الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فهذا هو الحديث الأخير مما يتعلق بالأذكار المتَّصلة بالحجِّ، وهو حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-: أنَّ رسول الله ﷺ "كان إذا رمى الجمرةَ التي تلي مسجد منى يرميها بسبع حصيات، يُكبر كلَّما رمى بحصاةٍ، ثم تقدّم أمامها، فوقف مُستقبل القبلة، رافعًا يديه يدعو، وكان يُطيل الوقوف، ثم يأتي الجمرةَ الثانية فيرميها بسبع حصياتٍ، يُكبر كلّما رمى بحصاةٍ، ثم ينحدر ذات اليسار مما يلي الوادي، فيقف مُستقبل القبلة، رافعًا يديه يدعو، ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة، فيرميها بسبع حصياتٍ، يُكبر عند كل حصاةٍ، ثم ينصرف ولا يقف عندها"، هذا الحديث مُخرَّج في "الصحيحين"[1].
قوله:"كان إذا رمى الجمرة التي تلي مسجد منى"، مسجد منى هو مسجد الخيف، معروفٌ، والمقصود أنَّها مما يكون أدنى إليه، يعني: الأقرب إليه، هي الصُّغرى، والكبرى هي بعكس ذلك؛ هي الأقرب إلى مكّة، فهنا يرميها بسبع حصيات، وما ذكر الجهةَ التي يرميها منها؛ فظاهره أنَّه إذا جاء وصار إليها فإنَّه يرميها، فتكون أمامه، ولا بأس أن تُرمى من أي جهةٍ كان، ثم مع ذلك يرميها بسبع حصياتٍ، يعني: في كل يومٍ من أيام التَّشريق؛ لأنَّه في يوم النَّحر يرمي الكبرى فقط: "يُكبر على إثر كل حصاةٍ".
وهنا يُكبر كلّما رمى بحصاةٍ عند الجمار الثلاث، ففي بعض الرِّوايات: "على إثر كل حصاةٍ"، يعني: أنَّ ذلك يكون عقيب الرمي؛ رمي الحصاة.
وفي الرواية الثانية: "عند كل حصاةٍ" ،"عندها" هذا أعمّ، يحتمل أن يكون معها، ويحتمل أنَّه على إثرها، يعني: إذا فارقت يده قال: الله أكبر، إذا فارقت الحصاةُ يدَه قال: الله أكبر، هذا معنى "على إثرها"، يعني: بعيدها تمامًا، والأمر في ذلك يسيرٌ.
وقد فُسّرت بالمعية، يعني: أنَّه يُكبر عند كل حصاةٍ؛ أنَّ ذلك حال خروج الحصى من اليد، فهو كما جاء في بعض رواياته:"مع كل حصاةٍ"[2]، فإذا جمع هذا فيكون ذلك مع الرمي، فإذا فارقت الحصاةُ يدَه كان ذلك على إثرها، يعني: أنه بعيدها، ويكون مع الرمي باعتبار الابتداء، وعلى إثر ترك الحصاة، على أثر كل حصاةٍ، يعني: بعدها مباشرةً قبل أن تصلى المرمى، والله أعلم.
"كبَّر على إثر كل حصاةٍ" يعني: أنَّه يقول: الله أكبر، وظاهره أنَّه يقتصر على التَّكبير، وما ذكره بعضُ الفقهاء من الزيادة على ذلك؛ فإنَّه لا أصلَ له، وهذا التكبير يتكرر مع كل رميةٍ بحصاةٍ، فيكون مجموعُ التكبير في اليوم الواحد من أيام التَّشريق إحدى وعشرين مرةً، يرمي الأولى، والثانية، والثالثة، كل واحدةٍ بسبع حصيات.
وهكذا كل عبادةٍ شُرع فيها التَّكبير، فإنَّه يتكرر بتكرر محلّه: كالانتقال في الصَّلاة من ركنٍ إلى ركنٍ، فإنَّه يُكبر مع هذا الانتقال، والحجّ إنما أُقيم من أجل إقامة ذكر الله -تبارك وتعالى-: الطَّواف، والسعي، والوقوف على الصفا والمروة، والسَّعي بينهما، كذلك الوقوف بعرفة، ومُزدلفة، وكذلك أيضًا الجمار، كل ذلك لإقامة ذكر الله -جلَّ جلاله، وتقدَّست أسماؤه-، فهو شعار الحجِّ هذا التكبير.
