموافقة.

وجاء في بعض الرِّوايات:"إذ قال بعضُ أهل المسجد"[3]، هذا يدلّ على أنَّه صدر منهم ما يدلّ على مُوافقتهم له.

وهذا -كما سمعتُم- كان يوم جمعةٍ، والنبي ﷺ يخطب، فدلَّ ذلك على أنَّ الاستسقاء يُشرع للخطيب إذا دعت الحاجةُ إلى ذلك: أجدب الناسُ، وانحسر أو انحبس المطرُ.

هذا الرجل يقول أنسٌ: بأنَّه دخل من بابٍ، في بعض الرِّوايات:"كان وجاه المنبر"، يعني: مُواجهًا للمنبر، وفي هذه الرِّواية التي بين أيدينا: "أنَّه من بابٍ كان نحو دار القضاء"[4]، ودار القضاء هذه لعُمر ، سُميت بذلك لأنَّه قد قُضي دينُه ببيعها، فعمر -رضي الله عنه- قد أوصى ابنه عبدالله وحفصة، فكانت وصيةً لعمر وعنها (أعني: حفصة)-، فبِيعت هذه الدَّار لمعاوية بن أبي سفيان، فكانت تُسمّى: دار القضاء، ودخل هذا الرجلُ من هذه الناحية، ورسول الله ﷺ قائمٌ يخطب، وفي هذا مشروعية القيام للخطبة.

فقال:"يا رسول الله"، هذا كما أسلفتُ يدل على أنَّ الرجل كان مُسلمًا، وليس كما قيل: بأنَّه أبو سفيان؛ فأبو سفيان في ذلك الحين حينما سأل النبيَّ حينما أجدب المشركون لم يكن مسلمًا.

هذا الرجلُ الأعرابي قال للنبي :"هلكت الأموال"، وفي بعض الرِّوايات:"المواشي"، وهذا تفسير للأموال؛ فإنَّ الأموال الصَّامتة ليست بمقصودةٍ في هذا الحديث، فإنَّه لا يحصل لها الهلاك بسبب انحباس المطر.

وجاء في بعض الرِّوايات:"هلك الكراع"[5]، و"الكراع" يُطلق على الخيل وغيره من الدَّواب.

وفي بعض الرِّوايات:"هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس"[6]، من باب التَّعميم؛ لأنَّه إذا هلكت الماشيةُ فإنَّ الناس يحصل لهم بسبب ذلك الضُّر من الجوع وانقطاع السُّبل؛ فلا يستطيعون الانتقال والسَّفر، وما إلى ذلك، ويحصل لهم أيضًا"هلك الناس، هلك العيال" بسبب الجدب، فلا يوجد شيءٌ من الزرع والنَّبات، ونحو ذلك، فهذا من باب ذكر العام بعد الخاصِّ، يعني: لا يوجد ما يقتاتون به بسبب انحباس المطر.

قال: "وانقطعت السُّبل"، وفي بعض ألفاظه: "وتقطَّعت السُّبل"، فهذا يدلّ على كثرة ما وقع من ذلك: "تقطَّعت السُّبل"، فإنَّ زيادةَ المبنى لزيادة المعنى، يعني: أنَّ هذه الدَّواب من المراكب -من الإبل ونحوها- ضعفت لقلّة القوت، ولكونه لا يوجد في البرية ما تقتات به؛ فلا يستطيعون الانتقال والسَّفر عليها؛ لضعفها وعجزها عن حملهم ونقل أمتعتهم، فهي لا تجد ما يُقيم أودها من النَّبات.

وكذلك أيضًا أنَّ ما بأيدي الناس قد قلَّ أو انعدم، فهم لا يجدون ما يحملونه ويجلبونه إلى الأسواق، ليس عندهم أزباد، ولا أسمان، ولاأقط، ولا غير ذلك، لا سيّما أنَّ هذا الرجل من الأعراب، والأعراب كانوا يأتون إلى الحواضر والقُرى، كانوا يأتون بما يكون في البادية عادةً، وإنما يكون في البادية مثل هذه المذكورات من الأزباد، والألبان، والأقط، والأسمان، ونحو ذلك.

