الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
في هذه الليلة سأشرعُ في الحديث عن باب "الدعاء يوم عرفة"؛ وذلك أنَّه في أيام الحجِّ تحدثتُ عن الأذكار المتعلقة بالحجِّ، ثم بعد ذلك بقي هذا الباب، وبابان بعده، فسأتحدثُ من هذا الموضع إلى آخر الكتاب -إن شاء الله تعالى- في الليالي الآتية.
ففي هذا الباب -باب "الدعاء يوم عرفة"- أورد فيه المؤلفُ حديثَ عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي ﷺ قال: خير الدُّعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنَّبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير.
هذا الحديث أخرجه الترمذي، وقال: غريبٌ من هذا الوجه، فيه حماد ابن أبي حُميد، وليس بالقوي عند أهل الحديث[1]. وذكر أيضًا ابنُ الملقن نحوًا من ذلك، ونقل كلام الترمذي [2]، وكذلك أيضًا ضعَّفه الحافظُ ابن حجر بسبب هذا الراوي، وهو حماد ابن أبي حُميد في إسناده[3]، وكذاأيضًا المناوي[4]، والذَّهبي[5].
ومن المعاصرين مَن ضعَّفه: كسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز[6]-رحمه الله-.
وقد حسَّن هذا الحديث الشيخُ ناصر الدين الألباني[7]، وقال في موضعٍ: "حسنٌ لغيره"[8]. وقبله المنذري، وهو عنده صحيحُ الإسناد، أو حسنٌ، أو ما قاربهما[9].
قوله -عليه الصَّلاة والسلام-: خير الدُّعاء دعاء يوم عرفة يعني: أفضل الدُّعاء؛ وذلك لأنَّ يوم عرفة فيه من الفضل، وله من المنزلة ما لا يخفى، فذلك أجزل إثابةً، وأعجل إجابةً.
وخير ما قلتُ أنا والنَّبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، "خير ما قلتُ" بمعنى: خير ما دعوتُ، هذا يحتمل؛ لأنَّه قال: خير الدُّعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنَّبيون من قبلي يعني: خير ما دعوتُ به أنا والنَّبيون من قبلي، فيكون ذلك بيانًا لهذا الدعاء، وهو قول: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، فهذا الذكر يكون بهذا الاعتبار من جملة الدُّعاء، بل هو أفضل الدُّعاء.
وهذا يرد عليه إشكالٌ معروفٌ عند أهل العلم، وهو أنَّ النبي ﷺ ذكر هذا الذكر: لا إله إلا الله، ولم يذكر دُعاءً، فكيف قال: وخير ما قلتُ أنا والنَّبيون من قبلي: لا إله إلا الله، فهذا ليس فيه سؤالٌ ولا دُعاءٌصريحٌ؟!
والعلماء -رحمهم الله- أجابوا عن ذلك بأجوبةٍ معروفةٍ؛ فبعضهم قال: إنَّ ذلك على سبيل التَّعريض، يعني: أنَّه مُعرض بالسؤال، فحينما يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد يكون من قبيل التَّعريض بالسؤال، يعني: إذا كان هو المعبود وحده، وأنَّ الملك له دون ما سواه، وكذلك له الحمد على كمالاته، ومنها: العطاء، والكرم، والإفضال، والجود، وهو على كلِّ شيءٍ قدير يُعطي، ويُغني، ويُعافي، فيكون ذلك من قبيل التَّعريض بالدُّعاء، كأنَّه يقول: أنا مُعترفٌ بهذه الأوصاف والكمالات لمن يملكها ويتَّصف بها، وأنا فقيرٌ إلى جودك وبرِّك وإحسانك.
ويُشبهه أيضًا قول مَن قال: بأنَّ ذلك باعتبار أنَّ الدعاء يشمل النوعين -وهذا أوضح-: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، دعاءالمسألة أن يقول: يا ربّ، ارزقني، ويا ربّ، عافني، ويا ربّ، أغنني، ويا ربّ، اغفر لي.
