الأحد 27 / جمادى الآخرة / 1446 - 29 / ديسمبر 2024
12 - ابن القيم ومن إعلام الموقعين. القواعد 875-885 ‏
تاريخ النشر: ١٤ / شوّال / ١٤٣٣
التحميل: 3362
مرات الإستماع: 2895

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فاللهم اغفر لشيخنا ولنا وللحاضرين.

قال المؤلف -رحمه الله: أصل مبنى تعبير الرؤيا على القياس والتمثيل واعتبار المعقول بالمحسوس، فالرؤيا أمثال مضروبة، يضربها الملَك الذي وكله الله بالرؤيا؛ ليستدل الرائي بما ضُرب له من المثل على نظيره ويعبُر عنه إلى شبهه.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا الكلام الذي ذكره الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في هذا الكتاب عظيم النفع -أعني كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين"- ذكره كما سبق في مضامين كلامه على القياس، فإنه تطرق منه إلى الكلام على الأمثال ثم بعد ذلك بين أن الرؤى أمثال مضروبة، وأن من يفهم الأمثال في القرآن فإن ذلك مُعين له على فهم التعبير، ومعرفة التعبير، تعبير الرؤيا.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يذكر هنا أن أصل معنى تعبير الرؤيا على القياس والتمثيل، باعتبار المعقول بالمحسوس، ومن أشهر صورها أن يُصوَّر المعقول بالمحسوس؛ ليتبين ويتضح، ولا يبقى فيه غبش ولا لبس، فالحافظ ابن القيم -رحمه الله- تكلم على جملة من الأمثال، ذكر أكثر من أربعين مثلاً في هذا الكتاب، وفسرها بتفسير بديع.

وهنا يقول: "فالرؤيا أمثال مضروبة يضربها الملَك الذي وكله الله بالرؤيا؛ ليستدل الرائي بما ضُرب له من المثل على نظيره ويعبُر منه إلى شبهه"، فلذلك تجدون أهل العلم في كتب الأصول وفي غيرها حينما يستدلون على القياس مثلاً يستدلون بمثل قوله -تبارك وتعالى:  فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [سورة الحشر:2]، فهذا الاعتبار أصله مأخوذ من العبور، ومنه قيل: عبّارة ومعبر وعَبرة تنتقل من العين إلى الخد، فهو يعبُر من الحال التي وقعت لغيره إلى حاله هو فيعتبر، فلا يفعل ذلك الفعل؛ لئلا يقع له ما وقع لغيره، ولهذا يقولون: العاقل من وُعظ بغيره، فالأمثال المضروبة من هذا القبيل، ولذلك أدخل فيها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- القصص في القرآن؛ لأن المقصود بها الاعتبار، فهو ينظر في تلك الحال التي وقعت للمكذبين والظالمين أو لأهل الإيمان، ثم ينتقل منه إلى حاله هو فيفعل ما يليق.

فمسألة التعبير لا شك أنه يعين على فهمها معرفة الأمثال في القرآن، ولكن التعبير لا شك أنه يقوم على أمرين اثنين:

الأمر الأول: هو وجود المحل القابل، ولهذا يوسف قال:  وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [سورة يوسف:101]، فهذا أمر يهبه الله لمن شاء من عباده، فتارة يوهب التعبير فيُعبر من غير تعلم، وتارة يوجد المحل القابل ولكنه يزكو بالتعلم ويزداد، ويكون المحل القابل مع هذا العلم بمنزلة نور العين وضوء الشمس، فإذا وُجد ضوء الشمس ونور العين لا يبصر فإن الإنسان لا يستطيع أن يرى الأشياء، وإذا وُجد نور العين لكن من غير ضوء الشمس فإن الإنسان يكون في ظلام لا يرى الأشياء، فإذا وجد هذا وهذا أصبح مبصراً، فهكذا التعبير إذا وجد المحل القابل، ولذلك بعض الناس قد يتعلم ولا يحسن التعبير، ومن الناس من يتعلم وينتفع ويكون عنده قدرة على التعبير، وابن القيم -رحمه الله- ذكر قواعد في هذا الباب، وذكر أمثلة في التعبير كثيرة جدًّا، وربط بين هذه الأمور، وبيّن كيف تُوجه، وذكر أموراً تدل على أشياء في التعبير، ولكن قد يكون ذلك في بعضها أو في كثير منها هو الغالب وليس ذلك باطراد؛ لأن هذا يتوقف على معرفة حال الرائي والملابسة وما إلى ذلك، يعني: مثلاً رؤية الحية هل ذلك يعني بالضرورة العدو مثلاً؟، الجواب: لا، فالحية ألوان وبحسب حال الرائي، فقد تكون بمعنى آخر كالحياة الجديدة مثلاً، فأهل التعبير يعرفون هذه الأشياء، لكن هناك أشياء في الجملة يعني مثلاً القمر هو السلطان، لكن القمر قد يأتي بمعانٍ أُخر في التعبير، اللباس هو الدين، فإذا رأى لباساً ضافياً هذا يدل على كمال الديانة ومتانتها؛ لأن اللباس يستر الإنسان ويجمله في الوقت نفسه، فكذلك الدين يحصل به هذا وهذا، اللبن مثلاً يُعبَّر عنه بالفطرة، ولهذا قال جبريل للنبي ﷺ: أصبت الفطرة[1]، لما جاء له بخمر ولبن فاختار اللبن، فكون اللبن يدل على الفطرة باعتبار أن الصغير منذ ولادته بفطرته يُقبل على اللبن، ويؤثره على غيره، ويكون منه غذاؤه، ويُبنى منه لحمه وعظمه. 

وهكذا البقر، لما رأى النبي ﷺ بقراً تُذبح فسر ذلك بقتل أصحابه، وحصل ذلك يوم أحد، فوجْهُ ذلك أن البقر تستعمل في إصلاح الأرض، وحرثها فيُفسر أو يُعبر ذلك بأهل الصلاح والخير والدين، فإذا رأى مثل هذا -بقراً تُذبح- أو نحو ذلك يُفسر بوقوع مثل هذا يعني المكروه لأهل الخير والصلاح ونحو ذلك، وقل مثل هذا أيضاً في الزرع والحرث حينما يرى الإنسان مثلاً: زرعاً يُحصد أو يُحرق فهذا هو عمل الإنسان، وبعض الناس كالمرأة مثلاً قد ترى أنها كلما زرعت زرعاً واستتم جاءت الخادمة فحصدته مثلاً، فهي قد تكون تقع في عرضها مثلاً أو تظلمها، فتأخذ حسنات هذه المرأة، فهذا حصد لعمل الإنسان، نسأل الله العافية.

وقل مثل ذلك في النار تُفسر بالفتنة، والنجوم بالأشراف والعلماء ووجوه الناس، فهم بمنزلة النجوم، كما يُعبر خروج الدم يرى الإنسان دماً يخرج منه بخروج المال، والحدث يُعبر بالحدث بالدين والبدعة وما أشبه ذلك، فالحاصل أن هذه أمور تدل غالباً على هذه الأشياء، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- ذكر كثيراً منها، فمن أراد التوسع فليرجع إلى كلامه، وهو في غاية النفع، والكتب التي تحدثت عن مثل هذا كثير، هناك كتب مفردة، وأيضاً بعض شروح الحديث مثل فتح الباري ذكر الحافظ فيه كلاماً نافعاً في هذا الباب باب تعبير الرؤيا.

قال -رحمه الله: وكما أن محمداً ﷺ عام الرسالة إلى كل مكلف، فرسالته عامة في كل شيء من الدين أصوله وفروعه، دقيقه وجليله، فكما لا يخرج أحد عن رسالته، فكذلك لا يخرج حكم تحتاج إليه الأمة عنها وعن بيانه لها.

هذه الرسالة هي خاتمة الرسالات، ورسالته ﷺ عامة للأحمر والأسود، وكذلك هي شاملة لجميع ما يحتاج إليه الناس من الأحكام، وما يستجد عبر العصور فإن أحكامه موجودة في هذه الشريعة.

فإذا استُعملت أنواع الاستدلال ونُزلت على النص فإنه يتبين لأهل العلم من ذلك ما يحتاجون إليه من أحكام، فإن لم يجدوا شيئاً من ذلك بلون من ألوان الاستدلال لا بمنطوق النص، ولا بمفهومه، فإنهم يلحقون به ما اشترك معه وساواه في العلة بقياس التمثيل، وهو القياس عند الفقهاء، أو بقياس الأولى، فيُلحق المسكوت بالمنطوق، فكل قضية أو نازلة تستجد فلها حكم بالشريعة، ولكن قد يخفى ذلك على بعض أهل العلم ويظهر لبعضهم، لكن لا توجد قضية تخلو من حكم لله -تبارك وتعالى- فيها من الأحكام الخمسة التي هي: الواجب، والمندوب، والمحرم، والمكروه، والمباح، لابد أن يكون لها حكم في شريعة الله -تبارك وتعالى، ولكن العلماء يتفاوتون في ذلك، ولذلك ابن القيم -رحمه الله- يذكر بعده أشياء وتطبيقات من هذا القبيل، ثم يذكر الأشياء التي قد يخفى مأخذها، ومن ثَمّ فإن العالم قد يخطئ أو يجهل الحكم أو لا يتوصل إلى المطلوب من هذا الدليل، ولكن غيره يصل إليه، فذكر أمثلة كثيرة لهذا يبرهن فيها على ما ذكر، فمن شاء فليراجع الأصل فإنه يجد التفاصيل التي تحت هذه الجمل المختصرة القصيرة، وكما قلت بأن الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- يختصر كلام ابن القيم لاسيما في مثل هذه المقامات، فالكلام الذي يذكره لربما في صفحات كثيرة يختصره في أسطر قليلة.

فالقضية هذه يحتاج الناس أن يعرفوها جيداً فإن ذلك مما يقوي الثقة بالشريعة، والقوانين إنما استحدثت في أزمان غابرة، واشتهر بهذا من عُرف بالنسبة إليها: سليمان القانوني من حكام الدولة العثمانية، والواقع أن صناعة القوانين وجلب القوانين واستحداث القوانين الوضعية كان قبل سليمان القانوني، ولكنه هو الذي اشتهر بهذا؛ لشدة عنايته بهذا الجانب، وما فُتح هذا الباب من الشر على المسلمين إلا بسبب تلك الفتاوى التي زعم أصحابها من شيوخ الدولة العثمانية وشيوخ التقليد أن باب الاجتهاد قد أُقفل، وأنه لا يوجد في الأمة من هو مؤهل للاجتهاد إطلاقاً، فالكل مقلدة، ومن ثَمّ بقيت النوازل بلا أحكام، فاحتاجوا إلى استخراج قوانين يرقعون بها هذا النقص الذي توهموه.

قال -رحمه الله: نصوص الكتاب والسنة عامة شاملة، لا يخرج عنها حكم من الأحكام، ولكن دلالة النصوص نوعان: حقيقية، وإضافية.

هذا هو الذي يُعالِج به ما سبق، حينما قال بأن الشريعة لا يخرج عنها حكم من الأحكام يرِد هنا سؤال: من أي وجه؟، كيف يكون ذلك؟، فهو يوضحه الآن، يقول:  "نصوص الكتاب والسنة عامة شاملة، لا يخرج عنها حكم من الأحكام، لكن دلالة النصوص نوعان: حقيقية وإضافية".

قال: فالحقيقية تابعة لقصد المتكلم وإرادته، وهذه الدلالة لا تختلف.

هذه الدلالة لا تختلف، وهذا يدخل فيه أنواع المنطوق الصريح، ما هي أنواع الدلالة؟

قلنا: الدلالة منطوق ومفهوم، فأنواع المنطوق الصريح هي المطابقة: دلالة اللفظ على تمام معناه، وهذه يفترض أن لا تخفى على طالب العلم حينما يأتي يستنبط من النصوص؛ لأنها تكون من الوضوح بمكان.

ثم بعد ذلك دلالة التضمن: وهي دلالته على بعض معناه.

