الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: ففي "باب أدعية الاستصحاء" ذكر المؤلفُ هذا الذكر، أو الدُّعاء: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام، والظِّراب، وبطون الأودية، ومنابت الشَّجر[1]، وقد مضى الكلامُ عليه في الكلام على بعض أدعية الاستسقاء، وذلك يُغني عن إعادته، وهو جزءٌ من ذلك الحديث.
ثم بعد ذلك ذكر دُعاء رؤية الهلال، وذلك ما جاء من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان رسولُ الله ﷺ إذا رأى الهلالَ قال: الله أكبر، اللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان، والسَّلامة والإسلام، والتَّوفيق لما تُحبّ ربنا وترضى -أو والتّوفيق لما يُحبّ ربنا ويرضى-، ربّنا وربّك الله". أخرجه الترمذي[2] وغيره، وفي إسناده كلامٌ معروفٌ لأهل العلم، وقد قال الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-: "في إسناده لينٌ"[3]، وضعَّف إسنادَه أيضًا الحافظُ ابن حجر[4]، وقال الهيثميُّ: "فيه عثمان بن إبراهيم الحاطبي، وفيه ضعفٌ، وبقية رجاله ثقات"[5].
والشيخ ناصر الدين الألباني ضعَّفه في بعض كُتبه[6]، وقال في موضعٍ آخر: "صحيحٌ بشواهده"[7].
ولهذا الحديث شاهدٌ عند الترمذي[8]، وأحمد[9]: عن طلحةَ مرفوعًا، وفيه –يعني- أنَّ النبي ﷺ كان إذا رأى الهلالَ قال: اللهم أهلّه علينا باليُمن والإيمان، والسَّلامة والإسلام، ربي وربك الله. هذا حسَّنه الترمذي، قال: "حسنٌ غريبٌ"، وحسَّنه أيضًا الحافظُ ابن حجر[10]، كما حسَّنه أيضًا مُحقق "المسند"[11].
قوله: "كان إذا رأى الهلال" يدلّ على أنَّ ذلك كان يتكرر منه، يعني: إذا رأى الهلالَ قال ذلك في كل مرةٍ، يعني: يقول ذلك في أول الشَّهر، والهلال إنما يكون في أول الشَّهر، من الليلة الأولى.
وبعض أهل العلم يقول: يكون في الثلاث ليالٍ الأولى، فإذا لم يُرَ إلا بعد ذلك بسبب غيمٍ أو قترٍ أو نحو ذلك؛ فإنَّه يكون قمرًا.
والعرب تُسمِّي الهلال أو القمر في أحواله وتقلباته المختلفة بأسماء، في كل ثلاث ليالٍ من الشهر له اسمٌ عندهم، يمكن أن يرجع إلى كتب الأزمنة عند العرب، وكتب اللغة والمعاجم، تجدون ذلك فيها، كل ثلاث ليالٍ لها اسمٌ عند العرب:
فأول الشَّهر هي التي يُقال لها: غُرّة الشهر، الأيام الثلاثة الأولى، أمَّا الهلال فبعض أهل العلم يقول: إنما يكون في الليلة الأولى. وبعضهم يقول: في ليلتين. وبعضهم يقول: في ثلاث ليالٍ، وبعد ذلك لا يُقال له: هلال.
"كان إذا رأى الهلال" يعني: إذا رآه الإنسانُ في الليلة الرابعة ما تفطن له، ما نظر إليه، لم يتفطن لدخول الشَّهر إلا في الليلة الرابعة، فإنَّه لا يقول ذلك، يكون قد فات أوانه، فات موضعُ هذا الذكر.
اللهم يعني: يا الله، أهلّه هذا أمرٌ من الإهلال، يعني: أطلعه، وأصل الإهلال هو رفع الصَّوت، يُقال: أهلّ بالتَّلبية، يعني: رفع صوته بها، فهذا أصل الإهلال فيما ذكره بعضُ أهل العلم، ثم نُقل إلى رؤية الهلال.
