الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فهذا باب "دعاء الصَّائم إذا حضر الطَّعام ولم يُفطر"، وذكر فيه المؤلفُ حديثًا واحدًا، وهو ما جاء عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسولُ الله ﷺ: إذا دُعِيَ أحدُكم فليُجب، فإن كان صائمًا فليُصلِّ، وإن كان مُفطرًا فليطعم[1].هذا الحديث أخرجه الإمامُ مسلم -رحمه الله- في "صحيحه".
وقوله ﷺ: إذا دُعِيَ أحدُكم فليُجب هذا أمرٌ، وظاهر الأمر الوجوب، والقاعدة الأصوليَّة: أنَّ الأمرللوجوب إلا لصارفٍ[2]،ومن هنا وقع خلافٌ مشهورٌ بين أهل العلم في حكم إجابة الدَّعوة إذا دُعِيَ، مع الاتِّفاق على أنَّه إن وُجد في الدَّعوة مُنكر فإنَّه لا تجوز الإجابة، لكن إذا خلا ذلك من مُنكرٍ؛ فذهب بعضُ أهل العلم إلى أنه تجب إجابةُ الدَّعوة التي تكون فيوليمة العُرس، الدَّعوة إلى العُرس، أنه يجب عليه أن يُجيب: إذا دُعِيَ أحدُكم فليُجب، مع أنَّ ظاهر هذا الحديث الإطلاق، ولكن بعض أهل العلم نظر في الأحاديث الأخرى؛ فعدَّ ما كان من قبيل المطلق محمولاً على ما جاء مُقيدًا بالوليمة، وأنَّ الوليمة تُقال في عُرف الاستعمال، عُرف استعمالالمخاطبين لوليمة العُرس.
هكذا فهم بعضُ أهل العلم، فقيَّدوا ذلك-يعني: الوجوب- بوليمة العُرس، أنَّه يجب عليه أن يُجيب، سواء كان صائمًا، أم مُفطرًا، يعني: ولو كان صائمًا يُجيب، وكونه يُجيب لا يلزم من ذلكأنه يُفطر، هذه مسألة أخرى، المقصود أنه يُجيب هذه الدَّعوة فيحضر، ثم بعد ذلك يكون ما قاله ﷺ ووجّه وأمر به.
ممن ذهب إلى أنَّه تجب عليه الإجابة في العُرس، سواء كان صائمًا، أم مُفطرًا، بصرف النَّظر عن الأكل: الإمام مالك[3] -رحمه الله-، وهذا قال به كثيرون، وهو ظاهر صنيع البُخاري -رحمه الله- في تبويبه في الصَّحيح[4]،بل قال ابنُ عبدالبرِّ، وهو من عُلماء المالكية، وهو من الحفَّاظ الكبار، حافظ المغرب، يقول: لا أعلم خلافًا فيوجوب إتيان الوليمة لمن دُعِيَ إليها[5] إن لم يكن فيها منكرٌ ولا لهوٌ[6].اللَّهو: المعازف، يعني: إلا ما رخّص فيه، هذا ليس من كلامه، أقول: إلا ما رخّص فيه، وهو ما يتعلّق بضرب الدُّف للنِّساء.
لكن كما هو معلومٌ الآن لا تكاد تخلو دعوةٌ للنساء من منكرٍ، فإن خلت من المعازف، أو ما يقوم مقامها مما يُسمّى: بالمؤثرات الصَّوتية، ويُسمونه أحيانًا: دي جيه إسلامي، وزواج إسلامي، وما أشبه ذلك، والمكان صاخبٌ بهذه المؤثرات التي تُؤدي مُؤدّى المعازف، فلا يشترط بالمعازف أن يأتي بالطّنبور، أو بالعود، أو بطبلٍ، أو نحو ذلك، وإنما ما يُؤدِّي هذا الأداء، ويُورث مثل هذه الأصوات أيًّا كان، ولو كان بفمه يستطيع أن يُحاكي ذلك، فهذا له حكم المعازف وآلات اللَّهو، فإنَّ العبرةَ بالنتيجة، وليست العبرةُ بصورةٍ ظاهرةٍ وآلةٍإن حضرت حصل التَّحريم، وإن غابت فإنَّ الحكمَ ينتقل إلى الجواز، والصَّوت واحدٌ.
العِلَّة من أجل الصَّوت، هو ما يُورثه هذا الصّوت من أنواع الشُّرور، والآفات، والغفلة، واللَّهو، وحضور الشَّياطين.
