الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
01- ابن القيم البدائع. القواعد 824-828
تاريخ النشر: ٠٧ / جمادى الأولى / ١٤٣٣
التحميل: 3679
مرات الإستماع: 2989

 

قال المؤلف -رحمه الله-:

"828- ولما كان شمس الدين أبو عبد الله، محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية قد سلك مسلك شيخه المذكور بالتحقيق للعلوم الأصولية، والفروعية، والظاهرة، والباطنة، وكان أعظم من انتفع بشيخ الإسلام، وأقومَهم بعلومه، وأوسعَهم في العلوم العقلية والنقلية؛ أحببتُ أن أنقل من كتبه من الأصول، والقواعد، والضوابط، والفوائد الجليلة، وأتبعها لهذا الكتاب، وسأحذو -بحول الله- حذو ما فعلته، بما نقلته من كتب شيخ الإسلام، أذكر نفس عبارة المؤلف من غير تغيير لها، إلا إذا اقتضى السبب ذلك؛ إما اقتصار على نفس المقصود من عبارته، أو جمع القاعدة التي توزعت وتفرقت من كلامه في عدة مواضع، لا تتم الفائدة المطلوبة إلا بضم بعضها إلى بعض، وأسأل الله أن ييسر ذلك، وأن يجعل العمل خالصًا لوجهه نافعًا لعباده، ومن نظر فيها علم أنها من أنفع ما يكون، وأنها جمعت من العلوم والمعاني ما لم يجمعه أي كتاب؛ فإنها صفوة كتبهما الموجودة -رحمهما الله، وقدس أرواحهما آمين-".

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:

فمرحبًا بكم معاشر الإخوان، والأخوات، ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا، وإياكم علمًا نافعًا، وعملاً صالحًا، ونية.

هذه المجموعة كما رأيتم، وكما سمعتم، تتصل بكتب الإمام ابن القيم -رحمهُ الله-، وإنما ابتدأنا بها في هذه الليالي والأيام؛ من أجل أن نقطع شوطًا في هذا الكتاب، وكما ذكرت سابقًا في المجالس التي كان الحديث فيها عن كتب شيخ الإسلام، أن يكون هذا الحديث عن كتب ابن القيم -رحمهُ الله- من أجل أن هذه الكتب أسهل وأسلس في الجملة، ومن لم يستطع أن يحضر تلك الدروس فإنهُ يستطيع أن يحصل هذا في دورات -إن شاء الله تعالى-، ومن لم يستطع حضور هذه فإنهُ لا ينقطع عما كان عليه من حضور الدروس السابقة، فتكون متسلسلة في كل ليلة اثنين -كما هو معلوم إن شاء الله تعالى-.

هذه الكتب التي ألفها الحافظ ابن القيم -رحمهُ الله- تختلف في أسلوبها في الجملة عن طريقة شيخ الإسلام، من حيث: السهولة، ومن حيث أيضًا عذوبة العبارة، وكذلك أيضًا من حيث القضايا التي تناقشها في الغالب، وأرجو ألا تكون مشكلة على أحد من السامعين، كما أننا لسنا بحاجة كما كنا نفعل مع كتب شيخ الإسلام من إيراد المناسبة في غالب المواضع؛ لأنهُ هناك كانت على سبيل الرد، وفي سياقات معينه، فنحتاج إلى بيان هذا السياق الذي ذكر فيه هذا الكلام، أما هذه فليست بردود، ويمكن أن يقتصر على عامة ما ذكرهُ هنا، ويفهم المراد إلا في مواضع يسيره، تحتاج إلى شيء يكمّلها؛ ومن أجل أن ما ذكر لا يفي بالمقصود فيما أظن -والله تعالى أعلم- وسيأتي.

لكن الأمر الذي قد يفيد هو أن هذا الجزء الذي يقتصر عليه أحيانًا هو جزء يسير من كلامٍ في غاية النفاسة، وإن ما تركه منه لا يقل فائدة وأهمية، وجودة عما انتخب وذكر، فقد أذكر بعض الأشياء في نفس كلام ابن القيم -رحمه الله- مما يتبع هذا، ثم إنهُ أيضًا لربما في هذه المواضع يلخص أكثر مما يلخص من كلام شيخ الإسلام، يختصر ويتصرف كثيرًا.

وعلى كل حال لا بأس في بعض المواضع أن أذكر بعض المكمل من كلامه لتتم الفائدة، ثم أيضًا هذه الأشياء التي اختارها -في نظري- أنهُ يوجد نظائر لها لا تقل عنها أهمية، وفائدة بحال من الأحوال، ولكنهُ وقع اختياره على هذا، ثم بعد ذلك وجد له اختيارات أخرى استدرك فيها بعض الأشياء التي تركها، ولعله يأتي مناسبة أتكلم عن هذه الأمور، فلا تظن أن ما يذكر هنا هو حاصل ما في هذه الكبت من الجواهر، لا، لا.

أحيانًا تتحير، هذه الفائدة، والتي بعدها، ما الفرق بينهما من جهة الأهمية؟ كلاهما في مستوى واحد، بل لربما يوجد -في نظري- بعض الأشياء التي لم يذكرها قد تكون أهم من بعض ما ذكره، وإنك لتتحير، ما الذي توردهُ، وما الذي تتركهُ، لكن غاية ما أرجوه أن تكون مثل هذه الكتب، أو هذه القراءة دافعة وحافزة للاشتغال بكتب هذين الإمامين، فهي من أنفع الكتب، ومن أكثرها علمًا وصوابًا فإذا أطلع الإنسان على جمل منها، فإن ذلك لربما يحفزهُ إلى مطالعة المزيد، وقراءة هذه الكتب قراءة متأنية

"من البدائع"

كتاب بدائع الفوائد هذا، هو اسم على مسمى، بلا مبالغة، وإني أنصح طلاب العلم أن يجعل هذا الكتاب بين يديه، أو قريبًا منهُ، وفي الأسفار ينقله معه، ويطالع فيه؛ لأن القضايا المذكورة فيه غير مترابطة، يمكن أن تقرأ فائدة بأربعة أسطر، وانتهى، ثم تقرأ الأخرى بعد سنة، لا إشكال، لا يفوتك شيء، فموضوعات الكتاب هي فوائد متناثرة، لا يضر تفريقها في القراءة، قد تجد أشياء، قد تكون بالنسبة إليك فيها صعوبة، ولكن يمكن أن تتجاوز، وتقرأ ما يلائمك، فإنك ستجد فيه ما يمتع، ويطرب، وتجد فيه من الفوائد، والضوابط، والدقائق، واللطائف، والحكم، والشوارد ما لا يقادر قدره، تنسى نفسك وأنت تقرأ، فهذا الكتاب على اسمه، لكنهُ يعتبر من كتب ابن القيم ذات المستوى الذي لربما قد يتناسب مع طلاب العلم الذين حصلوا بعض التحصيل، فلا يُقرأ في بداية الطلب، فمثل هذا الكتاب، وكتاب الصواعق المرسلة، وكتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والتنزيل، وكتاب إعلام المواقعين، هذه الأربعة تعتبر من كتب ابن القيم -رحمهُ الله- ذات المستوى العالي نسبيًّا.

باقي كتب ابن القيم -رحمهُ الله- إذا قرأ فيها طالب العلم، ولو كان مبتدئًا؛ فإنهُ قد لا يجد صعوبة في فهمها، وما في هذا الكتاب، كتاب بدائع الفوائد يتفاوت غاية التفاوت، فهناك أشياء واضحة، وهناك أشياء تحتاج إلى شرح، وهكذا.