وقد خرجه بعضُ أهل العلم باعتبار أنَّ الناس كان من عادتهم إذا رأوا الهلالَ أن يرفعوا أصواتهم، يُخبرون عنه أنَّه طلع الهلال، فرفع الصَّوت بهذا الإخبار يُقال له: إهلال، ومن هنا قيل له: الهلال، وصار ذلك يُقال لطلوعه؛ لأنه يكون سببًا لرفع أصواتهم بالإخبار عنه.
اللهم أهلّه يعني: أطلعه علينا، وأرنا إياه مُقترنًا بالأمن والإيمان، والإيمان إذا ذُكر مع الإسلام فإنَّ المقصودَ به إقرار وإذعان وانقياد الباطن، وأمَّا الإسلام فهو استسلام الظَّاهر، استسلام الجوارح لله -تبارك وتعالى-.
أهلّه علينا بالأمن والإيمان بمعنى: الطُّمأنينة والرَّاحة والسُّكون، وما إلى ذلك، إنما تحصل للناس هذه الأمور إذا حصل لهم الأمنُ، مع أنَّ بعض هذه المذكورات هي من لوازم الأمن ومُقتضياته، يعني: إذا حصل الأمنُ حصلت الطُّمأنينة، كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً [النحل:112]، فذكر الأمنَ، وذكر الطُّمأنينة، وهذه قضايا مُتلازمة؛ لأنَّ الطُّمأنينة هي سُكون النفس، ولا يحصل ذلك إلا إذا وُجِدَ الأمن، فإذا وُجِدَ الخوفُ لم يحصل سكونٌ ولا طُمأنينةٌ.
فهنا: اللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان، والأمن والإيمان بينهما مُلازمة: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، فالإيمان يكون سببًا للأمن، فإذا وُجد الإيمانُ فإنَّ الناس يُراقبون الله ويخافونه؛ فينزجرون عن كلِّ ما لا يحلّ، فيكون عليهم من المراقبة الذَّاتية لله أعظم من مُراقبة البشر، فإنَّ سلطانَ البشر لا يطّلع على مكنونات نفوسهم، ولا على ما يستترون به من الأقوال والأفعال والاعتقادات، أمَّا الله -تبارك وتعالى- فلا يخفى عليه شيءٌ، فإذا أذعنت النفوسُ بالإيمان انتفت الجريمةُ، وانتفت المعاصي والشُّرور والآفات والذُّنوب التي يُقارفها العبادُ صباح، مساء، إلا ما لا بدَّ منه مما يقع من الإنسان بطريق الخطأ والنِّسيان والذُّهول، وما إلى ذلك.
فهنا: أهلّه علينا بالأمن والإيمان، وفي الرِّواية الأخرى في حديث طلحة : باليُمن والإيمان، واليُمن بمعنى: السَّعادة، وما إلى ذلك.
ثم قال: والسَّلامة والإسلام بالسَّلامة من الآفات والشُّرور، من كلِّ ما يُحاذره الإنسان ويتضرر به، كلّ ما يضرّ.
فهنا قرن السَّلامة بالإسلام، الإسلام هو الظَّاهر حينما ذُكر مع الإيمان، فنبّه بذكر الأمن والسَّلامة على طلب دفع كلِّ مضرَّةٍ، السَّلامة والإسلام بالإيمان والإسلام على جلب المنافع على أبلغ الوجوه، وذلك أنَّه إذا حصل الإيمانُ، وحصل الإسلامُ؛ درَّت البركات والخيرات، وكما قال الله -تبارك وتعالى-: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:96]، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة:66]، فينمو الاقتصاد، ويحصل للناس أنواع الخيرات، والرَّفاهية، والنَّعيم الذي يعجّل لهم في الدنيا.
والله -تبارك وتعالى- يقول: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، فيحصل للإنسان من السَّعادة، وتنتفي عنهم آفات العصر: من القلق، والضِّيق، والكآبة، والحزن، وما أشبه ذلك، إذا كان الإيمانُ مُستقرًّا في نفوسهم، والإسلام عامرًا لظواهرهم، فذكر الأمن والسَّلامة، فهذان تنتفي معهما المخاوف.