وإذا خلت تلك الدَّعوات للنِّساء في الغالب من هذه الأصوات، والمعازف، ونحو هذا؛ فإنها لا تخلوفي الغالب من التَّكشف، واللِّباس المنكر الذي تلبسه بعضُ النِّساء، هدى الله الجميع، تلبس ألبسةً تُظهر مفاتن الجسد، تكشف عن مواطن في الجسد لا يجوز لها أن تكشفها إلا أمام زوجها فقط، وتتكشّف هذا التَّكشف ظانَّةً أنَّ ذلك يحلّ أمام النِّساء، وهذا لا يحلّ، فالمرأة لا يجوز أن تُظهر هذه المفاتن أمام النساء، ولا أمام المحارم، إنما يظهر منها ما يظهر عادةً: كالوجه، والكفّين، وموضع السِّوار، وموضع القِلادة في أعلى العُنق، والأقدام، والشّعر، ونحو ذلك مما يظهر من أهل الحشمة والسّتر.
وقد تكلمتُ على هذه المسألة في مناسبات عدّة، وذكرتُ بعضَ الأدلة التي تدلّ عليها، فهذا الفعل وهذا الصَّنيع يُعدّ من المنكرات، وتستطيع المرأةُ أنها لا تحضر، بل هي مأمورة بالقرار في بيتها، ومن ثم من أجل ألا تغضب فلانة، أو تعتب فلانة، تستطيع المرأة أن تُبين عن نهجٍ تتبعه مع الجميع، تقول: أنا لا أحضر هذه الزيجات، والسَّلام، لا يغضب أحدٌ، أو يقول: حضرتِ لفلانة، وما حضرتِ لفلانة! أنا ما أحضر هذه الزيجات.
دعك مما يكون في هذا من الإسراف والتَّضييع، لو أنَّكلَّ امرأةٍ فقط تُضيع نهارًا من أجل أن تبحث عن اللباس والقماش المناسب، وتُضيع نهارين من أجل أن تختار الموديل المناسب؛ لأنَّ ذلك قد رُئي عليها من قبل في مناسبةٍ أخرى،"شُوهِد" بالبناء للمجهول، مَن الذي شاهده؟! فإذا شُوهد لا يمكن أن يُعاد، ولا يمكن أن يُلبس مرةً أخرى، فإنَّ هذا عندهم مما يُوجِب المقت.
وهذا -للأسف- لا يمكن أن يُستساغ: لا من ناحية الشَّرع، ولا من ناحية العقل، ولا من ناحية الذّوق السَّليم، شُوهد عليها، فتُضيع هذه الأوقات في البحث عن القماش المناسب، وعن التَّسريحة المناسبة، فتذهب أموالٌ، ربما لا يقلّ ما تبذله الواحدةُ في أقلّ الأحوال عن ألفي ريالٍ، أو ثلاثة آلافٍ، هذا الأقلّيصل إلى أكثر.
فتصور لو أنَّها في الإجازة الصَّيفية تحضر فقط ثلاث زيجات، فهذه تحتاج إلى ما يقرب من عشرة آلاف فقط على اللِّباس، وإذا كان الحضورُ في المناسبة يقرب بأقلّ الأحوال من مئتي امرأةٍ، فاضرب في الزواج الواحد، لو قلنا: إنها فقط تخيط بألفين، فإذا ضربت ذلك بمئتين من النِّساء من الحضور، مئتي امرأة، فكم تكون النَّتيجة؟! هذا فقط في الثوب، دعك من الأشياء الأخرى التَّابعة!
هذا كلّه لا يليق، ولا يسوغ بحالٍ من الأحوال، فلو أنَّ المرأة المسلمة ابتعدت عن هذا، وقالت: أنا لا أحضر هذه المناسبات، واستراحت؛ لكان خيرًا لها.
المقصود -أيّها الأحبّة- أنَّ هذه الدَّعوة إن كان فيها منكرٌ؛ فبالاتِّفاق لا يجوز الحضور، فإن لم يكن فيها منكرٌ؛ فإنَّ الإجابة من أهل العلم مَن يقول: بأنّه يُجيب ولو كان صائمًا، لو كان صائمًا في وليمة العُرس.
ومن أهل العلم مَن أطلق القولَ بالوجوب في العُرس وغيره؛ أنَّ ذلك من حقِّ المسلم على المسلم، وللإطلاق الموجود في مثل هذا الحديث، مع أنَّ الأكثر يقولون: إنما يجب في وليمة العُرس.
