الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فهذا باب "الدعاء عند الفراغ من الطَّعام"، وأورد فيه المؤلفُ حديثين:
الأول: ما جاء عن معاذ بن أنس قال: قال رسولُ الله ﷺ: مَن أكل طعامًا فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوّة؛ غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه[1].
أخرجه أصحابُ السُّنن إلا النَّسائي، وسكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: "حسنٌ غريبٌ"، وحسَّنه الحافظُ ابن القيم[2]، والحافظ ابن حجر[3]، ومن المعاصرين: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز[4]، والشيخ ناصر الدِّين الألباني[5] -رحم الله الجميع-.
قوله ﷺ: مَن أكل طعامًا فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه "مَن" هذه تُفيد العموم، وذلك يشمل الرجل والمرأة على حدٍّ سواء: مَن أكل طعامًا، كما يشمل البرَّ والفاجر.
مَن أكل طعامًا فقال ظاهره أنَّ مَن أكل الطَّعام من أجل التَّغذي به، أو أكله من أجل التَّداوي، أو لأي غرضٍ كان؛ فإنَّه يدخل في ذلك.
يقول: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطَّعام ورزقنيه فإنَّ مَن أكل طعامًا لأجل التَّداوي فإنَّه يكون من قبيل الطَّعام، يشمله لفظ "الطَّعام".
فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطَّعام ورزقنيه، الحمد عرفنا أنَّه إضافة المحامد وأوصاف الكمال إلى الله -تبارك وتعالى-، وأنَّ إعادةَ الحمد ثانيًا هذا الذي يُقال له: الثَّناء، وأنَّ المجد والتَّمجيد هو كثرة أوصاف الكمال والسّعة في ذلك.
الحمد لله الذي أطعمني هذا الطَّعام فهذا الحمد لله -تبارك وتعالى- الذي تفضّل وأنعم.
أطعمني هذا الطَّعام ورزقنيه فهذا من قبيل عطف العامِّ على الخاصِّ: "رزقنيه"، "أطعمني"، "رزقنيه" قد يرزق الإنسان الشَّيء ولا يُطعمه: أطعمني هذا الطَّعام، وحينما يأكل الإنسانُ من هذا الطَّعام فهذا رزقٌ من الله -تبارك وتعالى-، فإنَّ ما يطعمه الإنسانُ هو من جملة الرزق، والرزق أوسع من ذلك.
ورزقنيه من غير حولٍ يعني: من غير حيلةٍ مني، ليس ذلك بذكائي ومعرفتي بطرق التَّحصيل؛ تحصيل المكاسب وما إلى ذلك.
ولا قوَّةٍ فإنَّ ذلك لم يحصل بقوَّتي، والقوي قد يأخذ وينتزع بالقوة، والضَّعيف يأخذ بالحيلة، قد يحصل للإنسان ما يحصل له من مطالبه بألوانٍ من الحيلة في طلبه والتماسه، وقد يحصل ذلك بالقوة، فينتزع ذلك بها.
فالشَّاهد أنَّه لم يحصل هذا الطَّعام لك: لا بقوَّتك، ولا بحيلتك، وإنما هو رزقٌ من الله -تبارك وتعالى-، رزقك به، فيستحقّ الحمد على ذلك، وإلا لو وُكِلَ الإنسانُ إلى نفسه وحيلته ودهائه وذكائه وفطنته وخبرته في أنواع المكاسب ودراسته لهذه العلوم فإنَّه قد لا يخرج بشيءٍ.
