الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: هذا باب "ما يُقال للكافر إذا عطس فحمد الله"، وأورد فيه المؤلفُ حديثًا واحدًا، وهو حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله تعالى عنه- قال: كانت اليهود تعاطس عند النبي ﷺ رجاء أن يقول لها: "يرحمكم الله"، فكان يقول: يهديكم الله، ويُصلح بالكم.
هذا الحديثُ أخرجه أبو داود[1]، والترمذي، وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ[2]. وصححه جمعٌ من أهل العلم: كابن العربي، والنَّووي[3]، والحافظ ابن القيم[4]، وكذلك العيني[5]، والصَّنعاني[6]، والمباركفوري[7]، ومن المعاصرين سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-، والشيخ ناصر الدين الألباني[8] -رحم الله الجميع-.
قوله: "كانت اليهود تعاطس" يعني: تتعاطس، يعني: تتكلّف العطاس، وفي لفظٍ: "يتعاطسون"[9]، يعني: يُظهرون العطاس، يتصنَّعونه، أو يتسبَّبون لذلك بشيءٍ يفعلونه، فينتج عنه العطاس، يتعاطسون عند النبي ﷺ، يعني: رجاء أن يقول لها –أي: اليهود-، وجاء الضَّمير مُؤنثًا: "يرحمكم الله"، يعني: رجاء أن يدعو لهم بالرحمة، فقد كانوا يعلمون أنَّه رسولُ الله ﷺ، والله يقول: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، ولا يخفى على أحدٍ ولده، وما قال: "يعرفونه كما يعرفون أنفسهم"؛ لأنَّ الإنسان لا يعرف نفسَه إلا بعد الولادة بمدّةٍ، لكنَّه يعرف ولدَه منذ البداية: كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ.
والله -تبارك وتعالى- أخبر عن هؤلاء: لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا، وصف هؤلاء القوم -وهم اليهود- بأنهم يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ، ووصف هذا اليأس في شدّته ومُنتهاه فقال: كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [الممتحنة:13]، على قولين بين المفسرين معروفين:
الأول: أنَّهم قد يئسوا من ثواب الله في الآخرة، كما يئس الكفَّارُ الذين ماتوا من أهل المقابر، كما يئسوا من ثواب الله في الآخرة؛ لأنهم عاينوا الحقائق، ورأوا منازلهم في النار، فهم في مُنتهى اليأس من ثواب الله في الآخرة، فهؤلاء الأحياء من اليهود يئسوا في الآخرة يأسًا كيأس أولئك الذين ماتوا من الكفَّار من ثواب الله في الآخرة؛ لما عاينوا من حقائق الغيب التي أُخبروا عنها، فعرفوا أنهم لا نصيبَ لهم؛ الموتى من الكفَّار، فيأس الأحياء من اليهود كيأس هؤلاء.
والقول الآخر: يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ كما يئس الكفارُ الأحياء من أصحاب القبور أن يلتقوا بهم؛ لأنَّهم لا يُؤمنون بالبعث، فلا لقاءَ؛ لأنهم يعتقدون أنَّ ذلك هو الـمُنتهى، هذا المثوى الأخير عندهم، انتقل إلى مثواه الأخير، فيئسوا أن يلتقوا بهم، أو أن يجتمعوا بهم مرةً أخرى.
فعلى كل حالٍ، هنا يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ، فكانوا يرجون أن يدعو لهم النبيُّ ﷺ بالرحمة، يُؤمّلون أن يقول: "يرحمكم الله"؛ لتعود عليهم بركةُ دعاء النبي ﷺ، حيث كانوا يعلمون حقيقة ما جاء به، إلا أنَّ الحسد والكِبر منعهم من الإيمان والاستجابة.
والتَّشميت هو ما يُقال للعاطس، فإذا نظرنا إلى كلام أهل اللغة كما يقول ابنُ دقيق العيد -رحمه الله-: بأنَّ التَّشميت هو الدُّعاء بالخير مطلقًا[10]، فيكون هذا للكافر وللمؤمن، فلا مانعَ من أن يُدعى للكافر بالخير، فيُقال له مثلاً: هداك الله، أصلحك الله، ونحو ذلك، يُدعى له بالهداية، هذا إذا فسّر التَّشميت كما يقول أهلُ اللغة: بأنَّه الدُّعاء بالخير.