في هذه الكتب كما هي العادة في الكلام على كتب شيخ الإسلام -رحمهُ الله- أني أعرف بالكتاب الذي نقرأه، وأظن أن هذه فائدة إضافية، لا نستغني عنها، هذا الكتاب -كتاب بدائع الفوائد- على طريقة أهل العلم قديمًا وحديثًا، يجمعون فيه الشوارد، واللطائف، والفوائد التي تمر بهم في قراءاتهم وجردهم، فينقلونها عن غيرهم، ويدونونها مما يسمعون من شيوخهم، أو مما يقرؤون في الكتب، بالإضافة إلى أشياء قد عنت لهم ولاحت، فيقيدونها، والعالم كثيرًا ما يفتح عليه ضوابط، وأشياء لو لم يقيدها فإنها تتلاشى، وتذهب وينساها، حتى إنهُ لربما سمعها من غيره إذا كان قالها في مجلس، فكتبت، قد يسمعها من غيره، ويتعجب منها، ومن جودتها ودقتها، ويقال له: هذه سمعناها منك، وهو قد نسيها.

فالعلماء كثيرًا ما تلوح لهم أشياء فكانوا يدونون، وهذه المدونات تارة يسمونها الفوائد، وتارة يسمونها التذكرة، أو الزمبيل، أو الكُنَّاش، يعني: مثل النوتة، ولكنها كبيرة، كناش، يدون فيه الفوائد، وكذلك المخلاة، والسفينة، الكشكول، ويحسن بطالب العلم أن يتخذ هذا المنحى، خاصة أنه قد ذللت الأسباب اليوم، يمكن أن يطلب هذا المقطع، أو هذا الموضع من هذه الموسوعات، الموجودة، الإلكترونية، ثم يقتطعهُ، ويضع ذلك في ملف خاص، أو يرتب هذه الملفات على هذه الموضوعات، فإذا جاء يتكلم على درس في التفسير مثلاً؛ يجد من الدرر، والنفائس، واللطائف ما لا يوجد في كتب التفسير، وهكذا إذا تكلم في أصول الفقه، أو في شرح الحديث، أو غير ذلك، فهذا في غاية الأهمية، ومن أنفس هذه الكتب هذا الكتاب، فيه نوادر، وقواعد، وضوابط، وتحريرات، ونقول، ومسائل، ولطائف في علوم متفاوتة، مختلفة في اللغة، في النحو، في التفسير، في الحديث، في أصول الفقه، في الفقه؛ إلى غير ذلك، وفيه مناظرات، وفيه رقائق ومواعظ، وفيه مناظرات يحكيها هو، يركبها، كل هذا بعبارة رصينة، وجيدة، ودقيقة.

يعني حتى الأشياء التي ينقلها -رحمهُ الله- عن غيره ينقل أشياء لا سيما في اللغة مثلاً عن السهيلي، وينقل عن العز بن عبد السلام أشياء في بعض الضوابط، ونحو ذلك، حتى في الشوارد، واللطائف، والحكم التي لربما ينقل كثيرًا منها عن ابن الجوزي في كتابه المدهش في الوعظ، ابن القيم -رحمهُ الله- يتصرف فيها غالبًا، فيضيف إضافات في غاية الإفادة، والأهمية، والجودة، ويضمنها في ثناياها، حتى أنك تتحير أحيانًا هل تنسب هذه الفائدة لابن الجوزي الذي هو الأصل مثلاً، أو للعز بن السلام، أو للسهيلي، أو تضيف هذا لابن القيم، فإذا إضافته لصاحبه الأول، ورجع الناس إليه في الكتاب، وجدوا العبارة فيها مغايرة، وفيها إضافات، فيظنون أنك تصرفت فيها.

فهو كتاب على كل حال بديع، واسم هذا الكتاب على كل حال المشهور بدائع الفوائد، وهذا موجود على عدد من النسخ الخطية، يذكر فيه، يقول: فائدة، وأحيانًا يقول: فائدة بديعة، فسمي ببدائع الفوائد، ولا يوجد على طرة الكتاب ما يدل على أن الحافظ ابن القيم -رحمهُ الله- سماه بذلك، ولا في ثنايا الكتاب، إنما كان بمثابة كشكول لهذه الفوائد، فكان يقيدها، ولا يبعد أن ذلك من تسميته، لكن لا يوجد ما يدل على هذا -فالله تعالى أعلم-.

لكن على كل حال ربما يكون سمي ببدائع الفوائد؛ لأنهُ يقول في بعضها: فائدة بديعة، فأطلق عليه ذلك، هذا الكتاب من جهة أهميته هو أكبر كتاب تحدث فيه ابن القيم -رحمهُ الله- عن قضايا لغوية مثلاً، وكما قلت: إنها في الغالب منقولة عن السهيلي، لكنهُ تصرف، وزاد، وناقش، وأضاف.

كذلك أيضًا في هذا الكتاب فسر سورًا بكاملها، مثل: سورة الكافرون، وسورتي أيضًا قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، وكذلك أيضًا فسر بعض الآيات مثل اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] ذكر فيها عشرين مسألة، وفسر قوله: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ۝ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 55-56].

وفيه نقولات طويلة عن الأمام أحمد -رحمهُ الله- من كتب غير موجودة أيضًا، من كتب المرويات عن الأمام أحمد -رحمهُ الله- وفيه قواعد، وتأصيلات، وتفصيلات لعلكم درستم بعضًا منها كالتي تتعلق بموضوع الأسماء والصفات، فهي فريدة، بديعة، لا تكاد توجد مجتمعة بهذا السياق والنسق في كتاب آخر.

وفيه أيضًا نقولات عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهُ الله- كثيرة، بعضها موجود في بعض كتب شيخ الإسلام المطبوعة، وبعضها لا نجدهُ فيها، هناك أشياء سمعها منه.

كذلك أيضًا فيه قواعد أصولية، قواعد فقهية، بالإضافة إلى مسائل فقهية كثيرة.

ثم أيضًا هناك أبحاث في هذا الكتاب تصلح أن تفرد في رسالة مستقلة؛ ولهذا طبعت بعض الرسائل مستلة من هذا الكتاب.

هذا الكتاب أيها الأحبة لم يرتبه المؤلف -رحمهُ الله- ترتيبًا على موضوعات مثلاً، فهذه الفوائد منثورة، قد تأتي مجموعات منها متتابعة، ولكنهُ قد يذكر أشياء من هذا الجنس في مواضع أخرى، كثير من هذه القضايا المذكورة في هذا الكتاب تتصل بالفقه، بل هو الغالب، ثم العربية، وعلوم العربية، ثم التفسير، ثم العقيدة، ثم بقية العلوم، ففيه ما شاء الله من ألوان الفنون، والعلوم، والبدائع، واللطائف، والطرائف، فانظر مثلاً تجد في المجلد الأول مجموعة من البحوث الفقهية، تجد مباحث نحوية، تجد تفسير سورة الكافرون، ثم مباحث نحوية، ثم مباحث جليلة في الأسماء والصفات، ثم مباحث نحوية، هذا في الأول.

في المجلد الثاني: تجد الكلام على قوله: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ثم مسائل نحوية ولغوية، ثم يذكر عشر مسائل في قولهم: هذا بسرًا أطيب منه رطبا، وهو مبحث لغوي لطيف، ثم يذكر أيضًا، يتكلم على التحية: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فيذكر فيها ثمانية وعشرين سؤالاً بديعة مفيدة، والكلام على معنى السلام، وحينما نلقي السلام على الآخرين، هل هذا دعاء لهم، أو إخبار، ثم يتحدث عن تفسير المعوذتين.

ثم في المجلد الثالث: يتكلم على قوله: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55] وأطال فيها جدًا، ثم يذكر المسائل النحوية، ثم يتكلم على واو الثمانية، ولولا، ثم يتحدث عن مباحث في الاستثناء، ثم فوائد من خط القاضي أبي يعلا الحنبلي، ثم منتقيات من خطه أيضًا، وجزء في التفسير للإمام أحمد، وفوائد من كلام ابن عقيل وفتاويه، ومواعظ من المدهش لابن الجوزي، وفوائد من الفروق للقرافي، ويعلق على ذلك، قواعد في الشك والاشتباه، فقهيات ومنتقيات.