ثم دلالة الإيماء والتنبيه: وهي أن يُقرن الحكم بوصف لو لم يكن علة له لكان ذلك عيباً عند السامعين، عند العقلاء، فيدل على أنه هو الحكم، قال: واقعت امرأتي في شهر رمضان وأنا صائم، قال: أعتق رقبة[2]، فدل على أن إعتاق الرقبة هو بسبب الوقاع مع هذه الأوصاف المعتبرة في شهر رمضان، وهو صائم، يعني: لم يكن مفطراً لعذر كالمسافر والمريض، ونحو ذلك، فهذه تُسمى دلالة الإيماء والتنبيه، ولهذا قال في المراقي:

دلالةُ الإيماء والتنبيه في الفن تُقصد لدى ذويه

هذا معنى كلام ابن القيم -رحمه الله- أنها تكون مقصودة للمتكلم، يعني: يقصدها حينما قال هذا الكلام، فتقول مثلاً: هذا الإنسان قتل فقُتل، إذاً لماذا قُتل؟ لأنه قتل، لو قال إنسان: لا، قُتل؛ لأنه مثلاً ارتد عن الإسلام، نقول: إذاً لماذا تقول: قتل ثم تبني عليه ما بعده فتقول: فقُتل، فالفاء تدل على التعقيب مع التعليل، فلو قال إنسان: لا، هو قُتل؛ لأنه ارتد، يقال: هذا متلاعب بالألفاظ، هذا كلامه غير منسجم.  

فهذه الأنواع من الدلالة، المنطوق تقول: أعطِ زيداً، هذا منطوق وهو أعطِ زيداً، تصدق على الفقراء، هذا منطوق مقصود للمتكلم، أحسن إلى الناس تؤجر، دل على أن الإحسان إلى الناس هو سبب الأجر، أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم، استعباد القلوب، وأسر القلوب بسبب الإحسان، لو قال: لا، أنا ما أقصد هذا، استعباد القلوب يكون بسبب أمر آخر وهو غير الإحسان، نقول: هذا تلاعب بالألفاظ، فهذه تسمى دلالة الإيماء والتنبيه.

وكذلك دلالة الالتزام، تقول: يلزم من كذا كذا، فهذه الدلالة أيضاً معتبرة.

والنوع الأخير الذي هو السادس من أنواع هذه الدلالة وهو دلالة الإشارة، هذه التي لم تكن مقصودة للمتكلم في هذا السياق -يعني في هذا الخطاب، وهذه التي يمثل لها بالأمثلة المعروفة عند الأصوليين والمفسرين، مثلاً أقل مدة الحمل ما هي؟ ستة أشهر، من أين أُخذت؟ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [سورة الأحقاف:15]، مع قوله: "وفصاله" يعني: وفطامه "في عامين"، فإذا طرحت الأربعة والعشرين التي هي مدة العامين التي هي الفطام من الثلاثين يبقى للحمل ستة أشهر، فجمعت بين النصين، فدلالة الإشارة تكون تارة من دليلين مثل هذا، وتارة تكون من دليل واحد وذلك في قوله: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [سورة البقرة:187]، فإذا جاز الأكل والشرب والجماع إلى آخر لحظة من الليل فإن هذا يدل على صحة صوم من أصبح وهو جُنب من غير احتلام، لكن هل النص سيق لبيان هذا المعنى؟

الجواب: لا، لكن هذه تسمى دلالة الإشارة، وهي غير التفسير الإشاري المعروف عند الصوفية، هذه تختلف، هذه دلالة الإشارة عند الأصوليين، فهي نوع من الدلالة صحيح لا إشكال فيه، فهو يقول هنا: "فالحقيقية تابعة لقصد المتكلم"، الدلالة الحقيقية، ويدخل في الدلالة الحقيقية المفهوم بأنواعه، مفهوم المخالفة بأنواعه، وهو ما يُفهم من السكوت، يعني: إذا قلت مثلاً: تصدق على الفقراء، صاحب الأخيار، فالمسكوت عنه: لا تصاحب الأشرار، هذه مُخالفة، يعني اعكس، ضع: لا، إذا كان في المأمور ضع: لا، لا تصاحب الأشرار، لا تتصدق على الأغنياء، إذا قلت: تصدق على الفقراء، أعطه للفقراء، يعني: لا تعطه للأغنياء، هذه تسمى دلالة المفهوم بنوع المخالفة، يعني: مفهوم المخالفة.

وهناك مفهوم يسمى مفهوم الموافقة وهو المُتجه بنفس الاتجاه لكنه مسكوت عنه، يعني موافق للمنطوق، فإذا قال: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [سورة الإسراء:23]، يعني: لا تضربهما من باب أولى، لا تشتمهما من باب أولى، مع أن هذا مسكوت عنه، والمنطوق هو النهي عن التأفيف، فهذا يقال من باب أولى، وقل مثل ذلك في أمثلة كثيرة، منها النهي عن التضحية بالشاة العوراء[3]، والعمياء يقولون: من باب أولى، لكن هذا المفهوم مفهوم الموافقة منه ما هو قطعي فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [سورة الإسراء:23]، الضرب من باب أولى، ومنه ما هو ظني مثل: النهي عن التضحية بالشاة العوراء، فالشاة العمياء من باب أولى، لكن هل هذا مقطوع به؟

الجواب: لا، لماذا نُهي عن الشاة العوراء؟  

لأنها مظنة الهزال فهي ترى شطر المرعى، أما العمياء فهي لا ترى شيئاً فصاحبها يعلفها وهي رابضة، فهي مظنة السِّمن فالعلة هنا انتفت، فصار هذا من باب الظني وليس القطعي، ثم مفهوم الموافقة بنوعيه أيضاً منه ما هو مساوٍ، ومنه ما هو أولوي، الأولوي مثل: النهي عن التأفيف فمن باب أولى النهي عن الضرب والشتم، المساوي: النهي عن أكل مال اليتيم فإحراق مال اليتيم أو السفر به للنزهة والفرجة مساوٍ لأكله، لا فرق، فهذا يسمى مفهوم موافقة، نُهي عن أكله يُنهى أيضاً عن المسكوت عنه الذي هو التنزه به، اللعب به، حرق مال اليتيم، التعرض له بأي نوع من أنواع الإتلاف، فهذا كله مقصود، ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن اعتبار مفهوم المخالفة حتى في كلام الناس مُدرك للعقلاء، يعني: القضية لا يكابر فيها أحد، يعني: الآن مثلاً لو أتينا بكتاب وقلنا: أعطِ هذا الكتاب للذين في الصف الأول، ماذا سيقول الآخرون؟ سيقولون: ولماذا لا نُعطَى نحن أيضًا؟، نحن ما تعرضنا للآخرين، يقولون: لا، يُفهم من الكلام: لا تُعطه لغيرهم، هذا يسمى مفهوم المخالفة، فهو معتبر في كلام الناس فضلاً عن كلام الله وكلام رسوله ﷺ.

إذن هذه هي الحقيقية تابعة لقصد المتكلم وإرادته، يقول: وهذه الدلالة لا تختلف، فتُستنبط الأحكام بهذه الطرق: بالمطابقة، التضمن، الالتزام، الإيماء والتنبيه، الإشارة، وهذه الأخيرة غير مقصودة.

وكذلك بالمفهوم -مخالفة وموافقة، فإذا نزّلت جميع هذه الأنواع، وأنواع مفهوم المخالفة كثيرة فإذا نزلتها على النص ظهر لك من المعاني ما الله به عليم، ولهذا تجد بعض العلماء كما سبق يقف مع نص قصير في سطر واحد فيستخرج منه ثلاثمائة فائدة، ثلاثمائة مسألة، وبعضهم يقول: إنه يستخرج من سورة الفاتحة ألف فائدة، كيف يستخرج هذا؟، بتنزيل أنواع الدلالة هذه على النص، تأتي الإضافية بعد ذلك.

قال -رحمه الله: والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه وجودة فكره وقريحته، وصفاء ذهنه ومعرفته بالألفاظ ومراتبها، وهذه الدلالة تختلف اختلافاً متبايناً بحسب تباين السامعين في ذلك.

يعني لو قلنا لكم الآن قبل أن أذكر المثال: ما الدليل على أقل مدة الحمل من القرآن؟

هذه تحتاج إلى ذهن وقّاد، قدرة على الربط والاستحضار، فهذه تخفى على أكثر الناس، فلا يستخرجها إلا الواحد بعد الواحد، سواء كانت من نصين -وهذا أصعب- أو كانت من نص واحد، وتجد ذلك في نصوص الكتاب والسنة وعلى تفاوت، يعني: الآن تحديد أعلى المهر هل يحدد المهر بشيء معين؟

يؤخذ من قوله تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا  [سورة النساء:20]، فدل على أن المرأة ممكن أن تُعطى المهر الكثير، مع أن الآية لم تُسق لبيان أن المهر يمكن أن يكون كثيراً، وإنما سيقت لبيان أنه لا يحل له أن يأخذ مما أعطاها شيئاً إلا في حالة ذكرها الله -تبارك وتعالى، وقد تفهم الآية على غير وجهها، يعني: أولئك الذين فهموا كقُدامة بن مظعون لما كان في البحرين فشرب الخمر فجيء به إلى عمر وسأله عن هذا، فقال: إن الله يقول:  لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا  [سورة المائدة:93]، يقول: أنا شهدت بدراً، وآمنت، واتقيت، وأحسنت، فليس عليّ جُناح أن أشرب الخمر، فعمر بين له أن هذا ليس هو المراد، وأنها نزلت في قوم شربوا الخمر قبل أن تُحرم، ثم قتلوا وهي في أجوافهم، ثم حُرمت الخمر بعد ذلك[4]، فيقولون: ما بال هؤلاء الذين قتلوا وهي في أجوافهم؟، فالله يقول:  لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا  [سورة المائدة:93]، فهؤلاء حققوا التقوى ولم يشربوها وهي محرمة فليس عليهم في ذلك حرج.

وهكذا في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [سورة المائدة:105]، فهمها قوم على غير وجهها فظنوا أن الإنسان إذا أصلح نفسه فلا شأن له بغيره، وأنه لا يلزمه أن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، وأن ذلك لا تتوقف عليه النجاة، وهذا الكلام غير صحيح، فإن الأمر بالمعروف من الإيمان ومن العمل الصالح بل عده بعض أهل العلم ركناً من أركان الإسلام، عده بعضهم من أركان الإسلام، فهؤلاء الذين فهموا هذا الفهم أخطئوا، فبين لهم أبو بكر أن هذا ليس مقصوداً[5].

وهكذا في قوله تعالى:  وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة:195]، في حصار القسطنطينية ومعهم أبو أيوب الأنصاري لما خرج رجل إلى المشركين ودخل في صفهم، وهو غير دارع -ليس عليه درع، فقالوا: ألقى بنفسه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب وبين لهم المراد، وأن هذا ليس هو المقصود بقوله: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة:195]، وبين لهم سبب النزول, وأنهم لما نصروا النبي ﷺ أضر ذلك بحروثهم وأموالهم، أهملوها واشتغلوا بالجهاد فلما كثُر الداخلون في الإسلام، ونصر الله دينه وأعز كلمته، قالوا: لو رجعنا إلى أموالنا فأصلحناها فنزلت هذه الآية[6]، فكانت الهلكة هي في الاشتغال بالأموال والضيعات عن الجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى- ونصرة الدين: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ  [سورة البقرة:195].

وهكذا ابن عباس-رضي الله عنهما- لما كان في مجلس عمر، فسأل عمرُ عن قوله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ۝ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ۝ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [سورة النصر:1-3]، فسألهم وهم كبار مَن يحضر في مجلسه، فقالوا: أمر الله نبيه إذا فتح الله عليه أن يسبح بحمد ربه ويستغفره، فسأل ابن عباس عنها قال: هو أجل رسول الله ﷺ[7]، يعني: إذا أتم الله ذلك، وحصل الفتح فقد أديت المهمة التي طُلبت منك، وآخر العمر -كما هي آخر الأعمال- يُختم بالاستغفار والتسبيح وما إلى ذلك حتى يوافيه الأجل، فقال: هو أجل رسول الله ﷺ، انظر إلى هذا الفهم الذي لم يفهمه من حضر في مجلس عمر .