وإذا نظرنا إلى خصوصه؛ خصوص التَّشميت في العطاس بالرحمة، كما دلَّت عليه السُّنة، بمعنى أن يُقال: "يرحمك الله"، فإنَّ هذا لا يُقال للكافر، ولا يُدعى له بالرحمة، ولا بالمغفرة، والله يقول: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى [التوبة:113]، وقال عن استغفار إبراهيم ﷺ: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة:114]، فلا يُدعى له بالرحمة.
وبعض أهل العلم قالوا: إنَّ التَّشميت صار يتَّجه إلى الدُّعاء بالرحمة باعتبار الغالب، وإلا في اللُّغة هو دعاء له بالخير مُطلقًا، ولا يتقيّد بالرحمة. هكذا قالوا.
ومن ثم قالوا: يُشمّت الكافر. والصَّحيح أنَّ الكافر يُقال له كما قال النبيُّ ﷺ، فهم يدخلون في مُطلق الأمر بالتَّشميت، أو مُطلق التَّشميت، أو مشروعية التَّشميت، وهو ما يُقال للعاطس، لكن لا يكون كتشميت المسلمين؛ فأهل الإيمان يُدْعَى لهم بالرحمة، يقال: يرحمك الله، وأمَّا غير المسلم فإنه يُقال له: يهديكم الله، ويُصلح بالكم، كما كان النبي ﷺ يقول لهم.
يهديكم الله أي: يدلكم على الهدى لتهتدوا، يُرشدكم إليه، ويُصلح بالكم وهو ما يهتم به من أمر الدِّين، وذلك بأن يُرشدهم إلى الإيمان والإسلام، ويُزين ذلك في قلوبهم، ونحو ذلك من المعنى، فهذا الذي يحصل به صلاح البال: سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ [محمد:5].
هذا الحديث يدلّ على ما يُشرع في حقِّ الكافر من الدُّعاء له إذا عطس وحمد الله، بهذا القيد، قال: يهديكم الله، ويُصلح بالكم.
والذي يظهر أنَّ هذا لا يختصّ باليهود، وإنما كانوا يتعاطسون عند النبي ﷺ فيُقال ذلك في حقِّ غير المسلمين مطلقًا -والله تعالى أعلم-.
ثم ذكر بعد ذلك بابًا آخر، وهو باب "الدعاء للمُتزوج"، وذكر فيه حديثًا واحدًا، وهو حديث أبي هريرة : أن النبي ﷺ كان إذا رفّأ الإنسان إذا تزوّج قال: بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خيرٍ.
هذا أخرجه الأربعةُ من أصحاب السُّنن إلا النَّسائي[11]، وسكت عنه أبو داود، فهو صالحٌ للاحتجاج عنده[12]، وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ[13]. وصححه جمعٌ من أهل العلم: كابن دقيق العيد[14]، والنووي[15]، وابن الملقن[16]، والعيني[17]، والشيخ ناصر الدين الألباني[18].
"كان إذا رفّأ الإنسان"، ما معنى: رفّأ؟
يعني: أراد الدُّعاء للمُتزوج، من التَّرفئة، بمعنى: التَّهنئة، ماذا يُقال للمُتزوج من التَّهنئة؟
يُقال له: بارك الله لك ... إلى آخر ما ذكر، يعني: رفّأه، أي: هنَّأه، دعا له.
وكان من عادتهم في الجاهلية أن يُقال للمُتزوج حديثًا: "بالرّفاء والبنين"، وأصله من الرّفأ، وهو على معنيين: يحتمل أن يكون ذلك يرجع إلى معنى التَّسكين، يعني: يُقال: رفوت الرجل؛ إذا سكنت ما به من الروع، كما قال الشَّاعر:
رفوني وقالوا: يا خُويلد لم تُرع | فقلتُ وأنكرتُ الوجوه: هم، هم[19] |
"رفوني" يعني: سكّنوني، وقالوا: "لم تُرع"، هو كان في خوفٍ، فيقول: "رفوني وقالوا: يا خُويلد لم تُرع"، لا خوفَ عليك، "فقلتُ: وأنكرتُ الوجوه: همُ، همُ"، يعني: أهم هم؟
المعنى الآخر: أن يكون ذلك بمعنى الموافقة والملاءمة، تقول: رفوت الثوب، رفوته، ورفأته أيضًا.