في المجلد الرابع: مباحث أصولية وفقهية، ثم يذكر أشياء من فتاوى أبي الخطاب، وابن العقيل، وابن الزاغوني من الحنابلة، ثم يذكر مباحث فقهيه أصولية، ثم منتقيات من روايات الأمام أحمد -رحمهُ الله- ومنتقيات لبعض كتب الحنابلة من خط القاضي أبي يعلا، فصول عظيمة في إرشاد القرآن، والسنة إلى طرق المناظرة، وتصحيحها، مباحث أصولية، مباحث نحوية ولغوية، مباحث أصولية، فوائد متفرقة، وهكذا.

هذه جمل من هذا الكتاب في موضوعاته، لكن ما علاقة هذا بكتابه الآخر المعروف المشهور، وهو كتاب الفوائد؟ هل هذا تكرار لذلك الكتاب؟ أو أنهُ مشابه لهُ في موضوعه؟ أو أنهُ يختلف عليه؟

هناك فرق، هذا الكتاب هنا بدائع الفوائد، يغلب عليه المسائل العلمية، في الفنون المختلفة؛ ولذلك قلت لكم: إن هذا قد يحتاج إلى خلفية قبل قراءته، ويطيل النفس في التحقيق، والنقاش، والكلام في كثير من هذه القضايا.

أما كتاب الفوائد: فهو أشبه ما يكون بخواطر ولطائف جميلة بأسلوب عذب، وأمور من الرقائق والوعظ بأبلغ عبارة.

هذا الكتاب بدائع الفوائد مليء بالنقولات عن أهل العلم، بخلاف كتاب الفوائد، فهو لم يوضع لهذا، والنقل فيه نادر، لكن في الكتابين تجد أشياء هي من الحكم والمواعظ اللطيفة، منقولة في الغالب من كلام ابن الجوزي في كتابه المدهش، فهذه مشتركة بين الكتابين، قد تجد هنا لطائف، وطرائف، وحكم، وهناك تجد كذلك، وبعض هذه الفوائد مكررات.

هذا الكتاب -كما قلت- كثير من الأشياء التي فيه، أو الفوائد المنقولة من كتب أخرى، لكن ليست مجرد نقل، وإنما يعلق، ويناقش، ويضيف، وأيضًا ينتخب، ويحسن غاية الإحسان في اقتناص هذه الفوائد، والشوارد من كتب أهل العلم.

هناك أشياء كثيرة كتبها من عند نفسه، يعني: لم ينقلها من كتاب آخر -كما سبق- ويتكلم على بعضها، كأن يقول: مثلا هذا ما فتح الله العظيم به من هذه الكلمات اليسيرة النزر، من غير استعانة بتفسير، ولا تتبع لهذه الكلمات، من مظان توجد فيه، بل هي استملاء مما علمهُ الله، وألهمه بفضله وكرمه، وكثيرًا ما يعقب بأن هذه الفائدة عزيزة، لا تجدها في مصنف آخر، وما إلى ذلك.

على كل حال لعل هذا يكفي بالتعريف بهذا الكتاب، ومهما قلت فيه، فإن ذلك دون قدره، هذا الكتاب حري أن يقرأ، وأن تبذل الأوقات مع هذه النفائس والبدائع، والله هو الهادي والموفق.

"824- حقوق المالك شيء، وحقوق المِلْك شيء آخر؛ فحقوق المالك تجب لمن له على أخيه حق، وحقوق المِلْك تتبع المِلْك، ولا يراعى بها المالك"

الآن حقوق المالك، وحقوق المِلْك، بمعنى أن حقوق الملك لا يلتفت فيها، ولا يعتبر المالك، هل هو مسلم أو كافر أو غير ذلك، أما حقوق المالك فإنهُ قد يعتبر فيها شيء من هذه الاعتبارات، أو غيرها، لعل هذا يتضح لك بالمثال.

الآن عندنا الأرض، أرض غير مخططة، يشترك فيها اثنان، يملكها اثنان، ملكا مشاعًا، الآن أحدهما ذمي، والآخر مسلم، المسلم أراد أن يبيع نصيبه على مسلم، هل للذمي حق الشفعة، أم لا؟

إذا قلنا: له حق الشفعة؛ قدمناه على المسلم، ما تقولون في هذا؟ هل له حق في الشفعة هذا الذمي، فيقدم؟

وتعرفون في الكلام على عقد الذمة، وأهل الذمة أنهم يضطرون إلى أضيق الطريق، ولا يرفعون البناء على بناء المسلمين، وأمور كثيرة فيما عاقدهم عليه عمر فإذا كان في الطريق فإنهُ يضطر إلى أضيق الطريق، هذا في طريق مشاع، يضطر إلى أضيق الطريق، طيب هذا في طريق مرور عابر، يضطر إلى أضيق الطريق، لا يمشي في وسطه إذا قابله المسلم، والمسلم يرفع رأسه، ويمشي في وسط الطريق، فكيف بالملك الدائم، الثابت؟

الآن إذا كان فقط في المرور العابر؛ يضطر إلى أضيق الطريق، فكيف بالملك الثابت؟ يقدم على غيره، فيقال: لك حق في الشفعة؟

مبنى هذه المسألة على هذا الأصل، حقوق الملك، وحقوق المالك، فإذا قلنا: بإن الشفعة هي حق متعلق بالأملاك، لا بالمالكين، فالشفعة ثابته للذمي؛ لأن هذا يتصل بالملك، لا علاقة، لا ينظر إلى المالك من هو.

وإذا قلنا: إن هذا حق يتعلق بالمالك؛ قلنا: يقدم المسلم، وتسقط الشفعة في هذه الحال، لماذا؟

لأنه في الطريق يضطر إلى أضيقه، فكيف يمكن في الأرض، ويقدم على المسلم، مبنى هذه المسألة على هذا الأصل.

يقول: حقوق المالك تجب لمن لهُ على أخيه حق، وحقوق الملك تتبع الملك، ولا يراعى بها المالك.

"825- تمليك المنفعة شيء، وتمليك الانتفاع شيء آخر.

فالأول: يملك به الانتفاع، والمعاوضة.

والثاني: يملك به الانتفاع دون المعاوضة".

لاحظ الآن عندنا تمليك المنفعة، وعندنا تملك الانتفاع، طبعًا من أهل العلم من لم يفرق بين المنفعة والانتفاع، قالوا: هذا اختلاف عبارة، وإلا في الأصل أن تمليك المنفعة والانتفاع شيء واحد، فهؤلاء لا فرق عندهم، ولا إشكال، لكن عند من يفرق كابن القيم -رحمهُ الله- وجمع من أهل العلم، يقولون: الآن تمليك المنافع، مثل ماذا؟ نضرب أمثله:

إذا أجّره دارًا، أجرة، هذا تمليك انتفاع، أو تمليك للمنفعة؟ حتى تتضح لكم الصورة، وتستخرجون الإجابات.

أعرته سيارتك، وأجرته سيارتك، عندك سيارتان، أجرت إحداهما لزيد، وأعرت الثانية لعمرو، زيد هذا الذي أستأجرها، ما لم يوجد شرط يمنع من التأجير، فأجرها لمثله، ممن يعمل فيها كعمل المستأجر الأول، يعني: ما يذهب يحمل فيها غنمًا، وهو مستأجرها يركب فيها، يعني: بحيث يكون شيء يضرها.

فهنا هذا المعار الذي أعرته السيارة، وهذا الذي أجرته السيارة، الذي أجرته، هل له أن يأجرها بنحو ما أستأجر، يعني: بنفس طبيعة الاستعمال؟

الجواب: نعم على الراجح ما لم يكن شرطًا.

أجرته استراحة استأجر منك استراحة لمدة شهر، أو سنة، هل لهُ أن يؤجرها، طلب منه واحد أن يؤجرها يومًا، أو نهاية كل أسبوع، لهُ أن يؤجر؟

الجواب: نعم، بمثل الحال، أو بمثل ما يمكن أن يكون قد تعاقد مع المالك عليه الأجرة، يعني الفقهاء لماذا يضبطونها بهذا القيد؟ يقولون: هو أستأجرها؛ من أجل أن يسكن فيها مثلاً، أن استأجر هذه الشقة هم ثلاثة أفراد، وهي عبارة عن ثلاثة غرف، فأجرها لواحد، وهم عبارة عن أربعين نفرًا، هنا يقال: لا، هؤلاء الأربعين سيدمرونها، أجرها لواحد عنده مدرسة أطفال، روضة، أنا أجرتك تسكن فيها أنت وزوجتك، والآن أشوف روضة، ثلاثمائة واحد، فهذا لا يجوز، الفرق؟

لكن إذا أجر بنحو ما أستأجر عليه، فهذا لا إشكال فيه.