فهنا حصل لهم القحطُ، قال:"وانقطعت السُّبل"،"تقطَّعت السُّبل"، وفي بعض الرِّوايات:"قحط المطر"، وفي بعضها:"واحمرَّت الشَّجر"[7]، هنا كناية عن يبس الورق؛ لعدم وجود الماء، أو لانتثاره؛ فتصير الشجرةُ أعوادًا بلا ورقٍ، كما هو مُشاهدٌ، والله المستعان.

فهذا يشكو ويُصور الحال بهذه الصُّورة البليغة، فكذلك جاء في بعض الرِّوايات:"وأمحلت الأرض".

فهذا كلّه يدلّ على أنَّ الحال قد بلغت إلى حدٍّ لا يُطاق.

ويحتمل أنَّ الرجل قد قال هذه العبارات جميعًا، فنقل الرُّواة بعضَها، نقل كلُّ راوٍ بعضَ هذه الرِّوايات.

ويحتمل أنَّ ذلك من تصرّف الرواة؛ حيث رووا بعضَ ذلك بالمعنى.

"فادع الله يُغيثنا"، يحتمل "يُغيثنا" هكذا بالضمِّ أنَّه هو يُغيثنا: "ادعُ الله يُغيثنا" فهو يُغيثنا، الله يُغيثنا، وهكذا الرِّواية المشهورة، وفي بعض رواياته: "يغيثنا"، وفي بعضها:"يغثنا"، هكذا مجزومًا.

فبالضمّ "يُغيثنا" على أنَّه من الإغاثة، وبالفتح على أنَّه من الغيث الذي هو المطر، وبينهما مُلازمة؛ فإنَّ الغوثَ يكون بالغيث، فقال النبي ﷺ: اللهم أغثنا.

وفي روايةٍ: أنَّه سأل النبيَّ ﷺ قال: "فادعُ الله أن يسقينا"، وهذا يُوافق رواية النَّصب؛ أنَّه من الغيث، وفي روايةٍ: "فاستسقِ ربَّك".

فأهل العلم منهم مَن فسَّر ذلك يعني: طلب الإغاثة، وقول النبي ﷺ: اللهم أغثنا، بأنَّ ذلك يُقصد به الغوث، يعني: لمن وقع في شدَّةٍ.

وبعضهم قال: الغيث هو المطر.

وكما سبق بأنَّ الذي ينبغي أن يُسأل هو نزول الغيث؛ فإنَّ المطر قد ينزل وتخرب الدُّور والمساكن، وتتعطل السُّبل والطُّرق، ولا يحصل للناس في ذلك نفعٌ، لا يخرج النَّبات، ولا ينتفع الناسُ منه، وإنما يكون عذابًا يُرسله الله عليهم، فنسأل الله أن يُغيثنا،فيُمكن أن يكون المعنى: أعطنا غوثًا وغيثًا، وكما سبق أنَّ بينهما مُلازمة.

يقول: "فرفع يديه -عليه الصَّلاة والسلام-"، وهذا يدلّ على مشروعية رفع اليدين للخطيب حال الاستسقاء.

وفي بعض الرِّوايات:"ورفع الناسُ أيديهم مع رسول الله ﷺ"، وهذا يدلّ على أنَّه يُشرع لمن حضر معه في الجمعة أن يرفع يديه، وهذا يكون مُقيدًا فقط بدُعاء الاستسقاء، وإلا فلا يُشرع الرفعُ فيما عداذلك من أدعية الخطيب: لا للخطيب، ولا لغيره.

وجاء في بعض الرِّوايات:"ورفع الناسُ أيديهم مع رسول الله ﷺ يدعون"، وفي بعض الرِّوايات: "حذاء وجهه"، والأصل أن تكون اليدُ في الدُّعاء حذاء الوجه، ولكن في الاستسقاء يرفع رفعًا زائدًا؛ ولهذا جاء في بعض رواياته:"حتى رأيتُ بياضَ إبطيه"، يعني: من شدّة الرفع، وجاء في بعض الرِّوايات: "فمدَّ يديه ودعا"، يعني: مدًّا زائدًا-عليه الصَّلاة والسَّلام-.

وفي بعض الرِّوايات: "فنظر إلى السَّماء"، مع أنَّ المسجد كان مسقوفًا، ولكنَّه لما دعا ربَّه نظر لأعلى، والفِطَر مجبولة على التَّطلع إلى العلو حال الدُّعاء، فإنَّ الله -تبارك وتعالى- مُتَّصفٌ بالعلو، فهو على عرشه فوق سماواته.