ودُعاء العبادة أن يقرأ القرآن، أو أن يذكر الله ، أو يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، أو يصوم، أو يُصلي، أو يعمل عملًا من أعمال البرِّ، فهذا العمل الذي يعمله حينما يقوم ويقعد ويركع ويسجد، أو حينما يصوم يومًا، أو يقرأ كلامَ الله -تبارك وتعالى-، ويتلو القرآن، أو يذكر ربَّه، هو ماذا يُريد؟
وحينما نقول هذه الأذكار بعد الصَّلاة، فنحن سائلون بلسان الحال، وليس بلسان المقال، بلسان المقال: يا ربّ، ارزقني، يا ربّ، أعطني، يا ربّ، اغفر لي، يا ربّ، ارحمني. بلسان الحال؛ هو يعمل من أجل ماذا؟ ويُصلي من أجل ماذا؟ ويصوم من أجل ماذا؟ ويتصدق من أجل ماذا؟ هو سائلٌ بفعله، يلتمس ألطافَ الله ورحمته وثوابه، فهذا يسأل بالقول، وهذا يسأل بالفعل، فالدُّعاء يشمل النوعين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة.
فحينما يقول الله -تبارك وتعالى-: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[غافر:60]، ما معناه؟
فُسِّر بالمعنيين: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، اسألوني أجبكم؛ لأنَّه ذكر الاستجابة، وفُسِّر: اعبدوني أثبكم؛ لأنَّه قال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي[غافر:60]، فهذه قرينة تدلّ على هذا المعنى.
والأقرب أنَّ ذلك يُحمل على المعنيين، وأنَّ القرآن يُعبّر به بالألفاظ القليلة الدَّالة على المعاني الكثيرة، فكلّ ذلك عبادة، وكلّ ذلك دعاء، فالذي يسأل هو في عبادةٍ، وهي من أفضل العبادات، والذي يعمل بطاعة الله هو أيضًا في عبادةٍ، وفي سؤالٍ ودعاءٍ، فهذا يدعو بلسان المقال، وهذا يدعو بلسان الحال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ.
وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ[البقرة:186]، فهذه فيها القولان كما سبق.
إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فُسِّر بالعابد إذا عبده، بأنَّه يُثيبه ويُعطيه، ولا يُضيع عمله، فهذا العابد سائلٌ بفعله.
وفُسِّر أيضًا بالمعنى الآخر: إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ يعني: إذا سأل: يا ربّ، فأُجيبه.
ولاحظ ماذا قال بعده؟
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِيكثيرٌ من أهل العلم من السَّلف فمَن بعدهم قال: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي يعني: بالإيمان والعمل الصالح، فهذه قرينة على هذا المعنى،وأنَّ المراد بالسؤال والدُّعاء: العبادة، السؤال بالفعل والواقع، والآية -والله أعلم- تشمل النوعين.
فحينما قال النبي ﷺ: خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنَّبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، فإذا عُدَّ ذلك من جملة الدعاء، وأنه تفسيرٌ للدعاء، كما يقوله بعضُ أهل العلم، فيُقال: إنَّه دعاءٌ، باعتبار أنَّ الدعاء يشمل دعاء المسألة، ودعاء العبادة، فالذكر من جملة دعاء العبادة؛ لأنَّ هذا الذَّاكر كأنه يقول: يا ربّ، فهو يذكر من أجل طلب الثواب من الله -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه-، فهذا الذكر هو مُقارنٌ للدعاء، ومُشابهٌ له، من جهة أنَّ ذلك جميعًا يستمدّ به الألطاف، ويستمدّ به ما عند الله -تبارك وتعالى-، فيتوصل به إلى المطلوب، فسُمِّي بهذا الاعتبار دعاء.