من غير حولٍ مني ولا قوَّةٍ؛ غُفر له ما تقدَّم من ذنبه، "غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه" هذا حمله أهلُ العلم على الصَّغائر، وأنَّ الكبائر تحتاج إلى توبةٍ، لكن هذا العمل اليسير، أن يقول هذه الجُملة بعد الأكل: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوةٍ، ثم بعد ذلك يُغفر له ما تقدّم من ذنبه، فهذا يدلّ على سعة فضل الله -تبارك وتعالى-، وكثرة الأسباب التي بها يحصل غفران الذُّنوب، فإنَّ هذا له أسباب كثيرة: كالتَّوبة وغيرها، وبعض هذه الأسباب هو في غاية اليُسر، فالذُّنوب قد تُكفَّر بالتوبة، وقد تُكفَّر بحسنات ماحية، وقد تُكفَّر بمصائب تقع للإنسان، وقد تُكفَّر بشفاعةٍ، وقد تُكفَّر بمثل هذا: الصَّلاة إلى الصَّلاة، الوضوء، وكذلك ما يقوله بعد الطَّعام، ونحو ذلك مما جاء عن رسول الله ﷺ.
وجاءت صيغٌ أخرى للحمد غير هذه الصِّيغة، فكلّ ما ثبت عن رسول الله ﷺ يُشرع أن يُقال، ويمكن أن يُنوع المسلمُ: تارةً يقول هذا، وتارةً يقول هذا.
ومن ذلك ما جاء من حديث أبي أمامة : أنَّ النبي ﷺ كان إذا رفع مائدته قال: الحمد لله كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه، غير مكفيٍّ، ولا مُودّعٍ، ولا مُستغنًا عنه ربّنا[6]، وفي لفظٍ: ربّنا، يقوله إذا رفع مائدته. هذا الحديثُ أخرجه البخاري في "صحيحه".
وقوله: كان إذا رفع مائدته عرفنا أنَّ مثل هذا التركيب يدلّ على التَّكرار والمداومة، وفي لفظٍ: إذا فرغ من طعامه، "إذا فرغ من طعامه" هذا ظاهرٌ، لا إشكالَ فيه، ولكن قوله: إذا رفع مائدته، المائدة هنا فسَّرها بعضُهم بالخوان، ويُقال أيضًا بالضمِّ: الخُوان، وهو ما يُوضَع عليه الطَّعام.
وجاء من حديث أنسٍ أنَّه قال: بأنَّ النبي ﷺ ما أكل على خوانٍ قطّ؛ لكمال تواضعه ﷺ، فهل المائدة هنا خوان عليه طعامٌ؟
بعضهم قال: نعم، وأمَّا حديث أنسٍ فقالوا: إنما أخبر بحسب ما كان يعلم، فلم يُشاهد النبيَّ ﷺ يأكل على خوانٍ، والمثبِت مُقدَّمٌ على النَّافي في الأصل، فهذا حفظ وأثبت ذلك.
وبعضهم يقول في الجواب عن هذا: بأنَّ المائدةَ تُطلق على ما يُوضَع عليه الطَّعام مطلقًا، فالسُّفرة يُقال لها ذلك، يعني: لا يُشترط أن تُفسّر المائدةُ بالخوان، فقد تكون المائدةُ بصفة الخوان، وقد تكون بغيره، كما لو وُضعت على سفرةٍ كما يفعل الناس، وأمَّا الخوان فهو فوق ذلك، يعني: الخوان مثل ما يُوضَع من طاولة طعامٍ، وقد تكون طاولةُ الطعام ربما يجلس عليها المتربع، أو الجالس على الأرض، فتكون طاولة طعامٍ، لكنَّها قصيرة القوائم، يجلس الناسُ على الأرض ويأكلون منها، هذا الذي كان معروفًا في السَّابق؛ الناس وهم جلوسٌ على الأرض يأكلون على طاولةٍ، ما يمكن أن نُسميه: طاولة، لكنَّها قصيرة القوائم، بحيث تكون على قدر الجالس على الأرض، يُقال لها: خوان.
فهذه كان الناسُ يجلسون عليها، النبي ﷺ لكمال تواضعه، يقول أنسٌ : "ما جلس على خوانٍ قطّ".
أمَّا المائدة فقد تكون هي ما يُوضَع تحت الطَّعام، أو ما يُوضع ويُوضع فوقه الطَّعام، فقد تكون هذه عبارة عن سفرةٍ مُتواضعةٍ، وقد تكون خوانًا.