"فنظر إلى السَّماء" العُلماء يذكرون أنَّ الدَّاعي حينما يدعو ينظر إلى كفَّيه، لكن يمكن أن يكون ابتداء ذلك نظر إلى السَّماء،ويمكن أن يُؤخذ منه أنَّ الدَّاعي له أن ينظر إلى السَّماء حال الدعاء، ولا يلزم أن ينظر إلى كفَّيه، أو أن ينظر إلى موضع السُّجود في دُعائه إذا كان يدعو في الصَّلاة.

لكن يمكن أن يُقال: بأنَّ هذا الحديثَ في غير الصَّلاة؛ فرفع ﷺ رأسَه، وأمَّا في الصَّلاة فكما جاءت الأحاديثُ في النَّهي عن رفع البصر إلى السَّماء، فلا يكون ذلك مُستثنًى -والله تبارك وتعالى أعلم.

فقال: اللهم اسقنا، وفي بعض الرِّوايات: أغثنا،أعاد ذلك ثلاثًا، وفي روايةٍ أنَّه قال: اسقنامرتين.

كان من هديه ﷺ أن يُعيد الكلام ونحو ذلك ثلاثًا، والأخذ بزيادة الثلاث أولى، فكان إذا دعا دعا ثلاثًا، هذا من هديه.

وقال أنسٌ :"ولا والله"، هكذا في هذه الرِّواية، وفي بعضها بالفتح:"فلا والله"، وفي بعض الرِّوايات:"وايمُ الله".

فأنسٌ ينفي أن يوجد في السَّماء شيءٌ من السَّحاب، قال:"ولا قزعة"، يعني: لا يوجد سحابٌ مُجتمعٌ،"ولا قزعة" وهي القطعة من السَّحاب، أو السَّحاب المتفرّق، فالقزع هي القطع،"قزعة" يعني: قطعة من السَّحاب.

وبعضهم يُقيده بأنَّه سحابٌ رقاقٌ، وبعضهم يُقيد ذلك بأنَّه مما يكون في فصل الخريف غالبًا.

قال:"ولا شيئًا"، يعني: ولا يوجد ما يؤشر، أو ما يدلّ على وجود المطر: من الرياحالتي تكون بين يديه، أو نحو ذلك، يعني: لا توجد أمارات أصلاً، لا توجد مبادئ، لا توجد مُقدّمات:"ولا شيئًا".

وهنا قال:"وما بيننا وبين سلع"، وهو جبلٌ صغيرٌ معروفٌ في المدينة، قريبٌ من المسجد النَّبوي،"من بيتٍ، ولا دارٍ"، يعني: لا يوجد ما يحجب، فنحن نُشاهد الأفق، ليس فيه شيءٌ، ويقول: بأنَّ السَّحابَ كان مفقودًا، لم يستتر بشيءٍ.

وجاء في بعض الرِّوايات:"وإنَّ السَّماء لمثل الزجاجة"[8]، يعني: لصفائها، لا توجد فيها أدنى سحابةٍ؛ لشدّة الصَّفاء مثَّلها بذلك،"لفي مثل الزُّجاجة".

"فطلعت" يعني: سحابة "من وراء سلع"، يقول: "مثل الترس" يعني: مُستديرة، ليس المقصودُ أنها صغيرة بقدر الترس، الترس معروفٌ: ما يجتنّ به المقاتل من ضرب السِّلاح.

يقول:"فنشأت سحابةٌ مثل رجل طائر"، كما في بعض الرِّوايات، هذا يدلّ على صغرها، يقول:"وأنا أنظر إليها"، فهذا يدلّ على أنها محددة، صغيرة في بدايتها.

يقول:"فهاجت ريحٌ أنشأت سحابًا، ثم اجتمع"، وفي بعض الرِّوايات:"فنشأ السَّحابُ بعضُه إلى بعضٍ"، وفي بعضها: "حتى ثار السَّحابُ أمثال الجبال"، يعني: لكثرتها، ثم لم ينزل ﷺ عن منبره حتى نزل المطرُ-عليه الصَّلاة والسَّلام-.