فهذا جوابٌ آخر، وذكره جمعٌ من المحققين، ولعله أوضح من الأول، مع أنَّ الأول قريبٌ، وذكر أهلُ العلم أجوبةً أخرى غير هذا، ولكن لا يخلو بعضُها من بُعْدٍ، وفي بعضها بعض التَّكلفات، ولم يستبعد بعضُهم أن يكون المراد: "خير ما قلتُ من الذكر"، فيكون المعطوفُ مُغايرًا للمعطوف عليه، يعني: النبي ﷺ يقول: خير الدعاء دعاء يوم عرفة يعني: أفضل الدعاء أن تدعو يوم عرفة، فالله -تبارك وتعالى- ينزل عشية عرفة، كما صحَّ عن النبي ﷺ، وفضل ذلك اليوم معروفٌ، وما إلى ذلك.
فالدعاء له أوقات هي مظنّةٌ للإجابة: كيوم عرفة، وكذلك بين الأذان والإقامة، وفي السّحر -ثلث الليل الآخر-، وكذلك أيضًا يكون في أحوالٍ: كعند نزول المطر، وعند التقاء الصَّفين في القتال، ونحو هذا من الأحوال المعروفة، فتكون مظنةً للإجابة، فيكون النبي ﷺ بيَّن أمرًا، وهو أنَّ خير الدعاء دُعاء يوم عرفة، ثم ذكر أفضل ما قال هو والنَّبيون من قبله، سواء كان من الدعاء، أو من الذكر: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فيكون الذكرُ بهذا الاعتبار هو قول: وخير ما قلتُ أنا والنَّبيون من قبلي،"والنبيون من قبلي" لا يكون ذلك تفسيرًا لما قبله، وهو أنَّ خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وإنما هو عطفٌ لأمرٍ مُغاير، يعني: هو بيَّن حقيقة أنَّ أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، ثم أفادهم فائدةً أخرى، وهي:أنَّ أفضل ما صدر عنه ﷺ من الأقوال مطلقًا، ولا يكون ذلك تفسيرًا للدعاء، فانتقل إلى قضيةٍ أخرى يُبيِّن فيها أفضل ما قاله ﷺ، وليس من الدُّعاء، وإنما أفضل ما قاله مطلقًا.
ومن هنا قال بعضُ أهل العلم: بأنَّ"لا إله إلا الله" أفضل من الدُّعاء، وأفضل من سائر الأذكار، وأفضل من التكبير والتَّسبيح والتَّحميد.
وقد ذكرنا الكلام على هذا في المقدمات عند الكلام على المفاضلات: ما الأفضل: التهليل، أو التكبير، أو التحميد، أو التَّسبيح؟ وذكرتُ ما يدلّ على تفضيل بعض هذه الأمور، وتفضيل التهليل أيضًا، وأنَّ ذلك أفضل على سبيل الإطلاق، أو العموم، وإن كان غيره قد يكون أفضل في بعض الأحوال؛ وذلك أنَّ المفضولَ قد يكون فاضلًا بالنسبة لبعض الأشخاص، أو في بعض الأحوال، أو في بعض الأوقات، أو في بعض المحالّ–يعني: الأمكنة-، فمثلًا في السجود: هل الأفضل أن يذكر الله فيقول: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، أو يقول: سبحان ربي الأعلى؟
الجواب: يقول: سبحان ربي الأعلى، وإذا جلس في التَّشهد يقول التَّحيات، ويُصلِّي على النبي ﷺ، وإذا كانفي قيامه فإنَّه يقرأ الفاتحة، وإن كان في الركعتين الأوليين يقرأ معها سورةً أخرى، لكن مَن كان عاجزًا عن القراءة، فإنَّه يقول عوضًا عن ذلك: التَّسبيح والتَّهليل والتَّكبير والتَّحميد، ونحو ذلك.