وهكذا في قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [سورة الأنعام:82]، "ظلم" هنا نكرة في سياق النفي فهم منها الصحابة مطلق الظلم، أو أن الظلم هنا عام؛ لأن النكرة في سياق النفي للعموم، فقالوا: وأينا لم يظلم نفسه؟! فبين لهم النبي ﷺ أن الظلم هنا هو الشرك، وفسرها بآية لقمان إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13][8]، لكن هنا لو تأمل الناظر في الآية إلى لفظة "يلبسوا" اللبس، فإن اللباس يغطي لابسه ويستره وهذا لا يحصل إلا بالكفر بالنسبة للإيمان،  وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [سورة الأنعام:82]، لا يحصل بمجرد الذنب والمعصية؛ ولهذا قال: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [سورة الأنعام:82].

وهكذا في قوله: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:81]، فبعض الناس قد يستشكل هذا، كسب سيئة وأحاطت به خطيئته إذن السيئة قد تؤدي إلى الخلود في النار، فيحتج بها الخوارج والمعتزلة على تخليد صاحب الكبيرة في النار، والواقع ليس كذلك؛ لأن السيئة والخطيئة التي تحيط بصاحبها هي الشرك فقط، أما المعاصي فإنها لا تحيط به، فهذا فهم للنصوص قد يخفى على كثير من الناس.

فالحاصل أن الحافظ ابن القيم -رحمه الله- ذكر أشياء من هذا القبيل كثيرة، وذكر مسائل اختلف فيها السلف فمن بعدهم مع أن النصوص مبينة لها. 

وذكر أمثلة لمسائل احتج عليها بعضهم بالقياس، قال: هذه دل عليها القياس، هذه نقول بها بطريق القياس، يقول: مع أن النص يدل عليها بطريق أو بآخر من أنواع الدلالة التي أشرت إليها آنفاً، لكنه خفي عليهم، وهذا تجده كثيرًا، والله -تبارك وتعالى- فاوت بين الأذهان، وإذا نظرت إلى الحافظ ابن القيم كيف يناقش المسائل، وكيف يعرف الأدلة، سواء كانت آية من كتاب الله أو حديثاً، أو مسألة فقهية، المسائل الفقهية التي يناقشها في هذا الكتاب لا تجد هذه المناقشة في شيء من كتب الفقه أبداً فيما أعلم، لا المطولات ولا الكتب المتوسطة ولا المختصرة، انظر إلى المسائل التي ذكرها في هذا الكتاب، انظر مثلاً في كلامه على مسألة طواف الحائض، تكلم فيها بكلام لا تجد مثله في كتب الفقه، ولا تجد قريباً منه، ولما يتكلم على طلاق الغضبان، لما يتحدث على الطلاق بالثلاث ويورد أدلة هؤلاء وهؤلاء، ويناقش المسألة، ويحتج لما يراه راجحاً، تجد كلاماً متيناً لا يوجد مثله في كتب الفقه، فالله يفتح على من يشاء من عباده.

فالعلم رزق من الله له أسباب يتعاطاها الإنسان، منها ما هو ظاهر كالطلب، والصبر على ذلك، ودوام النظر إلى آخره.

ومنها ما هو باطن من الصدق والإخلاص وما إلى ذلك من الأمور، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، وهناك رسالة للشيخ حمد بن عتيق -رحمه الله- ذكر فيها كلاماً جيداً رسالة كتبها لبعض طلاب العلم يسألونه يقولون: نحن نقرأ ونراجع ومع ذلك لا نحصل كثيراً، فذكر أسباب التحصيل، وذكر منها أموراً خفية، قال: قد يكون للإنسان منها قصد فاسد فلا يبارك له في طلبه، وسعيه واشتغاله وقراءته، وما إلى ذلك فيجلس السنين الطويلة ولم يخرج بكبير طائل، هذا بالإضافة إلى ما ذكره الحافظ ابن القيم في هذا الكتاب من أسباب التوصل للحق والصواب، والفهم وما إلى ذلك: كثرة الذكر والاستغفار والتضرع إلى الله، وسؤال الله -تبارك وتعالى- أن يلهمه وأن يفهمه.

وذكر حال شيخ الإسلام وكيف كان يلجأ إلى التوبة والاستغفار حينما تعرض له مسألة، أو إذا أشكل عليه شيء فيُكثر من الاستغفار حتى يفتح عليه في ذلك، هذه أمور نغفل عنها كثيراً.

قال -رحمه الله: ليس في الشريعة ما يخالف القياس،وما ظُن فيه مخالفته للقياس فأحد الأمرين لازم فيه: إما أن يكون القياس فاسداً، أو يكون ذلك الحكم لم يثبت بالنص كونه من الشرع، ثم ذكر ما قيل: إنه على خلاف القياس،وبين بالدلالة الواضحة مطابقته للقياس الصحيح.

سبقت الإشارة إلى هذا المعنى في أكثر من مناسبة، وكذلك في كلام شيخ الإسلام الذي مضى معنا في السنة الماضية أنه لا يوجد في هذه الشريعة نص واحد لا في الكتاب ولا في السنة الصحيحة يخالف العقل الصحيح والقياس، وأن الذي يقال: إنه يخالف القياس إنما هو يخالف قياساً قام في ذهن هذا القائل فتوهمه صحيحاً وهو ليس بصحيح، أو أن هذا الحكم أصلاً لم يدل الشرع على أنه كما قال هذا المتكلم، يعني: هو فهم من الشرع فهماً سقيماً، فهم الحكم على غير وجهه، ظن أن الشرع دل على كذا والواقع أنه ما دل عليه، ولا أقره أو تعرض له، وذكر ابن القيم -رحمه الله- أنه سأل شيخ الإسلام عن قول الفقهاء: هذا يخالف القياس، هذا على خلاف القياس، فأجابه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن هذا، وأجاب عن مسائل كثيرة مما يُدعى فيه أنه يخالف القياس، مسألة المُضيّ في الحج الفاسد مثلاً، كون الإنسان جامع في الإحرام وقبل التحلل الأول أو قبل الوقوف بعرفة على خلاف فإنه يمضي في هذا الحج الفاسد، ثم بعد ذلك يقضي مِن قابل، فيقولون: هذا على خلاف القياس، فتكلم في هذه المسألة، مسألة الوضوء من لحوم الإبل الذين قالوا: إنه على خلاف القياس، تكلم على هذا، وأنه ليس على خلاف القياس، وشيخ الإسلام ذكر أثر أكل لحوم الإبل، وأن الإبل خُلقت من الجن، وأن الجن خُلق من النار، وأن ذلك يؤثر فيمن أكلها فيناسب ذلك الماء، وأن هذا جارٍ على وفق القياس وليس مخالفاً له.

وهكذا من أكل أو شرب وهو ناسٍ في حال الصيام، وأن ذلك لا يخالف القياس، وهكذا كون الإنسان يفطر بالحجامة وأن هذا لا يخالف القياس؛ لأن ذلك يضعفه، وهكذا أيضاً ما ذكره من مسائل مشابهة، يعني تكلم ابن القيم -رحمه الله- على أن القياس منه ما هو قياس صحيح وهو أنواع.

ومنه ما هو قياس فاسد أيضاً، وأن ما يُظن أنه على خلاف القياس فإنما هو القياس الذي انعقد في نفسه وليس بقياس صحيح، ثم أجاب على هذه المسائل.

ثم انجر الكلام إلى نفاة القياس، وبدأ يرد على هؤلاء بردود مفصلة طويلة، فمن شاء التوسع فليراجع ذلك، لكن كما سبق في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن الذي تكلم بالقرآن هو الله -تبارك وتعالى، وأن الذي أقر هذه الشريعة وشرعها وحكم بها هو الله، فلا يمكن أن تكون مخالفة للعقول والأقيسة الصحيحة؛ لأن الذي تكلم بذلك وشرعه هو العليم الحكيم، فلا يمكن أن يتطرق إليها الخلل من هذه الجهة، والله أرشد أصحاب العقول إلى النظر والاعتبار والتفكر وما إلى ذلك، وتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وفي مضامين هذا كان يقول لهم:  وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [سورة النساء:82].

قال -رحمه الله: والعبد إذا عزم على فعل أمر فعليه أن يعلم أولاً هل هو طاعة لله أم لا؟،فإن لم يكن طاعة فلا يفعله إلا أن يكون مباحاً يستعين به على الطاعة، وحينئذ يصير طاعة، فإذا بان له أنه طاعة لله فلا يقدم عليه حتى ينظر هل هو معان عليه أم لا؟، فإن لم يكن مُعاناً عليه فلا يُقدم عليه فيُذل نفسه، وإن كان معاناً عليه بقي عليه نظر آخر وهو أن يأتيه من بابه، فإن أتاه من غير بابه أضاعه أو فرط فيه أو أفسد منه شيئاً، فهذه الأمور الثلاثة أصل سعادة العبد وفلاحه، وهو معنى قول العبد:  إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۝ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [سورة الفاتحة:5، 6]، فأسعد الخلق أهل العبادة والاستعانة والهداية إلى المطلوب، وأشقاهم من عَدِم الأمور الثلاثة، ومنهم من يكون له نصيب من أحدها دون الآخر.

هذا كلام مهم جدًّا فيما يُقدم عليه العبد من الأمور الدنيوية، والأمور الأخروية غير الواجبات، يعني: إذا أراد أن يقوم -أن ينهض- بعمل من أعمال الآخرة غير الواجبات، يقوم بمشروع خيري، يقوم بعمل مشروع دعوي مثلاً، أن يقوم بأمر دنيوي، أن يتولى إدارة في مكان ما، أن يتولى عملاً من الأعمال التي تتطلب جهداً ونحو ذلك فعليه أن ينظر في هذه الأمور، وهناك أمر آخر لم يذكره هنا، وأظنه ذكره؛ لأنه تكلم على مثل هذا -فيما أذكر- في كتابه الفوائد.

الأول: أن ينظر هل له فيه نية أو لا؟، ما نيته فيه؟، فبعض الناس يندفع بمجرد ما يخطر في قلبه خاطر فإنه يسارع في اقتفاء هذا الخاطر، فيقوم بهذه الأعمال التي تورث فشلاً بعد فشل حتى يُعرف بذلك فيُنبز به، يعني: هذا الإنسان لا ينهض بعمل، لا يقوم بمشروع، لا يقوم بشيء إلا ويفشل، لماذا يفشل؟ لأسباب، فالأول: أن ينظر هل له فيه نية أو ليس له فيه نية؟، حتى الأشياء البسيطة، يعني يريد أن يؤسس موقعاً في الإنترنت مثلاً موقعًا دعويًّا أو نحو ذلك، هل المقصود هو تعزيز النفس بمعنى أن نفسه يكون لها حضور، وله معجبون وأتباع وما إلى ذلك، أن يرفع نفسه في قلوب الخلق؟، فهذا قصد سيئ، من البداية يصرف النظر، هل له قصد صحيح يريد به ما عند الله أو لا؟  

فالنية أولاً، ينظر في النية، ثم ينظر في هذه الأشياء التي ذكرها، وقال: إنها عنوان سعادة العبد، هل هذا الأمر طاعة لله أو معصية؟، وقد تلتبس بعض الأمور على بعض الناس فيظن أنها طاعة والواقع أنها ليست كذلك.

فإن لم يكن طاعة فلا يفعل إلا أن يكون مباحاً يستعين به على طاعة، فإن بان له أنه طاعة فلا يُقدم عليه حتى ينظر هل هو معان عليه أم لا؟، هناك قال: هل له، هل عنده، هل معه أعوان، أو لا يوجد له أعوان؟،

يعني: العمل إذا كان يحتاج إلى أعوان، فقد ينهض بعمل ثم يبحث عن فريق ينهضون بهذا العمل معه فلا يجد أحداً فيفشل العمل، فينظر قبل أن يقرر ويضع يده، أو يضرب صدره ويقول: أنا أقوم بهذا العمل هل له أعوان أو لا؟، ويمكن أن يجرب ويسأل ويستشير، ويعرض على الأعوان الذين يظن أنهم يقفون معه ويعينون على هذا، هل تقفون معي؟، هل أتولى هذا العمل وتنهضون به معي أو لا؟   

فقد يجد النتيجة أن الجميع مشغولون ولا أحد يمكن أن يعينه، وأن يقف معه في هذا العمل فيكون قد نهض بمشروع فاشل، فهذا يحتاج الإنسان أن ينظر إليه.