وذكر الإيمان والإسلام، وهذه يحصل معها أنواع الخيرات، فجمع ذلك جميعًا: السَّلامة من كل محذورٍ، وتحصيل المطلوب، فتحصل للناس بذلك السَّعادة؛ لأنَّ السعادةَ لا تتحقق إلا بهذا وهذا: انتفاء المضارّ والمخاوف، وتحقق المطالب، وبذلك يكون الإنسانُ سعيدًا، وهذا لا يتحقق له بالمال، ولا يتحقق له بمجرد حصول الأولاد، فكم من إنسانٍ يشقى بماله، عنده أموال كثيرة، لكنَّه في حالٍ يُرثى لها من الشَّقاء والضّيق، وكذلك قد يُرزق بالأولاد، ولكن هؤلاء الأولاد قد يكونون هم سبب الشَّقاء والعلّة التي تطحن جوفه، وهذا أمرٌ مُشاهَدٌ.
إذن القضية هي الإيمان والإسلام، بهما يصلح الولد، وبهما يتنعّم وينتفع بالمال، وتنتفي التَّبعات التي تحصل من جراء ذلك، فهذا بهذه العبارة الوجيزة اشتمل على هذه المعاني العظيمة.
والسلامة والإسلام والتوفيق لما يُحبّ ربنا ويرضى يعني: أنَّ الله -تبارك وتعالى- يهدينا، ويُحقق لنا هذا التوفيق لما يُحبّ ويرضا، هداية التَّوفيق، هداية الإرشاد موجودة في القرآن، وفي كلام النبي ﷺ، فقد بيَّن لنا طريقَ الخير، وطريقَ الشَّر، ولكن هداية التوفيق هذه التي إذا حصلت لعبدٍ حلَّت الهداية في قلبه، ولزم الصِّراط المستقيم: التوفيق لما يُحبّ ربنا ويرضى.
يقول: ربنا وربّك الله، هذا الآن التفاتٌ في الخطاب من الغائب، إذا رأى الهلال قال: اللهم أهلّه، الضَّمير غائب، يعني: الهلال، علينا بالأمن والإيمان، ثم يقول: ربي وربّك الله، يُخاطبه، مثلما نقول: "الحمد لله" ضمير غائب، "رب" هو رب العالمين، "الرحمن" هو الرحمن الرحيم، "مالك" أي: هو مالك يوم الدِّين، "إياك" توجّه إلى الخطاب، فهذا يُسمّى: التفات؛ أن يُنوِّع الخطابَ من غائبٍ إلى حاضرٍ إلى مخاطبٍ، ومن غائبٍ إلى مخاطبٍ، والعكس، ومن مفردٍ إلى جمعٍ إلى مُثنى، وما إلى ذلك من التَّنويع، كما مضى الكلامُ على ذلك في شرح مقدمة ابن جزي في "التفسير".
فهنا يقول: ربنا وربك الله، تنزيهٌ لله -تبارك وتعالى- عن أن يُشاركه مُشارِكٌ في تدبير أمر هذا الخالق، وردٌّ على أولئك الذين يعبدون هذه النّيرات من الشمس والقمر والكواكب، وما إلى ذلك، كلانا مربوبٌ لله -تبارك وتعالى-، ينفذ فينا أمره.
فهذا الهلال إذا طلع ليس له تدبيرٌ ولا تصريفٌ في أمر هذا الخلق، ظهوره إنما هو بتدبير الله -تبارك وتعالى- له: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، فهو مُصرِّف هذه النجوم والكواكب والشمس والقمر بقُدرته، وفق حكمته وعلمه -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه-، فهي تحت أقداره كغيرها من المخلوقات.
فلاحظوا في هذا الدُّعاء، أو في هذا الذكر وما اشتمل عليه من البداية: اللهم أهلّه علينا بالأمن يدلّ على أهمية الأمن، وأنَّه أمر أساس في حياة الناس، ومعاشهم، وأديانهم؛ لأنَّه لا تتحقق لهم الضَّرورات الخمس التي جاء جميعُ الرسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام- لتقريرها، وأجمعوا عليها جميعًا إلا بالأمن.
