الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: في باب "الاستغفار والتوبة" أورد المصنفُ حديثَ أبي هريرة : أنَّ رسول الله ﷺ قال: أقرب ما يكون العبدُ من ربِّه وهو ساجدٌ، فأكثروا الدُّعاء.
في الليلة الماضية تكلّمنا على قوله ﷺ: أقرب ما يكون الربُّ من العبد في جوف الليل الآخر،فإن استطعتَ أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكُنْ[1].
أقرب ما يكون الربُّ من العبد، وهنا: أقرب ما يكون العبدُ من ربِّه وهو ساجدٌ، هناك أرشد إلى أن يكون ممن يذكر الله في تلك السَّاعة، وهنا: فأكثروا الدُّعاء يعني: في السُّجود، ذاك في ثلث الليل الآخر يتحرى فيه الذكر: من صلاةٍ، وقراءةٍ، واستغفارٍ، وهنا يُكثر من الدُّعاء.
هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه"[2].
فقوله ﷺ: أقرب ما يكون العبدُ من ربِّه، في الحديث الماضي تحدّثنا عن قُرب الله -تبارك وتعالى-، وعن نزوله في ثلث الليل الآخر: أقرب ما يكون الربُّ من العبد، وهنا: أقرب ما يكون العبدُ من ربِّه، فهنا قُرب العبد من ربِّه -تبارك وتعالى-، فهذا القُرب يتفاوت، وذلك بحسب ما يقوم بقلب هذا العبد، وما يحصل أيضًا لجوارحه من الأعمال الصَّالحة: من الإيمان، والمحبّة لله -تبارك وتعالى-، وإخلاص العمل له، والصّدق، وما إلى ذلك.
فالله -تبارك وتعالى- يقرب هذا العبدَ منه، ويقرب الله إليه أكثر، وذلك أنَّه كلّما زاد قربُ العبد إلى ربِّه بالطاعة والإيمان؛ ازداد قربُ الربّ -تبارك وتعالى-، وذلك أنَّه كما قال النبي ﷺ فيما يرويه عن ربِّه -تبارك وتعالى-: مَن تقرَّب إليَّ شبرًا؛ تقرَّبتُ إليه ذراعًا، ومَن تقرَّب إليَّ ذراعًا؛ تقربتُ إليه باعًا، وإذا أتاني يمشي؛ أتيتُه هرولةً[3]، فهذا قُربٌ يُقابل قُرب العبد، حتى يكون قلبُ العبد بين يدي ربِّه -تبارك وتعالى- كأنه يُشاهده.
فالقلوب لها أحوالٌ لا تُنكر، وذلك بما يحصل لها من العلو في درجات العبودية، والإيمان، والتَّقوى، فيحصل لها من النَّقاء؛فتُحلِّق عاليًا في الملأ الأعلى، كما يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: بأنَّه كلّما تقرّب العبدُ باختياره قدر شبرٍ؛ زاده الربُّ قُرْبًا إليه، حتى يكون كالمتقرّب إليه بذراعٍ[4]، يعني: الربّ -تبارك وتعالى-، فكذلك قُرب الربّ من قلب العبد، وهو ما يحصل في قلب العبد من معرفة الربّ، والإيمان به، وما إلى ذلك.
فهذا الحديث: أقرب ما يكون العبدُ من ربِّه وهو ساجدٌ موافقٌ لقوله -تبارك وتعالى-: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ[العلق:19]، كما قال ذلك النَّووي -رحمه الله-؛ وذلك أنَّ السجود -كما أشرتُ في الليلة الماضية- هو غايةٌ في التواضع، والعبودية، والخضوع، ففيه تمكين أعزّ أعضاء الإنسان، وأعلاها، وهو الوجه، تُمكّنه من الأرض، موطئ الأقدام، فهذا لا شكَّ أنه غاية التواضع؛ ففيه غاية انحطاطٍ من العبد؛ تواضعًا لربِّه -تبارك وتعالى-.