يقول أنسٌ:"فلا والله ما رأينا الشمسَ ستًّا"[9]، هذا لفظ البخاري، ورواية مسلم- وهي عليها أكثر الرُّواة-: "سبتًا"[10]، يعني: أسبوعًا، والسِّت أيضًا تُمثل الأسبوع؛ باعتبار أنَّها بعد اليوم الذي دعا فيه النبي ﷺ، فتسمية الأسبوع بهذا الاسم:"ما رأينا الشمسَ سبتًا" تسمية الشيء ببعضه، وتُوضح ذلك الرِّوايات الأخرى، كما جاء في رواية: "فمُطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، ومن بعد الغد، والذي يليه حتى الجمعة الأخرى"، وجاء في بعض الرِّوايات: "فمُطرنا من جمعةٍ إلى جمعةٍ"، وفي روايةٍ: "فدامت جمعة"، فدلّ على أنَّ المقصود الأسبوع.

وذهب بعضُ أهل العلم، وهم قِلَّة، ومنهم الإمام النَّووي[11]-رحمه الله- إلى أنَّ المقصود بالسبت القطعة من الزمان غير محددة، باعتبار أنَّه لم تجرِ العادة بتسمية الأسبوع: بالسبت، وإنما يُسمَّى: بالجمعة، فهي عيد المسلمين.

يقول في بعض الرِّوايات: "فمُطرنا، فما كدنا نصل إلى منازلنا"[12]، يعني: من كثرة المطر، وهذا من كرامته ﷺ ومُعجزته -عليه الصَّلاة والسَّلام-، في بعض الرِّوايات: "فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا"[13].

وفي بعضها: "فمُطرنا حتى رأيتُ الرجلَ تهمّه نفسه أن يأتي أهله"[14]، يعني: هو مهمومٌ كيف يستطيع الوصول والتَّخلص حتى يصل إلى أهله؟

وفي بعض الرِّوايات: "حتى أهمّ الشَّاب القريب الدَّار الرجوع إلى أهله"[15]، هذا القويّ قريب الدار، فكيف بالبعيد؟ يعني: أنَّ السماء أصبحت كأفواه القِرَب من المطر الشَّديد، وهذا لا يكون عادةً إلا إذا كان بهذه الصِّفة، وفي بعض الرِّوايات:"حتى سالت مثاعب المدينة"[16].

في هذه اللَّحظات يقول أنسٌ بعد ذلك لما بقوا هذه المدّة:"ثم دخل رجلٌ من ذلك الباب" في الجمعة أيضًا، والنبي ﷺ أيضًا يخطب، فهذا ظاهره أنَّه غير الأول؛ وذلك أنَّ القاعدة المشهورة عند أهل اللغة، ويذكرها بعضُ المفسّرين عند قوله -تبارك وتعالى-: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[الشرح:5-6]، قد تكلَّمتُ على هذا في الكلام على هذه الآية:فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ[الشرح:7]، وأنَّ النَّكرة إذا تكررت فالثَّانية غير الأولى؛ ولذلك قال النبيُّ ﷺ:لن يغلب عسرٌ يُسرين[17].

إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، فهنا العُسر معرّف، فالمعرف الثاني هو الأول: "العسر، العسر" هذا واحدٌ، عسرٌ واحدٌ، "يسرًا، يسرًا"، فاليُسر الثاني غير اليُسر الأول: لن يغلب عسرٌ يسرين، النَّكرة إذا تكررت فالثانية غير الأولى.

هنا يقول أنسٌ: "دخل رجلٌ من ذلك الباب"، يدلّ على أنَّه رجلٌ آخر، لكن هذه القاعدة تدلّ على هذا، لما سُئل أنسٌ : هل هو الرجل الأول؟ قال: لا أدري.

وأنسٌ كان فصيحًا، ويعرف اللغة، فالنَّكرة الثانية غير الأولى، لا يخفى هذا على مثل أنسٍ -رضي الله تعالى عنه-، فيُمكن أن تكون هذه القاعدة أغلبيَّة، كما هو الشَّأن في قواعد اللُّغة وقواعد التَّفسير، وقواعد الأصول، وقواعد الفقه، اللهم إلا ما كان من قواعد الحساب ونحو ذلك؛ فهي كُلية، بمعنى الكُلية عند المناطقة، أما باقي القواعد فيُقال: إنها قواعد أغلبية، وهذا يدلّ على هذا المعنى، فأنسٌ كان من أهل اللِّسان.