طيب لو أنهُ أعاره الاستراحة، قال له: تفضل هذه إعارة، اطلع أنت وأهلك فيها نهاية الأسبوع، الخميس، والجمعة الأخ ذهب وأجرها، يصلح هذا؟ لماذا تتبسمون؟ ما يصلح، لماذا ما يصلح؟ اتضحت لكم الصورة؟

الأول: تمليك منفعة، ملكها بأجرة، السيارة مستأجرها، الاستراحة مستأجرها، الفيلا مستأجرها.

الثاني: تمليك انتفاع فقط، خذها وانتفع بها، اذهب مشوار عليها، فأخذ السيارة، وصار يأجرها باليوم، أو بالساعة، أو يعلم عليها القيادة، وقف في مكان، وقال: يالله الذي ما عنده رخصة، ويريد يتعلم الدورة بعشرة، ما يصلح هذا.

فهذا فرق بين تمليك المنفعة، وتمليك الانتفاع، لكن بالنسبة للأبضاع مثلاً، هذا تمليك للمنفعة، أم تمليك للانتفاع؟ البضع، تزوج امرأة، عقد على بضعها، هناك مثلنا لكم في الإعارة والإجارة، هنا الآن في عقود أخرى العقد على بضع تزوج امرأة، عقد عليها، هل العقد على البضع هو عقد على المنفعة، تمليك للمنفعة، أم تمليك للانتفاع؟

تمليك للانتفاع، لو قلنا: إنهُ تمليك للمنفعة؛ كان له أن يؤجر، وهذا لا يقول به أحد، لا يجوز بحال من الأحوال، لكنه تمليك للانتفاع، تمليك للانتفاع، فالعقد على البضع هو تمليك للانتفاع، أن ينتفع به بالاستمتاع، وهكذا الأشياء المنافع، يعني: ملك الانتفاع، مثل ماذا؟

الآن أنت تدرس في الكلية، عندك مقعد، تجلس فيه عادة، الطلاب في المدارس يسبق الى مقعد، ويصير طول السنة، وهو جالس فيه يمكن، أو طول الفصل الدراسي، هل له أن يؤجره؟ هل لهُ أن يبيعه؟

 الجواب: لا، طبعًا، هو لا يملكه عينًا حتى يبيعه، لكن الكلام في الانتفاع، والمنفعة، إذا قلنا: إنهُ يملك المنفعة؛ فلهُ أن يؤجره، وإذا قلنا: إن هذه الأشياء العامة، هي مصالح عامة، ومنافع عامة، تمليك للانتفاع فقط، فليس لهُ أن يؤجره، اتضحت؟

هذه الاستراحات، أو الشاليهات، أو الأماكن العامة، المرافق العامة، جئت إلى البحر، أو الكورنيش أو وجدت مظلة، وفيها جلسه، وجاء ناس يبحثون، فأنا أُأجرك هذا المكان الذي سبقت إليه، أأجرهُ، إذا قلت: إنك ملكت المنفعة؛ تؤجر، وإذا قلنا: إنهُ تملك للانتفاع؛ لأنك سبقت إليه، فأنت أحق، فهنا يقول: لا يجوز أن تؤجره، فإذا استغنيت عنه؛ تقوم، وتترك.

وقل مثل هذا في أشياء، خط الهاتف، هل هو تمليك للمنفعة، أو تمليك للانتفاع؟ يتخرج على هذا الأصل، فإذا قلنا: تمليك للمنفعة؛ جاز لك أن تؤجره مثلاً، وإذا قلنا: تمليك للانتفاع؛ نقول لا يجوز لك أن تؤجرهُ.

وقل مثل هذا في أشياء كثيرة، السرير في المستشفى مثلاً، هل هو تمليك للمنفعة، أو تمليك للانتفاع؟ المستشفى مزحوم، ما في أسِرّة، فجاء واحد، وقال: أن ممكن أجركم هذا السرير الذي أنا فيه، وأطلع، كم تحتاجون أسبوعًا، أنا أطلع من المستشفى أسبوعا، أو أجلس في الممر، وأأجركم هذا السرير، يجوز هذا؟

لا؛ لأنهُ تمليك للانتفاع، وليس بتمليك للمنفعة، سكن الجامعة، ساكن بغرفة الأخ، هل له أن يؤجرها، يمكن هذا؟ لا، لماذا؟

لأنه لا يملك المنفعة، وإنما يملك الانتفاع بها، فإذا استغنى عنها؛ خرج منها، لكن ليس له أن يؤجر مثل هذا.

الأجهزة العامة، معمل كمبيوتر، أو نحو هذا في المدرسة، في الجامعة، في كذا، هو تمليك للانتفاع، ليس لهُ أن يؤجره.

وعلى كل حال أظن أنها اتضحت، رأيتم دقة أهل العلم، وكيف يخرجون المسائل؟ وبناء على أي شيء يختلفون؟ لماذا يختلفون؟ هذا نموذج من المآخذ التي يقع بسببها اختلاف الأقوال والآراء.

بالنسبة للتطبيقات لا تصدنكم، دائمًا، انتبهوا لهذا، أفهم الضابط، أو القاعدة، أو الأصل، ولتكن عنايتك في ضبطها، وفهمها، أما الأمثلة، فهذه تذهب، وتجيء، هي فقط للتوضيح، والعلماء يختلفون في التطبيقات، والأمثلة.

مسألة الاستئجار بضوابطه فيه خلاف بين أهل العلم، مسألة المستعار فيه خلاف في تأجيره، المستعار، فالشافعي وأحمد يمنعون من تأجير المستعار، وبعض أهل العلم يجيز ذلك، فحينما نذكر مثل هذه الأمثلة، ليس المقصود تحقيق المسألة الفقهية المقصود بيان الضابط فقط، فتأجير المستعار الإمام مالك يرى أنهُ يجوز، استعرت كتابًا، هل لك أن تؤجره؟ هذا المستعار.

"826- الفرق بين الشهادة والرواية: أن الرواية يعم حكمها الراوي وغيره على ممر الزمان، والشهادة تخص المشهود عليه ولا يتعداهما إلا بطريق التبعية المحضة، فالشهادة اشترط فيها العدد وانتفاء التهمة الخاصة، والرواية لا يشترط فيها العدد إنما يشترط الحفظ والعدالة، وهنا فروع مترددة بين الأمرين، من العلماء من ألحقها بالشهادة، ومنهم من ألحقها بالرواية، كرؤية الهلال، والقافة، والجرح، والتقويم، والقاسم، ونحوها".

الآن الرواية، هذا الفرق بين الرواية والشهادة، وهذا يترتب عليه مسائل وأحكام فقهية، كما أشار الحافظ ابن القيم -رحمهُ الله- وهذه الفروقات اليسيرة التي ذكرها، العلماء تكلموا على الفروقات بين الرواية والشهادة في مصنفاتهم، وممن تكلم على هذا الإمام الشافعي -رحمهُ الله- في كتابه الرسالة، ومنهُم القرافي في كتابه الفروق، وقد ذكر فروقا جيده مهمة، بل قال في كلامه على هذا، وهو أول الفروق في كتاب الفروق، على ضخامة الكتاب، وكثرة الفروق التي فيه، هذه أول ما ذكر، قال: إني بقيت فيها ثمان سنين، وأنا أبحث عن فروق محررة بين الشهادة والرواية، يقول: حتى ظفرت ذلك في كلام للمازري -رحمه الله-[1].