فهنا يُناسب ذلك ذكر العلو فيما يتعلّق بالرب، حينما يخضع الإنسان، ويضع جبهتَه على الأرض، فيكون في غاية التّطامن، يقول: "سبحان ربي الأعلى"، فناسب فيه ذكر علو الله ، وإنما تكمل عبودية العبد -كما ذكرنافي عددٍ من المناسبات- بخضوعه، وإنما يكون كمالُ العبد بكمال تحقيق العبودية، هذا هو كماله، أمَّا التَّكبر، والتَّعالي، والتَّعاظم، فإنَّ ذلك لا يصلح له بحالٍ من الأحوال.
والإكثار من الدعاء، كما في قوله ﷺ هنا في هذا الحديث: فأكثروا الدُّعاء، الفاء تدلّ على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهذا الذي يُسميه الأصوليون: دلالة الإيماء والتَّنبيه، يعني: بما أنَّ العبد يكون أقرب ما يكون من ربِّه في حال السُّجود، فبناءً على ذلك أكثروا من الدُّعاء؛ لأنَّ ذلك أحرى بالإجابة.
وهذا الأمر بالإكثار من الدعاء يشمل الحثّ على تكثير الطلب لكل حاجةٍ من حاجات العبد، كما في حديث أنسٍ ، عن النبي ﷺ: ليسأل أحدُكم ربَّه حاجتَه كلّها، حتى شسعَ نعلهكما عند الترمذي وغيره[5]، يسأله في كل حاجاته،فيُكثر من الدُّعاء في السُّجود، يسأل جميع الحاجات، ويكون ذلك أيضًا بالإكثار والإلحاح بسؤال حاجةٍ مُعينةٍ من حاجاته، فيُكثر من الدُّعاء، يُكثر من سؤال الله أن يقضيها؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يُحبّ الملحين عليه في الدُّعاء، بخلاف المخلوق الذي يضجر، ويستثقل، ويتبرم بمَن يُكثر الطلب، ويُلحّ فيه، كما هو معلومٌ، كما في قوله -تبارك وتعالى- في مدح الفُقراء من المهاجرين -رضي الله تعالى عنهم- قال: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا[البقرة:273] يعني: مُلحّين، الملحفُ، اللِّحاف؛ لأنه يشتمل على الإنسان في كل أجزائه وأبعاضه: إلحافٌ، لا يسألون، هذا الملحِفُ يأتي من هنا، وهنا، ومن هناك في طلبه للمسألة، وتوجّهه بها، هذا أمرٌ يُذمّ عند الناس، لكن الله -تبارك وتعالى- يُحبّ الملحين في الدُّعاء.
وقوله ﷺ هنا بأنَّ أقرب ما يكون العبدُ من ربِّه وهو ساجدٌ[6]، السُّجود يكون في الصَّلاة كما هو معلومٌ، أخذ منه بعضُ أهل العلم -كالحافظ ابن رجب رحمه الله- أنَّ أعظم فرائض البدن التي تقرب إلى الله -تبارك وتعالى- هي هذه الصلاة[7]التي فرَّط فيها الكثيرون، وضيَّعها خلقٌ ممن ينتسب إلى الإسلام.
فهذا إذا كان أقرب ما يكون العبدُ من ربِّه وهو ساجد، ما قال في حال الصَّدقة، وما قال في حال الصّوم، وإنما قال: وهو ساجد، والسجود جزءٌ من هذه الصَّلاة.
وشيخ الإسلام -رحمه الله- يذكر أنَّ حال السُّجود أقرب إلى الله منه في غيره، يقول: "وهذا صريحٌ في فضيلة السُّجود على غيره"[8].