فإذا كان له فيه أعوان، وله فيه نية، ويريد به ما عند الله وهو عمل فيه خير وطاعة فعليه أن يأتيه من بابه، لا يأتيه من غير بابه، أحياناً أمور بسيطة، أحياناً أمور سهلة، يريد أن يوزع مثلاً كتباً في الحج، أو يوزع أشياء ممكن أن ينظر هل له أعوان يوزعون معه أو لا، أحياناً يملأ شاحنة ثم بعد ذلك يأتي الموسم وليس عنده من يذهب بها، ليس عنده من يوزع، هذه تحتاج إلى توزيع فيبقى متحيراً، ثم أيضاً يأتيه من بابه يعني لابد أن يدخل من الطرق المعروفة التي تمكنه من القيام بهذا العمل أو ذاك، فأحياناً قد يواجه في منتصف الطريق أن هذا أمر لا يمكن أن يتحقق له، ولا يُسمح له بهذا فتذهب الأموال وتضيع ولا يحصل المقصود، ولا يحصل النفع، فيأتيه من بابه، يمكن أن يكون هذا عبر مكتب تعاوني مثلاً، مظلة مؤسسة دعوية أو غير ذلك فيكون هذا العمل يسير في طريقه الصحيح.

لكن أنه كلما خطر له خاطرة قفا أثر هذه الخواطر فهذا غير صحيح، وذلك أعظم أسباب الفشل الذي نشاهده وما يضيع بسبب ذلك من جهود وأموال وما يحصل من إجهاض لكثير من الأفكار التي يمكن أن تكون نافعة.

هذا الكلام الذي ذكره ذكر قبله وبعده كلاماً في غاية النفع، يمكن أن أورد بعضه على وجه السرعة لأهميته، فهو يقول في الكلام على إخلاص النية في هذا الكتاب -في "إعلام الموقعين"- يشرح كلام عمر بن الخطاب؛ لأن هذا هو في مضامين شرح خطاب عمر، وكما قلت لكم: إن شرح خطاب عمر استغرق من هذا الكتاب ما يقرب من النصف يعني حوالي مجلدين، فعمر يقول في كتابه لأبي موسى الأشعري: "فمن خلُصت نيته في الحق، ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله"[9].

فابن القيم يقول: "هذا شقيق كلام النبوة، وهو جدير بأن يخرج من مشكاة المُحدَّث المُلهَم"، -يعني عمر ، "وهاتان الكلمتان من كنوز العلم، ومن أحسن الإنفاق منهما نفع غيره وانتفع غاية الانتفاع، فأما الكلمة الأولى فهي منبع الخير وأصله، والثانية أصل الشر وفصله"، يعني: من تزين بما ليس فيه شانه الله، "فإن العبد إذا خلُصت نيته لله -تعالى- وكان قصده وهمه وعمله لوجهه سبحانه كان الله معه، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، ورأس التقوى والإحسان خلوص النية لله في إقامة الحق، والله -سبحانه- لا غالب له، فمن كان معه فمن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوء؟، فإن كان الله مع العبد فمن يخاف؟!.

وإن لم يكن معه فمن يرجو؟! وبمن يثق؟ ومن ينصره من بعده؟ فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولاً وكان قيامه بالله، ولله لم يقم له أحد، ولو كادته السموات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها"[10].

هذا إذا كان العبد قيامه لله وأمره لله، يقول: "وجعل له فرجاً ومخرجًا، وإنما يؤتى العبد من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة، أو في اثنين منها، أو في واحد، فمن كان قيامه في باطل لم يُنصر"[11]، انتبهوا لهذا الكلام، وأسباب تأخير النصر أو ضعف الانتصار، "من كان قيامه في باطل لم يُنصر وإنْ نُصر نصراً عارضاً فلا عاقبة له، وهو مذموم مخذول، وإن قام في حق لكن لم يقم فيه لله، وإنما قام لطلب المحمدة والشكور والجزاء من الخلق أو التوصل إلى غرض دنيوي كان هو المقصود أولاً -هذا الغرض الدنيوي يعني، والقيام في الحق وسيلة إليه فهذا لم تُضمن له النصرة، فإن الله إنما ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، لا لمن كان قيامه لنفسه وهواه فإنه ليس من المتقين، ولا من المحسنين، وإن نُصر فبحسب ما معه من الحق"، أي: نصر جزئي، "فإن الله لا ينصر إلا الحق، وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر، والصبر منصور أبداً، فإن كان صاحبه محقًّا كان منصوراً له العاقبة، وإن كان مُبطلاً لم تكن له العاقبة، وإذا قام العبد في الحق لله، ولكن قام بنفسه وقوته ولم يقم بالله مستعيناً به متوكلاً عليه مفوضاً إليه بريًّا من الحول والقوة إلا به، فله من الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك"[12]، فكيف إذا كان قيامه بغيره من أعداء الله هذا كيف يُنصر؟!، يتوكل على غير الله:  وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ  [سورة الطلاق:3]، فإذا كان توكله وانتظاره النصر من عدوه فهذا كيف يُنصر؟!.

يقول ابن القيم: "ونُكتة المسألة أن تجريد التوحيدين في أمر الله لا يقوم له شيء ألبتة، وصاحبه مؤيد منصور ولو توالت عليه زُمر الأعداء"[13]، نحن بحاجة إلى مثل هذا الكلام في مثل هذه الأيام، وذكر الحديث: من أسخط الناس برضا الله كفاه الله الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس[14]، ثم ذكر هذا الكلام الذي سمعتم آنفاً.

ثم ذكر أن أسعد الخلق أهل العبادة والاستعانة والهداية إلى المطلوب، وأن أشقاهم من عَدِم الأمور الثلاثة، ثم قال: "ومنهم من يكون له نصيب من إياك نعبد، ونصيبه من إياك نستعين معدوم أو ضعيف"، عنده عبادة لكن ما عنده استعانة بالله، فهذا مخذول مهين محزون، "ومنهم من يكون نصيبه من إياك نستعين قويًّا ونصيبه من إياك نعبد ضعيفاً أو مفقوداً فهذا له نفوذ وتسلط وقوة، ولكن لا عاقبة له، بل عاقبته أسوأ العواقب، ومنهم من يكون له نصيب من إياك نعبد وإياك نستعين، ولكن نصيبه من الهداية إلى المقصود ضعيف جدًّا كحال كثير من العُبّاد والزهاد الذين قل علمهم بحقائق ما بعث الله به رسوله ﷺ من الهُدى ودين الحق"[15]، فهذا كلام في غاية النفاسة، وذكر بعده أشياء وتفاصيل يمكن أن تُراجع.

قال -رحمه الله: العمل لله وحده مقبول، ولغيره مردود، فإذا كان العمل لله ولغيره فهو ثلاثة أقسام.

هنا يقول: "العمل لله وحده مقبول ولغيره مردود"، مقبول إذا كان للسنة موافقاً، بهذا القيد، وقد ذكر هو هذا القيد في الكتاب نفسه؛ لأنه كما تعلمون لابد من الإخلاص لله، والمتابعة والموافقة.

أحدها: أن يكون الباعث الأول على العمل الإخلاص.

هذا تفصيل مهم في العمل الذي يحصل فيه تشريك في النية، إذا كان العمل لله ولغيره فهو ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يكون الباعث الأول على العمل الإخلاص، ثم يعرض له الرياء وإرادة غير الله، فهذا المعوَّل فيه على الباعث الأول ما لم يفسخه بإرادة جازمة لغير الله، فيكون حكمه حكم قطع النية في أثناء العبادة وفسخها، أعني: استصحاب حكمها.

يعني الآن عندنا عمل كان الباعث الأول فيه إرادة ما عند الله -الإخلاص- فهنا عرض له قصد آخر فاسد، عرض له رياء، فمثل هذا إن كان عارضاً خطر له فدفعه فالعبرة بالقصد الأول، والعمل صحيح، قام يصلي فعرض له أثناء ذلك خاطرة رياء دخل إنسان المسجد ورآه يصلي فأراد أن يُزين صلاته لهذا الذي دخل، ثم دفع ذلك تذكر عظمة الله وضعف المخلوق، فانصرف قلبه عنه، فهذا العمل صحيح، أما إذا كان ذلك من أوله، يعني: وُجد القصدان في أول العبادة فإن هذا يبطلها، إذا وجد في أول العبادة، يعني: هو أراد أن يُقدم على عبادة، أراد أن يصلي أو أن يحج أو نحو ذلك وهو يريد ما عند الله ويريد ثناء الناس -المحمدة يقال: يا حاج، فهذا يبطل العمل إذا كان من البداية في أول العبادة، فهاتان صورتان.   

الصورة الثالثة: أنه كان القصد الأول فيه لله ثم عرض له قصد فاسد فاسترسل معه، فهذا يبطل العمل، استرسل معه يعني: دخل إنسان فانصرف إليه قلبه صار يُزين العمل له واستمر على هذا، والعمل في ذلك على نوعين: نوع يُبنى آخره على أوله مثل الصلاة فتبطل، ونوع لا يُبنى آخره على أوله مثل التلاوة، قراءة القرآن فهذا يبطل ما دخل فيه القصد الفاسد، وقبله لا يبطل، يعني يؤجر عليه، وتبقى بعض العبادات مترددة بين بين، يعني: اختلف العلماء فيها، مثل: الطواف هل يُبنى بعضه على بعض أو لا؟، لو حصل له رياء في الشوط السابع أرسل رسالة للناس وقال لهم: أنا الآن أطوف في الشوط السابع، يراسلهم بتويتر أنا في الشوط السابع وأنا أدعو لكم الآن، وعلى يساري مقام إبراهيم، أو على يساري الحجر الأسود وعلى يميني كذا، فهذا يبطل عمله أو لا يبطل؟

الراجح أنه يبطل وأن الطواف يُبنى آخره على أوله، هذا بالنسبة للمقاصد الفاسدة، المقاصد السيئة.

وهناك نوع آخر من التشريك في النية لا يبطل العمل كما لو حج يريد ما عند الله والتجارة لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [سورة البقرة:198]، فهذا لا إشكال فيه، جاهد يريد ما عند الله وإعلاء كلمة الله، ويريد من الغنيمة فهذا لا إشكال فيه، لكن لا يكون ذلك بالقصد الأول، وإنما يكون على سبيل التبع، يصوم يريد ما عند الله وليصح بدنه، يُخفف من وزنه، لكن لا يكون هذا بالقصد الأول.

ومن ثَمّ نستطيع أن نرتب الأعمال بالنظر إلى التشريك في النية وعدمه إلى أقسام:

أعلاها من حيث الأقوى والأفضل والأكمل ما يراد به ما عند الله فقط دون الالتفات لأمر يجوز الالتفات إليه، ولا ما لا يجوز الالتفات إليه، لا يريد إلا ما عند الله، يحج فقط يريد ما عند الله، يصوم يريد ما عند الله، فهذا أعلى المراتب.

المرتبة الثانية: أن يعمل عملاً من هذه الأعمال الصالحة، ويلتفت إلى أمر يجوز الالتفات إليه، مثلما قلت: حج ويريد أن يعمل في حملة، يكتسب يُعطَى مقابلا، حج وعنده بضاعة يبيعها في الحج، حج وعنده سيارة يؤجرها في الحج، فهذا يجوز لكنه أقل من الأول.

المرتبة الثالثة: وهي أن يكون القصد الأول في مثل هذه الأمور لهذا المطلوب الدنيوي، يعني: هو يريد التجارة والحج تبع فمثل هذا لا يصح، إنما يكون الأمر الدنيوي على سبيل التبع، هو ما جاهد إلا للغنيمة، وما عند الله هذا على سبيل التبع.

المرتبة الرابعة: وهي أقل من هذا، هو أن يعمل العمل يريد به الدنيا فقط، يحج للتجارة، يجاهد للغنيمة فقط، يصوم ليصح بدنه، يزكي لينمو ماله ويزكو، فهذا ليس له عند الله نصيب من هذا العمل.

المرتبة التي بعدها وهي شر منها: وهو أن يعمل يريد ما عند الله، ويلتفت إلى قصد فاسد قليله يبطل العمل مثل: الرياء والسمعة، هذا لا يجوز الالتفات إليه، على التفصيل السابق إذا دخل في أول العمل أو في أثنائه.

