الجمعة 25 / جمادى الآخرة / 1446 - 27 / ديسمبر 2024
(283) الدعاء إذا نزل منزلاً في سفر أو غيره
تاريخ النشر: ٣٠ / ربيع الأوّل / ١٤٣٦
التحميل: 1625
مرات الإستماع: 1546

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

هذا باب "الدعاء إذا نزل منزلًا في سفرٍ أو غيره"، وقد أورد حديثَ خولة بنت حكيم السُّلمية -رضي الله عنها- قالت: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول:مَن نزل منزلًا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التَّامات من شرِّ ما خلق؛ لم يضرّه شيءٌ حتى يرتحل من منزله ذلك. رواه مسلم[1].

وقد مضى الكلامُ على جملة: أعوذ بكلمات الله التَّامات من شرِّ ما خلقفي الكلام على أذكار الصَّباح والمساء.

ويُقال في دُعاء الفزع من النوم:أعوذ بكلمات الله التَّامات من غضبه وعقابه وشرِّ عباده، ومن همزات الشَّياطين، وأن يحضرون[2]،وكلّ ذلك قد مضى الكلامُ عليه.

فقوله هنا:مَن نزل منزلًاقيَّده بعضُ أهل العلم بالسَّفر، ولكنَّ ليس في الحديث ما يدلّ عليه، فإنَّ قوله:منزلًا نكرة في سياق الشَّرط، والنَّكرة في سياق الشرط للعموم:مَن نزل منزلًا، يعني: في الحضر، أو في السَّفر.

وإلى هذا ذهب جمعٌ من أهل العلم، فلم يُقيدوه بحال السَّفر، فلو أنَّه نزل في مكانٍ، أو في نزهةٍ، أو ذهب إلى البرية، أو ذهب إلى استراحةٍ، أو أراد أن يدخل مكانًا ربما يكون فيه شيءٌ من الهوامِّ، أو نحو ذلك، من أيّ منزلٍ ينزله في الطَّريق في غير سفرٍ:كأن أراد أن يُصلِّي، أو أراد أن يستريح، ونحو ذلك، فقال:أعوذ بكلمات الله التَّامات من شرِّ ما خلق.

ثم إنَّ التَّنكير فيمنزلًايُفيد التَّعميم: أيّ منزلٍ، فهو للشيوع.

ثم قال جاء بـثم التي تُفيد التَّراخي، بمعنى: لو أنَّه نزل، ثم نسي، أو شُغِلَ عن ذلك، ثم تذكّر بعد نزوله بساعةٍ، أو بساعات، فقال: أعوذ بكلمات الله التَّامات من شرِّ ما خلق، فإنَّ ذلك يصدق عليه هذا الحديث، فيكون كما قال النبيُّ ﷺ: لم يضرّه شيءٌحتى يرتحل من منزله ذلك.

إذًا لا يُشترط أن يكون ذلك بمجرد النُّزول، ولكن الأولى أن يكون في أول نزوله؛ من أجل ألا يقع له المكروه -والله تعالى أعلم-.

فيقول:أعوذ بكلمات الله، عرفنا أنَّ الاستعاذة بمعنى: الالتجاء والاعتصام بالله -تبارك وتعالى- مما يخاف ويُحاذر.

أعوذ بكلمات الله التَّامات يعني: الكاملات التي لا يتطرق إليها الخللُ ولا النَّقصُ: لا في الألفاظ، ولا في المعاني، ولا يحصل تخلّف لمقتضاها، فهي تامَّات.

وذكرنا من قبلالكلام في هذه الكلمات التَّامات: هل المقصود بها الكلمات الكونية التي يحصل بها الخلق وتصريف أمر الخليقة، أو أنَّ المقصود بذلك الكلمات الشَّرعية؟

القرآن مثلًا، فهو كلام الله -تبارك وتعالى-، والكلمات جمع كلمةٍ، والكلمة تُقال للفظة المفردة، مثل: (قال)، أو (زيد)، أو (من)، أو نحو ذلك، فقد تكون حرفَ معنًى، وقد تكون اسمًا، وقد تكون فعلًا، وقد تكون الكلمةُ جملةً، وقد تكون أكثر من ذلك، فالخطبة يُقال لها: كلمة.

فهنا "كلمات" مجموعة، وأُضيفت إلى لفظ الجلالة: بكلمات الله التَّامات، فكلماته هي كلامه الذي أنزله على رسوله ﷺ.

ومن أهل العلم مَن يقول: إنَّ الإضافةَ هنا تُفيد التَّعميم، فكلماته هي الكتب التي أنزلها على رسله -عليهم الصَّلاة والسَّلام-.

