الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
هذا باب "كيف يردّ السلام على الكافر إذا سلَّم؟"، وذكر فيه حديثًا واحدًا، وهو حديث أنس بن مالك-رضي الله تعالى عنه وأرضاه- قال: قال النبي ﷺ: إذا سلَّم عليكم أهلُ الكتاب فقولوا: وعليكم رواه البخاري ومسلم[1].
قوله ﷺ: إذا سلَّم عليكم أهلُ الكتاب ظاهره أنَّ ذلك يختصّ بهم، ولكن كلام أهل العلم لم يُقيد بهذا، فجعلوا ذلك مع الكافر مطلقًا.
وقوله ﷺ: إذا سلَّم عليكم أهلُ الكتاب أطلقه أيضًا بعضُ أهل العلم، فقالوا: هذا يكون في الذّمي، والمعاهد، والمستأمن، والحربي إذا سلَّم؛ لأنَّ النبي ﷺ قال: إذا سلَّم عليكم أهلُ الكتاب، فأهل الكتاب منهم الذّمي، وهو الذي يكون في بلاد المسلمين، ومنهم مَن يكون مُعاهدًا، ومنهم مَن يكون مُستأمنًا، يعني: دخل لتجارةٍ، أو دخل لغرضٍ ومصلحةٍ اقتضت دخوله، أو كان مُحاربًا.
فقولوا أخذ منه بعضُ أهل العلم وجوب الردّ هنا؛ لأنَّه أمر، والأمر للوجوب: فقولوا: وعليكم، يعني: من غير زيادةٍ، فقد قال ﷺ: إنَّ اليهودَ إذا سلَّموا عليكم يقول أحدُهم: السَّام عليكم [2]،يعني: يدعون عليكم بالموت، فقال النبي ﷺ: قولوا: وعليكم.
فهؤلاء حينما يلوون ألسنتهم بالسلام يُوهمون المسلمين أنهم ألقوا السلامَ عليهم بعبارةٍ مُقاربةٍ له في اللَّفظ، فإنَّ الرد يكون عليهم بهذه الصِّيغة: وعليكم، وفي بعض الرِّوايات من غير واوٍ: عليكم[3]، عليكم أو وعليكم ماذا؟
بعض أهل العلم يقولون: هو على ظاهره، يعني: هؤلاء يقولون: السَّام عليكم، فإذا قلتَ: عليكميعني: السام، بمعنى: الموت، عليكم أيضًا كذلك.
وبرواية الواو:وعليكم، فهذه الواو تكون عطفًا على قولهم: السَّام عليكم، فيقول: وعليكم.
وفسّره بعضُ أهل العلم هنا على رواية الواو، باعتبار أنَّ الموت يقع على الجميع، أنَّه يشترك فيه الجميع، فهو واقعٌ علينا وعليكم أيضًا.
لكن هذا باعتبار أنَّه خبرٌ، وهم لا يقصدون بذلك الإخبار، وإنما يقصدون به الدّعاء، فإذا كان المقصودُ به الدّعاء فإنَّ رواية الواو قد يُفهم منها الاشتراك، يعني: هم يدعون على المسلمين بالموت، فكأنَّه يُقرّهم على ذلك بما قد يُفهم من الصيغة، يقول: وأنتم أيضًا عليكم الموت. بخلاف الرواية التي بدون الواو، يعني: أقول: عليكم الموت، من غير تشريكٍ، ولا إقرارٍ، إلا على قول مَن قال: بأنَّ الواو هذه ليست عاطفةً، وإنما هي للاستئناف، يستأنف كلامًا جديدًا، وليست للعطف والتَّشريك، والتَّقدير: وعليكم ما تستحقونه أيضًا، أو وعليكم ما قلتم، أو عليكم ما تستحقونه من الذَّم، ونحو ذلك، فيكون دعاءً عليهم.
وبما أنَّ رواية الواو ثابتة، والرواية من غير الواو ثابتة؛ فيُمكن أن تُحْمَل رواية الواو على أنها للاستئناف.
أما قول مَن قال: بأنها عاطفة، وأنَّ هذا يقتضي التَّشريك، باعتبار أنَّه خبرٌ بأنَّ الموت يقع على الجميع: علينا وعليكم، فهذا لا يُساعد عليه الظَّاهر -والله تعالى أعلم-، وإنما الأقرب أنها للاستئناف، فيكون دُعاءً عليهم، يعني: كما تدعون علينا، فنحن أيضًا كذلك ندعو عليكم به.
مَن تحقق أنهم يلوون ألسنتهم، وأنهم يقولون: السَّام، وفي ألفاظٍ أنه: "السّآم"،من السّآمة، يعني: تسأمون دينكم، فهنا على رواية الواو يمكن أن تكون للاستئناف، وليست عاطفةً، وبإسقاط الواو: عليكميعني: عليكم السّآمة، فهم يدعون على المسلمين بأن يسأموا دينَهم، وهذا جاء في بعض الألفاظ في صيغ تسليمهم على النبي ﷺ.