المرتبة السادسة: أن يعمل لمحض الرياء والسمعة -نسأل الله العافية، يكون مرائياً في عمله، فهذا إن دخل في أصل الإيمان فإنه يكون ممن قال الله فيهم: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة هود:15، 16]، وإذا كانت جميع أعماله بهذه الطريقة فالآية تصدق عليه آية هود هذه، ومعاوية وأبو هريرة حملوا الآية على أهل الرياء في الحديث: أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: المجاهد، والمنفق، والقارئ[16].

فهذه مسألة التشريك في النية بهذا التفصيل، والله أعلم.

قال: الثاني عكس هذا، فهذا لا يُحتسب له بما مضى من العمل ويُحتسب له من حين قلب نيته، ثم إن كانت العبادة لا يصح آخرها...

هذا تفصيل لما يُحتسب له، إن كانت العبادة آخرها مرتبط بأولها ما يُحتسب له شيء، وإن كانت غير مرتبطة كالتلاوة يُحتسب له مما قبل فساد النية.

قال: ثم إن كانت العبادة لا يصح آخرها إلا بصحة أولها وجبت الإعادة كالصلاة، وإلا لم تجب، كمن أحرم لغير الله ثم قلب نيته لله عند الوقوف أو الطواف.

الثالث: أن يبتدئها مُريداً بها الله والناس،فيريد أداء فرضه والجزاء والشكر من الناس، وكمن يصلي بالأجرة فهو لو لم يأخذ الأجرة صلى ولكنه يصلي لله وللأجرة، وكمن يحج ليُسقط الفرض عنه، ويقال: فلان حج أو نحو ذلك، فهذا لا يقبل منه العمل، وإن كانت النية شرطاً في سقوط الفرض وجبت عليه الإعادة، فإن حقيقة الإخلاص التي هي شرط في صحة العمل هي تجريد القصد طاعة للمعبود،ولم يؤمر إلا بهذا،وهو لم يأت به فبقي في عُهدة الأمر. 

الفقهاء لا يتعرضون لهذا عادة، يقولون: هذا عند أرباب السلوك، لكن الفقهاء يتكلمون على النية من جهة التفريق بين العبادة والعادة، وأنواع العبادات، هذا الذي يتطرق إليه الفقهاء عادة، لكن لو جاء إنسان وقال: إنه كان يصلي الفرض أو حج أو نحو ذلك، وكان الرياء حاضراً في قلبه، فهل يجزيه ذلك نقول له: أعد الصلاة، هذا صلاته لا تصح، ولا تقبل عند الله، لكن الفقهاء من حيث المناقشة الفقهية البحتة هم لا يتحدثون عنه، هم يتحدثون عن قضية وجود النية التي هي نية الصلاة أن هذه ظُهر مثلاً، أو فرض، ويتحدثون عن قضية الطهارة واستقبال القبلة وما إلى ذلك يناقشون الشروط بهذه الطريقة، فيقولون: إن هذه مجزئة مُسقطة للقضاء، ولكن هذا عندهم لا يعني القبول، الإجزاء عندهم مرتبة، والقبول مرتبة أعلى منها، فقد يكون الشيء مجزئاً مُسقطاً للتبعة عن المكلف لكنه غير مقبول؛ لفقد شرط أو وجود مانع، ولهذا هم يقولون:  

كفايةُ العبادة الإجزاءُ وهي أن يَسقط الاقتضاءُ

الاقتضاء يعني طلب الشارع.

أو السقوط للقضا وذا أخصُّ .....

يعني: يسقط القضاء فقط، هذه مناقشة الفقهاء، لكن القبول معروف أن الإنسان الذي يشرب الخمر لا تقبل له صلاة أربعين يوماً[17].

وكذلك الذي يذهب إلى العراف ويسأله عن شيء لم تُقبل له أيضاً صلاة أربعين ليلة[18]، وقل مثل ذلك في المُسبل لا تُرفع له صلاة[19]، فالقبول شيء والإجزاء شيء آخر.

فالفقهاء لا يناقشون كونه حصل له رياء أو ما حصل له رياء فيقولون له: أنت ما صليت أعد الصلاة الآن، هم ما يناقشون هذه القضية، هذا بينه وبين الله ، فإذا علم من نفسه أنه عنده رياء سيعرف أن صلاته هذه غير مقبولة، فإنه يذهب ويصلي صلاة أخرى يخلص فيها لله -تبارك وتعالى، لكن هل يقال: هذا خرج الوقت وما صلى مثلاً؟

قال -رحمه الله: التقليد المحرم ثلاثة أنواع:

أحدها: الإعراض عما أنزل الله، وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء.

الثاني: تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ بقوله.

الثالث: التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المُقلد.

هذا الكلام في التقليد سبقت الإشارة إليه في الكلام على وصف الكتاب، والقضايا التي تطرق إليها، وذكرت لكم كلامه في التقليد، وذكرت أيضاً كلام الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وحاصل ما ذكر في تفسير سورة محمد، وأنه جعل التقليد على أنواع، فهنا ابن القيم -رحمه الله- ذكر أن التقليد المحرم ثلاثة أنواع؛ لأن التقليد منه ما هو محرم، ومنه ما هو غير محرم، الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه، هذا كما كان المشركون يقولون:  إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [سورة الزخرف:22].

الثاني: تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ منه، هذا تجده للأسف عند كثير من الناس، مسائل أحياناً غريبة، مسائل تتعلق بظِهار، ومسائل تتعلق بطلاق، يأتيك بجواب غريب، رجل طلق امرأته فيقول له: أطعم عشرة مساكين، كيف أطعم عشرة مساكين؟! من سألت؟ قال: سألت إمام المسجد، إمام المسجد هذا من أهل العلم؟! قال: ما أدري، فهذه مشكلة، من لا يعلم أنه أهل للتقليد فهذا لا يجوز.

وهذا تجده كثيراً في الحج وفي العمرة، بمجرد ما يرى إنساناً أحياناً ظاهره الصلاح تجد هذا يأخذ بيده، وهذا بمنكبه، ويسألونه ويستفتونه وهم لا يعرفون هل هو من أهل العلم أو أنه ليس كذلك، فيسألونه ويبنون على كلامه -إذا كان يجترئ في الجواب- ويعملون بمقتضاه، طيب هذا الذي رأيتموه وسألتموه في الطواف هل هو من أهل العلم؟ قالوا: لا ندري، رأينا إنسانًا ملتحيًا وسألناه: يا شيخ يا شيخ، كما يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله: "تحت كل عمود خيمة في مِنى مُفتٍ"[20]، فهذا لا تبرأ الذمة به، وقد تجده حتى في غير الحج في بعض البلاد أو في بعض الأماكن إذا رأوا إنسانًا يلبس هذا القميص، وعليه سِيما السُّنة أو نحو ذلك، هذا يسأله عن مسألة طلاق، وهذا يسأله عن قضايا في العبادات وغير ذلك، وهم لا يعرفون حاله، فهذا لا يصح.

الثالث: التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المُقلد، ما الفرق بين هذا وبين الأول؟

الأول مُعرض تماماً لم ينظر في حجة أصلاً، ولم يلتفت إلى شيء من ذلك، هو يقول: وجدنا آباءنا على هذا، فلم ينظر في حجة ولم يقف على حجة، الثالث هذا سمع الحجة سمع الدليل، سمع البرهان ومع ذلك كابر فهذا يقع لكثيرين سواء كان في أصل الدين، يعني يُدعَى للإسلام، وتُذكر له الحجج والبراهين على صحة دين الإسلام، أو كان ذلك في المسائل الجزئية، يُقلد شيخه فيقال له: الدليل نص صريح في كذا، ومع ذلك لا يلتفت إليه، يؤتى له بالأدلة ولا يرجع عن ذلك بسبب التعصب والهوى أو لشدة بغضه لمن جاءه بالحق فهو لا يقبل منه قليلاً ولا كثيراً، ولذلك يحتاج الإنسان أن يتلطف بالناس قدر المستطاع، أن يُقدم الحق بصيغة مقبولة، وإذا أردنا أن نُدرِّس في مشارق الأرض ومغاربها نُدرسهم بكتب يقبلون المؤلفين الذين ألفوها ممن كتبوا على عقيدة صحيحة، وهذا أدعى إلى القبول وهو من الحكمة، لا تأتيهم بعالم ولو كان من العلماء الربانيين وهم قد رضعوا مع لبن الأمهات أن هذا بغيض، ويعادونه غاية المعاداة، ثم تقول: نُدرسكم كتبه، هذا خلاف الحكمة، هناك كتب أخرى كثيرة، فدرِّسهم كتباً على الاعتقاد الصحيح ممن يقبلون منهم.

فالشاهد أن ابن القيم -رحمه الله- هنا في الكلام على هذه الأنواع من التقليد ذكر نصوصاً كثيرة في هذا الباب وآثارًا في ذم التقليد، ونهي الأئمة عن تقليدهم، وما أشبه ذلك.

قال -رحمه الله: الواجب على كل عبد من العلم أن يعرف ما يخصه من الأحكام، ولا يجب عليه أن يعرف ما لا تدعوه إليه الحاجة إلى معرفته، وهو بحمد الله أيسر شيء كتاب الله وسنة رسوله، وهي بحمد الله مضبوطة محفوظة، أصول الأحكام التي تدور عليها نحو خمسمائة حديث، وفرْشها وتفاصيلها نحو أربعة آلاف حديث.

هذا الكلام ذكره ابن القيم -رحمه الله- في سياق الرد على الذين اعترضوا عليه لما قال لهم: التقليد وذم التقليد وأورد النصوص في ذم التقليد، هنا اعتراض يرِد قال: أنت تريد من الناس أن يكونوا مجتهدين، وأن يتفرغوا للعلم وهذا يحتاج إلى انقطاع، ويحتاج إلى ترك مزاولاتهم من الحروث والتجارات والأعمال، والاكتساب، وتتعطل مصالح الدنيا، ويشتغل الناس جميعاً بطلب العلم الشرعي، فابن القيم يقول: أنا ما قلت هذا أبداً، ولا أطالب الناس بأن يتفرغوا جميعاً وأن يتخصصوا في الأمور الشرعية، فالأمر أيسر من ذلك، أنا أقول لهم فقط: "الواجب على كل عبد من العلم أن يعرف ما يخصه من الأحكام"، وأما ما زاد على ذلك فهذا يتعلمه الذين تفرغوا للعلم وتخصصوا فيه، لكن كل واحد يتعلم ما يحتاج إليه، يتعلم كيف يصلي، كيف يتوضأ، يتعلم إذا كان عنده مال أن يزكيه، المال الذي يجب فيه الزكاة وما إلى ذلك، يتعلم كيف يغتسل من الجنابة، إذا كان يتعامل بمضاربة أو نحو ذلك من المعاملات يتعلم حكمها ويعرف، تجد الكثيرين يعملون أعمالاً ويخطئون ولربما لا يسأل الواحد إلا بعد سنين من الخطأ، وقد أكل المال أو ذهب بعد ذلك بأمور كثيرة، ثم هو يُفيق بعد عشر سنوات ويسأل عن هذا، تجده يحج ويعتمر ولا يتعلم أحكام الحج والعمرة.

فقد تقول امرأة: ذهبت مع أهلي إلى العمرة ونزل عليّ الحيض واستحييت أن أخبرهم فطفت وأنا حائض، وتحللت معهم بعدما سعيت، ثم رجعت إلى بلدي بعد عمرتنا تلك، وسمعت في الإذاعة أن العقد غير صحيح وأنا تزوجت وعندي عشرة أولاد، متى كان هذا الكلام؟ قالت: قبل خمس وعشرين سنة، والآن تسألين عن هذا بعد خمس وعشرين سنة وعشرة أولاد؟!، هلّا تعلمتِ مبادئ الحج والعمرة قبل أن تذهبي.