وهنا: "كان إذا رفع مائدته"، فيكون هذا وجهًا في الجمع بين النَّفي الوارد عن أنسٍ ، وكون النبي ﷺ إذا رفع مائدته قال: الحمد لله كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه، فمعنى الحمد: إضافة أوصاف الكمال إلى الله، ذكر الله بأوصاف الكمال، ذكره بالجميل: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه، كثيرًا لا نهايةَ له، كما أنَّه لا أحدَ يُحصي نعمَه وأفضالَه على خلقه.
طيبًا ليس فيه لفظٌ يُعاب، وليس فيه نقصٌ من جهة المعنى، وليس فيه أيضًا خللٌ من جهة القصد: الرِّياء والسُّمعة، فقد يُكثر الإنسانُ من الحمد بحضرة الناس، لكنَّه يُرائي، أو يُسمّع، فمثل هذا لا يكون من الحمد الطَّيب، وقد يكون حمده قليلاً، لا يكاد يحمد الله ، يأكل ويقوم، تغلب عليه الغفلة، ولكن هذا حمدٌ كثيرٌ ومُباركٌ، يعني: عرفنا البركة أنها الكثرة، تدلّ على الكثرة والنَّماء في الخير، ونحو ذلك.
قال: مُباركًا فيه هذا يرجع إلى الحمد، يعني: حمدًا ذا بركةٍ، دائمًا، لا ينقطع؛ لأنَّ نِعم الله تترى، لا تنقطع عن عباده، فكذلك ينبغي أن يكون الحمدُ غير مكفيٍّ، ما المراد بذلك؟
هذه الجملة: غير مكفيٍّ تحتمل أن تكون من كفأت الإناء، يعني: إذا قلبته، كفأت الإناء، هذا يحتمل، ويكون المعنى بهذا الاعتبار يعني: غير مردودٍ عليه إنعامه، تقول: فلان كفأ نعمته، بلهجة العوام اليوم: "كب النعمة"، لا زال بعضُ الناس يستعمل مثل هذه العبارة، يقولون: "فلان كب نعمته"، بمعنى: كفأها، من كفأت الإناء، فهذا معنى ذكره بعضُ أهل العلم.
ويحتمل أن يكون من الكفاية، يعني: أنَّ الله -تبارك وتعالى- غير مكفيّ، ماذا غير مكفي؟ رزق العباد؛ لأنَّه لا يكفي بذلك أحدٌ سواه، مَن الذي يُعطيهم ويُنعم عليهم؟ هل يمكن أن يقوم أحدٌ مقام الله في هذا؟
ومن أسمائه -تبارك وتعالى- الرَّزاق، والغني، والقيوم، والكريم، والواسع، ونحو ذلك من الأسماء الدَّالة على سعة غناه وعطائه، وكثرة إنعامه وإفضاله، غير مكفيّ الرزق للعباد، فلا يكفي في ذلك أحدٌ سواه.
تقول أحيانًا: أنا أكفيك هذا العمل، أنا أكفيك فلانًا. وقد تقول للواحد من الناس: أنا أكفيك رزقك، أنا أكفيك المؤونة التي تحتاج إليها، فهذا الله -تبارك وتعالى- لا يكفي أحدٌ خلقَه سواه.
وبعضهم فسَّره بأنَّه بمعنى: غير، يعني يقول: أنا يا ربّ غير مُكتفٍ بنفسي عن كفايتك، غير مكفيّ أنا، فيصير الضميرُ يرجع إلى المتكلم: غير مكفيّ يا ربّ.
ولا مُستغنًى عنه أي: الله، فأعاد الضَّمير في "مكفيٍّ" إلى المتكلم، إلى المخلوق القائل، معناه: لم أكتفِ، يعني: بنفسي.
وبعضهم يقول: معناه: لم أكتفِ من فضل الله ونعمته، يعني: أنا أطلب المزيد، غير مكفيٍّ، وهذا لا يخلو من بُعْدٍ، والله تعالى أعلم.