ومَن تحقق ذلك فلا شكَّ أنه يقول: عليكم، أو وعليكم، لكن مَن لم يتحقق؛ فإنه يردّ أيضًا كذلك.
بقيمَن تحقق أنهم قالوا: السَّلام، فسمعه بعبارةٍ واضحةٍ، أو لكونه يعرف من هذا المسلِّم أنَّه لا يلوي لسانَه، ولا عهدَ له بذلك، ولا يعرفه، وإنما يُسلِّم تسليمًا حقيقيًّا، بلغةٍ واضحةٍ فصيحةٍ، فهل له أن يقول: وعليكم السلام، أو لا؟
من أهل العلم مَن يقول: يردّ عليه، يقول: وعليك السلام.
طيب، ما معنى إلقاء السلام؟
قالوا: السَّلامة من الآفات، وأعظم الآفات الشِّرك والضَّلال، فإذا سَلِمَ منها كان إلى الإيمان، فيسلم من هذه الورطات.
ولكن صحَّ النهي عن النبي ﷺ عن الزيادة على ذلك، فيُقال: وعليكم، وهنا النبي ﷺ قال: إذا سلَّم عليكم أهلُ الكتاب، ولم يُفصّل، ولم يقل: إلا إذا أبانوا عن ذلك. والأصل أنَّ مثل هذا الإطلاق يُحْمَل على إطلاقه، والعامّ على عمومه، حتى يرد ما يُقيده أو يُخصصه، فلم يذكر النبي ﷺ في ذلك تفصيلًا.
وفي بعض الأحاديث: أن النبي ﷺ دعا الرجلَ اليهودي الذي سلّم، وسأله عمَّا قال، وأخبر أنَّه قال:"السَّام عليكم"[4]، يعني: الدُّعاء بالموت.
وفي حديث عائشةَ-رضي الله عنها- لما أتوا النبيَّ ﷺ، أو مرُّوا به، فقالوا: "السَّام عليكم"، فدعت عليهم وقالت: "وعليكم السَّام واللَّعنة"، قالت: فقال رسولُ الله ﷺ: مهلًا يا عائشة، إنَّ الله يُحبّ الرفقَ في الأمر كلِّه، فقلتُ: يا رسول الله، أولم تسمع ما قالوا؟! قال رسولُ الله ﷺ: قد قلتُ: وعليكم[5]، وقال ﷺ: فيُستجاب لي فيهم، ولا يُستجاب لهم فيَّ[6].
والنووي -رحمه الله- جوز الوجهين: الرواية بالواو، ومن غير الواو، وأنَّ حذفَها جائزٌ، وقد صحَّت بها الرواية، بل الرِّوايات، وذكر أنَّ إثباتها أجود، وأنه لا مفسدةَ فيه، باعتبار أنَّ السام هو الموت، فهو على الجميع، فلا ضررَ فيه[7]، يعني: ربما يكون هذا القائل قد قال: "السام عليكم"، فيكون ذلك ردًّا عليه بالمثل والاشتراك، باعتبار أنَّ الموتَ يقع على الجميع، لكن ذكرتُ ما فيه من الإشكال على هذا المعنى.
وبعض أهل العلم يقول: إنَّ إثباتَ الواو في الردِّ عليهم إنما يُحْمَل على الدُّعاء لهم بالإسلام، يعني: لو كانوا قد قالوا: "السلام عليكم" فعلًا، فنقول: وعليكم، يعني: عليكم مثل ما قلتُم، وما الذي قالوه؟ قالوا: السَّلام.
فهنا يُقال: إنَّ محمله هو الدُّعاء لهم بالسَّلامة من الشِّرك والكفر والضَّلال، ونحو ذلك، وهذا لا إشكالَ فيه؛ أن تدعو للكافر بأنَّ الله يهديه، ويُصلح قلبه، وأن يدلّه على الحقِّ، ونحو ذلك، هذا ليس فيه محظورٌ، لكنَّه لا يزيد -كما سبق-، فلا يقول: وعليكم السلام.
والذين ذكروا هذا المعنى قالوا: إنَّ الإسلام هو مناط السَّلامة في الدَّارين، يعني: إذا أَسْلَموا فإنهم يَسْلَمُون: أسلم تسلم، كما قال النبي ﷺ لهرقل[8]، هذا إذا لم يُعلم منهم تعريضٌ بالدُّعاء علينا.
والنبي ﷺ جاء بهذه الصيغة: وعليكم بعيدًا عن الإيحاش، وبعيدًا عن العبارات التي ربما تكون بعيدةً عن الرفق.
ونحن مأمورون بأن نردّ التحية بمثلها، أو بأحسن منها، فلا تتحول التَّحية إلى سبابٍ وشتائم، وإنما يقول: وعليكم، أو عليكم، فيكون عليهم مثلما قالوا، ويكون الرادُّ بهذه الصِّيغة قد حفظ لنفسه حدود الأدب اللائق، والرفق مع العدو والصَّديق.