وذكرتُ في بعض المناسبات: أنَّ هذه الكلمات الأولى أن تُحْمَل على الكلمات الكونيَّة -والله أعلم-؛ وذلك أنَّ هذا المستعيذ إنما يُريد أن يُحْفَظ وأن يُصان مما يخاف ويُحاذر، وارتباط هذا بالكلمات الكونيَّة أوفق وأقرب من ارتباطه بالكلمات الشَّرعية؛ فإنَّ الكلمات الكونيَّة هي التي لا يُجاوزها برٌّ ولا فاجرٌ.

ولكن من أهل العلم مَن حمله على الكلمات الشَّرعية، ولا إشكالَ في هذا، ويمكن أن يُراد به هذا وهذا، فكلّ ذلك يُقال له: كلمات الله.

ومن ثم فإنَّ كلامه -تبارك وتعالى- غير مخلوقٍ: الكلمات الشَّرعية،والكتب التي أنزلها على رسله -عليهم السَّلام-، والكلمات الكونيَّة حينما يقول للشَّيء: "كن"، أو يأمر ملائكتَه، ويُدبّر أمرَ الخليقة: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ[الأنفال:12]، وهو -تبارك وتعالى- إذا أراد شيئًا فإنما يقول له:"كن" فيكون.

وعيسى -عليه السلام- قيل له: الكلمة: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ[آل عمران:45]؛ لأنَّه وُجِدَ بالكلمة، بقول: "كن"، فكان -عليه السلام-.

فإنما يُستعاذ بغير المخلوق، فتقول: "أعوذ بالله"، أو يُستعاذ بصفاته، فهي غير مخلوقةٍ؛ ككلامه، تقول: "أعوذ بكلمات الله"، أو تستعيذ بغير ذلك من صفاته، تقول مثلًا: "أعوذ بعزّة الله وقُدرته من شرِّ ما أجد وأُحاذر"، فهذا كلّه استعاذة بالصِّفة، والصِّفة مُلازمة للموصوف، وأوصافه -تبارك وتعالى- غير مخلوقةٍ، لكن لا يكون ذلك بالمخلوقين.

فهنا هذه الكلمات التَّامة التي لا نقصَ فيها، ولا خللَ، ولا عيبَ، ولا شطط، ولا خُلْفَ أيضًا.

وبعضُهم فسَّرها بالنَّافعة الشَّافعة، وبعضهم فسَّرها بغير ذلك، ولكن ما ذكرتُه لعلّه الأوفق -والله تعالى أعلم-.

ومثل هذا الحديث يستدلّ به أهلُ السُّنة، كما قال شيخُ الإسلام -رحمه الله-: "وكذلك لا يُستعاذ بالمخلوقات، بل إنما يُستعاذ بالخالق –تعالى- وأسمائه وصفاته؛ ولهذا احتجَّ السَّلفُ -كأحمد وغيره- على أنَّ كلامَ الله غير مخلوقٍ-فيما احتجّوا به- بقول النبي ﷺ: أعوذ بكلمات الله التَّامَّات، قالوا: فقد استعاذ بها، ولا يُستعاذ بمخلوقٍ"[3].

من شرِّ ما خلق قيَّده جمعٌ من أهل العلم بشرِّ ذي الشَّر، يعني: أنَّ المخلوقات على نوعين:

نوعٌ ليس فيه شرٌّ: كالجنّة، والأنبياء والرسل -عليهم السَّلام-، فهم خيرٌ، وكذلك الملائكة، وإنماالمقصود الاستعاذة من شرِّ ما خلق.

فلا يُقال -كما فهم بعضُ أهل العلم-: بأنَّ ذلك للعموم: من شرِّ ما خلق، كلّ مخلوقٍ يستعيذ بالله من شرِّه؛ فإنَّ بعضَ المخلوقات ليس فيها شرٌّ، إذًا من شرِّ ذي الشَّر، يعني: المخلوقات التي يُوجد فيها الشَّر.

وإلى هذا ذهب الحافظُابن القيم -رحمه الله-، وقال: بأنَّ قوله: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ[الفلق:2]أيضًا في سورة الفلق يكون ذلك استعاذةً من كل شرٍّ في أيِّ مخلوقٍ قام به الشَّرُّ: من حيوانٍ، أو غيره من الإنس، أو من الجنِّ، أو الهوامّ، أو الدَّواب، أو الريح، أو الصَّاعقة، أو أيّ نوعٍ كان من البلاء[4].