كذلك الحواشي التي على كتاب الفروق للقرافي، فيها أشياء ومناقشات لما ذكرهُ القرافي وما نقله عن المازري -رحمهُ الله- مهمة ومفيدة، وكذلك في كتب أصول الفقه عمومًا، وكتب مصطلح الحديث يعني أصول السراخسي مثلاً، نفائس الأصول في أصول الفقه، جمع الجوامع، وحواشيه، كحاشية البنّاني على المحلي، على جمع الجوامع، وحاشية العطّار أيضًا، تجدون فيها جملة من هذه الفروق، كثير منهم ينقلون كلام القرافي -رحمهُ الله-.

كذلك في شرح الكوكب المنير هذه الموسوعة في أصول الفقه، كذلك في الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي في مصطلح الحديث، في تدريب الراوي للسيوطي، والمهذب في أصول الفقه للدكتور النملة.

كذلك المعلمي -رحمهُ الله- في التنكيل في الرد على الكوثري، وكذلك الزركشي في كتابه البحر المحيط في أصول الفقه، وهكذا في الأشباه والنظائر للسيوطي، وفي الإحكام لابن الحزم، وكذلك في كتاب الآمدي، والمستصفى للغزالي، وكشف الأسرار للبزدوي، الرفع والتكميل لللكنوي، شرح النووي على مسلم.

على كل حال يذكرون الفروق في كتب كثيرة، لكن من أوفى من تكلم عليها، الكلام هنا مقتضب جدًا الذي ذكره ابن القيم، من أوفى من تكلم عليها ما ذكره السيوطي -رحمه الله- أشار إلى كلام القرافي، ثم سرد فروقًا كثيرة، هي من أجمع ما وقفت عليه في هذا الموضوع، الفروق بين الشهادة والرواية، وذكر نحو سبعة عشر فرقًا بينهما[2].

يعني من أراد أن ينظر أجمع ما قيل فيها فيما وقفت عليه تدريب الراوي في الجزء الأول في هذه الطبعة صفحة (332)، أذكر نماذج من هذه الفروق فقط على وجه الاختصار والسرعة، وإلا ليس المقصود هو التتبع والاستيعاب، ما هو الدرس الآن بين الفروقات بين الشهادة والرواية، حتى هذه الفروقات عدد منها فيه نقاش وخلاف بين أهل العلم.

فأول هذه الفروق مثلاً العدد، فهو لا يشترط في الرواية، فهو يكفي رواية العدل الضابط الثقة، لكن في الشهادة هنا حسب الشهادة، فيما يتعلق بالقذف لا بد من أربعة، والله -تبارك وتعالى- أمر باستشهاد اثنين من ذوي العدالة: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [البقرة:282] إذًا العدد معتبر، وعلى تفاصيل تذكر في مسألة الشاهد، واليمين، وما إلى ذلك.

الثاني: أنهُ لا تشترط الذكورية بالنسبة للرواية، سواء رجل أو امرأة، لا فرق، لكن في الشهادة فيه تفصيل، فشهادة المرأة في بعض الأبواب لا تقبل.

الثالث: أنهُ لا تشترط الحرية في الرواية، وعند جمع من أهل العلم أيضًا لا تشترط في الشهادة، وبعضهم يقول: إنها تشترط الحرية، يقولون: تشترط في الشهادة دون الرواية، وابن القيم يناقش هذا الكلام، ويرد عليه في موضع آخر.

أيضًا لا يشترط في الشهادة البلوغ -على قول بعض أهل العلم- وشهادة الصبيان فيها كلام معروف، إنما قبلها من قبلها في القضايا التي لا يطلع عليها إلا الصبيان، بشرط كون هؤلاء الصبيان لم يتفرقوا؛ لأن لو حصل شجاج بين الصبيان، وجراح، أو أصابه، أو قتل بينهم، ولا يوجد إلا صبيان، وشهدوا أن الذي قتل، أو جنى، أو جرح هو فلان، ولا يوجد إلا أطفال، فهنا بعض أهل العلم يقبل شهادتهم، بشرط كون هؤلاء لم يتفرقوا، لم يرجعوا إلى أهلهم، فيلقنون.

كذلك أيضًا مسألة شهادة أهل البدع، هل تقبل إذا كان داعية إلى البدعة، لكن بالنسبة للرواية الداعية لا تقبل روايتهُ، ولا غير الداعية، إذا روى ما يوافق بدعته، يعني: إذا وجد مظنة للتهمة.

كذلك بالنسبة للشهادة تقبل شهادة التائب من الكذب، أما روايته فمن أهل العلم من يقول: إنهُ، ولو تاب لا تقبل روايتهُ.

وهكذا يقولون في الفروقات: من كذب في حديث واحد؛ رد جميع حديثه السابق، بخلاف من تبينت شهادته أنها زور في موضع واحد، هل تنقض كل شهاداته السابقة، ويقال للناس: الذي حكمنا لهم بمقتضاها تعالوا هذا شهادته لا تعتبر، وسنحكم في القضية من جديد بإسقاط هذا الشاهد، أو الشهادة؟

 الجواب: لا، فقط في هذه القضية التي ثبت أنهُ شهد فيها شهادة زور.

وهكذا شهادة من جرت شهادته إلى نفسه نفعًا، لا تقبل، أو تدفع عنه ضرًا، لكن الرواية تقبل[3].

وهكذا في مسائل، وفروقات راجعوها في هذا الكتاب، وإذا قارنت ذلك بغيره من كلام أهل العلم، ومناقشاتهم، وكذا، عرفت ما فيها، أو ما في بعضها مما يمكن أن يقبل أو يرد أو يناقش، وهكذا.

ما الذي يترتب عليه الآن، إذا فرقنا بين الشهادة والرواية؟

يترتب عليها مسائل علمية، وأحكام شرعية، أشار إليها الحافظ ابن القيم -رحمهُ الله- يقول: ومنهم من ألحقها بالرواية كرؤية الهلال، هذا الذي يقول رأيت الهلال، هل هو شاهد؟ واضح؟ فنقول لا بد من اثنين، أو أنهُ مخبر، يخبر عن شيء رآه، خبر، فإذا كان من باب الرواية؛ يكفي فيه واحد، والواقع أن بعض هذه الصور ليست بشهادة ولا رواية يعني ليست مجرد أخبار، بل هي حكم، فهي نوع ثالث، يعني: الآن مثل القافة، تعرفون القافة؟

القائف: هو الذي عنده نوع فِراسة، هذه الفراسة عادة تكون وهبية، ما هي كسبية، ما هي في دورة، أسبوع، وهي في بعض القبائل، أو بعض البطون من بعض القبائل، كبني مُدلج مثلاً، والآن في بني مرة، فمثل هذا القائف هو الذي يعرف الأثر، ويعرف أيضًا أشياء أخرى، يعني: تعرفون قصة زيد بن حارثة لما كان نائمًا مع ابنه أسامة في لحاف واحد، قد بدت أرجلهما، وكان أسامة أسود كالليل، وزيد أبوه أبيض شديد البياض، فكان المنافقون يلمزونه في هذا، يعني كأنهم يشيرون إلى أنهُ ليس منه، كيف هذا أبيض، وهذا أسود؟ الولد أسود سواد شديد، والأب أبيض، فجاء هذا المدلجي، وما يعرف هؤلاء من هم، رآهما نائمين، قد بدت أرجلهما، فقال هذه الأرجل بعضها من بعض، هو ما يعرف من هؤلاء، هذا أسود، وهذا أبيض، هذه الأرجل بعضها من بعض، يعني: هذا ولد هذا، واحد ولد الثاني، فدخل النبي ﷺ مسرورًا على أهله، وذكر لهم هذا[4].

ففي هذا فيه رد على كلام المنافقين، فالآن هذا الكلام، كلام القافة، لما يأتي القاضي مثلاً بالقائف، وهذا من العمل بالقرائن، فالقائف يتكلم، تنازعوا في ولد مثلا، اثنان، امرأتان تنازعتا في ولد، قال القائف هو لهذه مثلاً، أو في جريمة حصلت، أو نحو ذلك، فقال هذا الأثر لفلان، هل هذه شهادة، فنقول لا بد من قائف أخر، إذا قلنا: إنها شهادة فلا بد من اثنين، وإذا قلنا بأنها رواية؛ لإنه مخبر، يكفي واحد، والنبي ﷺ لم يطلب آخر، وقد يقال: إنها ليست بشهادة، ولا رواية، بل هي حكم، والحكم لا يطلب فيه أكثر من واحد.