وقد يقول قائلٌ: كيف يكون صائمًا في وليمة العُرس؟
الجواب: أنَّ النبي ﷺ أولم، أو صنع طعامًا دعا الناسَ إليه من الغد، يعني: دخل ﷺ في الليلة التي تكون قبل الوليمة، ثم بعد ذلك يدعوهم من النَّهار على غداءٍ ونحوه، هكذا فعل -عليه الصلاة والسلام-[7].
ومن أهل العلم مَن يقول: هذا هو السّنة؛ أن تكون الوليمةُ بعد الدُّخول في اليوم الثاني، يدعوهم نهارًا.
ومنهم مَن يقول: يمكن أن تكون قبل الدُّخول، والأمر في هذا سهلٌ وواسعٌ، وأعراف الناس وما اعتادوا عليه، لكن مثل هذا السَّهر الطَّويل -لاسيّما النِّساء- إلى بزوغ الفجر، هذا أمرٌ منكرٌ، لا يليق أن يُقضى الليل في لهوٍ وطربٍ إلى طلوع الفجر، أو ما يقرب من ذلك في أوقات السَّحر.
إذا كان صائمًا النبي ﷺ هنا قال: فإن كان صائمًا فليُصلِّ، وإن كان مُفطرًا فليطعم،ما قال: إذا كان صائمًا فليطعم، فليُفطر، ما قال هذا، ومن هنا اختلف أهلُ العلم في الإفطار لمن كان صائمًا، مع الاتِّفاق على أنَّه إن كان الصومُ من رمضان فلا يجوز له الفطر، وإن كان لغير رمضان، كالصّوم الواجب: الكفَّارات، ونحو ذلك مما يجب فيه التَّتابع؛ فقطعًا لا يجوز له الفطر، فإن كان ذلك مما لا يجب فيه التَّتابع: كالقضاء، فمن أهل العلم مَن يقول: لا يجوز له قطع القضاء إلا لعذرٍ يصحّ به القطع في رمضان، يعني: ما يُبرر له القطع في رمضان هو الذي يُبيحله القطع في القضاء، وهذا هو الأقرب-والله أعلم-، وإن كان لا يترتب عليه ما يترتب عليه فيرمضان، يعني: لو أفطر بالجماع في رمضان فعليه عتق رقبةٍ، فإن لم يستطع فصيام شهرين مُتتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا،لكن لو أفطر بالجماع في قضاء رمضان، نقول: لا يجوز، ولكن عليه أن يقضي يومًا بدلاً من هذا اليوم، ويكون عليه يومٌ واحدٌ هو يوم رمضان لم يقضِه بعد، وانتهك حُرمته، وما كان ينبغي له ذلك، فهنا إذا كان الصومُ واجبًا؛ فإنَّه لا يُفطر.
بقي إذا كان الصومُ مُستحبًّا فما الحكم؟
من أهل العلم مَن فصَّل، وقالوا: إنَّه يختلف باختلاف الأحوال، فإذا كان عدم الفطر يُورث وحشةً، وتقع بسببه مفسدةٌ أكبر: من قطيعةٍ، أو خصومةٍ وعداوةٍ، ونحو ذلك، فيجب عليه الفطر، إذا كان يُؤدي إلى مفسدةٍ أكبر؛ فيترك المستحبّ الذي هو صوم التَّطوع من أجل دفع مفسدةٍ أكبر، وإذا كان لا يصل إلى هذا، ولكنَّه يسرّه-يعني: المضيف- أن يُفطر ضيفُه، وأن يطعم، ويفرح بذلك ويبتهج، قالوا: يُستحبّ له الفطر؛ لإدخال السُّرور عليه، ومُؤانسته بذلك.
وإذا استوى الأمران عنده، أو كان يفرح بصومه، ولا يُحبّ قطعه، ويقدّر له هذا، ويشكره على مجيئه، وتعنّيه؛ ففي هذه الحال الصوم أفضل، والنبي ﷺ قال: فليقل: إني صائم[8].