الضَّروريات الخمس التي هي: إقامة الدِّين من الجانبين: جانب الوجود، وجانب العدم –يعني: بنفي ما يُضاد ذلك-، وكذلك أيضًا حفظ النفس –الثاني-، ثم أيضًا حفظ العقل، والرابع: حفظ العِرْض، والخامس: حفظ المال، هذه الضَّرورات الخمس.
هذه إذا انتفى الأمنُ الناس لا يستطيعون أن يذهبوا: لا لحجٍّ، ولا لعمرةٍ، ولا لجمعةٍ، ولا لجماعةٍ، الناس الآن في البلاد التي يعمّ فيها الخوف -كما نُشاهد- لا يُصلون الجمعة في بعض الأحيان، لا يستطيعون، فيذهب الذَّاهبُ ولا يرجع، لا يستطيع أن يذهب الواحدُ منهم للمدرسة، أو للجامعة، الأولاد يذهبون ويُخطفون.
وكذلك أيضًا فيما يتعلق بالنفوس؛ فتكون حُرمة الدِّماء قد انتفت، فيُقتل القتيل ولا يدري لماذا قُتِلَ؟ ولا يدري القاتل فيما قتله -نسأل الله العافية-، فيستحرّ القتلُ في الناس، ويُصبح ذلك شيئًا مألوفًا، لا يأمن الإنسانُ على نفسه طرفةَ عينٍ، في أيِّ لحظةٍ يمكن أن يأتيه، لا يدري مَن هؤلاء الذين يأتون؟ وما صفتهم؟ وإلى مَن يرجعون؟ فإن نجا من هؤلاء لم ينجُ من هؤلاء، وإن نجا من هؤلاء لم ينجُ من هؤلاء، وإن نجا من هؤلاء لم ينجُ من هؤلاء، نسأل الله العافية.
فكلٌّ يكون قد ربط عصابةً على رأسه، وحمل السِّلاح، ثم بعد ذلك أقاموا مراكز وأماكن ونقاط تفتيش كما يُقال، ثم بعد ذلك يقتل مَن شاء، وليس له طلَّاب، ليس له مَن يطلبه بعد ذلك، يعني: آخر العهد بهذا الإنسان، وقد لا يدري أين ذهب أهله؟ ولا يدرون أين هو؟
فهذا إذا انتفى الأمنُ، فمن البداية -بداية كل شهرٍ-: أهلّه علينا بالأمن يدلّ على أنها مطالب أساسية، لا ينبغي للناس أن يُفرطوا بها، بالأمن والإيمان، الحياة كيف تكون عامرةً بمثل هذه المعاني؟
الإيمان كل شهر أن تكون حياةُ الناس معمورةً بالإيمان، حياة المجتمع معمورة بالإيمان، حياة الأسرة معمورة بالإيمان، حياة الفرد معمورة بالإيمان، يُجدد هذا كل شهرٍ إذا رأى الهلال؛ أن يكون هذا الشهرُ عامرًا بالإيمان وبالسَّلامة والإسلام؛ السَّلامة أن يسلم الناسُ من أذاه، أن يسلم الناسُ من لسانه، أن يسلم الناسُ من جوارحه، أن يسلم الناسُ من قلمه وكتاباته السَّيئة في أعراضهم، أن يسلم الناسُ منه في كل وجهٍ؛ يسلمون من إضلاله: اللهم إني أعوذ بك أن أَضلَّ أو أُضلَّ، أو أَزلَّ أو أُزلَّ، أو أَظلم أو أُظلم، أو أَجهل –يعني: أعتدي- أو يُجهل عليَّ[12]، هذه يقولها كلَّما تذكّر الإنسانُ هذه المعاني كثيرًا؛ لأنها قضايا في غاية الأهمية.