ومن هنا أخذ بعضُ أهل العلم أنَّ السجود أفضل من القيام في الصلاة، يعني: ما الأفضل: أن يُكثر العبدُ في صلاته القيام، والركوع، والسُّجود، أو يُطيل القيام؟ يعني: يمكن أن يُصلي ويقرأ في ركعةٍ البقرة، ويركع ركوعًا طويلًا، ثم يسجد سجودًا طويلًا، ثم يقرأ في الركعة الثانية آل عمران مثلًا، هل هذا أفضل، أو أنَّه يركع بعد كل عشر آيات مثلًا، أو بعد كل خمس آيات؛ ليُكثر من الركوع والسجود؟
هذه مسألة فيها كلامٌ لأهل العلم: فمنهم مَن استدلّ بهذا الحديث وفضّل السجود على كثرة الركوع، والسّجود على طول القيام، وهذه المسألة فيها ثلاثة مذاهب مشهورة لأهل العلم، بل فيها أكثر من ذلك؛ فمن أهل العلم مَن يقول: بأن تطويل السُّجود، وتكثير الركوع والسجود أفضل من طول القيام؛ أخذًا من هذا الحديث: أقرب ما يكون العبدُ من ربِّه وهو ساجدٌ[9]، وهذا قال به ابنُ عمر[10]-رضي الله تعالى عنهما-.
وذهب بعضُ أهل العلم إلى أنَّ تطويل القيام أفضل؛ لحديث جابرٍ في "صحيح مسلم": أنَّ النبي ﷺ قال: أفضل الصلاة طول القنوت[11]، يعني: طول القيام، قالوا:وهذا نصٌّ صريحٌ في ذلك.
قالوا: ولأنَّ ذكر القيام هو قراءة القرآن، والقرآن ليس شيء أفضل منه، فهذا يُقال في القيام، أمَّا في السجود فيُسبّح، ويدعو، وقراءة القرآن أفضل من التَّسبيح والدُّعاء، فاحتجّوا بمثل هذا، قالوا: يُطيل القيام أفضل من أن يُكثر من الركوع والسُّجود، وهذا ذهب إليه الشافعيُّ -رحمه الله-.
وذهبت طائفةٌ ثالثةٌ إلى أنهما سواء، فهذا ورد فيه هذا الفضل: السجود، والقيام: أفضل الصلاة طول القنوت، فهذا فاضلٌ، وهذا فاضلٌ، فهما سواء.
وتوقّف الإمامُ أحمد -رحمه الله- في هذه المسألة، وذهب صاحبُه إسحاق بن راهويه إلى التَّفريق بين صلاة الليل، وصلاة النهار، قال: أمَّا في النَّهار فتكثير الركوع والسجود، وأمَّا في الليل فتطويل القيام، إلا أن يكون للرجل جزءٌ ثابتٌ يُصليه، يقرأ به، يعني: من القرآن، له وردٌ يقرأه في صلاته، فهو يأتي عليه، فتكثير الركوع والسجود أفضل؛ لأنَّه يقرأ جزأه، ويربح كثرةَ الركوع والسجود[12].
يعني: هذا الإنسان مثلًا عنده قدرٌ معينٌ؛ يقرأ جزءًا واحدًا من القرآن مثلًا على قول إسحاق بن راهويه، فهو يعلم القدر الذي سيقرأه؛ إذًا يقرأ هذا في صلاته، ويُكثر من الركوع والسجود، بخلاف مَن ليس له وردٌ محددٌ، فيُمكن أن يقرأ البقرة، وآل عمران، والنِّساء في ركعةٍ واحدةٍ، كما فعل النبيُّ ﷺ، فصلاته مفتوحة.
فهذا عند إسحاق: صلاة الليل الأفضل فيها أن يُطيل القيام، بأيّ اعتبارٍ؟ باعتبار ما جاء عن نبي الله ﷺ: أنه كان يُطيل القيام، كما في الحديث الذي أشرتُ إليه آنفًا[13]، هكذا وصفت صلاته ﷺ، ولم تُوصف بالطول في النَّهار.
وعلى كل حالٍ، هذا له مزية، وهذا له مزية، وشيخ الإسلام -رحمه الله- له تفصيلٌ في هذه المسألة[14]، وكذلك الحافظ ابن القيم في "زاد المعاد"[15].
فمن أهل العلم مَن يقول: بأنَّ ذلك يختلف، فلا يُقال: بأنَّ هذا أفضل مطلقًا، فالذكر الذي يكون في القيام هو قراءة القرآن، فقراءة القرآن أفضل في حال القيام، ويُطيل في هذه القراءة.