وقد جاء في بعض الرِّوايات: "فقام ذلك الرجلُ أو غيره"، وفي بعضها: "فأتى الرجلُ فقال" لاحظ: بالتَّعريف، و"أل" عهدية، الرجل السَّابق، "فما زلنا نُمطر حتى"، في روايةٍ أخرى قال: "حتى جاء ذلك الأعرابي في الجمعة الأخرى"[18].

فهنا يحتمل أن يكون أنسٌ حينما سُئل نسي بعد أن ذكره، أو أنَّه نسي، ثم ذكره بعد ذلك، فالله أعلم، لكن تحديد هذا المبهم عمومًا لا فائدةَ في تحديد اسمه، ولا هل هذا هو نفس الرجل أو لا؟

هذا الرجل قال للنبي ﷺ: "هلكت الأموال، وانقطعت السُّبل"، قالها مرةً أخرى، الأولى: "هلكت" للجوع والشّدة وعدم وجود الكلأ والمرعى، الآن هلكت لسببٍ آخر: أنَّ كثرة الماء سبَّبَتْ انقطاع المرعى، فهلكت المواشي من عدم الرعي، لا تستطيع الانتشار والذَّهاب والانتقال ونحو ذلك، لا يوجد ما يُكنّها من المطر.

وأمَّا انقطاع السُّبل فلتعذّر سلوك الطرق من كثرة الماء، لم تكن هناك طرق مرصوفة، طرق مُسفلتة، كما هو الشَّأن الآن، وإنما هو طين تنزلق به أقدام الدَّواب، وأقدام الناس، وتخوضه، ويكون دحض مزلّة، فهذا يحصل به الانقطاع، كذلك أيضًا هذه الطُّرق حينما تكون كثيرةَ الماء، فكما جاء في بعض الرِّوايات: "واحتبس الرَّكْبَان"[19]، يعني: لم يستطع السَّفر والانتقال والحركة.

فدعا النبيُّ ﷺ في الجمعة الأخرى، دعا ربَّه أن يكون ذلك على الآكام والظِّراب ومنابت الشَّجر[20].

"الآكام" ويُقال أيضًا: الإكام، الإكام جمعأكمة، وتُجمع هذه الأكمة على الإكام، وعلى الأَكَم والأُكُم، وكذلك الأَكَم والأُكُم تُجمَع على الآكام.

وبعض أهل العلم يقول: كلّ ذلك من اللُّغات، يُقال: الآكام، والأكم، والإكام، والمقصود بذلك قيل: هي الرَّابية، وقيل: أعلى من الرَّابية، وقيل: أدنى من الجبل، أو أدنى، أو أنَّه جبل صغير، أو الرَّوابي التي هي –يعني- تراب مُجتمع، أكبر من الكُدية - هكذا قال بعضُ أهل العلم-، أو التي تكون من حجرٍ واحدٍ، قطعة واحدة، صخرة كبيرة، أو الهضبة، وبعضهم قال: الهضبة الضَّخمة.

المقصود أنَّ الآكام أقلّ من الجبال، أماكن مُرتفعات في الأرض دون الجبال.

فقال النبيُّ ﷺ: اللهم على الآكام، والظِّراب، ومنابت الشَّجر، الظِّراب فُسِّرت بالجبال الصِّغار، وقيل: الجبل المنبسط، ليس بالعالي، فهو جمع ظربٍ، وبعضهم فسَّره بغير ذلك.

النبي ﷺ رفع يديه هنا للاستصحاء، يقول  أنسٌ كما في رواية  مسلم: "فلقد رأيتُ السحابَ يتمزَّق كأنَّه الملا حين تُطوى"[21].

"الملا" هنا جمع ملاءة، ثوبٌ معروفٌ، فيقول: السَّحاب يتمزّق، يتبع يدي النبي ﷺ وهو يدعو، فكأنَّه كان يُحرِّك يديه وهو يستسقي، يُشير بهما.

يقول كما جاء في بعض الرِّوايات: "فلقد رأيتُ السَّحابَ ينقطع يمينًا وشمالاً يُمطَرون" يعني: أهل النَّواحي، "ولا يُمطر أهل المدينة"، يعني: المطر صار في خارج المدينة.

وجاء في بعض الرِّوايات: "فجعل السَّحابُ يتصدَّع عن المدينة"، وفي بعض الرِّوايات: "يُريهم اللهُ كرامةَ نبيِّه ﷺ وإجابة دعوته"[22].