والكلام في هذه المسألة يطول، لكن هذا هو الشَّاهد: التَّكبير في هذا الموضع، فهو موطنٌ من مواطن الذكر.
يتقدم -عليه الصلاة والسلام- بعد الجمرة الصُّغرى، هنا لم يذكر إلى أي اتِّجاهٍ يكون، والأمر في ذلك يسيرٌ، يتقدم من أجل أن لا يضيق على الناس الذين يزدحمون في حال رميهم للجمار، فيتقدّم قليلًا.
جاء في بعض الرِّوايات: "أنَّه يتنحّى ذات اليمين"، يعني: بعد الصَّفا يأخذ ذات اليمين، ثم يستقبل القبلة ويدعو عندها، يدعو عندها مُستقبلًا القبلة، وهذا الدعاء يكون طويلًا كما سيأتي.
"ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات"، وهنا لم يذكر الجهة التي يرميها منها، وظاهره أنَّه إذا وصل إليها فإنَّها تكون أمامه فيرميها، لكن لو رماها من ناحية اليمين، أو الشمال، أو من الجهة الأخرى المقابلة؛ فلا شيء في ذلك، الأمر في ذلك يسيرٌ، يُكبر أيضًا كلّما رمى بحصاةٍ، على هذا اللَّفظ ظاهره تأخير التَّكبير عن الرمي، يعني: إذا فارق الحصى يده كبَّر، والأمر في هذا يسيرٌ.
"ثم ينحدر ذات اليسار" هنا في هذه الرِّواية في "الصحيحين" حدد الجهة بعد الجمرة الوسطى، يذهب إلى ناحية اليسار مما يلي الوادي، ويقف هنا مُستقبل القبلة، رافعًا يديه يدعو، ثم بعد ذلك يرمي جمرةَ العقبة، وقيل لها: "جمرة العقبة" باعتبار أنَّها كانت مُلتصقةً بعقبة جبلٍ كان ممتدًّا بهذه الطَّريقة تمامًا، هكذا كان الجبل، وكانت هذه الجمرة مما يلي هذا الجبل.
وليس هناك طريقٌ سهلٌ وواضحٌ وممكنٌ ومتاحٌ لرمي جمرة العقبة إلا المكان الذي رماها منه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، يجعل منى عن يمينه، ومكّة عن يساره، ويكون مُستقبلًا لها،فالذي يأتي من منى جاء من الجمرة الصُّغرى هنا، ثم الوسطى هنا، ثم هذه العقبة هنا، الجبل هكذا، فيأتي ويرميها من هنا، ليس أمامه سبيلٌ إلا أن تُرمى من هنا؛ لأنَّ الجبل هذا ممتدٌّ، وهو هكذا مُلتصقٌ بها تمامًا، هي مُلتصقة فيه، فكانوا يرمونها من هذه الناحية.
وهناك مَن كانوا يتسلقون الجبل ويرمونها من أعلاه، لكن هذا فيه مشقّة، ونُقل ذلك عن بعض الصَّحابة ، ونُقل عن بعض السَّلف، لم يفعله النبيُّ ﷺ لأنَّه ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا[3].
فهذا لو فعله ﷺ من تسلق الجبل؛ لكان مشقّة عظيمة، وأدَّى ذلك إلى الضَّرر بالناس؛ لحقهم من المشقّة ما الله به عليم، يصعدون الجبل ويرمون هذه، ويتزاحمون، وكذلك ما يحصل لمن تحتهم مما يُصيبهم من الرمي.
فرماها النبيُّ ﷺ من هذه الناحية؛ ولذلك السنة أن يقف هنا، فتكون مكّة عن يساره، هنا الجمرة الصغرى، وهنا الوسطى، هذه الكبرى، فلا يستطيع هو أن يأتي هكذا ويرمي.
إذن يذهب من هنا فيقف مُستقبلًا لها من هذه الجهة، بخلاف الجمار التي كانت قبل ذلك هكذا، هذا الذي تجدونه في كتب الفقه، هذا أصله، ثم بعد ذلك قبل سنين أُزيح هذا الجبل الملتصق بها، كُسر إلى مدى بعيدٍ عن الجمرة، لكنَّه بقي جزءٌ من الجبل، أصل الجبل بقي موجودًا إلى اليوم، لكن وجدت بينه وبين الجمرة مسافة لا تقل عن خمسمئة متر تقريبًا، كلّ ذلك قد كُسر، وصار ممرًّا واسعًا للناس من نواحي كبري الجمار، من ناحية الجبل.