وهذان معنيانِ، يمكن أن يكون الجميعُ مُرادًا عندهم، بكون التّرفأة بمعنى: الدّعاء له بالسُّكون، والله -تبارك وتعالى- لما ذكر الامتنان بخلق الأزواج قال: لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا [الروم:21]، فهذا مطلبٌ، ويُدْعَى به للإنسان؛ أن يكون ذلك حاصلاً ومُتحققًا له.
الأمر الثاني: الموافقة، وهما مُتلازمان؛ لأنَّه لا يحصل السُّكون إلا بالموافقة، فإذا وجدت امرأة على خلاف مُراده؛ فإنَّ الطُّمأنينة والراحة والسُّكون لا تتحقق، وإنما القلق الدَّائم والمشكلات المتجددة، فيُدْعَى له بالسُّكون عندهم: "بالرّفاء والبنين"، هكذا كانوا يقولون في الجاهلية، فجاء الإسلامُ وعلَّمنا غير ذلك: إذا تزوّج أحدُكم فليَقُل له، أو: فليُقَل له[20]، يعني: من قبل أصحابه، أو من قبل معارفه، أو أهله، أو نحو ذلك، هذا يُقال عند العقد، أو الدُّخول، أو عندهما، كلّ ذلك يصدق عليه ما ذُكِرَ؛ لأنَّ الإنسان بمجرد العقد يكون قد تزوَّج، يحصل الزواجُ بالعقد، فإذا عقد، علمت أنه عقد، أو كنت بحضرته إذا عقد، فبعد العقد تقول له: بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خيرٍ، يُقال له هذا.
وكذلك يمكن أن تقول هذا مُهنِّئًا وداعيًا لمن أتيتَه عند الدُّخول في ليلة إعلان النكاح، كما اعتاد الناسُ الآن، في "ليلة الزفاف" كما يُقال، فيُقال له مثل ذلك، ولو لقيته بعده فيُمكن أن تقول له هذا، فإنَّه لم يَفُتْ، فهذا دُعاء، وهو بحاجةٍ إليه.
فيُقال: بارك الله لكَ يعني: في زوجك، ويُقال للمرأة كذلك: "بارك الله لكِ" يعني: في هذا الزوج، وفي هذا الزواج، فإنَّ هذا من الأعمال العظيمة، وهو من شرائع الرسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام-، وهو أيضًا نقلة في حياة الإنسان، ينتقل بها من حالٍ إلى حالٍ، ويكون بهذا مكونًا لنواة الأسرة، ثم بعد ذلك يكون الأولاد.
وحال الناس بعد هذا الزواج إمَّا أن تكون إلى الأحسن، وإمَّا أن تكون إلى الوراء، وإمَّا أن تكون كما كانت قبل ذلك -كما هو معلومٌ-؛ فإنَّ الإنسان لا يخلو من ثلاثة أحوال إذا تزوج: إمَّا أن يكون مُجدًّا مُجتهدًا في طاعة الله ، وفيما ينفعه من أمور الدنيا: في دراسته، أو عمله، أو نحو ذلك، فيُحقق نجاحًا وفلاحًا، أو أن يبقى على حاله التي كان عليها من قبل كما كان، أو أن يرجع إلى الوراء؛ يُفتن بهذه المرأة مثلاً، لا تُعينه على الخير، أو تقع هناك مشكلات وأمور مُزعجة؛ فتُقعده عمَّا كان بصدده، فهو بحاجةٍ إلى الدعاء بالبركة، ولاحظوا أنَّ البركة هنا: بارك الله لك، في بعض الألفاظ: لكم[21].