وعلى كل حالٍ، ذهب أكثر الشَّافعية، وكذلك بعضُ الحنابلة إلى أنَّه يُستحبّ له الفطر في غير الصّوم الواجب، إذا شقَّ على صاحب الوليمة امتناعه، إذا أبى أن يُفطر، وشقَّ ذلك على صاحب الوليمة؛ فإنه يُستحبّ له الفطر، ولكنَّه لا يجب[9]، لكن لا شكَّ أنَّه إذا أدَّى إلى مفسدةٍ أكبر؛ بعض الناس يُصرّ عليه أبوه، أو مَن له حقٌّ عليه،كابنه، أو نحو ذلك، يُصرّ عليه بالفطر، ويُلحّ عليه، وأحيانًا يُقسم عليه لسببٍ، أو لآخر، ومع ذلك يُصرّ على إتمام الصوم، ويبقى في حالٍ من اللّجاج، أو العناد، أو نحو ذلك، هذا لا يليق، وإنما يُفطر، ويحتسب عند الله -تبارك وتعالى-.
مثل هذا إذا كان مُفطرًا، فهل يجب عليه أن يأكل، أو لا يجب عليه؟
النبي ﷺ ماذا قال هنا؟
قال: إذا كان صائمًا فليُصلِّ، وإن كان مُفطرًايعني: لم يصم فليأكل، فهذا أمرٌ، وظاهر الأمر الوجوب، فما حكم الأكل؟
من أهل العلم مَن قال: إنَّه لا يجب، إذا حضر فإنَّه لا يجب عليه أن يأكل، حضر وليمةَ عُرسٍأو وليمةً أخرى؛ فإنَّه لا يجب عليه أن يأكل، وإنما الحضور يحصل به المقصود من إكرام صاحب الدَّعوة بالمجيء إليه، ونحو ذلك، ولا يجب عليه أن يأكل.
وهذا منقولٌ عن الإمام مالك[10]، ولو في وليمة العُرس: أنَّ ذلك لا يجب، وهو مذهبٌ، وهو الأصحّ عند الشَّافعية، واختاره الإمام النَّووي -رحمه الله-[11].
ولكن على كل حالٍ، الجمهور يقولون: إنَّه مندوبٌ، الأكل من الوليمة مندوبٌ، ولا يجب، وهذا النَّدب يتحقق بماذا؟
قالوا: أقلّ ذلك لقمة، المهم أنَّه أكل من هذه الوليمة.
ومن أهل العلم مَن فرَّق، قال: يجب في وليمة العُرس أن يأكل، والنبي ﷺ أمره هنا أن يطعم، قالوا في وليمة العُرس: يجب عليه الأكل، وتجب عليه الإجابة، وأن يأكل منها. وهذا تدلّ عليه بعض ظواهر النصوص، وظاهر هذا الحديث يدلّ على وجوب الأكل -والله تعالى أعلم-، فيُفرّق بين وليمة العُرس، وبينغيرها.
لكن لو أنَّه استأذن صاحب الدَّعوة، فأذن له؛ فلا بأس، يقول: تأذن لي؛ الوقت يضيق عليَّ، أحتاج أني أنصرف، أنا مشغول، ويدعو له، فإن أذن له فلا إشكالَ،وإن لم يأذن له بقي وأكل من هذه الوليمة، وكما قلتُ: الجمهور يقولون: لا يجب.
وقوله ﷺ هنا الأمر لمن كان صائمًا، قال: فليُصلِّ، ما المقصود بقوله: فليُصلِّ؟
الذي ذهب إليه الجمهور أنَّ المقصود: أنَّه يدعو: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ[التوبة:103]يعني: ادعُ لهم، فالصَّلاة في اللغة بمعنى: الدُّعاء، فيدعو لهم، يدعو لهم بماذا؟
بعض العلماء يقولون: بالمغفرة:اللهم اغفر لهم، وارحمهم، أن يدعو لهم، بعضُهم يقول: بالبركة، يجمع بين هذا وهذا، يدعو لهم بالمغفرة، ويدعو لهم بالبركة: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم، وارحمهم[12]،يجمع لهم بين هذا وهذا، فهذا الذي عليه عامَّة أهل العلم: أنَّه يدعو لهم إذا كان صائمًا.
من أهل العلم مَن فهم من الصَّلاة هنا أنَّه يُصلي ركعتين، أو ما شاء، لكن ذلك يتحقق بصلاة ركعتين بأيِّ اعتبارٍ؟
قال: فليُصلِّ، احتجُّوا بأمرين:
الأمر الأول: أنَّ المعنى الشَّرعي للصلاة،في لغة الشَّارع إذا ذُكرت الصَّلاة فالأصل أنها: الصَّلاة الشَّرعية، ولا تُحمل على المعنى اللُّغوي إلا لصارفٍ، فهنا يُصلِّي، معناها: أنه يُصلي.