وفي بعض الرِّوايات: "فتكشَّطت"يعني: تكشَّفت السَّماءُ فوقهم، يقول: "فجعلت تُمطر حول المدينة، ولا تُمطر بالمدينة قطرةً".

يقول أنسٌ: "فنظرتُ إلى المدينة وإنها لمثل الإكليل"[23]، الإكليل على الأرجح –يعني- هنا أنها أصبحت حولها السَّحاب يُحيط بها من كل ناحيةٍ، وليس فوقها سحاب، يدلّ على هذا أيضًا رواية أخرى: "فتقوّر ما فوق رأسنا من السَّحاب حتى كأننا في إكليلٍ"[24]، فالشَّيء المستدير يُقال له: إكليل، يُوضَع على الرأس منه، تكلله، وفي النَّسب مسألة الكلالة: مَن ليس له أصلٌ ولا فرعٌ وارثٌ، وإنما الحواشي يُحيطون به، وهذا معروفٌ في المواريث.

فهنا يقول أنسٌ كما في بعض الرِّوايات: "فما يُشير بيده إلى ناحيةٍ من السَّحاب إلا انفرجت، حتى صارت المدينةُ في مثل الجوبة"[25]، الجوبة كالحُفرة المستديرة، يعني: هنا سحاب كثيفٌ حولها، وهي في مثل الحُفرة، فُرجة في السَّحاب.

وجاء في بعض الرِّوايات: "أنَّه سال الوادي -وادي قناة- شهرًا"[26]، وادي قناة هو الوادي المحاذي تمامًا لجبل الرُّماة، مَن يعرف الموقعة في أحد، جبل الرُّماة الجبل الصَّغير، خلفه تمامًا بأمتار هذا الوادي الصغير الذي يُقال: إنه جاء من قبله خالد بن الوليد وعكرمة -رضي الله عنهما- لما التفّوا حول الجبل، حول الرُّماة، وقتلوا مَن كان عليه، فحصلت الهزيمةُ للمسلمين، يُسمّى: وادي قناة، معروفٌ إلى اليوم، ويسيل إذا جاء مطرٌ كثيرٌ، وهناك توجد البساتين والمزارع منذ عهد رسول الله ﷺ إلى يومنا هذا في تلك النَّاحية، ناحية أُحُد ووادي قناة.

وذكر أنسٌ في بعض الرِّوايات: أنَّ الناس الذين صاروا يأتون من الآفاق ما جاء أحدٌ إلا حدَّث بالجود، يعني: المطر الغزير، فهذا يدلّ على أنَّ المطر استمرَّ بعد ذلك، يعني: أكثر من أسبوع في تلك النَّواحي، وأنَّ وادي قناة هذا يقول: بأنَّه جرى شهرًا كاملاً، ولا يجري شهرًا كاملاً إلا لكثرة المطر.

فهذا كلّه يدلّ على مشروعية الخطبة قائمًا، يُؤخذ من هذا الحديث، وأنَّه تُباح مكالمة الخطيب؛ أن يُكلِّم الخطيبَ أحدٌ من الناس، أو أن يبتدئ الخطيبُ بكلامٍ يتكلّم معه به، أمَّا الاشتغال عنه فلا يجوز؛ لأنَّ حقيقةَ الإنصات: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا[الأعراف:204] ألا يشتغل عنه بغيره: مَن مسَّ الحصى فقد لغا[27].

ولذلك في الاستماع للقرآن: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا أنَّه لا يكفي مجرد الاستماع، بل لا يصحّ أن يستمع القرآن وهو مشغولٌ بجهاز الهاتف: يقرأ رسائل، أو يُرسل، أو يكتب، أو بقلمٍ، أو المرأة مشغولة بشيءٍ آخر، أو نحو ذلك، وإنما الإنصات أن يترك ما بيده، فالمطلوب الاستماع الزائد: الإنصات، لكن إذا كان يُكلّم الخطيب، أو وقع خللٌ، أو الخطيب سأل عن شيءٍ فلا بأس.

لو أنَّ الناس صاروا ما يسمعون، انقطع الصوتُ، فنبّه الخطيب على هذا، أو نحو ذلك؛ فلا إشكالَ، قد ينسى الخطيبُ أن يفتح مثل هذا الجهاز اللَّاقط، فينبه على هذا.