فالمفضول قد يكون فاضلًا في بعض الأحوال، أو الأوقات، أو الأزمنة، أو بالنسبة لبعض الأشخاص، وذكرنا أشياء من هذا القبيل: كسُكنى البلاد: هل مكة أفضل، أو المدينة، أو الشام؟ فيفرق بين الحكم العامّ، والحكم بالنسبة للمُعين، فبعض الناس قد يكون الأفضل له أن يسكن بلدًا آخر غير هذه البلاد الفاضلة، وذلك حيث يجد قلبَه، ويستطيع أن يعبد الله وهو مُستريحٌ، فيكون في حقِّه أفضل، وقل مثل ذلك في الصَّلاة في المساجد، ونحو هذا، والله تعالى أعلم.
ويمكن أن يكون هذا الذكر: خير ما قلتُ أنا والنَّبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له مُقدمة بين يدي الدُّعاء، فقوله: خير الدعاء دعاء يوم عرفة، فالدعاء يكون مسبوقًا بالثناء على الله، وتوحيده، والتَّوسل إليه بأسمائه وصفاته، وحمده، كما مضى في بعض المناسبات، فيكون ذلك كالتَّوطئة، لكن هذا قد لا يدلّ عليه الظاهر -والله تعالى أعلم-، يعني: ظاهر اللفظ.
وشيخ الإسلام -رحمه الله- له كلامٌ طويلٌ في المفاضلة بين التَّهليل والتَّحميد والتَّكبير، ونحو ذلك، واقتران التَّهليل بالتَّكبير والتَّسبيح مع التَّحميد في كلامٍ طويلٍ، لكنه يذكر: أنَّ النبي ﷺ جمع في هذا الحديث بين أفضل الدعاء، وأفضل الثَّناء، يقول: فإنَّ الذكر نوعان: دعاء، وثناء، فقال: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلتُ، هذا الكلام، ولم يقل: أفضل ما قلتُ يوم عرفة، وإنما هو أفضل ما قلتُ مطلقًا[10].
وذكر حديثًا، ثم قال: وأيضًا ففي الصحيح عن أبي هريرة: أن النبي ﷺ قال: الإيمان بضعٌ وسبعون شُعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطَّريق[11]، فقد صرح بأنَّ أعلى شُعب الإيمان هو هذه الكلمة -كلمة التوحيد-: "لا إله إلا الله".
وأيضًا في "صحيح مسلم": أنَّ النبي ﷺ قال لأُبي بن كعب: أتدري أيّ آيةٍ في كتاب الله أعظم؟ قال: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ[البقرة:255]، آية الكرسي، فقال رسولُ الله ﷺ: ليهنك العلم أبا المنذر[12].
يقول: فأخبر في هذا الحديث الصَّحيح أنها أعظم آيةٍ في القرآن، وفي ذاك أنها أعلى شُعب الإيمان، وهذا غاية الفضل، فإنَّ الأمر كلَّه مُجتمعٌ في القرآن والإيمان، فإذا كانت أعظم القرآن، وأعلى الإيمان؛ ثبت لها غاية الرجحان[13]، يعني: أعظم آيةٍ في القرآن هي الآية المشتملة على التوحيد: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وأعلى شُعب الإيمان شهادة: أن لا إله إلا الله.
يقول: فدلّ على أنها أفضل مطلقًا، فإنَّ التوحيدَ أصلُ الإيمان، وهو الكلام الفارق بين أهل الجنة، وأهل النار، وهو ثمن الجنة، ولا يصحّ إسلام أحدٍ إلا به، ومَن كان آخر كلامه "لا إله إلا الله" دخل الجنة[14]، إلى آخر ما ذكر،فهذا حاصل كلامه.
وقول النبي ﷺ: لا إله إلا الله وحده يعني: أنَّه مُنفردٌ -تبارك وتعالى- بالتوحيد، مُستحقٌّ وحده للعبادة.
لا شريكَ له في إلهيته، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته، فهذا مزيد تأكيدٍ، فالأول أثبت نصّ على وحدانيته وحده، و لا شريكَ له تأكيدٌ لنفي الشُّركاء، فنصّ على الوحدانية، ونصّ على نفي الشُّركاء.