يقول الحافظُ ابن القيم -رحمه الله-: فإن سُئل عن العموم هنا-يعني: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ- فهنا ما تُفيد العموم،فهذا عمومٌ تقييدي وصفي، لا عموم إطلاقي، والمعنى: من شرِّ كل مخلوقٍ فيه شرٌّ[5].

وهذا الذي يُسميه الشَّاطبي -رحمه الله- بالعموم الاستعمالي[6]تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا[الأحقاف:25]، ومع ذلك ما دمَّرت السَّماوات والأرض والجبال، وقال:فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ[الأحقاف:25]، فما دمّرت المساكن، إنما تُدمّر كلَّ شيءٍ جاءت لتدميره، هذا هو المراد، والعرب تفهم ذلك.

كما قال الله في مكّة -شرَّفها الله-: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ[القصص:57]، مع أنَّه يُوجد ثمرات في الدنيا لا تُجبى إلى مكّة، وإنما ما يصلح لمثله،وما جرت العادةُ به.

وقال عن ملكة سبأ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ[النمل:23]، مع أنها لم تُؤْتَ ملك سليمان-عليه السلام-، وإنما أُوتيت من كل شيءٍ يصلح لإقامة مُلكها، أو يصلح لمثلها.

فالحافظ ابن القيم يقول هنا: ليس المرادُ الاستعاذة من شرِّ كلِّ ما خلقه الله -تبارك وتعالى-؛ فإنَّ الجنةَ وما فيها ليس فيها شرٌّ،و كذلك الملائكة والأنبياء، فإنَّهم خيرٌ محضٌ، والخير كلّه حصل على أيديهم.

فالاستعاذة من شرِّ ما خلق تعمّ شرَّ كلِّ مخلوقٍ فيه شرٌّ، وكل شرٍّ في الدنيا والآخرة، وشرّ شياطين الإنس والجنّ، والسِّباع والهوامّ، والنار والهواء، وغير ذلك[7].

إذًا حينما تقول: أعوذ بكلمات الله التَّامات من شرِّ ما خلق يدخل فيه الاستعاذة من كلِّ ما يمكن أن يصدر منه الشَّر أو الأذى، أو يصل إليك منه المكروه، سواء كان ذلك حيوانًا، أو كان من غير الحيوان.

يقول النبي ﷺ: لم يضرّه شيءٌ من هذه المخلوقات، فقد استعاذ بالعظيم الأعظم -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه-.

وشيءيُحمل ذلك على العموم؛ لأنَّ"شيء" هنا نكرة في سياق النَّفي؛ وذلك يدخل فيه جميع الأشياء.

حتى يرتحل يعني: سواء كان يتخوّف من المجرمين، أو يتخوّف من السُّراق وقُطَّاع الطُّرق، أو من الهوامِّ والحشرات، أو السِّباع، إذا كان في مكانٍ فيه السِّباع، أو غير ذلك مما يتخوّفه، فإنَّه لايضرّه شيءٌ.

وبعض الناس قد يخاف من بعض الحشرات، فإذا قال: أعوذ بكلمات الله التَّامات من شرِّ ما خلق فعليه أن ينام قرير العين بعد ذلك، ولن يصل إليه المكروه.

وهذا أيضًا هو البديل الشَّرعي لما كان يفعله أهلُ الجاهلية من الضَّلال والإشراك، فقد كانوا إذا نزلوا منزلًا قال أحدُهم: "أعوذ بسيد هذا الوادي من سُفهاء قومه"[8]، يقصدون كبير الجنِّ، كما قال الله وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا[الجن:6]، على القولين في تفسير الآية:

فبعضهم يقول: إنَّ الإنس لما استعاذت بالجنِّ تعاظم الجنُّ، وقالوا: قد ملكنا الجنَّ والإنسَ، فالإنس يخافون منا.

وبعضهم يقول: فَزَادُوهُمْ رَهَقًا أنَّ الجنَّ حينما رأت الإنسَ يخافون منهمزادوهم خوفًا، وتسلَّطوا عليهم، وألقوا في قلوبهم المخاوف -والله تعالى أعلم-.

هذا ما يتعلّق بهذا الحديث.

وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإياكم علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، ونيَّةً.

 

 

  1. أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، بابٌ في التَّعوذ من سُوء القضاء ودرك الشَّقاء وغيره، برقم (4881).
  2. أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات، برقم (3528)، وأبو داود: كتاب الطب، باب كيف الرُّقَى، برقم (3893)، وحسَّنه الألباني.
  3. "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" (1/297).
  4. "بدائع الفوائد" (2/215).
  5. "بدائع الفوائد" (2/215).
  6. "الموافقات" (4/19).
  7. "بدائع الفوائد" (2/215).
  8. "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (23/654).

مواد ذات صلة