بعض الناس يتورع، يظن أنَّ هذا من اللَّغو، ليس هذا من اللَّغو إذا كان الاشتغالُ مع الخطيب، بل جاء عن بعض السَّلف أنَّ الخطيب إذا اشتغل بأمرٍ من الباطل، يعني: صار يتكلم بكلامٍ باطلٍ؛ أنَّه يجوز لمن حضر أن يتكلَّموا مع بعضهم، وأن يشتغلوا عنه، وقد وقع هذا من بعض علماء التَّابعين؛ لأنَّ ذلك ليس بمقصودٍ في الإنصات، لا يُنصتون إلى مثل هذا الباطل، كما كان يفعل بعضُ بني أمية؛ يسبّون عليًّا -رضي الله تعالى عنه- على المنبر، ونحو ذلك، فكان بعضُ السَّلف ينشغلون بالحديث فيما بينهم، ويتركونه حتى ينتهي من هذاالكلام الباطل هذا.

ويدلّ أيضًا على مشروعية رفع اليدين في الدُّعاء، لاسيما في الاستسقاء، لكنَّه في الخطبة يقتصر بقدر ما يكون فيه الاستسقاء.

وكذلك أيضًا من الفوائد: أنَّ فعل الأسباب مطلوبٌ، يعني: هنا هذا الدُّعاء هو من باب فعل السَّبب، وأنَّه لايُنافي التَّوكل.

كذلك يُستحبّ الدعاء بمثل هذا، وكذلك تكرار الدُّعاء، وأنَّ الاستسقاء يُشرع يوم الجمعة في حال الخُطبة.

وكذلك أيضًا مُعجزة النبي ﷺ، وكيف أنَّه حينما دعا ﷺ خرجوا في المطر الغزير، وحينما استصحى خرجوا في الشَّمس، كما دلَّ عليه بعض الرِّوايات، وقد دخلوا في المطر.

وفيه أدب النبي ﷺ في الدُّعاء؛ فإنَّه لم يسأل رفع المطر من أصله، بل سأل رفع الضَّرر، وكشف ذلك عن البيوت والمرافق والطُّرق؛ حتى لا يتضرر الناسُ من أهل البلد، ولا من أبناء السَّبيل، وسأل بقاءه في مواقع الحاجة حيث الخصب، والأودية، ونحو ذلك.

ويُؤخذ من ذلك أيضًا: أنَّ الخطبة لا تنقطع بالكلام الخارج عن موضوعها، وكذلك جواز الاستصحاء عند الضَّرر بالمطر.

ويُؤخذ منه جواز التَّوسل بالدُّعاء -دعاء الحيّ-، فهذا لا إشكالَ فيه، لاسيّما في مثل الاستسقاء، فهذا توسّل بدُعاء النبي ﷺ فمُطروا، وبعد وفاة النبي ﷺ كان عمرُ يُقدّم العباس في الاستسقاء ويقول: "اللهم إنا كنا نستسقي بنبيك فتسقينا، اللهم إنا نستسقي بعمِّ نبيك فاسقنا"[28]، فهذا التَّوسل مشروعٌ، لا إشكالَ فيه.

أمَّا التوسل بالأموات فهذا لا يجوز، وأمَّا دُعاء الأموات فهذا شركٌ أكبر، والفرق بينهما: أن التوسل بالأموات أن يقول: أتوسّل إليك بفلان. وكذلك لو أنَّه قال: أتوسّل بجاه فلان، فهذا من البدع، لا يجوز، يعني: هو يدعو الله لكن يتوسّل إليه بجاه فلان، أو بالميت الفلاني، فهذا لا يجوز، وهو من ذرائع الشِّرك، لكن لو قال: يا فلان، أغثنا. فهذا شركٌ أكبر؛ لأنَّه وجّه الدُّعاء إلى غير الله -تبارك وتعالى.

وأمَّا التوسل المشروع فهو التَّوسل بالأعمال الصَّالحة، كأولئك الذين أطبقت عليهم الصَّخرةُ، تقول: اللهم إني أتوسّل إليك بمحبَّتي لك، بمحبَّتي لنبيك ﷺ، اللهم إني أتوسّل إليك بهذه الصَّلاة التي صليناها. فهذا لا إشكالَ فيه.