فالإنسان يحتاج أن يتعلم ما يتعلق به من الأحكام، فابن القيم يقول: نحن لم نقل للناس: أنتم جميعاً لابد أن تتحولوا إلى مجتهدين وعلماء وتتخصصوا في علوم الشريعة فتتعطل الصنائع والتجارات، وما إلى ذلك، هذا الكلام يردّ به عليهم، ويقول: الأمر أيسر من ذلك، ويقول: إن الأحاديث أو النصوص التي تدور عليها الأحكام نحو خمسمائة حديث هذه الأصول، والفرش والتفاصيل نحو أربعة آلاف حديث، وهذا لا يحتاج لانقطاع طول العمر، هذا من أراد أن يتعلم جميع الأحكام، لكن نحن نقول: يتعلم ما يتعلق به، فيعرف من التوحيد والفقه وما إلى ذلك، يحفظ من القرآن ما يصلي به، يعني: إحدى النساء اكتشفتها أخرى في رمضان تصلي وهي تقول: بس بس، فسألتها ماذا تقولين؟، قالت: أقول ما سمعتِ، قالت: ما هذا الكلام؟ ماذا تقرئين؟ قالت: ما أقرأ، أسمع الناس يصدر منهم صوت السين هذا وأقول مثلهم، هذه هنا في هذا البلد، ليست في غابة في أفريقيا، هنا، والمرأة جاوزت الستين، وتقول هذا الكلام، فما هذا الجهل في حاضرة؟!.

قال -رحمه الله: طريقة الصحابة والتابعين أنهم يردون المتشابه إلى المحكم، ويأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه ويبينه، فتتفق دلالاته مع دلالة المحكم، وتوافق النصوص بعضها بعضاً ويُصدق بعضها بعضاً فإنها كلها من عند الله، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض في غيره، ولهذا الأصل أمثلة كثيرة أصولية وفروعية.

وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره، ولهذا الأصل أمثلة كثيرة أصولية وفروعية، وذكر ثمانية عشر مثلاً لذلك، هذا أصل كبير أشرت إليه في الليلة الماضية في مسألة اتباع المتشابه، وأن أصحاب الأهواء يتبعون المتشابه، وقلت بأن هؤلاء لهم في ذلك طريقان:  

الطريق الأول: أن يضربوا النصوص بعضها ببعض، فيأتون إلى المحكم ويضربونه بالمتشابه؛ من أجل التلبيس والتشكيك، فهذه طريقة، ولذلك قد يعارضون السنة الواضحة المفصلة التي هي شرح للقرآن وبيان له: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [سورة النحل:44]، قد يعارضونها بنصوص مجملة من القرآن.

والطريقة الثانية: أن يستخرجوا من النص المحكم لفظاً أو جملة يشككون أو يلبسون بها ويجعلونها موهمة ليقولوا: إن هذا النص يحتمل، ليس بصريح في دلالته فيجعلونه من قبيل المتشابه، فيعطلون النصوص بهذه الطريقة ويلبسون على الناس، ولذلك هذا الأصل نحن بحاجة إليه في مثل هذه الأيام لكثرة الشغب والأهواء، وكثرة أولئك الملبسين الذين جعلوا لأنفسهم مواقع أحياناً في الإنترنت وكتابات أحياناً يكتبونها ويضللون فيها الناس يلبسون فيها، وغالب ما يشغب هؤلاء على السنة، يشغبون على السنة، ويقولون: دعونا مع القرآن، هم يعرفون أن القرآن ذو وجوه كما قال عليٌّ [21]، والسنة شارحة له، ولذلك تجد بعض هؤلاء يُثني على القرآن، وهو أسود أزرق ذئب أطلس، وإذا سمعته في المجلس تقول: ما هذه الفتوح التي فُتحت عليه؟، القرآن فيه بيان كل شيء، القرآن فيه جميع أنواع الهدايات التي يحتاج الناس إليها، فيطرب السامع لهذا الكلام، ويقول: ما شاء الله فلان فُتح عليه، بعدما كان من الصم البكم، ثم بعد ذلك يقودك إلى الكلام على السنة، وأننا لسنا بحاجة إليها، ويرددون شبهات المستشرقين، وتلاميذ المستشرقين، وهؤلاء يسألون ببساطة كيف تصلي؟، وكم صلاة تصلي؟ كم تصلي في الظهر؟ وماذا تقرأ في قيامك؟ وما تقول في ركوعك وسجودك وفي التشهد إلى آخره؟، ماذا تقول؟، وكيف تصلي؟، هات من القرآن أن المغرب ثلاث ركعات، وهكذا في تفاصيل كثيرة.     

فالشاهد أن هؤلاء يُلبسون ويطعنون في السنة، وبعض هؤلاء هو غارق في الجهالة إلى النخاع، فماذا يفعلون؟، يأتون إلى بعض المنتكسين من طلاب العلم ممن لم يُرد الله أن يطهر قلوبهم فيأتون لهم، يجمعون لهم، يكون مثل: الذباب يعرف النصوص التي يمكن أن يُلبس بها يتبع المتشابه فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [سورة آل عمران:7]، فيجمعون هذه النصوص لهؤلاء، ويقدمها له بـ"سيدي" ويقول له: تفضل، ويبدأ الآخر في أعمدته في صحيفة، أو يبدأ يشكك ويلبس ويضرب هذا بهذا، مرة يتكلم على قضايا تتعلق بالحجاب، ومرة يتكلم على قضايا تتعلق بقوامة الرجل، ومرة يتكلم على أنه لا يُقتل مسلم بكافر، ومرة يتكلم على قضية رجم الزاني، ومرة يتكلم على مسألة الحدود عموماً، ويأتي بأمور من المتشابه، فهذا للأسف موجود وهم يطعنون في السنة بالدرجة الأولى، فإذا لُبس على هؤلاء في السنة وشككوهم فيها وزعزعوهم -ولا أحتاج أن أسمي بعض هؤلاء- توصلوا بعد ذلك إلى أمر آخر وهو تشكيكهم فيما هو أكبر من هذا وأعظم، فيشكون في أصل الدين وأصل الرسالة، ثم ينقلهم ذلك إلى الشك في رب العالمين هل هو موجود أو غير موجود، ليس في الوحدانية بل في الوجود، وقد رأيت هنا في هذا المسجد من يشك في وجود الله ، وكانت البداية قراءة لهؤلاء الذين يشككون في الصحابة وفي السنة وفي بعض الأحاديث، كانت البداية قراءات لهم، فلان بن فلان، موقع، ويقرءون له بكثرة.  

ويقول أحدهم: أقرأ اثنتى عشرة ساعة في اليوم في النت، حتى صار يقرأ في مواقع الزندقة، فلما جلست معهم من بعد صلاة العصر إلى إقامة العشاء ومعهم أوراق مطبوعة من المواقع هذه، شُبه، حتى انتهينا عند إقامة صلاة العشاء، قلت: كيف ترون؟ قالوا: شُبه ساقطة، وهم ليسوا في مقام طمع ولا خوف، شُبه ساقطة، طيب عرفتم الآن أنها ساقطة؟، قالوا: نعم، كيف كنتم ترونها من قبل؟ قالوا: مُعضلة، بقينا في شك وحيرة، كانت البداية قراءة لهؤلاء المأفونين، ولذلك أقول: من عرّض نفسه للفتنة أولاً لم ينجُ منها آخرًا، لا داعي أن يدخل الإنسان البحر الخِضم الذي لا يُحسن السباحة فيه، ويقول: ننظر ما يقول هؤلاء، ما يكتبون، ثم بعد ذلك ما يلبث أن يشك في دين الله -تبارك وتعالى.

فالحاصل أن هذه النصوص ليس فيها تناقض لكن هؤلاء أتباع المتشابه يفعلون هذا، وممن تكلم على هذا المفسرون عند قوله -تعالى- في آية آل عمران: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [سورة آل عمران:7]، تكلم العلماء على هذا، شيخ الإسلام في كتابه "الإكليل"، وكذلك الطاهر ابن عاشور له كلام جيد في هذا الموضع من تفسيره "التحرير والتنوير" وغير هؤلاء كثير، اتباع المتشابه، وأما الشاطبي فأبدع في الكلام على هذه القضية في كتابه "الموافقات".

قال -رحمه الله: وبيان النبي ﷺ أقسام: بيانه لألفاظ الوحي، ولمعانيه بقوله أو فعله أو إقراره: بيان للقرآن، وبيان ابتدائي يبتدأ الناس، أو يسألونه، وبيانه بالقول والفعل لمجملات القرآن.

هذه الأنواع التي ذكرها هي ثلاثة، وهي ملخص لكلام ابن القيم، يعني: الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- أجمل كلام ابن القيم -رحمه الله- وإلا فابن القيم -رحمه الله- ذكرها في عشرة أحوال، يعني: بيان السنة للقرآن حال السنة مع القرآن له عشرة أحوال، هذه العشرة:

النوع الأول: بيانه على لسانه بتلاوته وبلاغه، يعني: هذا نوع من البيان تنزل عليه الآيات فيتلوها على الناس، يبلغ لهم ما نُزل عليه، فهذا النوع الأول من البيان، لاحظ التلخيص: "بيانه لألفاظ الوحي"، هذا هو، قال: "ولمعانيه".

الثاني عند ابن القيم: بيان المعنى لمن احتاج إلى ذلك.

الثالث عند ابن القيم: هو البيان بالفعل صلوا كما رأيتموني أصلي[22]، الله قال:  وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [سورة البقرة:43]، وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [سورة البقرة:196]،   وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ  [سورة آل عمران:97]، قال: لتأخذوا مناسككم)[23]، بيان بالفعل.

الرابع عند ابن القيم: بيانه لما سئل عنه من الأحكام التي لم تنزل في القرآن، فينزل قرآن يُتلى في هذا الحكم، يعني: أشياء ما نزلت فيُسأل عنها النبي ﷺ فينزل قرآن، وهذا أمثلته كثيرة.

الخامس: بيانه ما سئل عنه بالوحي دون نزول قرآن، يعني: يأتي الملَك بالوحي، فيخبر النبيُّ ﷺ السائل دون أن تكون آية تُتلى، يعني: مثلاً الرجل الذي سأل عن الشهيد وكونه يُغفر له إلى آخره فلما انصرف دعاه النبي ﷺ، نزل عليه جبريل قال:إلا الدَّيْن[24]، يعني: يُغفر له كل شيء إلا الدَّيْن، فنزل عليه الوحي بهذا، ولم يكن قرآناً يُتلى.

السادس: بيانه الأحكام ابتداء بالسنة، يعني: ما سئل وإنما هو يبين للناس الأحكام.

السابع: بيانه للجواز بالفعل، يفعل هذا الشيء؛ ليدل على الجواز.

الثامن: بيانه الجواز بالإقرار وهو يشاهدهم يفعلونه، رآهم يفعلون هذا الشيء فأقرهم عليه، رآهم أكلوا الضب بين يديه ﷺ فأقرهم[25].

التاسع: بيانه بالسكوت عن تحريمه، يعني: لم يتعرض له بالتحريم، والأصل أن ما سكت عنه فهو توسعة ومباح، فنعرف الحكم من هذا.

العاشر والأخير: أن يحكم القرآن بإيجاب شيء أو تحريمه أو إباحته فيبين النبي ﷺ له شروطاً، أو موانع، أو قيوداً، أو أوقات مخصوصة، أو أحوالا وأوصافًا، يعني: مثلاً القرآن بين الميراث يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [سورة النساء:11]، بين النبي ﷺ أشياء تتعلق بالميراث موانع وغيرها أن القاتل مثلاً لا يرث،لا يرث المسلمُ الكافرَ[26]، لا يتوارث أهل ملتين شتى[27]، فيبين مثل هذه القيود والشروط، أو الموانع يبينها بسنته، وقد جاء ذلك مجملاً في القرآن.