لاحظوا المآخذ الدقيقة، نحن بما أننا ندرس ضوابط، فينبغي على طالب العلم أن يحضر ذهنه، وأن يضبط هذه الأشياء، وأن يخرج منها إضافةً إلى معرفة هذه الضوابط بفوائد مهمة، مثلما قلت: أن تكون العناية بمعرفة الضابط لا الاشتغال بالمثال، فليس المقام مقام تحقيق الأمثلة، والكلام فيها.

والأمر الثاني: أن تعرف مآخذ العلماء، ودقة هؤلاء في الاستنباط، ولماذا يختلفون؟ وأن المسألة ليست كما يظنه بعض الناس، يقول: هؤلاء علماء، والقرآن موجود، يختلفون لماذا؟ يختلفون، الآن طلع لي أنت الأحكام بهذه الطريقة، هل نعرض عليك واحدة منها، ويالله هذه شهادة، ولا حكم، ولا رواية، وبناء عليه ينبني، نقبل واحدًا، أم نطلب ثانيًا، وضعناك قاضيًا، وجاء القائف، وقال كلامًا، تطلب آخر، أو ما تطلب؟

بناء على هذا في الكلام في مسائل العلم، وأهل العلم، وهؤلاء هم الذين يبلغون عن الله، ويوقعون -كما سيأتي في إعلام الموقعين- هؤلاء عندهم من العلم، وإذا نظرت كأنها جبال تتناطح، إذا نظرت في كلامهم، وابن القيم يذكر في كتابه هذا، وفي كتبه الأخرى مثل إعلام الموقعين، ويذكر مناظرات، ويذكر أشياء يصور لك كأنها جبال تتناطح، ويوردها بطريقة عجيبة في حجج هؤلاء، حتى تظن إن هذا هو الحق الذي لا مرية فيه، فإذا أورد الطائفة الأخرى من الأدلة للفريق الآخر؛ قلت: هذا هو الحق الذي لا مرية فيه، ويبقى الإنسان أحيانًا متحيرًا، كأنهُ يقول: يا ابن القيم أين المخرج؟.

فهؤلاء الذين أحيانًا يعلقون في وسائل الاتصال، ويتكلون على أهل العلم، أو يزدرونهم، أو يقولون: لسنا بحاجة إليهم، أو يقولون نحن رجال، وهم رجال، أو يقول: أنا أفهم كما يفهمون، ثم ماذا، أين الثرى من الثريا، وماذا أحطت به من هذه العلوم، ومن هذه الضوابط، والقواعد، والأصول، هذا فضلا عن الممارسة، والقدرة على التعامل معها، مثل هذه الأشياء، والملكة التي تحصل بعد طول الممارسة، ثم يأتي أصغر واحد، ويقول: نحن رجال، وهم رجال، أنا أفهم بطريقتي، أنا أفهم بحسب ما عندي من عقل، ومعطيات، وهم يفهمون بطريقتهم، نحن رجال، وهم رجال، فهذه ما أزرى أحد بنفسه -والله أعلم- كما يزري هؤلاء بأنفسهم، ولكن الإنسان ما يعرف عيوبه، الآن حينما أقرا مثل هذه الكلمات، أو تبلغني، أو أسمعها، أقول: سبحان الله، لو كانوا يعقلون ما قالوا هذا، ولو كانوا يحترمون أنفسهم ما قالوا مثل هذا الكلام، ولكن الجاهل يبلغ من نفسه ما لا يبلغ منه أعداؤه -والله المستعان-.

والحاصل أن الحافظ ابن القيم -رحمهُ الله- في الكلام على الفرق بين الشهادة والرواية في هذا الموضع يشير إلى قضية، وهي أن ما يتعلق بالشهادة أن فيها إلزام لمعين، تشهد لمعين خلاف الرواية فهي عامة، فهذه فيها إلزام معين، فهنا يحتاط لها أكثر للشهادة يحتاط أكثر، وهنا قد تكون أمور من العداوة، أو تحصيل منافع، أو أمور من دفع المضار، فيحتاط لها بالعدد، والذكورية، وما أشبه ذلك، فإذا تطرقت التهمة؛ ردت، ولو كان عدلاً في المعين، أما الرواية فحكمها عام، عامة، لا يخص أحدا بعينه، ومن ثم لا يشترط فيها عدد، ولا ذكورية إنما ما يكون بغلبة الظن أن الخبر صدق، نقول: الراوي يكون عدلاً، وأنهُ صاحب مروءة، وما إلى ذلك مما يطلب فيه، فالأشياء التي تترتب على هذا، هنا ذكر بعض الفروقات هي بناء على ذلك -كما سبق- الذي يخبر أنه رأى هلال رمضان، الذي يقول: يكفي فيه واحد جعله من باب الرواية، وقال: ما نحتاج إلى آخر، وطبعًا الحديث واضح في هذا أنه يكفي واحد، والمسألة خلافية.

من جعله من باب الشهادة قال: لا بد فيه من اثنين، والذين جعلوه من باب الرواية قالوا: هذا مثل الأذان، كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمهُ الله- يقول: الناس لكل قوم فجر[5]، ومسألة رمضان اختلاف المطالع، والمطالع تكون عادة بعيدة عند من يعتبر ذلك في رمضان، والحكم بدخول الشهر فهذا كل قوم لهم فجر، ومع ذلك إذا أذن، فإن ذلك يقبل، يقول لهم: بأن الفجر قد طلع، فهل هذه شهادة تقول لا بد من اثنين، لا بد من سماع مؤذنين، أم نقول: يكفي واحد؟ نقول يكفي واحد، كالإخبار عن دخول شهر رمضان، ولكن الذين قالوا: إنه شهادة، لاحظ الملحظ، قالوا: العموم الذي تذكرونه لا بد منه في الرواية، هذا فقط يتعلق بعام واحد، في رمضان واحد، ما هو عام لكل الرمضانات -كما في رواية الحديث- واضح؟ قالوا هذا يتعلق برمضان معين، فهذا من باب الشهادة هذا يختص بمعين، والذي يختص بمعين هذا موضوع الشهادة، لا الرواية، لاحظ.

ويرد أولئك عليهم بالأذان، أنه يكفي فيه واحد، وهو مخبر بدخول الوقت، وهكذا مسألة القافة يقولون: هذه قضية جزئية حكم عليها، أو بها في جزئيٍ، يعني: في شخص معين، فهذه إذًا على هذا الاعتبار أنها شهادة، ألم نقل في الفروقات: أن الرواية عامة، والشهادة أخص، تتعلق بمعين، وذلك يحتاط لها أكثر، فمسألة القافة الذين قالوا: إنها شهادة، لا بد من اثنين، قالوا: هذه في معين، ومن، ثم لا يعم، فهي من قبيل الشهادة.

ابن القيم فصل في المسألة، قال: هذا القائف من حيث إنهُ منتصب للناس، لهذا الغرض[6] يعني يجبونه المحاكم، والشُّرط يأتون به في مثل هذه القضايا، ويستند إلى قوله بصرف النظر عن زيد وعمرو فهو عام، فيجرى عليه حكم، يجرى عليه أن هذا الذي يصنعهُ إنما هو حكم، وليس برواية ولا شهادة، ومن ثم لا يطلب أكثر من واحد.

طيب هنا ذكر أمثلة أخرى، قال مثل ماذا أيضًا؟ مثل ماذا؟ الجرح، يعني: جرح الرواة، فإذا قلت: إن هذا خبر، يكفي فيه الواحد، وإذا قلت: بأنهُ شهادة؛ فلا بد من اثنين، ويمكن أن يقال: بأن هذا أصلا ليس من باب لا الشهادة ولا الرواية، وإنما هو من باب الحكم، إلا أن يكون ينقل ذلك عن غيره، وإنما الكلام على جرح الراوي من قِبل نفسه، يعني: جارح.