ويحتاج المؤمنُ حينما يستسقي أن يُحسن الظنَّ بالله ، ويُعظم الرغبة، والرَّجاء، ويُلحّ، ولا يقنط من رحمة الله -جلَّ جلاله-.

والله تعالى أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ،وعلى آله وصحبه.

 

 

  1. أخرجه البخاري: أبواب الاستسقاء، باب من تمطر في المطر حتى يتحادر على لحيته، برقم (1033).
  2. أخرجه البخاري: أبواب الاستسقاء، باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء، برقم (1029).
  3. أخرجه أحمد في "المسند"، برقم (13016)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ على شرط مسلم، رجاله ثقات، رجال الشَّيخين، غير سليمان بن المغيرة؛ فمن رجال مسلم".
  4. متفق عليه:أخرجه البخاري: أبواب الاستسقاء، باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مُستقبل القبلة، برقم (1014)، ومسلم: كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدُّعاء في الاستسقاء، برقم (897).
  5. أخرجه البخاري: كتاب الجمعة، باب رفع اليدين في الخطبة، برقم (932).
  6. أخرجه البخاري: أبواب الاستسقاء، باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء، برقم (1029).
  7. أخرجه البخاري: أبواب الاستسقاء، باب الدعاء إذا كثر المطرُ:"حوالينا ولا علينا"، برقم (1021).
  8. أخرجه البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم (3582).
  9. أخرجه البخاري: أبواب الاستسقاء، باب الاستسقاء في المسجد الجامع، برقم (1013)، وأبواب الاستسقاء، باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مُستقبل القبلة، برقم (1014).
  10. أخرجه مسلم: كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدُّعاء في الاستسقاء، برقم (897).
  11. "شرح النووي على مسلم" (6/193).
  12. أخرجه البخاري: أبواب الاستسقاء، باب الاستسقاء على المنبر، برقم (1015).
  13. أخرجه البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم (3582).
  14. أخرجه مسلم: كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدُّعاء في الاستسقاء، برقم (897).
  15. أخرجه النَّسائي: كتاب الاستسقاء، مُسألة الإمام رفع المطر إذا خاف ضرره، برقم (1527)، وأحمد في "المسند"، برقم (12949)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ على شرط البخاري، رجاله ثقات، رجال الشَّيخين غير عبيدة -وهو ابن حميد-، فمن رجال البُخاري".
  16. أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب التَّبسم والضَّحك، برقم (6093).
  17. أخرجه الحاكم في "المستدرك"، برقم (3176)، وقال: "هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلم، ولم يُخرجاه"، ضعَّفه الألباني في "السلسلة الضعيفة"، برقم (4342).
  18. أخرجه أبو عوانة في "مُستخرجه"، برقم (2499)، وأبو نُعيم في "مستخرجه"، برقم (2021).
  19. أخرجه النسائي: كتاب الاستسقاء، مُسألة الإمام رفع المطر إذا خاف ضرره، برقم (1527)، وأحمد في "المسند"، برقم (12019)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ على شرط الشَّيخين"، وصححه الألباني في "صحيح الأدب المفرد"، برقم (479).
  20. متفق عليه:أخرجه البخاري: أبواب الاستسقاء، باب مَن اكتفى بصلاة الجمعة في الاستسقاء، برقم (1016)، ومسلم: كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدُّعاء في الاستسقاء، برقم (897).
  21. أخرجه مسلم: كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدُّعاء في الاستسقاء، برقم (897).
  22. أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب التَّبسم والضَّحك، برقم (6093).
  23. أخرجه أبو عوانة في "مستخرجه"، برقم (2495).
  24. أخرجه أحمد في "المسند"، برقم (13016)، وقال مُحققوه: "إسناده صحيحٌ على شرط مسلم، رجاله ثقات، رجال الشيخين، غير سليمان بن المغيرة؛ فمن رجال مسلم".
  25. أخرجه البخاري: كتاب الجمعة، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، برقم (933).
  26. أخرجه البخاري: أبواب الاستسقاء، باب من تمطر في المطر حتى يتحادر على لحيته، برقم (1033).
  27. أخرجه ابن ماجه: أبواب إقامة الصَّلوات والسُّنة فيها، باب مسح الحصى في الصَّلاة، برقم (1025)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (6553).
  28. أخرجه البخاري: أبواب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، برقم (1010).

مواد ذات صلة