وهذا التَّظالم الذي يقع بين الناس، وهذا العدوان بأنواعه: أكل أموال الناس بالباطل، أو الوقيعة في أعراضهم، أو غير ذلك، هو بسبب نقص إسلامهم وإيمانهم، وإلا فالمسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده، فهذا الذي لا يسلم المسلمون من لسانه ويده إسلامه يكون ناقصًا.
فمثل هذه المعاني العظيمة: السَّلامة والإسلام، في كل شهرٍ يُجدد هذا، وأن يكون قد أسلم لسانُه وجوارحه لربِّه وخالقه -تبارك وتعالى-.
تصوّر لو كنا نستشعر هذه المعاني كيف يكون المجتمع؟! كيف يكون واقعُ الأُمَّة؟! كيف يكون حالها؟! كيف يكون الإنسانُ؟!
يصير كما يمكن أن يُقال أو يُعبر به: يكون حال هذه النَّفس مُسلمة لا شيةَ فيها، كما قيل: لا يُؤذي الذَّر، لا يصل منه أذى لأحدٍ من الناس، إذا جاء يتكلم على أحدٍ تذكّر أنَّ الله يُراقبه ويراه، وأنَّ الملك يكتب، لا يتوقف، فهو يُملي على الملك هذا الكلام الذي يقوله، فليقلّ أو يُكثر، يعرف أنَّ العدَّاد يُحسب عليه، وأنَّه يحمل على ظهره، لكن الغفلة غالبة، وكذلك سؤال التَّوفيق لله -تبارك وتعالى- بما يُحبّ ويرضى، كلّ هذه المعاني يتذكرها المؤمنُ مع رؤية الهلال.
يُؤخذ من هذا الحديث: الفرق بين الإيمان والإسلام كما سبق؛ إذا ذُكِرَا معًا كلّ واحدٍ له معنًى، وإذا ذُكر الإسلامُ وحده دخل فيه الإيمان، وإذا ذُكر الإيمانُ وحده دخل فيه معنى الإسلام.
ويُؤخذ من هذا الحديث: الارتباط بين الإيمان والأمن، والإسلام والسَّلامة؛ فالإيمان هو طريق الأمان، والإسلام هو طريق السَّلامة، فمَن أراد أن يُحقق الأمنَ في نفسه، أو في مُجتمعه؛ فعليه أن يُروض هذه النفس، ويدعو هؤلاء في المجتمع إلى لزوم شرائع الإيمان، وأن يفعل ما من شأنه في دعوتهم أن يُركز الإيمان ويُرسخ الإيمان في نفوسهم، لا تتحول الدَّعوةُ إلى تبصيرٍ للناس في أمور دُنياهم، أن يتحول الدَّاعيةُ إلى مُدربٍ كما يُقال: يتحدَّث عن قضايا دنيوية، وما إلى ذلك.
القضية المطلوبة هي ترسيخ الإيمان، ولا تتحوّل الدَّعوة إلى ما يُسمّى: بالقيم، والدَّعوة إلى القيم، وما إلى ذلك، هذا من الدَّعوة إلى المعروف، ولكن هذه القيم لا تُحقق الصِّدق والأمانة وما إلى ذلك إلا بتحقيق الإيمان، فإذا وجد الإيمان صار الإنسانُ يمتثل ويُتقن العمل الذي يُزاوله، ويصدق في حديثه، ويحفظ الأمانة ويرعاها، ويكون على الحال المرضيَّة لله -تبارك وتعالى-.
لكن حينما نُعلم هؤلاء الناس قضية الصِّدق ونقول: هذه قيمة، ونُعلِّمهم الأمانة، ونقول لهم: هذه قيمة، ونُعلِّمهم قضايا تتعلق بالصِّلة والإحسان والكرم، وما إلى ذلك، ونقول: هذه قيم، هذا جيد، لكن الأساس الذي تُبنى عليه وتنطلق منه هذه القضايا هو الإيمان.
فينبغي أن يكون العملُ بترسيخ الإيمان بالتوحيد لله ، كما هي أول دعوة الرسل، والباقي يتفرَّع من ذلك، فإنَّ الإيمانَ بضعٌ وسبعون شُعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطَّريق.