فالمقصود من ذلك أنَّ من أهل العلم مَن أعاده إلى الطَّعام، ومنهم مَن أعاده إلى الله -تبارك وتعالى-، وهذا هو الأقرب.
وقد ذكر جمعٌ من أهل العلم هذه المعاني، منهم الحافظ ابن القيم[7] -رحمه الله-، لكن كأنَّ هذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم-، وذلك أنَّ القاعدة: أنَّ توحيد مرجع الضَّمائر أولى من تفريقها، فلو نظرنا إلى لفظ الحديث: الحمد لله هذا قطعًا، كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه، غير مكفيٍّ أي: الله، ولا مُودّع أي: الله، ولا مُستغنًى عنه أي: الله، قال: ربنا يعني: يا ربنا، فكأنَّ هذا هو الأقرب -والله أعلم-، وهذه القاعد تُؤيد ذلك.
غير مكفيّ يعني: الرزق، والإنعام، والإفضال، والعطاء، وما إلى ذلك، لكن من أهل العلم مَن اعتبر ذلك من قبيل المهموز: كفأ، ففسره بهذا الاعتبار، وهي رواية، ولكن الرواية المشهورة أنَّه بغير همزٍ، كأنَّ شيخ الإسلام[8] في ظاهر كلامه يميل إلى المهموز.
ومن أهل العلم مَن ردَّ هذا، ومنهم الحافظ ابن القيم[9] في ظاهر كلامه: أنَّه ليس بالهمز، أنَّ غير الهمز أرجح، وهذا هو الأشهر، وهو الذي مشى عليه عامَّة الشُّراح، لكن هذه المعاني هي مبنية على أنَّه مهموزٌ من كفأ، أو غير مهموزٍ من الكفاية؛ ولذلك مَن فسَّره بأنَّه مهموزٌ قالوا: غير مُكافأ، "مكفي" يعني: لا نستطيع أن نُكافئه، فسهلت الهمزة: لا نُكافئ الله على الإنعام والإفضال الذي امتنَّ به علينا.
وبعضهم يقول: هذا الذي أكلنا ليس فيه كفاية لما بعده، بحيث إنَّه ينقطع ويكون هذا آخر العهد بالطَّعام، بل هو غير مُنقطعٍ عنا بعد هذا، بل تستمر هذه النِّعمة وتترى وتتتابع، لا تنقطع.
غير مكفي، ولا مُودّع فسّر "ولا مُودّع" يعني: ولا متروك الرَّغبة والطَّلب والتَّوجه إليه -تبارك وتعالى- بطلب إنعامه ورزقه وفضله، لا غنى عن نعمته -تبارك وتعالى-، وإلى مَن يلجأ الخلقُ؟! فلا يكفهم أحدٌ سواه.
ولا مُودّع، ولا مُستغنًى عنه "لا مُستغنى عنه" معناه: أنَّ الله -تبارك وتعالى- هو المنعم والمطعم والكافي، وليس بمُطْعَمٍ، ولا مكفيّ، كما قال الله : وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ [الأنعام:14]، "ولا مُستغنى عنه" لا أحد يستطيع أن يستغني عن نعمة الله ويقول: أنا عندي أرصدة، وعندي أموال، وعندي خزائن من الطعام، ونحو ذلك، من أين جاءت؟ ويمكن أن يذهب ذلك جميعًا في لحظةٍ، وليس في ليلةٍ، في لحظةٍ قبل أن يتمّ كلامه هذا يمكن أن يذهب.
وقد قصَّ الله علينا خبرَ صاحب الجنَّة: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ [الكهف:36]، فماذا قال؟ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا [الكهف:36]، وحمله على ذلك شدّة وثوقه بهذه الجنة؛ لما تفجر النهر خلال هذه الأشجار والنَّخيل ظنَّ أنَّ هذا غير قابلٍ للزوال، فإنها ليست بعينٍ فتنقطع، ولا ببئرٍ فيجفّ، ولا بمطرٍ يُنتظر، فقد يتأخّر، ثم بعد ذلك تيبس، بينما هو نهر يتفجّر بينها، فماذا قال؟ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف:36]، حمل هذا على الغرور.