وهنا في الدعاء له: بارك الله لكَ عُدِّيت باللام، فهي بركةٌ نافعةٌ، تنفعه، فتُعدّى باللام، ولكونها نازلةً من السَّماء تُعدَّى بعلى.
هكذا ذكر بعضُ أهل العلم، فجاءت في الحديث بالوجهين: لكَ، فيصلك ما ينفع.
والبركة عرفنا أنها النَّماء، والزيادة، والكثرة في الخير، فهذا لكَ، وهذه البركة من أين؟
البركة من الله وحده، فيُقال: باركَ عليك، تنزل البركةُ من الله، ولا تكون البركةُ من غيره؛ ولهذا لا يصحّ أن يُقال عن أحدٍ من الناس إذا جاء، أو حلَّ بالمكان، أو ركب السيارة، أو نحو ذلك، يُقال: حلَّت البركة، تبارك المكان يا فلان، باركتَ علينا المكان، أو نحو هذا؛ فإنَّ البركةَ إنما تكون من الله وحده، وليست من أحدٍ من المخلوقين، وما يقوله الناسُ، ودرج على ألسنتهم هذا غير صحيحٍ، لا يصحّ أن يُقال: تباركتَ علينا يا فلان، فلان تبارك على آل فلان، حينما تزوّج منهم، ونحو ذلك، لا، البركة من الله، فهو يكون سببًا للبركة فحسب.
فهنا: بارك الله لكَ، البركة الواصلة لكَ، والنَّازلة أيضًا عليك، وباركَ عليك، وفي لفظٍ بالتَّثنية: عليكما[22]؛ بنزول الخير، والرحمة، والرزق، والبركة في الأولاد، الكثرة في الخير، والنَّماء فيه.
والعلماء قالوا: إنَّ التَّسري يُلحق بذلك، يعني: لو اشترى جاريةً، فيُقال له ذلك؛ لأنَّه أيضًا بحاجةٍ إلى أن تحصل البركةُ بهذه الجارية، قالوا: وإنما ذكر الزَّواج باعتبار أنَّه الغالب.
وجمع بينكما في خيرٍ، بارك لكما، تصلكما البركة، وتنزل عليكما، وجمع بينكما في خيرٍ يعني: في طاعةٍ، وصحةٍ، وعافيةٍ، وسلامةٍ، وحُسن مُعاشرةٍ، وتكثير الذُّرية الطيبة، الصَّالحة.
فليست القضيةُ أنَّ الإنسان يتزوج، ثم بعد ذلك لا يكون هذا الزواجُ مُوفَّقًا، إنما القضية أن يتزوج ويُبارك له في هذا الزواج، ويحصل له فيه الخير، والاستقرار، والطُّمأنينة، والسُّكون.
بعض الناس يقول: اللهم ارزقني زوجةً، اللهم زوِّجني. والمرأة تقول: ارزقني زوجًا، ونحو ذلك، تُلِحّ بالدُّعاء، ولكن قد تتزوج وتُطلق بنفس الليلة التي تزوّجت بها، قد تتزوج ولا تُطلق، فتطلب الطلاق ولا تجده، وتذهب إلى المحاكم، ومُشكلات، وتُريد أن تفتدي منه بما استطاعت، وقد لا تجد، وقد يُعلِّقها، وقد يُؤذيها، ويضربها، وتلقى منه شقاءً وعَنَتًا ما كان يخطر لها على بالٍ.
فليست القضيةُ أنَّ الإنسان يتزوج، القضية أن يُبارك له في هذا الزواج: ارزقني زوجةً مُباركةً، طيبةً، صالحةً، تقرّ بها عيني. يدعو الإنسانُ بهذا، والمرأة تدعو بذلك أيضًا، مثل الأولاد.