أقرب ما يكون العبدُ من ربِّه وهو ساجد فهذه مزيةٌ للسجود، والمزية لا تقتضي الأفضلية مطلقًا، لكنَّه يفرّق بين الناس وأحوال الناس؛ فمَن كان يخشع مع طول القراءة ويصبر، وتكون له بذلك قُدرة وجلد، فإنَّه لو قيل: بأنَّ طولَ القيام أفضل؛ فإنَّ ذلك هو هدي النبي ﷺ، وهو أكمل الهدي، فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه -عليه الصلاة والسلام[16]-، ومَن كان يغلبه النوم، أو الضَّعف، أو نحو ذلك؛ فإنه يمكنأن ينشط بالقيام، والركوع، والسجود، ونحو ذلك، فيكون ذلك أفضل في حقِّه، فإن استوى الأمران؛ فطول القيام في صلاة الليل أفضل من كثرة الركوع والسجود، وإن كان في السّجود هذه المزية؛ فإنَّ القاعدة: أنَّ المزية لا تقتضي الأفضلية، يعني: علي زوج فاطمة، وابن عمِّ النبي ﷺ، وقال فيه النبيُّ ﷺ: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى،غير أنَّه لا نبيَّ بعدي[17]، إلى غير ذلك مما جاء في فضائله، ولم يأتِ ذلك في فضل أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، لكن هذه مزية لعليٍّ ، لكنَّها لا تقتضي الأفضلية، فأبو بكر وعمر أفضل من عليٍّ -رضي الله عن الجميع-.
وكذلك أيضًا عثمان؛ فإنَّ النبي ﷺ قال فيه بعد أن جهّز جيش العُسرة: ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم[18]، لكن هل هو أفضل من أبي بكر وعمر؟
الجواب: لا، فهذه مزية لعثمان ، لكن لا تقتضي الأفضلية على أبي بكر وعمر -رضي الله عن الجميع-، وهذا له نظائر في الشَّرع.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هُداةً مهتدين.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله، وصحبه.
- أخرجه النسائي: كتابالمواقيت، باب النهي عن الصلاة بعد العصر، برقم (572)، والترمذي: أبواب الدَّعوات، برقم (3579)، وقال الترمذي: "حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه"، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"(1/387).
- أخرجه مسلم: كتابالصلاة، باب ما يُقال في الركوع والسجود، برقم (482).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتابالتوحيد، باب قول الله تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، برقم (7405)، ومسلم: كتابالذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحثّ على ذكر الله تعالى، برقم (2675).
- انظر: "شرح حديث النزول" لابن تيمية (ص138).
- أخرجه الترمذي: أبواب الدَّعوات، برقم (3604)، وحسَّنه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (2251).
- أخرجه مسلم: كتابالصلاة، باب ما يُقال في الركوع والسجود، برقم (482).
- انظر:"جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم" لابن رجب (2/336).
- انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (23/76).
- أخرجه مسلم: كتابالصلاة، باب ما يُقال في الركوع والسجود، برقم (482).
- انظر:"بذل المجهود في حلِّ سُنن أبي داود" للسّهارنفوري(5/570).
- أخرجه مسلم: كتابصلاة المسافرين وقصرها، باب أفضل الصلاة طول القنوت، برقم (756).
- "الموسوعة الفقهية الكويتية" (41/112-113).
- أخرجه مسلم: كتابصلاة المسافرين وقصرها، باب أفضل الصلاة طول القنوت، برقم (756).
- انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (23/81).
- انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (1/228).
- أخرجه البخاري: كتابتفسير القرآن، باب{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:2]، برقم (4837).
- أخرجه مسلم: كتابفضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، باب من فضائل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، برقم (2404).
- أخرجه الترمذي:أبواب المناقب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بابٌ في مناقب عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وله كُنيتان، يُقال: أبو عمرو، وأبو عبدالله، برقم (3701)، وحسَّنه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (6073).