له الملك جنس الملك، ملك الدنيا والآخرة، فالملك الحقيقي لله -تبارك وتعالى-: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[آل عمران:26].
وله الحمد في الدنيا والآخرة، فهو المستحقّ له على الحقيقة، الحمد المطلق من كل وجهٍ، فـ(أل) هذه تدلّ على الجنس، فلا يستحقّ أحدٌ جميعَ المحامد إلا الله -جلَّ جلاله-؛ لأنَّه الكامل من كل وجهٍ، والكامل من كل وجهٍ هو المستحقّ أن يُعبد وحده دون ما سواه، والذي له الملك وحده دون مُنازعٍ، هو الذي يستحقّ أن تتوجه إليه القلوب، وتُصرف إليه الأعمال.
وهو على كل شيءٍ قديرٌ فهو تامّ القُدرة، لا يُعجزه شيءٌ، ولا يتعاصى عليه شيءٌ.
فهذا الحديث يدلّ على فضله، وعلى فضل الإكثار منه في يوم عرفة، فهذه الكلمة هي أصل دين الإسلام الذي أكمله الله تعالى في ذلك اليوم، وأسسه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[المائدة:3]، فهذه الآية نزلت على النبي ﷺ وهو واقفٌ في عرفة، فأكمل لهم دعائم الدين، فكانت هذه الكلمة أفضل ما يُقال في ذلك اليوم.
وقد سُئل الإمامُ سفيان بن عيينة -رحمه الله- عن الإشكال في تفسير الدعاء بهذا الذكر، في قوله: لاإله إلا الله، فأجاب بالبيتين المشهورين لأمية ابن أبي الصّلت، اللَّذين وجَّههما إلى ابن جدعان، كأنَّه يتحرى منه عطاء، وابن جدعان كان من أجواد العرب في الجاهلية[15]، يقول فيهما:
أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أمْ قَدْ كَفَاني | حَيَاؤُكَ إِنَّ شيمَتَكَ الحياءُ |
إذا أَثنى عليكَ المرءُ يومًا | كَفَاهُ مِن تعرُّضِهِ الثَّناءُ[16] |
فهذا مخلوقٌ يقول لمخلوقٍ: ما أحتاج أني أُصرح بالسؤال، يكفيه ثناء.
فعلى قول سفيان هذا، وكذلك ما ذكرتُه من قول بعض أهل العلم: بأنه يكون بذلك مُعرضًا بالسؤال، فحينما يُثني فهو يتحرى شيئًا بهذا الثناء.
وقد ذكر شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كلمةً أختم بها، حيث يقول: "من المعلوم أنَّ الحجيج عشية عرفة ينزل على قلوبهم من الإيمان والرحمة والنور والبركة ما لا يمكن التَّعبير عنه"[17].
هذه ليس لها صلة مباشرة بمعنى الحديث، لكن تتعلق بيوم عرفة، أحببتُ أن أُورها لما فيها من النَّفع، والله أعلم.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هُداةً مُهتدين.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي: أبواب الدعوات، برقم (3585)، وحسَّنه الألباني.
- "البدر المنير" (6/225).
- "التقريب" (2/156).
- "فيض القدير" (3/471).
- "الميزان" (1/589).
- "فتاوى نور على الدرب" بعناية الشويعر (17/399).
- "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (1/248)،برقم (1102).
- "صحيح الترغيب والترهيب" (2/226)، برقم (1536).
- "الترغيب والترهيب" (2/345).
- "مجموع الفتاوى" (24/234).
- أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان، برقم (8).
- أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي، برقم (1343).
- "مجموع الفتاوى" (24/235).
- "مجموع الفتاوى" (24/234-235).
- "تاريخ دمشق" لابن عساكر (9/274).
- البيتان في "لباب الآداب" للثعالبي (ص122) لأمية ابن أبي الصلت.
- "مجموع الفتاوى" (5/374).