قالوا: والدَّليل الآخر: أنَّ النبي ﷺ فعل ذلك حينما كان صائمًا؛ صلَّى في بيت أم سُليم[13]. وقالوا: هذا يحصل به أجرٌ لهذا المصلِّي، وبركة له، ولأهل البيت الذين دعوه حينما صلَّى في دارهم.
وبعض أهل العلم قال: يجمع بين الأمرين؛ لأنَّه أطلق، قال: فليُصلِّ، فيُحمل ذلك على أعمِّ معانيه، قالوا: يدعو لهم، ويُصلِّي أيضًا، يعني: ركعتين، فأكثر.
وعلى كل حالٍ،قوله: "إني صائم" يُخبرهم بالصيام، والأصل إخفاء الأعمال، فيكون هذا الإخبارُ لموجبٍ؛ من أجل ألا تحصل وحشةٌ، فإنَّه إن لم يأكل عندهم فإنَّ ذلك يُورث استيحاشًا في نفوسهم، ولربما أساءوا به الظنَّ.
وإبراهيم ﷺ لما نزل به الملائكة في صور الرِّجال الشُّبان، ثم قرّب إليهم عجلَه، وأتعب أهلَه في صنع الطَّعام، فلم يأكلوا؛ قال: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً[الذاريات:28]، فالفاء هنا بدلالة الإيماء والتَّنبيه عند الأصوليين تدلّ على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، لماذا أوجس الخيفة؟
لأنهملم يأكلوا: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً[هود:70]، فهنا: قَالُوا، يُبين عن حاله؛ ليدفع التُّهمةَ عن نفسه، فيقول: "إني صائم"، فيعتذر لعدم أكله، مع أنه يستحبّ إخفاء العمل، لكن هنا لمصلحةٍ غالبةٍ.
وقد جاء عن ابن عمر أنَّه دُعِيَ، فحضر، فمد يدَه وقال: "بسم الله، كلوا"، فلمَّا مدَّ القومُ أيديهم قال: "كلوا، فإني صائم"[14]، يعني: ما أُفطر، ولكنَّه حضر وأجاب، وقال لهم:"إني صائم".
هذا ما يتعلّق بهذا الحديث، وهو يدلّ على مكارم الأخلاق، وشأن هذه الشَّريعةمُراعاة حقوق المسلمين، ومُواساتهم، وأنَّ ذلك ربما يُقدّم على أعمالٍ فاضلةٍ: كالصيام، فقد يُفطر من أجل تطييب قلب الدَّاعي، ثم هو يُجيبه ولو كان صائمًا، فإنَّ المجيء بحدِّ ذاته إكرامٌ، ولو لم يطعم.
ثم إنَّ مُشاركتهم في هذا الطَّعام هو إكرامٌ آخر؛ فإنَّ نفوسَهم تأنس بهذا، فلو بقي أحدُ الضيوف، تخلَّف، وأبى أن يأكل؛ فإنَّ النفوسَ لا تخلو من استثقالٍ، ونوع انقباضٍ،والله تعالى أعلم.
هذه شريعة كاملة، شريعة جاءت بأحسن الأعمال والأخلاق.
وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يُعيننا وإياكم على ذُكره، وشُكره، وحُسن عبادته.
- أخرجه مسلم: كتابالنكاح، باب الأمر بإجابة الدَّاعي إلى دعوةٍ، برقم (1431).
- انظر: "الشرح الكبير لمختصر الأصول من علم الأصول" للمنياوي(ص193).
- انظر: "البيان والتَّحصيل" لابن رشد (4/308).
- انظر: "صحيح البخاري"(7/24).
- انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/532).
- انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (10/179).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأطعمة، باب قول الله تعالى:{فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب:53]، برقم (5466)، ومسلم: كتاب النِّكاح، باب زواج زينب بنت جحش، ونزول الحجاب، وإثبات وليمة العُرس، برقم (1428).
- أخرجه مسلم: كتاب الصِّيام، باب الصَّائم يُدْعَى لطعامٍ فليقل: إني صائم، برقم (1150).
- انظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (3/79).
- انظر: "البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة" لابن رشد (4/307).
- انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (16/405).
- أخرجه مسلم: كتاب الأشربة، باب استحباب وضع النَّوى خارج التمر، واستحباب دعاء الضَّيف لأهل الطَّعام، وطلب الدُّعاء من الضَّيف الصَّالح وإجابته لذلك، برقم (2042).
- أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب المرأة وحدها تكون صفًّا، برقم (727).
- أخرجه البيهقيفي "شعب الإيمان"، برقم (8463).