أمَّا مُطاولة ومُجاوبة السُّفهاء بسفههم، فإنَّ ذلك يجعله قرنًا لهم، ويكون ندًّا ومُضاهيًا لهم في سفههم، فهم يبينون عن سفهٍ، وهو يُجيب بمثله؛ فصاروا بمنزلةٍ واحدةٍ، وهذا لا يليق.
وكذلك أيضًا ذكر القاضي عياض: أنَّ التقدير إذا علم أنهم يلوون ألسنتهم بالدُّعاء بالسَّام، قال: فالوجه أن يقدر وأقول: عليكم ما تُريدون بنا، أو ما تستحقّونه[9].
ولكنه ذكر أنَّ ذلك أيضًا ليس على سبيل العطف؛ لئلا يكون ذلك من قبيل التَّقرير لدُعائهم[10]، والنبي ﷺ قال: فقل: وعليك، يعني: إذا ردّوا بصيغة الجمع، باعتبار مُقابلة الجمع بالجمع، هم يقولون: "السلام عليكم"، نقول: "وعليكم السلام"، لكن لو كان واحدًا فيُمكن أن يُقال: وعليك، يعني: السَّلام.
وكذلك أيضًا أخذ من هذا أكثرُ أهل العلم أنَّ ذلك للوجوب، مع أنَّ من أهل العلم مَن خالف في هذا، وقد نقل الوجوب عن جماعةٍ من السَّلف: كابن عباس، والشَّعبي، وقتادة[11]، واستدلّوا على ذلك بأدلةٍ، منها هذا الحديث، أمَّا الإمام مالك-رحمه الله- فذهب إلى عدم الوجوب[12]، وأجاب عن تلك الأدلة التي استدلّ بها الأوَّلون.
وعلى كل حالٍ، الأكثر من أهل العلم على أنَّه لا يردّ عليهم بقوله: "وعليكم السلام"، أيًّا كان قولهم، وإنما يقول: "وعليكم".
والنووي -رحمه الله- نقل الاتِّفاق على أنَّه يردّ عليهم إذا سلَّموا، لكن قرر أنَّه لا يُقال: عليكم السلام، وإنما يُقال: "وعليكم" فقط[13].
وهذه الصِّيغة في الجمع -كما سبق- لا تدلّ على التَّعظيم، فحينما يُقال: "وعليكم"، إنما يُقصد مُقابلة الجمع بالجمع، من باب المشاكلة في اللَّفظ، إذا كانوا جماعةً، ونحوذلك، والله تعالى أعلم.
هل يردّ على المسلِّم فيُقال: وعليك؟
يعني: لو أنَّ المسلِّم سلَّم، فقلت: وعليك.
ذكر ابنُ دقيق العيد أنَّ ذلك يكون مُجزئًا في ردِّ السلام، لكنَّه خلاف السُّنة، قال: إنَّ المشروع أن يقول: وعليكم السلام[14]: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا[النساء:86].
وكذلك أيضًا اتَّفقوا على أنَّه لا يُدْعَى لهؤلاء بالرحمة، يعني: لا يُقال لهم: "وعليكم السلام ورحمة الله"، أو بالبركة، فيُقال: "وبركاته"، وإنما يُقال: "وعليكم" فحسب.
والذين قالوا: يقول: "وعليكم السلام" إذا تحقق من قولهم فإنَّه يقف عند هذا، يعني: لا يزيد بالدُّعاء بالرحمة، ولا بالبركة.
والله تعالى أعلم، وصلَّى الله وسلّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الاستئذان، باب كيف يردّ على أهل الذّمة السلام، برقم (6258)، ومسلم: كتاب السلام، باب النَّهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يردّ عليهم،برقم (2163).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الاستئذان، باب كيف يردّ على أهل الذّمة السلام،برقم (6257)،ومسلم: كتاب السلام، باب النَّهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يردّ عليهم،برقم (2164).
- أخرجه النسائي في "السنن الكبرى": كتاب عمل اليوم والليلة، باب ما يقول لأهل الكتاب إذا سلَّموا عليه، وذكر اختلاف الناقلين للخبر في ذلك، برقم (10139).
- أخرجه أحمد في "مسنده" (20/305)، برقم (12995)،والترمذي في "سننه": أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة المجادلة، برقم (3301)، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وصححه الألباني.
- أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، برقم (6024).
- أخرجه البخاري: كتاب الدَّعوات، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-:((يُستجاب لنا في اليهود، ولا يُستجاب لهم فينا))، برقم (5922).
- "شرح النووي على مسلم" (14/145).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟، برقم (7)، ومسلم: كتابالمغازي (الجهاد والسير)، باب كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل،برقم (1773).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (7/48).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (7/48).
- "فتح الباري" لابن حجر (11/42).
- "فتح الباري" لابن حجر (11/42).
- "شرح النووي على مسلم" (14/144).
- "فتح الباري" لابن حجر (11/37).