يعني: وأنت ذاهبٌ ترمي الجمار، متَّجهٌ إلى مكة، عن يمينك هذا كلّه كان جبلًا مُلتصقًا بجمرة العقبة، سُميت "العقبة" لهذا السَّبب، ومن هنا الوادي، فلمَّا كُسر الجبلُ وُضع مكان الجبل حاجزٌ من الخرسانة؛ بحيث لا أحد يرمي من هذه الجهة، وبقي الحوضُ، نصف حوضٍ، بقي الناسُ يرمونها من هذه الجهة سنين طويلة، إلى عهدٍ قريبٍ، قبل سنوات أُزيل هذا الجدار الذي كان مكان الجبل، وُضِعَ من أجل أن يرموا من هنا.
وكان الذين يرمون من أعلى يرمون من جميع الجهات، مع وجود هذا الجدار في الأسفل، يعني: الذين يرمون من الدور السُّفلي بعضُهم كان يأتي بغلسٍ وبليلٍ، ولا يعرف، وأول مرة، فيرمي مع الناس، فكانوا يرمون الجدار إذا رموا من هنا، لا يذهبون من هنا؛ لأنَّه لا يوجد إلا نصف حوضٍ في السَّابق، ومن أعلى كان يوجد الحوض كاملًا، فالذين يرمون من الدور الثاني كانوا يرمونها من جميع الجهات، وكان المسطح في الأعلى في هذا الحوض كان ينزل على النصف الذي هنا فقط؛ فيتحدر الحصى في هذه الناحية المفتوحة من أسفل، وأمَّا هذه المغلقة فإنها تبقى على حالها، فكان الحوضُ من أعلى مُسطحًا من داخله، بحيث يقع الحصى بهذه الطريقة إلى هذا الموضع.
ثم بعد ذلك أُزيل هذا كلّه، ووضع الحوض من جميع الجهات؛ يُرمى في الأسفل، ويُرمى من الجهة التي رماها النبي ﷺ، ويُرمى من الجهة التي تُقابلها، وهذا لا شيءَ فيه؛ لأنَّ العائق كان هو الجبل، العقبة، فإذا رُميت من أي ناحيةٍ، ووقع الحجرُ في موضعه، وأُزيل الجبل؛ فهذا هو المقصود، وليست المسألةُ صوريةً.
فمقصود الشارع -والله أعلم- يتحقق بذلك، فالنبي ﷺ رماها من هذه الجهة، ونحن نرميها من هذه الجهة اقتداءً بالنبي ﷺ، فهذا أكمل، لكن لو رُميت من الجهات الأخرى جمرة العقبة بعدما صار ذلك متاحًا؛ فهذا لا شيءَ فيه، لا إشكالَ في ذلك إن شاء الله.
فقال هنا: "ثم يرمي جمرةَ العقبة من بطن الوادي بسبع حصياتٍ، ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة"، هذه إذا رماها بسبع حصياتٍ يُكبر عند كل حصاةٍ، ثم ينصرف، ولا يقف عندها للدُّعاء.
إذن يقف عند الأولى، ثم بعد الأولى، ثم بعد الثانية، ولا يقف عند الثالثة، ما الحكمة في ذلك؟
قد يقول قائلٌ: إنه لا يقف عند الأخيرة -عند جمرة العقبة- لأنَّه في يوم النحر رماها ولم يقف؛ لأنَّه سيذهب إلى النَّحر والحلق، وعنده طواف، والوقوف طويلٌ؛ للدعاء، فلم يكن هناك وقتٌ للوقوف بعد جمرة العقبة؛ ليتفرغ إلى أعمالٍ أخرى.
هذا قد يُقال في يوم العيد، لكن في بقية الأيام ليس عنده طوافٌ، ولا ذبح، أو نحر، وليس عنده حلقٌ، ليس عنده شيءٌ، فدلَّ على أنه لا يُوقَف عندها، فنحن في هذه القضية نقتدي بالنبي ﷺ عندها.