لما يقول ابن معين مثلاً: بأن فلانا ضعيف، سيء الحفظ، إلى آخره، هذا حكم منه، وليس برواية ولا شهادة عليه، ومن ثم لا يطلب فيه العدد، كما يقال في الشهادة، وليس ذلك أيضًا من باب الرواية.

وهنا أمثلة أخرى يقال: مثل ماذا؟ التقويم، يعني: تقويم السلع، والمتلفات، وما إلى ذلك، من جعله من قبيل الشهادة قال لا بد فيه من العدد، ومن جعله من قبيل الرواية قال: لا يشترط فيه، ويمكن أن يقال: إن هذا من قبيل الحكم، تقويم السلع والمتلفات.

الآن هذا انصدمت سيارته، فتقوم السيارة، كم قيمتها، وهي صحيحة، سليمة، ثم يكون تقيمها بعد أن حصل لها هذه الجناية، أو الإصابة، أو نحو ذلك، النقص الذي حصل، فيعطى أرش ذلك، فهنا هذا الذي يقوم هل يشترط فيه أن تذهب إلى اثنين من المعارض، أو ثلاثة، أو ثلاث ورش؛ من أجل أن نأخذ المتوسط، هل يشترط شرعًا؟

الجواب: لا يشترط؛ لأنها ليست من قبيل الشهادة، متى يشترط؟ إذا جعلناها من باب الشهادة فأهل العلم يترددون بسبب ذلك.

وهكذا أيضًا القاسم، القاسم: مثل الخرص؛ خرص الثمار على رؤوس النخيل، أو القسم في العطاء، أو نحو ذلك من غير عد تقديرًا، أو قسم الثمار، أو قسم الطعام، أو نحو هذا، يكون من قبل أهل الخبرة.

فهذا الخارص مثلاً، الذي يخرص الثمر، وهي على رؤوس النخل، هذا يحتاج من يكون عنده خبرة، يعرف أن هذا الثمر ينقص إذا جف، فيقدر هذا كم يأتي من وسق مثلاً، هذا البستان، ثم يقدر، فيفرض فيه الزكاة، ويقول: عليكم كذا، أو عليكم من الخراج كذا، فهذا هل هو الآن شاهد؟ هل هذه شهادة فلا بد من اثنين يخرصون، أو أن هذا من قبيل الخبر والرواية، أو من قبيل الحكم؟

يحتمل، ويمكن أن يقال: إن الأقرب من قبيل الحكم، فإن لم يكن فالرواية، ولا يقال: إنه من قبيل الشهادة، والنبي ﷺ أرسل عبد الله بن رواحة خارصًا وقل في مثل ذلك في أشياء، لو سبح المصلي بالإمام، هل لا بد حتى يعمل الإمام بمقتضاه أن يسبح اثنان، فأكثر؟

إذا قلنا: إنها شهادة، فلا بد من اثنين، وإذا قلنا: إن هذا إخبار عن السهو؛ فإنه يكتفي فيه بواحد، فإذا سبح بك واحد، هل تقوم، أو تجلس، جلست التشهد الأخير، فقال واحد: سبحان الله، تنتظر تقول: أريد آخر؟

إذا أجريته مجرى الشهادة لا بد من آخر، وإذا جعلت ذلك من قبيل الإخبار، اكتفيت بواحد، وهذا هو الصحيح، وهكذا لو أخبرك أحد أن هذا الماء نجس، أو أن هذا الثوب نجس، أو أن هذه البقعة نجسه، هل يجتزئ بقوله، ويكتفى، أو أن ذلك من قبيل الشهادة، شهد على هذا المكان بالنجاسة؛ فلا بد من اثنين، وتقول له: الأصل في الأشياء الطهارة، وحيث لم يتوفر العدد بالشهادة فإذًا لا عبرة بقولك، والواقع أن هذا مجرد خبر، وليس بشهادة، فيكتفي فيه بالواحد، وهكذا في مسائل، وصور كثيرة، عرفتم إذًا القافة، والجرح، والتقويم، والقاسم كل هذا.

"827- قول الصبي، والمرأة، والكافر مقبول فيما جرت به العادة كالهداية، ونحوها لما احتف بذلك من القرائن المرجحة".

هذا سبقت الإشارة إليه، وهو أن مثل هذه القضايا التي تعم بها البلوى، وتكثر الحاجة إليها، فهي من جملة القرائن التي يجتزئ بها، وتكفي في الحكم بأن ذلك هدية، أو أن ذلك إعارة لهُ، أو أن تلك زوجة، أو نحو هذا، يقول: الآن قول الصبي، والمرأة، والكافر مقبول فيما جرت به العادة، الآن الصبي هل تقبل إذا قلنا: هذا الصبي لا يصلح للشهادة، فإذا جاء وحده، وأخبرك أن هذا هدية، جاء لك بطعام من أهله، وقال: هذا هدية، تأخذ، أم تقول له: لا بد من إنسان كبير، أو لا بد من اثنين حتى لو ما جعلته من قبيل الشهادة.

الآن هذا مخبر، وهو صغير، هل يقبل خبر هذا الصغير أم لا؟ بناء عليه أصلاً الأذان، هل أذان الصغير يصح، أو لا يصح، فيه خلاف بين أهل العلم، إذا اعتبرناه مخبرًا، مثل الراوي، هل يقبل خبر هذا الصغير الذي دون البلوغ، وإلا ما يقبل، رواية الصغير؟

فيها كلام عند أهل العلم، لكن نحن أحيانًا قد نقدم بعض الصغار يأذن، ونعرف الخلاف في هذا، ولكن نقول: هذا الأذان هنا لا يجب أصلاً؛ لأنهُ إذا أذن في البلد واحد؛ فقد حصل المقصود شرعًا، فهذا هو القدر الواجب.

فالمقصود هنا هو الآن هذا الصبي، والمرأة، والكافر في مسألة الشهادة، ما هو أن المرأة مثل الكافر، أو مثل الصبي، لا، لكن في مسألة الشهادة فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [البقرة:282] إذا جعلت هذا من قبيل الشهادات، فكيف تقبل قول امرأة واحدة، أو قول صبي، أو قول هذا الكافر؟

لكن فيما جرت به العادة، أنه يقبل كالهدية، ونحوها؛ فإن ذلك يكون قرينة تكاد تصل إلى حد القطع بمقتضاها، نقطع أن هذا كما قال، فنقبل ذلك منه في كثير من الصور لعموم البلوى، وكثرة الحاجة، المرأة جابت لجارتها، جاءت لها بأشياء، وقالت: زوجي قدم من سفر، وهذه أشياء جاء بها لكم، فأعطتها، تقبل، ولا ما تقبل؟ تقبل؛ لأن مثل هذا مما جرت به العادة، وتعم به البلوى، ولا إشكال في ذلك.

فالحافظ ابن القيم -رحمهُ الله- يقول لو أن الرجل لا يدخل بيت الرجل، ولا يقبل هديته إلا بشاهدين عدلين، يشهدان بذلك[7] لاحظ هنا الكلام ما هو في مسألة الرواية والشهادة، هل هذا شهادة أو رواية، لا، وإنما الكلام في الترخص في مثل هذه القضايا التي تعم بها البلوى، فهنا يلحق الناس الحرج، لو قال: أنا ما أدخل بيته يوم أرسل لي الصبي، وقال: الوالد يدعوك، لا بد من اثنين من العدول، المرأة حينما اتصلت بجارتها، وقالت: عندنا زواج، تعالوا، احضروا عندنا، وكذا، فيقول: لا بد من عدلين، فيلحق الناس بذلك كثير من الحرج، وهكذا، على كل حال لعل هذا واضح -إن شاء الله تعالى-.

"828- الخبر إن كان عن حكم عام يتعلق بالأمة، فإما أن يكون مستنده السماع، فهو الرواية".