ويُؤخذ من هذا الحديث: أنَّ المؤمنَ يكون همُّه أن يكون على حالٍ من الصَّلاح والإصلاح والاستقامة على الإيمان والإسلام، فهو يُجدد ذلك في كل شهرٍ.
ويُؤخذ من هذا الحديث في قوله: ربي وربّك الله، لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت:37]، ومن هنا فإنَّه لا يصحّ نسبة أشياء لهذه الكواكب والنجوم والأفلاك مما يحصل في العالم وأحوال الناس، وما يحصل من أمطارٍ وغيرها، فقد مضى الكلامُ على ذلك.
وقد ذكر بعضُ أهل العلم -كالشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله- أنَّ المؤمنَ حينما يقول ذلك لا يستقبل الهلال، يعني: حينما يقول هذا الذكر لا يرفع رأسَه إلى الهلال، ثم يقوله، فيكون كأنَّه يدعو، وهو مُستقبلٌ للهلال؛ وذلك أنَّ الهلالَ لا يُستقبل في الدُّعاء، كما لا يستقبل أيضًا القبر بالدُّعاء.
أيضًا إذا أراد الإنسان أن يدعو الله يستقبل القبلة، إذا وقف عند قبر النبي ﷺ وأراد أن يدعو فإنَّه يستقبل القبلة، فيدعو للنبي ﷺ، وإنما يستقبل للدُّعاء ما يستقبل للصَّلاة، القبلة التي نستقبلها للصَّلاة هي قبلة الدُّعاء.
وقد جاء عن عليٍّ أنَّه قال: "إذا رأى الهلالَ فلا يرفع إليه رأسَه، وإنما يكفي من أحدكم أن يقول: ربي وربّك الله"[13]، يعني: لا يتَّجه إليه، وينظر إلى الهلال ويقول هذا الذكر كأنَّه يدعو الهلال.
وجاء عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- أنَّه كره أن ينتصب للهلال، ولكن يعترض ويقول: "الله أكبر"، ثم يقول هذا الذكر، يعني: يقوله وهو يمضي دون وقوفٍ أمام الهلال وانتصابٍ، أو أنَّه يقول ذلك وهو يستقبل القبلة.
هذا، والله تعالى أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- متفق عليه: أخرجه البخاري: أبواب الاستسقاء، باب مَن اكتفى بصلاة الجمعة في الاستسقاء، برقم (1016)، ومسلم: كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، برقم (897).
- أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما يقول عند رؤية الهلال، برقم (3451)، وأحمد في "المسند"، برقم (1397)، وقال مُحققوه: "حسنٌ لشواهده، وهذا إسنادٌ ضعيفٌ"، ولفظهما: ((اللهم أهلّه علينا باليُمن والإيمان، ...))، وما أورده المؤلفُ هو لفظ ابن حبان في "صحيحه"، برقم (888)، والحاكم في "المستدرك"، برقم (7767).
- انظر: "زاد المعاد في هدي خير العباد" (2/361).
- انظر: "الإصابة في تمييز الصحابة" (3/436)، و"الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية" (4/330).
- "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (10/139)، برقم (17148).
- في "ضعيف الجامع"، برقم (4404)، وحسَّنه في "صحيح الجامع"، برقم (4726).
- "تخريج الكلم الطيب" (ص238)، برقم (162).
- أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما يقول عند رؤية الهلال، برقم (3451).
- أخرجه أحمد في "المسند"، برقم (1397)، وقال مُحققوه: "حسنٌ لشواهده، وهذا إسنادٌ ضعيفٌ".
- انظر: "الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية" (4/329).
- سبقت الإشارة إلى ذلك.
- أخرجه أبو داود: أبواب النوم، باب ما يقول إذا خرج من بيته، برقم (5094)، وضعَّفه الألباني في "ضعيف الجامع"، برقم (60).
- أخرجه ابنُ أبي شيبة في "المصنف" (2/342)، برقم (9729).