ثم بعد ذلك أيضًا أنَّه على فرض قيام السَّاعة لو رُدَّ إلى الله -تبارك وتعالى-، قال: لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [الكهف:36]، سأجد أفضلَ منها، الذي أعطاني هنا سيُعطيني هناك أفضل من هذه الجنَّة: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6- 7].
فالحاصل أنَّ هذا الإنعام وهذا الإفضال لا يمكن لأحدٍ أن يستغني عنه طرفةَ عينٍ، فذاك الذي اغترَّ بثمره الله -تبارك وتعالى- أهلك ذلك الثَّمر: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف:42].
فهذا كلّه يمكن أن تُفسر به هذه الجملة، والله تعالى أعلم.
كل أحدٍ يمكن أن تستغني عنه إلا الله ، وإذا أنعم أدام النِّعَم، وهو أغنى وأقنى، ولا يستغني عنه مخلوقٌ بحالٍ من الأحوال: ولا مُستغنًى عنه ربّنا، "ربنا" هذا يمكن أن يكون قد نُصب على الاختصاص، أو يكون على المدح، أو يكون تأكيدًا، كأنَّه قال: يا ربنا، اسمع حمدنا ودُعاءنا.
وبعضُهم يقول: إنَّ ذلك يرجع إلى ما ذُكر قبله، يرجع إلى الحمد، كأنَّه قال: "الحمد لله حمدًا كثيرًا، غير مكفيٍّ، ولا مُودَّعٍ، ولا مُستغنًى عن هذا الحمد ربنا".
وأمَّا على الرفع: "ربُّنا" فهذا على القطع، فكأنَّه من قبيل الخبر، كأنَّه قال: ذلك ربُّنا، أو أنت ربُّنا، ونحو ذلك من العبارات، هذه صيغة أيضًا من صيغ الحمد ثابتة عن النبي ﷺ.
والمؤلف ذكر هاتين الصِّيغتين، لو أنَّ أحدًا قال بعد الأكل: الحمد لله، فإنَّ ذلك يجزيه، لكن الأبلغ أن يأتي بمثل هذه الصِّيغ -والله تعالى أعلم-، تربية النَّفس على مثل هذا: استشعار النِّعمة والمنعم بعد الفراغ من الطَّعام، كل ذلك داخلٌ في قوله -تبارك وتعالى-: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، فإنَّ الشُّكر يكون باللِّسان، ويكون أيضًا بالقلب، ويكون بالجوارح: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا [سبأ:13]، فالعمل يكون شكرًا، كما قال الشَّاعر:
أفادتكم النَّعماء مني ثلاثة | ................[10] |
وذكر هذه المواضع الثلاث التي يقع عليها الشُّكر: "فيدي ولساني والضَّمير المحجب" يعني: أنَّ الشكر يكون باليد: بالعمل في الخدمة، وباللسان: فيلهج بالحمد، والقلب: فيستحضر ذلك، يقوم ذلك بالقلب -والله تعالى أعلم.
- أخرجه أبو داود: كتاب اللباس، برقم (4023)، والترمذي: أبواب الدَّعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما يقول إذا فرغ من الطَّعام، برقم (3458)، وابن ماجه: أبواب الأطعمة، باب ما يُقال إذا فرغ من الطَّعام، برقم (3285).
- "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص127).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/303).
- "مجموع فتاوى ابن باز" (26/45).
- "صحيح الجامع"، برقم (6086)، و"إرواء الغليل"، برقم (1989).
- أخرجه البخاري: كتاب الأطعمة، باب ما يقول إذا فرغ من طعامه، برقم (5458).
- "زاد المعاد في هدي خير العباد" (1/143).
- انظر: "مجموع الفتاوى" (1/41).
- انظر: "صيغ الحمد" (ص30).
- "حاشية البجيرمي على الخطيب = تحفّة الحبيب على شرح الخطيب" (1/32).