الإنسان يقول: اللهم ارزقني ولدًا، ارزقني أولادًا، ارزقني البنين، أو نحو ذلك، ارزق فلانًا الأولاد، ليس هذا، الأولاد هؤلاء قد يكون موتُه وهلاكُه على أيديهم، قد يُقتل على يد هذا الولد الشَّقي، وقد يُشقيه، وقد يُورده الموارد في الدنيا والآخرة، يكون فتنةً له، لكن القضية أن يُرزق بالأولاد الصَّالحين، هؤلاء هم قرّة العين، وإلا فكثيرٌ من أمراض الآباء المستعصية، والشَّقاء، والألم، والهمّ هي بسبب الأولاد العَققة، الذين يُسقونه الكمد صباح مساء: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ما قال: أيّ ذُرية، ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]، ذرية طيبة، فإذا دعوتَ بالولد تُقيد بالذُّرية الطَّيبة، الصَّالحة.
وعلى كل حالٍ، يُدْعَى له أولاً: بارك الله لكَ؛ لأنَّ الذي يُخاطَب هو المدعو له أصالةً: بارك الله لك في هذا، ثم بعد ذلك تدعو لهما: وبارك عليكما، فيدخل في هذه البركة: الذرية الطَّيبة، النَّسل؛ لأنَّه من أعظم مقاصد النكاح، والملاءمة، والموافقة، وكثرة الخير، والإعانة على العمل الصَّالح، وتقوى الله وطاعته، والبرّ بالأبوين.
وكذلك أيضًا البركة في الدنيا بكثرة الخير، والمال، ونحو ذلك، فقد يتزوج الإنسانُ وهو فقيرٌ، ويكثر ماله؛ لأنَّ هذه المرأة كانت سببًا للبركة، وهكذا أيضًا المرأة.
ويُؤخذ من هذا أنَّ الدعاء للمُتزوج سنة.
أمَّا الذي يتزوج فإنَّه يقول كما أمر النبيُّ ﷺ: إذا أفاد أحدُكم امرأةً، أو خادمًا، أو دابَّةً يعني: اشترى خادمًا، أو دابَّةً، أو تزوّج امرأةً، فليأخذ بناصيتها، وليقل: اللهم إني أسألك خيرَها وخيرَ ما جُبِلَتْ عليه، وأعوذ بك من شرِّها وشرِّ ما جُبِلَتْ عليه. رواه أبو داود[23]، والنَّسائي[24]، وابن ماجه[25].
فالمرأة يأخذ بناصيتها هكذا، ويقول: اللهم إني أسألك خيرَها وخيرَ ما جُبِلَتْ عليه إذا عقد عليها، ويمكن أن يأتي بأسلوبٍ لطيفٍ، يعني: يمكن ألا يُشعرها، ألا يُسمعها، إذا كان يُحرج من هذا، أو هي تُحرج، أو نحو ذلك، يمكن أن يقول ذلك ولا يُسمعها، لكنَّه يأخذ برأسها، يتلطَّف بها، ونحو ذلك، ويقول مثل هذا الكلام.
وهكذا إذا اشترى سيارةً، أو نحو ذلك، يضع يدَه على ناصيتها، يعني: مُقدّم السَّيارة، ويقول مثل هذا.
وكذلك أيضًا ما يتعلق بتهنئة أهل الجاهلية، جاء النَّهي عنها، جاء في روايةٍ عن عقيل بن أبي طالب: أنَّه قدم البصرة، فتزوج امرأةً، فقالوا له -يعني: يُهنئون-: بالرّفاء والبنين. فقال: لا تقولوا هكذا، وقولوا كما قال رسولُ الله ﷺ: اللهم بارك لهم، وبارك عليهم[26]. هذا الأثر صحيحٌ، لكنَّه ليس بمرفوعٍ في أوله إلى النبي ﷺ.
والعلماء اختلفوا في سبب كراهة تهنئة الجاهلية؛ بعضهم قالوا: لأنَّه لا حمدَ فيه، ولا ثناء، ولا ذكر: بالرّفاء والبنين، بينما هذا يدعو الله: بارك الله لكما، وبارك عليكما، دعاءٌ عظيمٌ جدًّا، وهؤلاء يقولون: بالرّفاء والبنين، فدعاء أهل الجاهلية ليس فيه حمدٌ، ولا ثناءٌ، ولا دعاءٌ ببركةٍ، ولا ذكرٌ لله .