لاحظ هنا تفريق مفيد الآن نقول: ما الفرق بين العطية، والهبة، والهدية، والصدقة، والزكاة، ما الفرق بين هذه الأشياء؟

نقول: والله الهدية: ما كان على سبيل جلب المودة والمحبة مثلاً، والصدقة ما أريد به الأجر، والزكاة ما كان واجبًا، والهبة والعطية ما كان عطاءً محضًا، هنا أيضًا ما الفرق إذًا بين الرواية، والفتوى، والشهادة، والدعوى، والإقرار، والإنكار، والنتيجة، والدليل، والمقدمة، هذه الأشياء الآن؟

الآن الرواية، والفتوى، والشهادة، والدعوى، والإقرار، جاء عند القاضي، وقال له: أنا أدعي على فلان إلى آخره، هذه شهادة، أم رواية، أم دعوى؟ وذاك قال: أبدًا ما عندي له شيء، هذا ماذا يعتبر؟ دعوى أم إنكار، لو قال: نعم لي عنده هذا المال الذي ذكره، هذا ماذا يعتبر؟

لاحظت ما الفروقات بين الأشياء التي يتفوه بها الناس في مقامات شتى؟

فهنا يذكر هذه الفروقات، يقول: الخبر إن كان عن حكم عام، لاحظ الشهادة قلنا: في قضية معينة خاصة، حكم عام يتعلق بالأمة، فإما أن يكون مستنده السماع؛ فهو الرواية، وإن كان مستنده الفهم من المسموع؛ فهو الفتوى، الآن المفتي ما الفرق بينه، وبين الراوي؟ الراوي ينقل فقط، أما المفتي فهو فهم، واستنبط من هذا المروي، فهذا الاستنتاج، والفهم، والاستنباط إلى آخره حينما يخبر به الآخرين؛ يقال له: فتوى، فرق بين الراوي، وبين المفتي.

ولذلك بعض الناس يسأل، يقول: أنا أنقل فتاوى عن العلماء للناس، أنا ما درست أصول فقه، ولا درست الفقه دراسة جيدة، ولا كذا، والناس يسألوني، وأقول لهم: قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- كذا، في فتاوى اللجنة الدائمة كذا، سألت الشيخ ابن عثيمين -رحمهُ الله- كذا، هل ينطبق علي شروط الفتوى، والكلام فيها، والتحرز؟

نقول: أنت ناقل، لكن لا بد من ضوابط أيضًا في هذا النقل، لا بد من شروط وضوابط، لكن لا تعتبر من المفتين، لا ينظر إلى شروط المفتي، لكن ينظر في شروط في النقل، في مثل هذه المقامات، فبعض الناس كل كلامه، وفتاواه، قال فلان، قال الشيخ ابن عثيمين، قال الشيخ ابن باز -رحمهُ الله- هذا ما يعتبر مفتي، لكن في ضوابط معينه لا بد من مراعاتها.

فهنا هذا المفتي هو الذي يستخرج الحكم، ما ينقل، يستخرج الحكم من النقل، من الرواية، من النصوص، يفهم ذلك من النصوص، من كلام أهل العلم، من قواعد الشريعة ومقاصدها، وما إلى ذلك، وإن كان خبرًا جزئيًا يتعلق بمعين مستنده المشاهدة أو العلم؛ فهو الشهادة، يقول: أنا رأيته يفعل هذا الشيء، أنا سمعته، وهو يقول مثل هذا الكلام، سمعته يقذف فلانًا، رأيته يضرب، أو يقتل، أو يسرق، فهذه تسمى شهادة، في قضية جزئية معينة تستند إلى المشاهدة، أو العلم.

وإن كان خبرًا عن حق يتعلق بالمخبر عنه، والمخبر به، هو مستمعهُ، أو نائبة، فهو الدعوى، حق يتعلق بالمخبر عنه، والمخبر به هو مستمعهُ، أو نائبه، فهو الدعوى، هذا عند القاضي، يقول: أنا أطالب فلانًا بكذا هذه ماذا تسمى؟

فلان ضربني، فلان شتمني، هذه تسمى دعوى، هو يتحدث عن حق له على هذا المدعى عليه، وذاك يسمعهُ، فهذه تسمى دعوى، وإن كان خبرًا عن تصديق هذا الخبر، فذاك قال: نعم، أنا فعلت ذاك الشيء، فهذا يسمى إقرار، إذًا الفرق بين الدعوى، والإقرار؟ الدعوى هي يقولها صاحب الحق، والإقرار ممن وجهت إليه الدعوى، وإن كان خبرًا عن كذبه، فهو الإنكار، لو قال: أبدًا ما حصل، ما شتمته، ما ضربته، ما أخذت ماله، فهذا يسمى إنكارًا، من وجهت إليه الدعوى إذا أنكر، فهذا هو الإنكار، وإن كان خبرًا نشأ عن دليل، هنا قضية أخرى، فهي النتيجة، وتسمى قبل أن يحصل عليها الدليل مطلوبًا، يعني: الآن ما هو المطلوب؟

المطلوب الآن أن نعرف مثلاً حكم لبس المعصفر في هذا العصر، مثلاً، المصبوغ بالعصفر، هذا مطلوب، الدليل الذي يوصلنا إلى هذا يقال له: دليل، النتيجة التي نخرج فيها تسمى نتيجة، يعني: الآن ما حكم الجلوس على مياثر النمور؟ ما حكم الجلوس على بساط حرير؟ أو أن يفرش الإنسان على سريره مفرش من حرير؟ ما الحكم؟ هذا مطلوب، ما يوصلنا إلى هذا يقال له: دليل، فلما نأتي بحديث أنس : أن النبي ﷺ صلى على حصير، قد اسود من طول ما لبس"[8] الحصير يصلى عليه، ما يلبس، فسمى الذي يصلي عليه، أو يجلس عليه، أو يفترش، جعله من قبيل ما يلبس، من طول ما لبس، فنقول: إذًا لا يجوز الجلوس على فراش، أو بساط، أو مفرش من حرير، فيكون كاللباس، هذه نتيجة التي توصلنا إليها، عرفنا الدليل، والمطلوب، والنتيجة، ثلاثة أشياء، عرفت الفرق بينها، قبل أن تحصل عليها هو مطلوب، الذي يوصلك إليه هو الدليل، حاصل ذلك هو النتيجة.

يقول: وجزئهُ مقدمة، جزء الدليل يعتبر مقدمة، مثل ما نقول: كل مسكر فهو خمر، كل مسكر فهو حرام، الخمر مسكر، إذًا النتيجة الخمر حرام، فهذه كل مسكر خمر تعتبر مقدمة للدليل، كل مسكرٍ خمر، وكل خمر حرام، كل مسكر فهو خمر، وكل خمر فهو حرام، فالمقدمة الأولى جزء الدليل يقال له: مقدمة، اتضح هذا؟

كل مسكر فهو خمر، هذه المقدمة الأولى، وكل خمر فهو حرام، النبيذ مسكر، إذًا النبيذ محرم، فجزء الدليل يقال له: مقدمة.

على كل حال كما ترون مثل هذه الأشياء لا يحكم بأن كتب ابن القيم بهذه الطريقة، تحتاج إلى هذا الشرح، وكذا، لا، لكن بدائع الفوائد هو حديقة غناء، مليئة، فيها هذا، وفيها لطائف، وطرائف، وحكم، وأشياء عجيبة، يمكن بعد الصلاة أذكر لكم نماذجًا من هذه الطرائف، واللطائف، تتعجب من هذا الكلام الذي يحتاج إلى شرح، كأنك في درس فقهي عميق، وبين الأشياء الأخرى التي في هذا الكتاب.

  1. انظر: الفروق أو أنوار البروق في أنواء الفروق، للقرافي (1/12).
  2. انظر: الأشباه والنظائر، للسيوطي (530).
  3. انظر: المصدر السابق (530).
  4. انظر: صحيح البخاري (8/157). (2/1082).
  5. انظر: بدائع الفوائد، لابن القيم (1/6).
  6. انظر: المصدر السابق (1/5).
  7. انظر: المصدر السابق (1/7).
  8. أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة على الحصير، برقم (380)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز الجماعة في النافلة، والصلاة على حصير وخمرة وثوب، وغيرها من الطاهرات، برقم (658).

مواد ذات صلة