قال -رحمه الله: قد تتغير الفتوى وتختلف بحسب الأحوال الأصلية والعارضة، والأصل أن يُتبع فيها أرجح المصالح، ويُدفع أعظم المفاسد، ولذلك أمثلة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

مسألة تغير الفتوى بتغير الزمان من الأصول التي يشغب عليها أهل الأهواء اليوم؛ ليُلبسوا على الناس، وبلغ الأمر ببعضهم أنهم يقولون: حتى الحدود الشرعية، حتى الحدود كانت في زمن لا يوجد فيه الإمكانات الموجودة في هذا العصر فكان تُقطع يد السارق ويُترك يمشي يذهب، لكن الآن لا، توجد سجون وإصلاحيات ويوجد ويوجد، ويمكن أن يستفاد من هذا، ويذكرون شبهات، حتى الحدود جعلوها مما يتغير بتغير الزمان، والحكم بالشرع وما إلى ذلك قضايا كثيرة جدًّا -نسأل الله العافية، هم بين مُقل من هذا الانحراف ومُكثر، وأنتم تسمعون اليوم بعض هؤلاء يرفع عقيرته ويتكلم في مثل هذه القضايا، ويعيب الداعين إلى تحكيم شرع الله -تبارك وتعالى، أو إلى الحجاب أو إلى آخره، هذا موجود وللأسف ما يقولون: هذه قضية مرحلية في بلد يعني كثُر فيه الفساد في أزمنة متطاولة ،وإنما يقولون: هذا هو الدين، وهذا هو الفهم الصحيح للإسلام، فمثل هؤلاء مشكلة، حينما يقال عن الانحراف: إنه هو دين الله -تبارك وتعالى، يعني: المسألة ليست إصلاحًا مرحليًّا بقدر الإمكان، لا، يقول: هذا هو الدين، الانحراف هذا هو الدين، فابن القيم -رحمه الله- يُفصل في هذه المسألة مسألة: "تغير الفتوى بتغير الزمان".

فهذه المسألة: "تغير الفتوى بتغير الزمان" ليست على إطلاقها، هناك الأشياء المقطوع بها المنصوصة التي حُسمت من قِبل الشارع هذه لا تتغير بتغير الزمان، وإنما هناك أشياء أخرى هي من الأمور التي تتعلق بالذرائع في زمن من الأزمان، تتعلق بقضايا عارضة، تتعلق باجتهاد، تتعلق بمصالح ومفاسد، فهذه هي التي تتغير بتغير الزمان، يعني: تجد كلامًا مثلاً في بعض القرون يقولون: إنه لا يجوز لُبس العمامة الزرقاء، يقولون مثلاً: يكره كما قال الإمام أحمد أن يلبس العمامة غير المُحنَّكة[28]، غير المُحنَّكة مثل التي يلبسها الإخوان من أهل السودان مثلاً، هذه عمائم غير مُحنكة، المُحنكة هي التي تأتي من الحنك، تُلف من تحت الحنك، لماذا يقول: يُكره؟ وهل يُكره الآن أو لا؟ والعمامة الزرقاء ما شأنها؟  

العمامة الزرقاء كانت في ذلك الوقت القرن الذي قال فيه الفقهاء: يكره أن يلبس العمامة الزرقاء؛ لأن أهل الذمة أُلزموا بالعمائم الزرقاء؛ ليتميزوا عن المسلمين، لكن الآن أهل الذمة لا يلبسون عمائم زرقاء ولا غير زرقاء، العمائم المُحنكة هذه عمائم العرب، وعمائم المسلمين، أما هذه التي تطوى على الرأس وتكور فهذه عمائم أهل الكتاب، لكن الآن لا يلبس أهل الكتاب هذه العمائم أصلاً، فلا يقال الآن بالكراهة، وقل مثل ذلك في أمثلة كثيرة تتغير فيها الفتوى بتغير الزمان، فقد يُمنع شيء في وقت من الأوقات سدًّا للذريعة مثل الكلام في ترجمة معاني القرآن، أصدر علماء كثيرون في بلاد إسلامية منهم شيخ الإسلام الشيخ مصطفى صبري، شيخ السلطنة العثمانية يسمونه شيخ الإسلام كتب فيها رسالة جيدة فهو يرى المنع، وكتب كثيرون شيخ الأزهر وغير شيخ الأزهر واختلفوا كثيراً في مسألة ترجمة معاني القرآن، أول ما بدأت الترجمة، لماذا هؤلاء منعوا؟ لمفاسد ذكروها، ولماذا أولئك أجازوا؟ لمصالح اعتبروها، ورأوا أنها راجحة، بعد ذلك صار الأمر لا يكاد يُنكر، ما السبب؟ تغيرت الأحوال، أصبح اليهود والنصارى يطبعون ترجمات مشوهة ومحرفة، طيب ما العمل؟  

لابد من طبع ترجمات سليمة؛ لئلا يُضلل الناس ويُعرض لهم الإسلام بطريقة مشوهة، فالفتوى تتغير بتغير الزمان، فقولهم: إن الفتوى تتغير بتغير الزمان ليس على إطلاقه، هذا له ضوابط، وإذا أردتم مناقشة جيدة لهذا الموضوع ودراسة فانظروا في مثل كتاب: "الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية" للدكتور عابد السفياني، هذا من أفضل من كتب في هذا الموضوع. 

وهناك كتابات كثيرة في هذا الموضوع تغير الفتوى بتغير الزمان، لكن يكفيكم لو قرأتم في هذا، ذكر الضوابط والشروط، وهذا من الموضوعات التي كنت أرجو أن يتيسر أن تكون شهرية، موضوعات تأصيلية مثل: هذا الموضوع المصلحة وضوابطها، الضرورة وضوابطها، قضية سد الذرائع وضوابطها، قضية الفتوى بالعمل بالأحوط، متى يُعتبر الأحوط، ومتى لا يُعتبر، وضوابطها، كل هذه بدراسة تأصيلية تبين للشباب ما تحت هذه القضايا؛ لأن هؤلاء يُلبسون عليهم بهذه القضايا الكِبار التي يذكرونها ذكراً مشوهاً.  

فابن القيم -رحمه الله- يقول: الأصل هذا لا يُنكر "أن الفتوى تتغير بتغير الزمان" لكن ليس على إطلاقه، وذكر أمثلة، هذه الأمثلة هي من هذا النوع الذي ذكرته تتغير فيه الفتوى، قال: "مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، قال: "قد يجب تركه إلى ما هو أهم منه"، يعني شيخ الإسلام لما رأى التتر قد سكروا ووقف بعض أصحابه، وقال له: هذا مقام نهي عن منكر قال: ليس هذا من ذاك[29]، لماذا؟ قال: إن هؤلاء يكون السكر خيراً لهم؛ لأنهم إذا أفاقوا سفكوا الدم الحرام، وانتهكوا العرض الحرام، وأفسدوا المال الحرام[30]، فيبقى سكران أفضل، كما يقول بعض الناس: نوم الظالم عبادة، طبعاً ليس صحيحاً أن نوم الظالم عبادة، لكن يقولون هكذا، فمثل هذا الذي يسكر فيستريح الناس من شره قد يكون هذا خيرًا له، فمسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يختلف الحكم فيها بحسب الحال والزمان والمكان والأشخاص.

قال: "وإقامة الحدود في الغزو"، إقامة الحدود في الغزو، لماذا؟ هذا جاء النهي عنه صريحاً عن النبي ﷺ لئلا تأخذه الحمية فيلجأ إلى المشركين، يفر إلى المشركين إما خوفاً من إقامة الحد ابتداء، أو بعد إقامة الحد يغضب لنفسه فينطرح عند المشركين ويُفتن في دينه، فنُهي عن إقامة الحدود في الغزو.

يقول: "ودرء القطع من المجاعة"، عمر لم يقطع من المجاعة، لماذا؟ لأن هؤلاء قد يكونون في حال اضطرار مع أنه يُفرَّق بين الناس في أوقات الجوع والحاجة، هل هو محتاج أو لا، يعني: هل هو مضطر أو غير مُضطر، لكن الحدود تُدرأ بالشبهات، فما يقال: هذا يدل على تعطيل الحدود، فهؤلاء الذين يُلبسون، يقولون: عمر لم يقطع من المجاعة عام الرمادة، هذا يدل على أنه حتى الحدود أيضاً تتغير بتغير الزمان، نقول لهم: لا، الحدود ثابتة، لكن هنا عرض أمر إما في بلاد الكفار؛ لئلا يُفتن فتقع مفسدة أكبر من إقامة الحد، فيرتد عن دينه، أو هذا الإنسان قد يكون مضطرًا فسرق، فيكون بذلك في حال ضرورة، فلا تقطع يده.  

قال: "وإيجاب قوت البلد في الفِطرة والكفارات ونحوها"، يعني: الذي ورد فيه وكانوا يخرجونه الأصناف التي ذُكرت الشعير والتمر والزبيب والبُر، لكن هناك أشياء حصلت فيما بعد هذا الأرز الذي نأكله ما كانوا يعرفونه، وما كانوا يأكلونه، وما وُجد إلا بعد ذلك بقرون، يعني: ما وجد هنا وعُرف إلا بعد بقرون، فهذا قوت، بل ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن البلاد التي يكون قوت أهلها من اللبن أو اللحم أن هؤلاء يُخرجونه من الكفارة؛ لأن المقصود هو إغناء هؤلاء الفقراء، فما يعطون من غير قوتهم، فلو بقينا مع هذه الأصناف قلنا: نعطيه شعيرًا، هو ما يأكل الشعير، الشعير صار في هذا العصر علفًا للدواب والبهائم، فيعطون من قوتهم، فهذا تتغير فيه الفتوى؛ لأن مقصود الشارع هو إغناء الفقراء في هذا اليوم عن السؤال، فيكون إغناؤهم بإعطائهم من قوتهم، ويبقى الاحتمال هل يُعطَى من الطعام المطبوخ صدقة فطر أو لا؟ هذا يحتمل، لكنه يرِد عليه أن هذا لا يكون مدخراً، يعني: يمكن أن يبقيه الفقير عنده وينتفع به بعد ذلك.

يقول: "والمُصَرّاة"، ما شأن المُصَرّاة؟ المُصراة تُعطَى يعني إذا حلبها، والمُصرّاة هي التي تُرك حلبها لمدة أيام فيأتي ليبيعها فيرى الناس ضرعها قد امتلأ بالحليب فيظنون أنها مُدرة، وهو لم يحلبها منذ ثلاثة أيام، فإذا اشتراها هذا الإنسان واغتر وحلبها اليوم الثاني ما فيها شيء، فيعرف أنه قد غشه، فالنبي ﷺ حكم بأنها تُرد مع صاع من تمر مقابل الحليب، ابن القيم -رحمه الله- يقول: صاع التمر هذا ذُكر؛ لأنه قوت عندهم، ولأنه طعام، لكن في البلاد التي لا يوجد فيها التمر أصلاً ماذا يفعلون إذا بيعت لهم مُصَرّاة؟، يقول: انتظر حتى نستورد لك تمرًا من البلاد التي فيها التمر حتى تردّ صاعًا من تمر؟، ابن القيم يقول: لا، ما يحتاج إلى مثل هذا فيُخرَج صاع من قوتهم، يقول: مثلاً لو كان الزبيب والتين يقوم مقام التمر عندهم يُخرَج عن حلبها صاع من تين أو من زبيب، وهذا هو الفقه، لا التلاعب بكليات الشريعة وتضييع أصولها، ولا الجمود على ظواهرها من غير فقه لها.     