ويحتمل أن يكون ذلك لأنَّ موضعَها ضيّقٌ، فلو وقف ليس هناك إلا جهة واحدة في السابق، وسيضيق على الناس، وتلحقهم مشقّة؛ إذا وقفوا انسدَّ الطريقُ، يحتمل هذا، فالله تعالى أعلم.
فيكون ما وقف عندها دفعًا للضَّرر والمشقّة على الناس، الآن إذا وقف بضعةُ أشخاصٍ بعيدًا عن الجمرة كما ترون؛ الناس قد يتأذّون إن لم يذهبوا بعيدًا عن الموضع الذي يرمي فيه الناس، والناس إذا أرادوا رمي الجمار أصاب كثيرًا من هؤلاء ما قرب وما بَعُد، يعني: تجد الإنسان حتى لو كان يرمي في الليل، والمكان أمامه، لا يكاد يوجد فيه أحدٌ، ومع ذلك يأتون في حالٍ من التَّأهب، وقد ربط وسطه، وجاء مشدودًا، مُتوترًا، مُندفعًا، لا يلوي على شيءٍ، هؤلاء كأنهم رضعوا مع حليب الأمّهات أنَّ الرمي -رمي الجمار- هي مسألة حياةٍ، أو ممات، فهو لا بدَّ أن يرميها بأي طريقٍ كان، فيأتي وهو بهذه النفس المتوثّبة، ولو لم يكن أمامه أحدٌ، يعني: أحيانًا ما في أحد أساسًا، تزاحم لماذا؟! هذا التَّوثب لماذا؟! هذه المدافعة لماذا؟! ليس أمامك أحدٌ تُدافعه! لكن هي هكذا استقرَّت الآن: أنَّ هذه الجمار موضعٌ –يعني- يُولد الإنسانُ من جديدٍ بعد الفراغ منه.
فهذا الحديث دلَّ على مشروعية التَّكبير عند رمي كل حصاةٍ، وإذا تركه ليس عليه شيءٌ، فهذا سنة، وقد نقل بعضُ أهل العلم الإجماع على هذا، إلا أنَّ هذا الإجماع قد لا يصحّ؛ لأنَّه وُجِدَ مَن خالف في ذلك: كسفيان الثوري -رحمه الله-، يقول: "مَن ترك التَّكبير فإنَّ ذلك يُجبر بإطعامٍ"، يقول:"وإن جبره بدمٍ أحبّ إليَّ"[4]، هكذا قال سفيان -رحمه الله-.
ودلَّ الحديثُ هذا على معانٍ من التَّسبيع في الرمي، وكذلك أيضًا استقبال القبلة بعد الرمي، والقيام طويلًا، وقد جاء عن عطاء: أنَّ ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- كان يقوم بمقدار ما يقرأ سورة البقرة[5]، يقف ويدعو بعد الجمرة الصُّغرى، ثم بعد الوسطى يقف وقوفًا طويلًا.
وكذلك مشروعية رفع اليدين في مثل هذا المقام.
هذا آخر الأحاديث عن أذكار الحجِّ، وبعد ذلك تأتي أذكارٌ أخرى في مناسباتٍ: كحصول الأمور السَّارة، أو نحو ذلك مما يعرض للإنسان من وجعٍ، أو إذا خشي أن يُصيب أحدًا أو شيئًا بعينه، أو إذا فزع، أو ما يقوله في أحوالٍ مختلفةٍ، والله تعالى أعلم.
- أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب رفع اليدين عند الجمرة الدنيا والوسطى، برقم (1752)، والذي بعده، وهذا اللَّفظ ليس عند مسلمٍ.
- متفق عليه:أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب يُكبر مع كل حصاةٍ، برقم (1750)، ومسلم: كتاب الحج، باب رمي جمرة العقبة من بطن الوادي، وتكون مكة عن يساره، ويُكبر مع كل حصاةٍ، برقم (1296).
- متفق عليه:أخرجه البخاري: كتاب المناقب، باب صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-، برقم (3560)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب مُباعدته -صلى الله عليه وسلم- للآثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله عند انتهاك حُرماته، برقم (2327).
- لم أقف عليه.
- أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/294)، برقم (14343)، والفاكهي في "أخبار مكة" (4/283)، برقم (2676).