وبعضهم يقول: إنما كره لأنَّه دُعاء بالبنين، والبنون هم الذكور من الأولاد، وكان أهلُ الجاهلية يُؤثرون الأبناء على البنات: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [النحل:58]، فهنا إذا دعوا له قالوا: بالرّفاء والبنين، والإنسان لا يدري أين الخير له؟ هل هو بالأبناء، أو بالبنات؟
وبعض أهل العلم قال: إنما كُره ذلك لما فيه من مُوافقة أهل الجاهلية، حيث كانوا يقولون ذلك تفاؤلاً، لا دُعاءً، أنَّه ليس بدعاءٍ أصلاً، وإنما يقولونه على سبيل التَّفاؤل، والمتزوج بحاجةٍ إلى الدُّعاء، ويفتقر إليه غايةَ الافتقار.
لكن يقول بعضُ أهل العلم: لو قال ذلك قصدًا للدُّعاء، قصد به الدُّعاء؛ فلا إشكالَ. هكذا قال ابنُ المنير -رحمه الله[27]-، ولكن على كل حالٍ، هذا الدُّعاء الذي علَّمنا إياه النبيُّ ﷺ خيرٌ من قول أهل الجاهلية وأبلغ، ولا حاجةَ إلى قولهم، فهذا الدُّعاء أبرك.
هذا ما يتعلّق بهذا الحديث، والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب الأدب، باب ما جاء في تشميت العاطس، برقم (5033)، وقال مُحققه: صحيح.
- أخرجه الترمذي في "سننه": كتاب أبواب الأدب، باب ما جاء كيف يُشمّت العاطس؟، برقم (2739).
- انظر: "الأذكار" للنووي (ص275).
- انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (2/404).
- انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعيني (22/226).
- انظر: "سبل السلام" للصنعاني (2/613).
- انظر: "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" للمباركفوري (4/180).
- انظر: "إرواء الغليل" للألباني، برقم (1277).
- أخرجه أحمدُ في "مسنده"، برقم (19586)، وقال مُحققه: إسناده صحيحٌ.
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/604).
- أخرجه ابنُ ماجه في "سننه": كتاب النكاح، باب تهنئة النكاح، برقم (1905)، وقال مُحققه: صحيحٌ. وأحمد في "مسنده"، برقم (8956)، وقال مُحققه: إسناده قوي.
- أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب النكاح، باب ما يُقال للمُتزوج، برقم (2130)، وقال مُحققه: صحيحٌ.
- انظر: "سنن الترمذي"، برقم (1091).
- انظر: "توضيح الأحكام من بلوغ المرام" للبسام (5/238).
- انظر: "الأذكار" للنووي (ص283).
- انظر: "البدر المنير" لابن الملقن (7/534).
- انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعيني (20/145).
- انظر: "مشكاة المصابيح" للألباني، برقم (2445).
- انظر: "الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي" للنهرواني (ص156).
- أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" برقم (512)، انظر: صحيح الجامع برقم (428).
- أخرجه ابن ماجه في "سننه": أبواب النكاح، باب تهنئة النكاح، برقم (1904)، وصححه شعيب الأرناؤوط.
- أخرجه الآجري في "الشريعة": كتاب فضائل فاطمة -رضي الله عنها-، باب ذكر تزويج فاطمة -رضي الله عنها- بعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وعظيم ما شرّفهما الله -عزَّ وجلَّ- به في التزويج من الكرامات التي خصَّهما الله -عزَّ وجلَّ- بها، برقم (1615).
- أخرجه أبو داود في "سننه": كتاب النكاح، بابٌ في جامع النكاح، برقم (2160)، وقال مُحققه: حسنٌ.
- أخرجه النَّسائي في "السنن الكبرى": كتاب عمل اليوم والليلة، باب ما يقول إذا أفاد امرأةً، برقم (10021).
- أخرجه ابن ماجه في "سننه": كتاب التِّجارات، باب شراء الرَّقيق، برقم (2252)، وقال مُحققه: حسنٌ.
- أخرجه ابن ماجه في "سننه": كتاب النكاح، باب تهنئة النكاح، برقم (1906)، وقال مُحققه: صحيحٌ.
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/222).