يقول: "وينبني عليه جواز طواف الحائض للضرورة"، هذه ناقشها مناقشة بديعة، ويطول الكلام لو أردنا أن نستعرض كلامه، طواف الحائض للضرورة، يعني يقول: النبي ﷺ قال: أحابستنا هي؟ فقالوا: إنها قد طافت، فأمر الناس أن ينفروا" [31] ، فُهم منه أنه لا يصح طواف الحائض، لكان ابن القيم يقول: في زمانه ﷺ زمن الخلفاء كان الناس يُحبسون، يحبسهم الأمراء حتى يطوف من تخلف عن الطواف كالحُيَّض، يحبسون الركب، يحبسون الناس، يحبسون الوفد، يحبسون الحجيج، يبقون حتى يطوف الجميع، ثم يقولون: انفروا، لكن يقول: أمّا الآن يعني في عصره، وكيف لو رأى الطائرات الآن والذين يأتون من وراء البحار؟!، يقول: أما الآن فما عاد الناس ينتظرون ولا يُحبسون من أجل هذا فيفوتها الركب، فهي إما أن تبقى وحدها وهذا تعريض لها للضياع والفساد ولم تأتِ الشريعة بهذا، وإما أن يقال لها: اذهبي وابقي على الإحرام حتى تعودين بعد ذلك من هذه البلاد البعيدة، ولربما بقيت سنة لا يقربها زوجها، وإن كانت غير متزوجة لا تتزوج، وتبقى على الإحرام، وهذا أمر في غاية المشقة، والشريعة ما جاءت به، أو يقال لها: إن الطواف يسقط عنك، وهذا لا يمكن؛ لأن الطواف ركن أي طواف الإفاضة، يسقط عنها طواف الوداع، أو يقال: يسقط عنها الحج إذا عرفت أنه لا يمكنها إلا في هذه السفرة وأنه سيأتيها فيها الحيض فيقال: يسقط عنها الحج، يقول: وهذا غير صحيح؛ لأن هذا ليس من شروط الحج -شروط الوجوب، أو يقال: إنها يمكن أن تكون في حكم المُحصَر فتتحلل بدم، ثم بعد ذلك لا تكون قد حجت، فيذهب حجها وسفرها ووقوفها وما إلى ذلك، يقال: أنتِ في حكم المُحصَر، الآن اذبحي شاة وتحللي وذهب حجك، يقول: وهذا غير صحيح وإن كان قال به بعضهم، أو يقال لهذه المرأة -كما يقول بعض أهل العلم: إن الطهارة للطواف أصلاً لا تجب لا للحائض ولا لغير الحائض، هي غير واجبة، ثم بدأ يناقش هذا القول، وقول ابن عباس -ا: إن الطواف صلاة إلا أنه يباح فيه الكلام[32] ، وذكر الفروقات بين الطواف والصلاة، الكلام والالتفات، وليس فيه قراءة، وليس فيه قيام ولا ركوع ولا سجود، وفروقات كثيرة من المشي، وكثرة الحركة، الفروقات بين الطواف والصلاة، فقال: الطهارة أين موقعها من هذا؟    

ثم تكلم على قصد الشارع من نهي المرأة عن الطواف افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي[33]، هل المقصود التلويث فإذا أُمن جاز لها أن تطوف؟ أو المقصود الطهارة أنها لابد أن تكون طاهرة من أجل الطواف؟ فقال: "إما أن يقال بأن الطواف شرط بإطلاق كالطهارة للصلاة"[34]، فهؤلاء هم الذين يقولون: إما أن تتحلل، وإما أن ترجع أو تنتظر ولابد، وأورد عليهم الإيرادات السابقة، أو يقال: إنه شرط لكن كستر العورة، خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف:31]، وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ  [سورة الحج:26]، فيقول: إذا لم تستطع ستر العورة بأنْ سُرق اللباس مثلا ففي هذه الحال يجوز لها أن تطوف وهي عارية، يسقط عنها الستر يعني، أو يتعرى بعض الجسد؛ لأنها لا تجد، فيسقط عنها هذا الشرط، يقول: مع أن هذا أعظم من طواف الحائض، أي كونها تظهر العورة أو بعض العورة التي يجب سترها؛ لأنها ما عندها لباس، فتكون معذورة مع ظهور العورة، فيقول: الحيض أسهل منه، طواف الحائض أسهل من هذا، ومع ذلك يصح أن تطوف وقد انكشف ما يجب ستره إن عجزت، يقول: أو يقال: إن الطواف واجب وليس بشرط ويسقط مع العجز[35]، وكأن ابن القيم يميل إلى هذا، أنه يسقط مع العجز، فهذه يذهب عنها الركب وتتعطل وتلحقها مشقة شديدة، وقل مثل ذلك الآن في الطواف، أصبح في السطح، يطوفون الإفاضة، يقول لك: طفنا ست ساعات، الذين عندهم مرض السكر، الناس الذين لا يتمالكون أنفسهم -يعني يُحْدِثون، كما يُذكر في أسئلة كثيرة يتحرج الإنسان في الإجابة عنها، كثيرون يقولون: لو ذهبت أتوضأ وخرجت في الزحام ثم ذهبت وتوضأت وأتيت سينتقض الوضوء، ست ساعات أرجع من جديد وسينتقض الوضوء، ماذا أفعل؟ وأرجع وينتقض، امرأة تقول: أنا معي مجموعة ما أستطيع، أين أذهب أتوضأ؟، وأنا في الشوط السادس وانتقض الوضوء، سأرجع من جديد الحملة ستمشي، ولن ينتظرني أحد، فيقال لها: ارجعي مرة ثانية أنتِ لا زلتِ مُحرمة ما طفتِ طواف الإفاضة، يعني: هذا فيه إشكال كبير، ابن القيم يناقش هذه القضية بهذه الطريقة من المناقشة، هذا هو المقصود، ليس مقصودي الآن أن أقول: إن الحائض تطوف أو لا تطوف، أو أن الطهارة شرط أو ليست بشرط، لا أقصد هذا إطلاقاً، ولا أقرر فيه شيئاً الآن إطلاقاً، إنما أعرض لكم كيف ابن القيم -رحمه الله- يناقش هذه القضية ويذكر ثمانية احتمالات يعني من باب التقسيم يسمونه السَّبْر والتقسيم العقليين، يذكر ثمانية احتمالات إما أن يقال كذا، وإما أن يقال كذا، وإما أن يقال كذا، وتعرفون السبر والتقسيم، التقسيم إما وإما وإما حصر الأوصاف، ثم يكُرّ عليها بالمناقشة والاختبار الذي يسمونه السَّبْر، يعني الاختبار، فناقشها بهذه الطريقة، ذكر ثمانية احتمالات، إما أن نقول كذا، وإما أن نقول كذا، ثم بدأ يناقشها واحداً بعد الآخر، هذا طواف الحائض، يقول: للضرورة.    

يقول: "والإلزام بالثلاث وعدمه" يعني: في عهد النبي ﷺ، وعهد أبي بكر، وثلاث سنوات من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة، فعمر ألزمهم به، فهذا من مسألة تغير الفتوى بتغير الزمان.

يقول: "إن الله وسع على الناس وقال في سورة الطلاق:  وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [سورة الطلاق:2، 3]،  يقول: هؤلاء ما اتقوا الله في الطلاق الذي جعل الله لهم فيه سعة، وقال لهم في أول السورة:  إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ  [سورة الطلاق:1]، فهؤلاء ما اتقوا الله في الطلاق، فحمّلهم ما تحملوا، حيث ضيقوا أمراً وسعه الله، فألزمهم عمر به لما كثُر ذلك وتتابع الناس عليه، يعني: يطلقون الثلاث إما بلفظ واحد، وإما بثلاثة ألفاظ في عدة واحدة، والأصل أن كل طلقة تكون في عدة مستقلة، فهو يتحدث عن هذا. 

ويقول: "وموجبات الأيمان والنذور وغيرها من الإقرار وغيره، والإلزام بالصداق الذي اتفق الزوجان على تأخيره، وقد تنبني عليها كثير من مسائل الحيل والذرائع ونحوها"[36]، يعني: أحياناً توجد بعض الملابسات، بعض الأحوال، الأصل أنه ليس للزوجة على الراجح أن تطالب بالمهر المؤجل على خلاف بين أهل العلم في هذه المسألة، بعضهم يحدد مدة تطالب بعد سنة، وبعضهم أكثر، الراجح أنه لا يكون ذلك إلا بفرقة أو وفاة، لو ذهبت إلى القاضي، وقالت: أنا أريد المؤخر، يقول لها: لا، إلا إذا حصل فرقة -طلاق- أو وفاة تطالبين به، لكن في بعض الحالات قد يقال غير ذلك. 

  1. أخرجه البخاري، كتاب الأشربة، باب شرب اللبن، برقم (5610)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ﷺ إلى السموات، وفرض الصلوات، برقم (168).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب إذا جامع في رمضان، ولم يكن له شيء، فتصدق عليه فليكفر، برقم (1936)، ومسلم، كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم، ووجوب الكفارة الكبرى فيه وبيانها، وأنها تجب على الموسر والمعسر وتثبت في ذمة المعسر حتى يستطيع، برقم (1111).
  3. أخرجه أبو داود، كتاب الضحايا، باب ما يكره من الضحايا، برقم (2802)، والنسائي، كتاب الضحايا، باب ما نهي عنه من الأضاحي العوراء، برقم (4369)، وابن ماجه، أبواب الأضاحي، باب ما يكره أن يضحى به، برقم (3144)، وصححه الألباني في إرواء الغليل، برقم (1148).
  4. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب صب الخمر في الطريق، برقم (2464)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر، وبيان أنها تكون من عصير العنب، ومن التمر والبسر والزبيب، وغيرها مما يسكر، برقم (1980)، وانظر: قصة قدامة بن مظعون في مجموع الفتاوى، لابن تيمية (11/ 403- 404).
  5. أخرجه أبو داود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، برقم (4338)، والترمذي، أبواب الفتن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر، برقم (2168)، وابن ماجه، أبواب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، برقم (4005)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (1564).
  6. أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في قوله تعالى:  وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [سورة البقرة:195]، برقم (2512)، والترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة البقرة، برقم (2972)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (2269).
  7. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم (3627).
  8. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:  وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا  [سورة النساء:125]، برقم (3360)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب صدق الإيمان وإخلاصه، برقم (124).
  9. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، برقم (20537)، وابن كثير في مسند الفاروق لابن كثير (2/ 547).
  10. إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 121، 122).
  11. المصدر السابق (2/ 122).
  12. المصدر نفسه.
  13. المصدر نفسه.
  14. أخرجه ابن حبان في صحيحه، برقم (277)، عن عائشة -ا، وعند الترمذي بلفظ:من التمس رضاء الله بسخط الناس كفاه الله مُؤْنة الناس، ومن التمس رضاء الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، أبواب الزهد عن رسول اللهﷺ، باب ما جاء في حفظ اللسان، برقم (2414)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6097).
  15. إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 123).
  16. إشارة إلى حديث أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، برقم (1905)، ولفظه: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ...، الحديث.
  17. أخرجه الترمذي، أبواب الأشربة عن رسول اللهﷺ، باب ما جاء في شارب الخمر، برقم (1862)، والنسائي، كتاب الأشربة، ذكر الرواية المبينة عن صلوات شارب الخمر، برقم (5664)، وابن ماجه، أبواب الأشربة، باب ما يكون منه الخمر، برقم (3377)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6313).
  18. أخرجه مسلم، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، برقم (2230).
  19. أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الإسبال في الصلاة، برقم (638)، ولفظه: لا يقبل صلاة رجل مسبل إزاره، وضعف إسناده الألباني في ضعيف أبي داود، برقم (97)، وفي ضعيف الجامع، برقم (1678).
  20. انظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (22/ 66)، وفتاوى نور على الدرب (219/ 16).
  21. الإتقان في علوم القرآن (1/ 410).
  22. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، برقم (6008).
  23. أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، وبيان قوله ﷺ: لتأخذوا مناسككم برقم (1297).
  24. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الديْن، برقم (1886).
  25. أخرجه البخاري، كتاب الأطعمة، باب ما كان النبي ﷺ لا يأكل حتى يسمى له، فيعلم ما هو، برقم (5391)، وبرقم (5536)، كتاب الذبائح والصيد، باب الضب، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب إباحة الضب، برقم (1943)، وبرقم (1946).
  26. أخرجه البخاري، كتاب الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، برقم (6764)، ومسلم، أول كتاب الفرائض، برقم (1614).
  27. أخرجه أبو داود، كتاب الفرائض، باب هل يرث المسلم الكافر؟، برقم (2911)، والترمذي، أبواب الفرائض عن رسول الله ﷺ، باب لا يتوارث أهل ملتين، برقم (2108)، وابن ماجه، أبواب الفرائض، باب ميراث الولاء، برقم (2731)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7614).
  28.  انظر: الشرح الكبير على متن المقنع (1/ 167)، والفروع وتصحيح الفروع (1/ 202)، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (1/ 131).
  29. انظر: الاستقامة (2/ 165، 166).
  30. المصدر السابق.
  31. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، برقم (4401)، ومسلم، كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض، برقم (1211).
  32. أخرجه الترمذي، أبواب الحج عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الكلام في الطواف، برقم (960)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3955).
  33.  أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، برقم (305)، ومسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، وجواز إدخال الحج على العمرة، ومتى يحل القارن من نسكه، برقم (1211).
  34. انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 23-25).
  35.  المصدر السابق.
  36. انظر: المصدر السابق (3/ 68).

مواد ذات صلة